الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فما زلنا في الحديث عن التعامل النبوي مع أهل النفاق، وقد ذكرنا أن المنافقين كانوا يحاولون دائمًا زرع الفتنة في المجتمع المسلم، وزعزعته من الداخل بتخذيل المسلمين عن الجهاد تارة، والفتّ في عضدهم كما فعلوا في الانسحاب في غزوة أحد، وتارة بإثارة العصبية القبلية كما حصل في غزوة بني المصطلق، وتارة بمحاولة تشويه سمعة أهل الصلاح والإيمان، كما فعلوا مع أم المؤمنين الطاهرة العفيفة الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.
وكان النبي ﷺ يتعامل مع موقف هؤلاء المنافقين بكل حكمة وروية، وكان النبي ﷺ يتعامل مع الأحداث التي ينشئها هؤلاء المنافقون، والفتن التي يزرعونها، ويبذرونها بكل حلم، وروية، وحكمة، ويصحف عنهم في كثير من الأحيان؛ تأليفًا لقلوبهم، وقلوب قومهم، وأقاربهم.
وكان ﷺ في غاية الحذر من هؤلاء كما أوصاه الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.
وكانت ألاعيبهم، وخططهم مكشوفة للنبي ﷺ بما يوحيه إليه ربه، وبفطنته، وذكائه ﷺ.
موقف المنافقين من رسول الله في غزوة تبوك
ولما أعدّ النبي ﷺ العُدّة لغزوة تبوك، وقتال الروم في الشام لغزوة تبوك، وقتال الروم في الشام، وكان ذلك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة في زمن عسرة من الناس، وجدب في البلاد، وكانت الثمار قد طابت وأينعت، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون أن يخرجوا في هذه الحال.
وكان النبي ﷺ قلّما يخرج في غزوة إلا ورّى بغيرها، وكنّى؛ لئلا يعلم وجهه وقصده؛ حتى يكون ذلك أعون له على مباغتة العدو، وعلى تحقيق عنصر المفاجأة في الحرب.
وجاء كثير من المنافقين يستأذنون النبي ﷺ في عدم الخروج، ويعتذرون إليه بأعذارهم الواهية، والنبي ﷺ يقبل أعذارهم، ويكل سرائرهم إلى الله، ويأذن لهم.
قال محمد بن إسحاق: "كان فيما بلغني مَن استأذن من ذوي الشرف منهم والمكانة من المنافقين والوجاهة عبد الله بن أُبي بن سلول، والجد بن القيس، وكانوا أشرافًا في أقوامهم، وقال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر، وقد فضحهم الله تعالى، وعاتب النبي ﷺ على إذنه لهم، وفضحهم كما جاء في قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[التوبة:81]، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا ولْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[التوبة:82]، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ لو كان مغنمًا سهلاً، والمسافة قريبة لخرجوا معك، وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ من المدينة إلى تبوك بعُدت عليهم الشقة، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْبهذه الأيمان الكاذبة، وهذا النفاق، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[التوبة : 42] بالأعذار الواهية التي يبدونها.
إذًا، بعدت عليهم الشقة يعني طالت عليهم المسافة، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، وهذا اليمين الكاذب هو عدّة المنافق في المواجهة.
ثم إن الله تعالى سامح نبيه، وغفر له على ترك هؤلاء، وقال له: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ – في تخلفهم عنك- حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43] يعني: كان ينبغي لك أن تمتحنهم؛ ليتبين الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر، وتمتنع من قبول عذر الكاذب.
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: " هلّا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم بالقعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود على الغزو، وإن لم تأذن لهم فيه" [تفسير ابن كثير: 4/159].
وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ[التوبة : 49].
ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ائذن لي في القعود، والتخلف عن الغزو، ولا تفتني في الخروج؛ لأني إذا خرجت، ورأيتُ نساء بني الأصفر من الروم لا أصبر عنهن، وهذا مزعم الجَد بن قيس.
وقد روى الطبري بسنده في تفسيره هذه الآية، عن جابر بن عبد الله ، قال: "سمعتُ رسول الله ﷺ يقول لجد بن قيس: يا جدُّ، هل لك في جلاد بني الأصفر؟ قال جَد: أو تأذن لي يا رسول الله، فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيتُ نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله ﷺ له وهو معرض عنه: قد أذنتُ لك فعند ذلك أنزل الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ[التوبة : 49]. [تفسير الطبري: 14/287].
فإذا، كان يزعم بأن نساء بني الأصفر يفتنه فإنه في الحقيقة قد سقط في الفتنة بتخلفه عن الجهاد مع رسول الله ﷺ وما كان لمؤمنٍ أن يتخلف عن رسول الله.
ثم إن الجيش، والقتال، والمواجهة، والطعن، والضرب، والمبارزة، والجراح، والدماء ليست بمجال للفتنة، لو كان صادقًا!، وأين سيجد نساء بني الأصفر في مواجهة من هذا النوع؟، وأما إذا كان بعد الحرب فإن أخذ السبي، ومنهن نساء بني الأصفر سيكون مباحًا.
فهؤلاء الذين أذن الله بأخذهن في الجهاد، والحديث السابق رواه الطبري، وصححه الألباني في سلسلته.، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي[التوبة : 49].
ورُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس، وكان من أشراف بني سلمة.
وعن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: مَن سيُّدكم يا بني سلمة؟ قلنا: الجد بن قيس، على أنا نبخِّله؛ نتهمه بالبخل، فقالﷺ: وأيُّ داء أدوأ من البخل أي: أعيب وأشد قبحًا منه، بل سيدكم عمرو بن الجموح، وهذا صحابي جليل، ورجل مؤمن، كان يعترض على أصنامه في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله ﷺ إذا تزوج" رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [الأدب المفرد: 296، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص: 125].
محاولة اغتيال المنافقون للنبي عليه الصلاة والسلام
وقد حاول المنافقون اغتيال النبي ﷺ في هذه الغزوة، وهذه واقعة لا يعرفها كثير من الناس محاولة اغتيال النبي ﷺ من قبل المنافقين، وقد عصمه الله تعالى، وكان المشتركون في هذه المؤامرة خمسة عشر رجلاً، تعاهدوا على خطته؛ إذا مر النبي ﷺ على دابته في مضيق على مكان مرتفع في الطريق، هم درسوا الطريق، ويعرفون خطة السير، وطريق الجيش، وأن النبيﷺ سيمر في مكان ضيق تحته هاوية، فالخطة أنه إذا صار في هذا المكان يأتون من خلف، وينفرون دابته، ويدفعونها لتلقيه من المنحدر في الهاوية، واتفقوا على أن يكون ذلك بالليل.
قال أبو الطفيل: "لما أقبل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديًا فنادى إن رسول الله ﷺ أخذ العقبة فلا يأخذها أحد، العقبة: طريق وعر في الجبل.
فبينما رسول الله ﷺ يقوده حذيفة، ويسوق به عمار، يعني يقود الدابة من أمامها، والسوق أن يكون من خلفها، فالقود من أمام، والسوق من خلف فمن الذي يقود دابته من الإمام؟ حذيفة، ومَن الذي يسوق دابته من الخلف؟ عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل غشوا عمارًا، وهو يسوق برسول الله ﷺ، الآن عمار من الخلف، والخطة أن يأتوا من الخلف يزحموه لتلقيه الدابة عن ظهرها في المنحدر.
وجعل عمار في هذا الوقت الحرج، والظرف الحالك يضرب وجوه الرواحل، وأقبل عمارٌ يضرب وجوه الرواحل، يعني التي جاءت من الخلف؛ ليصرفها عن الاصطدام، والمزاحمة، ومضايقة دابة النبي ﷺ فنباهة عمار أفشلت الخطة.
ثانيًا: النبي ﷺ قال لحذيفة: قد قد يعني حسبك، كفى كفى، حتى هبط رسول الله ﷺ، فلما هبط رسول الله ﷺ نزل، ورجع عمار، فقال: يا عمار، هل عرفت القوم إذًا، فشلت محاولة الاغتيال، فشلت الخطة، سلِم النبي ﷺ، وبقيت القضية معرفة شخصيات الذين قاموا بهذه المحاولة الفاشلة للاغتيال، وهذا الهجوم من الخلف، من هم؟ يا عمار، هل عرفت القوم قال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، يعني عرفتُ الدواب، لكن الذين على الدواب متلثمون.
قال: هل تدري ما أرادوا قال: الله ورسوله أعلم، قال: أرادوا أن ينفروا برسول الله ﷺ فيطرحوه فعذر رسول الله ﷺ منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله ﷺ، وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد". [رواه أحمد: 23792، وقال محققو المسند: إسناده قوي على شرط مسلم].
الحديث رواه الإمام أحمد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، وأصل هذه القصة في صحيح مسلم مختصرة، وإسنادها في مسند أحمد قوي كما ذكر محقق المسند.
وقد أنزل الله في هؤلاء قوله: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة : 74]، أي: فشلت خطتهم، همّوا بالقتل، ولكن لم ينالوه، لم يحصل لهم قتل النبي ﷺ.
قال النووي رحمه الله: "وهذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى التي كانت بها بيعة الأنصار بيعة العقبة الأولى، والثانية، هذه عقبة أخرى، "وإنما هذه عقبة على طريق تبوك، اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول الله ﷺ فعصمه الله منهم" [شرح النووي: 9/158].
قال ابن الأثير رحمه الله: "قد يظن بعض مَن لا علم عنده أن أصحاب العقبة المذكورين في هذا الحديث هم أصحاب العقبة الذين بايعوا رسول الله ﷺ في أول الإسلام، وحاشاهم من ذلك، هؤلاء الأنصار أصحاب بيعة العقبة الأولى، والثانية نصروا رسول الله، كيف يكونوا هم الذين تآمروا على اغتياله؟
فهذه العقبة غير تلك العقبة عقبة تبوك غير عقبة منى، إنما هؤلاء قوم عرضوا لرسول الله ﷺ في عقبة صعدها لما قفل من غزوة تبوك". [جامع الأصول: 11/573].
إذًا، كانت المؤامرة هذه في طريق العودة، وقد كان أمر مناديًا، فنادى لا يطلع العقبة أحد، يعني من هذا الطريق لا يأتي أحد، لا يسلك هذا الطريق أحد إلا النبي ﷺ، ومن معه، لا يطلع العقبة أحد، فلما أخذها النبي ﷺ أخذ العقبة، وشرع فيها، وطلع فيها، وصعد، عرضوا له وهم ملثمون؛ لئلا يعرفوا أرادوا به سوءًا فلم يقدرهم، يعني لم يمكنهم، فلم يقدرهم الله تعالى.
توعدهم وأخبر بأسمائهم حذيفة
وقد توعدهم النبي ﷺ، فعن حذيفة أن النبي ﷺ قال: في أصحابي اثنا عشر منافقًا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم[رواه مسلم: 7212].
في أصحابي يعني مندسون بينهم، كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101].
في أصحابي، إذًا، ليس أصحابي حقيقة، وإنما الذين يُنسبون إلى صحبتي، أي أنهم معي في الظاهر، لكنهم في الباطن ضدي، اثنا عشر منافقًا، وهم الذين جاؤوا متلثمين، قصدوا النبي ﷺ فحماه الله منهم، وأعلمه بأسمائهم، قال: فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج –يدخل- الجمل، قيل الجمل: الدابة، وقيل: الجمل: الحبل المتين الغليظ، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثقب الإبرة، ولا يمكن للحبل الغليظ أن يدخل في ثقب الإبرة، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة قال القاضي: الدُّبيلة هي الداهية، فيُقال: دبلتهم الدّبيلة، يعني أصابتهم الداهية، لكن تحديدًا ما هي هذه الداهية؟، وما هي الدبيلة؟، ورمٌ مهلك يخرج بين الكتفين، يهلك الله به هؤلاء الثمانية، ويظهر الورم بين الكتفين حتى يخلص إلى القلب، وينجم من صدورهم، فيخلص إلى سويداء قلوبهم، فيكون في ذلك أجلهم، وقتلهم.
فإذًا، هذا مرض معين عبارة عن ورم يظهر بين الكتفين من الخلف، ويتعمق إلى القلب، ويقضي على الشخص، هذه الدبيلة، فأخبر أصحابه أن معه في الجيش اثنا عشر منافقًا ثمانية منهم لا يدخلون الجنة لأنهم سيموتون على النفاق الأكبر، وآيتهم، والحديث من الذي رواه ؟ المختص بالمنافقين من الصحابة، حذيفة فلا عجب أن هذه المعلومة السرية الخطيرة، والمحددة، والدقيقة تكون عند حذيفة.
ولذلك كان عمر يسأل حذيفة: "أنا منهم؟" حذيفة كان عنده علم دقيق بالمنافقين المندسين في الصحابة، وعنده خبر أن ثمانية منهم سيموتون بهذه الطريقة، وهذه آية بينة واضحة ظاهرة.
وقد أخبر النبي ﷺ حذيفة بأسماء هؤلاء الاثني عشر منافقًا، ولم يخبر بأسمائهم أحدًا غيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي ﷺ كما استنفر غيرهم، فخرج بعضهم معه، وبعضهم تخلفوا ،وكان في الذين خرجوا معه مَن همّوا بقتله في الطريق؛ هموا بحلّ حزام ناقته ليقع في واد هناك، فجاءه الوحي، فأسرّ إلى حذيفة أسماءهم، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره" [مجموع الفتاوى: 7/211-212].
قال ابن كثير: "ولهذا كان حذيفة يقال له: صاحب السر الذي لا يعلمه غيره" أي من تعيين جماعة من المنافقة، وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم رسول الله ﷺ دون غيره من الصحابة".
وإطلاع واحد من الصحابة عليهم فيه فائدة من هؤلاء لا يولّون ولاية، ولا يأمرون، ولا تُسند لهم مهمة، ولا يكونون أئمة، ولا خطباء، ولا يروون أحاديث، فهؤلاء إذًا مرصودين معلومين مكشوفين لحذيفة.
ولذلك لو قال قائل: لا ندري، قد يكون أحدهم من رواة الأحاديث من الصحابة منافق!، نقول: لا، أين أنت وحذيفة ماذا كان يفعل؟ فلا يمكن أن يكون واحداً من رواة الأحاديث وحذيفة موجود، ولا أن يولّى ولاية؛ لأن الصحابة كانوا يسألون حذيفة، وحذيفة كان له مكانة خاصة عند عمر، وغيره.
وكان عمر إذا راد أن يولّى شخصًا فإنه يستشير حذيفة؛ لأن رأيه كان صواباً مضموناً، يعني أن هؤلاء لا يمكن أن يصلوا إلى قضية الطعن في الصحابة؛ لأن بعض أعداء الإسلام طعنوا فيالصحابة من هذه الجهة، قالوا: النبي ﷺ قال: فيهم اثنا عشر منافقاً لا ندري، ربما كان منهم عمر مثلاً!، لا، فهم معلومون لحذيفة، ومن هذه الناحية نطمئن تمامًا أن القضية قد استُودِعت عند ثقة أمين، عند صاحب السر الذي لا يعلمه غيره.
وقد روى البيهقي عن عروة بن الزبير ، قال: "بلغنا أن رسول الله ﷺ حين غزا تبوك، نزل عن راحلته فأُوحي إليه وراحلته باركة، فقامت تجرّ زمامها، حتى لقهيا حذيفة بن اليمان، فأخذ بزمامها، فاقتادها حين رأى رسول الله ﷺ جالساً، فأناخها ثم جلس عندها، حتى قام رسول الله ﷺ، فقال: مَن هذا؟ فقال: حذيفة بن اليمان، قال رسول الله ﷺ: فإني أُسر إليك أمرًا فلا تذكرنه، إني قد نهيت أن أُصلي على فلان، وفلان، وعدّدهم رهط ذوي عدد من المنافقين، لم يعلم رسول الله ﷺ ذكرهم لأحد غير حذيفة بن اليمان.
فلما توفي -هذه رواية البيهقي-، فلما تُوفي رسول الله ﷺ كان عمر بن الخطاب في خلافته إذا مات رجل يظن أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة فاقتاده إلى الصلاة عليه؛ فإن مشى معه حذيفة صلّى عليه عمر، وإن انتزع يده فأبى أن يمشي معه انصرف عمر معه، فأبى أن يصلي عليه. [السنن الكبرى للبيهقي: 16845].
لأن عمر لن يقول لحذيفة: ما هي الأسماء، وهذا سرٌ عند حذيفة، فما هي الطريقة؟ كان عمر إذا ذهب لإمامة الجنازة يأخذ حذيفة، إذا سحب يده انسحب عمر، إذا مضى حذيفة مضى عمر، وأمر عمر أن يصلى عليه يعني رجل آخر.
وقد يظن بعض الناس أن النبي ﷺ أعلم حذيفة بأسماء جميع المنافقين، ولكن هذا ليس هو ما حصل؛ لأن هنالك منافقين كان النبي ﷺ لا يعلمهم أصلاً، وإنما كان يعرف بعضهم بأعيانهم، وبعضهم بصفاتهم، يعني التعيين لم يكن بالأسماء بالوحي بكل منافق، ولكن بعض المنافقين أُخبر بهم من طريق الوحي، وبعضهم كان يعرفهم بصفاتهم.
والنبي ﷺ أعلم حذيفة بأسماء المنافقين الذين همّوا بقتله.
قال ابن كثير رحمه الله: "قول من قال: كان ﷺ يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك، الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله ﷺ في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفروا به الناقة؛ ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فاطلع على ذلك حذيفة، قال: "فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101]، الآية.
وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[الأحزاب: 60 ، 61].
قال ابن كثير رحمه الله: "ففيها دليلٌ على أنه لم يعرفهم يعني جميعًا، ولم يدل على أعيانهم، وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم" كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30]، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ تفسير ابن كثير. [تفسير ابن كثير: 1/180].
فهو يعرفهم من باب التوسّم فيهم بصفات يُعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق، والريب على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقًا، وإن كان يراه صباحًا ومساء.
إذًا، النبي ﷺ تعامل مع هؤلاء المنافقين بوسائل متعددة، وسنأتي على طرف آخر من تعامله عليه الصلاة والسلام مع المنافقين في الدرس القادم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد