الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه الحلقة الأخيرة من مشاهد يوم القيامة وأهوالها، قبل دخول الجنة والنار، وهي عن الحوض والصراط في هذه السلسلة نسأل الله أن ينفعنا بها.
معنى الحوض والأدلة على ثبوته
المراد بالحوض في الشرع: ما جاء الخبر به من أن لنبينا ﷺ حوضاً ترد عليه أمته يوم القيامة، قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب في الحوض، وقول الله -تعالى-: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]. وقال عبد الله بن زيد قال النبي ﷺ: اصبروا حتى تلقوني على الحوض[صحيح البخاري: 5/33]، قال الحافظ -رحمه الله-: "أي حوض النبي ﷺ وهو مجمع الماء". [فتح الباري: 11/466].
إذاً الحوض في اللغة مجمع الماء، وقد ثبت ذكر الحوض في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة حتى عده أهل العلم من قبيل المتواتر عن النبي ﷺ، كما قال الناظم:
مما تواتر حديث من كذب | ومن بنى لله بيتاً واحتسب |
شفاعة ورؤية والحوض | ومسح خفين وهذه بعضه |
[شرح العقيدة السفارينية: 1/419]
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد روى أحاديث الحوض أربعون من الصحابة وكثير منها أو أكثرها في الصحيح". [حاشية ابن القيم على سنن أبي داود: 13/56].
وممن قال بتواتر أحاديث الحوض من العلماء أبو عمرو بن عبد البر -رحمه الله-، والحافظ ابن حجر، والبيضاوي، والقرطبي، والسيوطي، والكتاني، وغيرهم.
ومرويات الصحابة في الحوض والكوثر، كثيرة والحمد لله، وسيأتي ذكر طرف من النصوص بمشيئة الله.
الإيمان بالحوض
أما الإيمان بالحوض فإنه فرض والتصديق به واجب، قال الحافظ -رحمه الله-: قال القرطبي في المُفهم: "أجمع على إثبات السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة، وغلو في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية"، يعني: لا العادة تمنع من وجوده ولا العقل يمنع من وجوه فلماذا الإنكار، قال: "وغلو في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف". [فتح الباري: 11/467].
وقد أخبر عمر أن حوض نبينا ﷺ سيكون من الأمور التي يُكذب بها، يعني: هذا توقع عمر بن الخطاب ، فقال فيما رواه عن ابن أبي عاصم في كتابه السنة عن ابن عباس عن عمر: "سيأتي قوم يُكذبون بالقدر، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار". [كتاب السنه: 697]. قال الألباني موقوف حسن. [السنة لابن أبي عاصم ومعها ظلال الجنة للألباني: 2/321].
يكذبون بقوم يخرجون من النار، يعني: يقولون مثل الخوارج والمعتزلة الذي يدخل النار لا يخرج منها، مع أن من الموحدين من يدخل النار ممن يدخل النار موحدون على كبائر وذنوب، ثم يخرجون منها بعد ما يُعذبون ما شاء الله أن يُعذبوا، ثم يخرجون منها، أما الكفار فهم الذي يخلدون بلا خروج.
ومع أن الصحابة لم يختلفوا في إثبات الحوض، كما نقل ذلك عنهم أهل العلم، فقد ظهر ما تنبأ به عمر مُبكراً في زمن الصحابة، فممن كان يُنكره عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق، روى ابن أبي عاصم في السنة عن أنس : "ذُكر عند عبيد الله بن زياد الحوض فأنكر ذلك، فبلغ أنساً فقال: أما والله لأسوءنه غداً"، أُسمعه ما لا يُرضيه، قال أنس: "ما أنكرتم من الحوض، قال: سمعت النبي ﷺ يذكره؟ قال: نعم، والله ما شعرت أني أعيش حتى أرى أمثالكم! تشكون في الحوض ولقد أدركت عجائز بالمدينة لا يصلين صلاة إلا سألن الله -تعالى- أن يُردهن حوض محمد ﷺ" [السنة: 698، وصححه الألباني].
وهذه الرواية أيضاً في الشريعة للآجُرِّيُّ بهذه الزيادة، وصححه ابن حجر -رحمه الله-، قال الآجُرِّيُّ من أئمة أهل السنة: "ألا ترون إلى أنس بن مالك يتعجب ممن يشك في الحوض، إذا كان عنده أن الحوض مما يؤمن به الخاصة والعامة"، حتى العجائز كن يعرفنه، ويسألن الله في كل صلاة أن يكن ممن يردن الحوض ويشربن منه، "حتى إن العجائز يسألن الله أن يسقيهن من حوضه ﷺ فنعوذ بالله ممن لا يؤمن بالحوض ويكذب به"، انتهى كلام الآجُرِّيُّ -رحمه الله-. [الشريعة لأبو بكر الآجري: 1/341، وصححه ابن حجر في فتح الباري: 11/468].
قال القاضي عياض -رحمه الله-: "أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول، ولا يُختلف فيه"، قال القاضي: "وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة" [إكمال المعلم: 7/132].
صفات الحوض
وقد جاء في النصوص الشرعية بعض صفات الحوض كشكله، وسعته، وصفة ماءه، ونحو ذلك:
فأما بالنسبة للشكل والمساحة: فالحوض مُربع الشكل، طوله وعرضه سواء، وكل منهما مسيرة شهر، كما جاء في النصوص، فروى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال النبي ﷺ: حوضي مسيرة شهر، زاد مسلم: وزواياه سواء [رواه البخاري: 6579، ومسلم: 2292].
إذاً الزوايا متماثلة، زوايا الحوض متماثلة وزواياه سواء، قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء معناه طوله كعرضه" [شرح النووي على مسلم: 15/55].
وثبتت هذه الصفة في صحيح مسلم من حديث أبي ذر : وعرضه مثل طوله [رواه مسلم: 2300]، وقد تعددت الروايات في تحديد مساحته ففي بعضها كما بين صنعاء وَأَيْلَةَ[رواه مسلم:2305].
وهي مدينة في العقبة في الأردن حالياً هي أيله، وفي بعض الروايات: أبعد من أيله إلى عدن [رواه مسلم: 248]، وفي بعضها: كما بين صنعاء إلى المدينة [رواه أحمد:6872، وصححه الألباني ظلال الجنة: 718].
وفي بعضها: كما بين مكة وأيله [رواه أحمد: 6872، وصححه الألباني ظلال الجنة: 718]، قال ابن حجر: "وهذه الروايات متقاربة لأنها كلها نحو شهر"، يعني المسيرة بالدواب بين المدن هذه شهر، أو تزيد أو تنقص يعني قليلاً، "واعتمد الجمع بين هذه الروايات بأن التقدير يختلف باختلاف السير البطيء وهو سير الأثقال والسير السريع وهو سير الراكب المُخف".
إذاً لو واحد قال: هذه تجي أكثر من شهر، وواحد قال لا هذه أقل من شهر، فهي تقريباً شهر ولكن يتفاوت الزمن بتفاوت السرعة لأن الرُكاب حتى على الرواحل يختلفون في السرعة، لكن وردت روايات أخرى لا يحتمل هذا الجمع كما في رواية: ما بين عمان إلى أيله [رواه مسلم: 2300].
قال الحافظ: "وأقل ما ورد في ذلك ما وقع في رواية مسلم: كما بين أيله إلى الْجُحْفَةِ [رواه مسلم: 2296]، ومثل ما في البخاري قال: أمامكم حوض كما بين جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ [رواه البخاري: 6577]، وهما قريتان في الشام مسافة ما بينهما ثلاثة أيام.
فإذاً كيف سيكون الجمع بين هذه الأقوال؟ أما مسافة الثلاث فإن الحافظ ضياء المقدسي -رحمه الله تعالى- في سياق لفظها قال: "إن فيها حذفاً تقديره كما بين مقامي وبين جرباء وأذرُح، واستدل على ذلك بما رواه بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعاً: عرضها مثل ما بينكم وبين جرباء وأذرُح، وقد ثبت القدر المحذوف عند الدارقطني وغيره بلفظ: ما بين المدينة وجرباء وأذرُح [فتح الباري: 11/472].
قال الحافظ: "هذا يوافق رواية أبي سعيد عند ابن ماجه: كما بين الكعبة وبيت المقدس [رواه ابن ماجه: 4301، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 3622] [فتح الباري: 11/472].
فإذاً بهذا يزول الإشكال، إذاً هو مربع زواياه سواء طوله وعرضه سواء، الطول مسيرة شهر والعرض مسيرة شهر.
ثانياً: ماؤه أبيض كاللبن، روى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال النبي ﷺ: حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن[رواه البخاري: 6579].
ثالثاً: ريحه أطيب من المسك، وطعمه أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وهذا قد جاء في حديث عبد الله بن عمرو في البخاري أيضاً حديث متقدم قال فيه: وريحه أطيب من المسك [رواه البخاري: 6579]، وقبلها قال: ماؤه أبيض من اللبن.
إذاً: حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، جاء في رواية مسلم من حديث أبي ذر: ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل [رواه مسلم: 2300].
جاء في المسند: ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأطيب من المسك، من شرب منه لم يضمأ [رواه أحمد: 23365، وحسنه الألباني في ضِلال الجنة: 724].
وفي بعض الروايات صفة أخرى لحلاوته، فجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: إن حوضي أبعد من أيله إلى عدن لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى العسل باللبن [رواه مسلم: 247]، يُطلق على اللبن على الحليب الذي نحن نسميه حليب، ويُسمى عندهم لبناً، نقول: حليب الأم، يسمونه لبن المُرضع.
وأما كيزان الحوض: فقد ورد في الحديث الصحيح أنها كنجوم السماء، فقال في حديث البخاري المتقدم: وَكِيزَانُهُ كنجوم السماء [رواه البخاري: 6579].
وعند البخاري أيضاً: وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء [رواه البخاري: 6580]، وفي مسلم عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله: ما آنية الحوض؟ -عرفنا الآن الآنية، كيف نشرب منه- قال: والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يَظْمَأْ آخر ما عليه [رواه مسلم: 2300].
هذه الليلة المظلمة المصحية خصها؛ لأن النجوم تُرى فيها أكثر، ليقول لهم: عدد كيزان الحوض، أو أباريق الحوض، أو آنية الحوض أكثر من عدد النجوم التي ترونها في السماء في الليلة المُضحية المظلمة؛ لأن النجوم تُرى فيها أكثر، من الليلة المقمرة.
وجاء في صحيح مسلم: تُرى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء [رواه مسلم: 2303]، إذاً الآن عندنا نوعية مادة الأباريق هذه الآنية من ماذا؟ ذهب وفضة، تركوها لله في الدنيا فشربوا بها يوم القيامة، وهذه الآنية في العدد جاء في رواية: أو أكثر من عدد نجوم السماء [رواه مسلم: 2303].
قال النووي -رحمه الله-: "المختار الصواب أن هذا العدد لآنية على ظاهره، وأنها أكثر عدداً من نجوم السماء، ولا مانع عقلية ولا شرعية يمنع من ذلك" [شرح النووي على مسلم: 15/56].
يعني: الله على كل شيء قدير، أليس كذلك؟ قادر على أن يجعل في هذا الكأس عدد النجوم إن الله على كل شيء قدير.
فلذلك لا يقولن أحد هذا الحوض يعني مسيرة شهر في شهر كيف يشيل عدد نجوم السماء كيزان وأباريق وآنية؟
نقول: إن الله على كل شيء قدير، وبما أنه على كل شيء قدير فلا يصعب ولا يستحيل عليه سبحانه أن يجعلها كذلك، فإذاً لا العقل يمنع ولا الشرع يمنع من ذلك، والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من نجوم السماء، هكذا جاء عن النبي ﷺ مؤكداً بالقسم: والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من نجوم السماء، النبي ﷺ قال عن ما يحصل للذي يشرب من الحوض: من شرب منه فلا يظمأ أبداً، وفي الرواية الأخرى: آخر ما عليه [رواه مسلم:2300]، الشرب هذه راحت معه أثرها إلى ما شاء الله، لا يظمأ بعدها أبداً.
مصدر ماء الحوض
من أين ينبع ماء الحوض، الماء الذي في حوض النبي ﷺ من أين يأتي؟ البخاري -رحمه الله- لما عقد في صحيحه باب في الحوض وقول الله -تعالى-: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1]، وروى حديث أنس عن النبي ﷺ: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدُر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك [رواه البخاري: 6581].
طينه أو طيبه مسك أذفر، الأذفر شديد الرائحة تنبعث منه الرائحة الجميلة، قال ابن حجر -رحمه الله-: "الكوثر نهر داخل الجنة وماؤه يصب في الحوض". [فتح الباري: 11/466].
إذاً النهر في الجنة ويصب خارج الجنة، ويُطلق على الحوض كوثر؛ لكونه يُمد منه أيضاً، يطلق على الحوض كوثر أيضاً، مع أن الكوثر نهر والحوض معروف، لكن جاء في بعض النصوص إطلاق الكوثر على الحوض، وفي المسند من حديث حذيفة: وأعطاني الكوثر فهو نهر من الجنة يسيل في حوضي، لكن في إسناده ابن لهيعة، ولكن قد ورد الجمع بينهما في حديث واحد، يعني: بين الحوض والكوثر، رواه مسلم في صحيحه عن أنس قال: "بينا رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إِغْفَاءَةً ثم رفع رأسه متبسماً"، رؤيا الأنبياء حق، "ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أُنزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر: 1-3].
فالنبي ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي يغُط كغطيط النائم، لكن هو في الحقيقة ليس بنائم، لكن يغُط كغطيط النائم، يعني: له صوت كشخير النائم، أو كغطيط البكر، وهذه من صغار الإبل.
المهم أنه ﷺ عند نزول الوحي عليه يثقل حتى يُسمع له كغطيط النائم، ثم يُنفصل عنه فيخبرهم بما وعاه من الوحي.
"فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أُنزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم:إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر].
ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيُختلج العبد منهم، فأقول: ربي إنه من أمتي؟ فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك [رواه مسلم: 400] ، أي هذه الأمة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر: يشخُب، يعني: يسيل، فيه ميزابان من الجنة [رواه مسلم: 2300].
أخبر عن الحوض أنه يشخب فيه، يصب فيه ميزابان من الجنة، والميزابان يخرجان من الجنة، ويصبان في الحوض، والماء يأتي من نهر الكوثر الذي خص الله به نبيه في الجنة.
وكذلك جاء في صحيح مسلم عن ثوبان : يَغُتُّ فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق، من فضة [رواه مسلم: 2301].
ومعنى يَغُتُّ: يعني: يدفقان فيه الماء دفقاً متتابعاً شديداً، إذاً الآن عندنا صفة للميزاب الأول أنه من ذهب، وصفة للميزاب الثاني أنه من فضة، وهكذا يأتي الماء من نهر الكوثر يصب في الحوض، فإذا كان الماء من الجنة فما بالك بطعمه وريحه وبرودته وإذهابه للظمأ، ولذلك: من شرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
ويُفتح نهر الكوثر إلى الحوض هكذا جاء في حديث ابن مسعود عند أحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض [رواه أحمد:3787، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف]، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخله.
منبر النبي ﷺ يوم القيامة
أين منبر النبي ﷺ؟ وهل له منبر يوم القيامة؟ الجواب: نعم، له منبر يوم القيامة، الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال ﷺ: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي [رواه البخاري:1196، ومسلم:1391].
قال الحافظ: " ومنبري على حوضي أي منبر النبي ﷺ الذي كان يخطب عليه في الدنيا يُنقل يوم القيامة فيُنصب على الحوض" [فتح الباري: 4/100].
واختاره النووي أيضاً، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء، فإذاً يقوم على منبره وسيكون هناك توجيهات وأشياء ويعرف ناس ويقدمهم، ويذب أناس آخرين، ويُخطف ناس دونه يظنهم سيأتون إلى حوض، فيُختطفون دونه ويُبعدون، فهنالك أشياء هو يشرف على الناس ﷺ ويعرف، وهذا من أمته، وهذا ليس من أمته، وهذا من أمته يأتي الحوض، وهذا ليس من أمته فإنه يرده عن الحوض، وهذا يُخطف من دونه يظنه يأتي إلى حوضه، منبره على حوضه.
الواردون على الحوض
من هم الواردون ومن هم الذين يُذبون ويُبعدون ويختلجون؟ موقف القيامة رهيب والحر الشديد، يحتاج الناس فيه إلى الشُرب، فيظهر الحوض في هذا الظمأ الشديد، وقد اجتمع على الناس من أسباب الحر تقريب جنهم، ودنو الشمس والزحام والكرب.
روى الطبراني بسند حسن، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله ﷺ: لتزدحمن هذه الأمة على الحوض ازدحام إبل وردت لخمس [المعجم الكبير: 632] الحديث في صحيح الجامع [5068] ازدحام إبل وردت لخمس يعني مُنعت من الماء أربعة أيام، ثم أوُردت عليها في اليوم الخامس، أُحضرت لتشرب، فكيف سيكون إقبالها على الماء؟
قال: لتزدحمن هذه الأمة على الحوض ازدحام إبل ودرت لخمس، فالازدحام سيحصل، وكذلك سيشربون منه، ويشعبون من هذا الماء.
من هو أول من يُفلح في ورود الحوض وأول من يؤذن لهم في الشرب منه؟ قال ﷺ في الحديث الذي رواه الترمذي عن ثوبان مرفوعاً: أول الناس وروداً عليه في الحوض فقراء المهاجرين، الشُعث رؤوساً، الدُنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا يتفتح لهم السُدد [رواه الترمذي: 2444]، والحديث صححه الألباني [صحيح الترغيب: 3185].
الشُعث رؤوساً متفرقة شعورهم؛ بسبب كثرة أسفارهم، وذهابهم في الطاعات من الحج والعمرة، والجهاد في سبيل، وكذلك ليسوا من أصحاب النعيم والترف، الذين يمتشطون دائماً باستمرار.
والدُنس ثياباً بسبب كذلك فقرهم، وبسبب كثرة ذهابهم للجهاد أيضاً في سبيل الله تتسخ ثيابهم، هذا الاتساخ، وهذا التفرق للشعر لو تقدموا للمتنعمات للزواج سيردون، فقال: لا ينكحون المتنعمات، فلو خطبوا المتنعمات من النساء لم يُجابوا.
وقوله: ولا يفتح لهم السُدد، جمع سُدة وهي باب الدار، فلو طرقوا الأبواب لن يُفتح لهم؛ لأن الشكل لا يُشجع، ولو استأذنوا في الدخول لم يؤذن لهم، هؤلاء فقراء المهاجرين، بعضهم أصلاً ما كان عندهم بيوت، بعضهم كان يبيت في المسجد. ابن عمر أين كان؟ حتى بنى غرفة حُجرة واحدة، قال: "بنيت ما أعانني عليه أحد من خلق الله" [رواه البخاري: 6302].
هذا ليس يعني لو شخص قال: هل الشريعة تأمرنا أن ننتسخ أو ما نمتشط؟ لا، فهذا شيء حصل رغماً عنهم، ليس هم من اختاره، يعني: يمكن أن يتنظفوا فلم يتنظفوا، ويمكن أن يلبسوا ثياباً نظيفة فلم يفعلوا، لا، لكن شيء حصل لهم بفعل الهجرة والفقر، وما قدره الله عليهم من مصائب والشدة التي عاشوا فيها، عاشوا هكذا، عاشوا في شدة وصبروا عليها، فهذا جزاء صبرهم.
صفات الواردون على حوض النبي عليه الصلاة والسلام
كيف يعرف النبي ﷺ أمته في شدة الزحام، وكثرة أعداد الناس، ومن كل الأمم موجودين في أرض المحشر، كل الناس مجموعين، فكيف يعرف هؤلاء وهذا يذود هؤلاء ويسمح لهؤلاء، كيف يعرف أمته من غيرهم؟
أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُر مُحجلة بين ظهري، يعني: داخل مختلطة، بين ظهري خيل دُهم بُهم ألا يعرف خيله، الغُر المحُجلة، ما تتميز بالدهم البُهم، قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: فإنهم يأتون غُراً مُحجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض [رواه مسلم: 249].
أنا سابقهم، النبي ﷺ يسبق أمته إلى الحوض، كما أنه يسبق أمته إلى الصراط، كما أنه يسبق أمته إلى باب الجنة، كما أنه أول واحد تنشق عنه الأرض في البعث والنشور.
فرطهم على الحوض هو، قال ﷺ: وإني لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه....
ما معنى: وإني لأصد الناس عنه؟ يعني: ومن يصد؟ يصد من كل الناس من غير أمته، أو ممن لا يستحق أن يرد عليه من أمته؟
لكن أمته طبعاً تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، أمة الدعوة الذين أُرسل إليهم منهم من أطاعه، ومنهم من عصاه، ومنهم من آمن به ومنهم من كفر به، وأمة الإجابة الذين استجابوا له واتبعوه.
قال: وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: نعم، لكم سيما، يعني: علامة، ليست لأحد من الأمم تردون عليّ غراً محجلين [رواه مسلم: 247].
الغرة والتحجيل هذه البياض والنور الذي يكون في الجبهة والأطراف، الأيدي والأقدام من أين؟ أثر الوضوء الطاعة والعبادة، فالذي لا يركعها ولا يصلي، ولا يتوضأ، يُبعد ما له في الحوض، غير معروف لدى النبي ﷺ
المحرومون من ورود الحوض
والمحرومون من حوض النبي ﷺ، جاء في الحديث عن ابن عباس كما في رواية البخاري ومسلم: "خطب رسول الله ﷺ فقال: ألا وإنه يُجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أُصَيْحَابِي....
إذاً، هؤلاء ناس من أمته جاءوا إلى الحوض متجهين، فجأة ذهبوا أُخذ بهم ذات الشمال، كذا إلى الشمال منعوا من الحوض، وسُحبوا إلى الشمال: فأقول: يا رب أُصَيْحَابِي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[المائدة: 117] .
من هو العبد الصالح؟ عيسى ، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم [رواه البخاري: 4652، ومسلم: 2304، وللفظ للبخاري].
وعند مسلم: ألا لَيُذَادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقا [رواه مسلم: 249].
ما المراد بهؤلاء؟ النووي -رحمه الله- قال: "فيها أقوال: أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون" وارتد بعد النبي ﷺ عدد كان موجود من المنافقين من هو لم يُسلم أصلاً أو أسلم، ثم ارتد.
الثاني: أن المراد من كان في زمن النبي ﷺ ثم ارتد بعده"، إذاً إما أن يكون كل المنافقين والمرتدين في الأمة، أو من كان مرتداً بعد النبي ﷺ مباشرة ارتد بعده.
"الثالث: أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعهم من الإسلام". [شرح النووي على مسلم: 3/136].
يعني: البدع غير المكفرة، وعلى هذا القول لا يُقطع لهؤلاء الذين يُذادون بالنار بل يجوز أن يُذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله -تعالى- فيدخلهم الجنة.
فليس بشرط أن الذين يُذادون سيدخلون النار، فقد يكون الذود عقوبتهم، وقد يكون عقوبة، ثم عقوبة أخرى في النار؛ لأن عقاب عذاب المرتدين والمنافقين غير أصحاب البدع غير المكفرة وغير أصحاب المعاصي والكبائر.
فإذاً من الذين يُذادون مرتدون ومنافقون، وأصحاب بدع وعصاة أصحاب كبائر.
وقوله: إنك لا تدري ما أحدثوا، قال القاضي عياض: "هذا دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة، ولذلك قال فيهم: سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة، بل يشفع لهم ويهتم لأمرهم". [شرح النووي على مسلم: 15/64].
فالقاضي عياض -رحمه الله- يُرجح أنه لا يكون بينهم العصاة.
قال الخطابي فيما نقله ابن حجر عنه: "لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جُفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين" ويدل قوله: أُصيحابي، بالتصغير على قلة عددهم". [فتح الباري: 11/385].
لو قال شخص: هذا يعني أهل البدع هؤلاء الذين يقولون الصحابة ارتدوا، وهذا الحديث ما يشهد لهم؟ نقول: لا، الصحابة الذين نصروا الله ورسوله، وشهدوا معه المشاهد، واشتركوا معه في المعارك لم يرتدوا، أنما ارتد ناس أظهروا المتابعة للنبي ﷺ والإيمان به من الأطراف، يعني: بعض العرب ما جاءوا إلى المدينة، ولا جاهدوا مع النبي ﷺ، يمكن أرسل لهم أميراً أرسل عليهم أميراً، أو جاء شخص من القبيلة -مثلاً- وتعلم وصار هو إمامهم في الصلاة، لكن أولئك ما جاءوا للمدينة، ما وفدوا عليه، من أطراف العرب، ما كان العرب يتلومون بإسلامهم الفتحة، يعني: ينتظرون يقولون: سنرى ماذا يحدث بين هذا الرجل وبين قومه، فإذا انتصر عليهم تابعناه، وإذا انتصروا عليه فنحن على موقفنا، فبعض العرب أصلاً كانوا يتفرجون على الساحة، وينتظرون ماذا ستسفر عنه الموجهات بين مكة والمدينة، فلما انتصر النبي ﷺ تابعوه، وليس الصحابة الذين لازموا النبي ﷺ من المهاجرين أو من الأنصار، وشهدوا المشاهد وصلوا معه وجاهدوا معه، وجلسوا في العلم معه، وسمعوا له حديثه، رأوا المعجزات، مثل هؤلاء لا يرتدون، كيف يرتد مثل هؤلاء؟
فأقول: مثل هؤلاء إذا ارتدوا من يبقى إذاً، هؤلاء مادة الإسلام، وأصل الدين يعني، هؤلاء هم أنصار محمد ﷺ والذين هاجروا في سبيل الله.
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم أجمعين-: فكل من ارتد عن دين الله، وأحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المُبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون" هؤلاء القدرية، والجذرية، والمعتزلة، والجهمية، والخوارج، والروافض ونحوهم، هؤلاء أحرى بأن يكونوا من هؤلاء.
قال: "وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستّخفون بالمعاصي"؛ -لأن المُجاهر على خطر عظيم أما المُستخفي فإنه أحسن من المُجاهر-، "المستّخفون بالمعاصي، وجميع أهل الزيغ والأهواء والبدع، ثم البُعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة".
فإذاً لو قلنا فيهم من العصاة من يُذاد، فهل يلزم أن يكون الذود ذوداً تاماً كلياً ونهائياً؟ الجواب: لا، قد يكون ذوداً كلياً نهائياً، يعني: يُطرد عن الحوض، وانتهينا خلاص، وقد يكون يُذاد عنه في البداية يُطرد عنه، ثم يُسمح له بالمجيء إليه بعد ذلك، هذا بحسب حال الشخص هو مرتد منافق، هو بدعة مكفرة، هو بدعة غير مكفرة، هو من أهل الكبائر وسفاكي الدماء، ففي ناس لا يُسمح لهم بالاقتراب نهائياً.
قال: "ثم العبد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد"، وعلى هذا يكون نور الوضوء يُعرفون به، ثم يقال لهم: سُحقاً، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ يُظهرون الإيمان ويُسرون الكفر، فيأخذهم بالظاهر، ثم يُكشف لهم الغطاء، فيقال لهم: سُحقاً سُحقاً، ولا يخلد في النار إلا كل جاحد مُبطل ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان". [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 711] ، هذا الكلام ذكره القُرطبي -رحمه الله- في كتاب التذكرة.
ومن الذين نص النبي ﷺ على حرمانه من الحوض: بطانة السوء التي تعين الأمراء على ظلمهم، وتزينه لهم.
فروى الترمذي -رحمه الله- عن كعب بن عُجرة قال: "قال لي رسول الله ﷺ: أُعيذك بالله يا كعب بن عُجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم، فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد عليّ الحوض، ومن غشي أبوابهم، أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فهو مني، وأنا منه، وسيرد عليّ الحوض[رواه الترمذي: 614]، صححه الألباني [صحيح الترغيب: 2243].
لأنه قد يرد أبوابهم لينصحهم، قد يرد أبوابهم ليتكلم بالحق، فهو لا يُعينهم على باطلهم، ولا يصدقهم في كذبهم، وقد لا يغشى أبوابهم بالكلية، ولا يقترب أصلاً منهم، فلذلك قال: ومن غشي أبوابهم، أو لم يغش، فإن القضية ليست قضية إتيان الباب، وإنما المسألة ماذا سيكون موقفه معهم، ناصح أو مداهن، ماذا سيكون موقفه معهم؟
قال: فهو مني، وأنا منه، وسيرد عليّ الحوض، النبي ﷺ مع كعب بن عُجرة يقول له: أُعيذك بالله يا كعب بن عُجرة من أمراء، يعني: من عملهم أو الدخول عليهم أو اللحوق بهم، يكونون من بعدي، لما وصفهم يعني أنهم سفهاء موصوفين بالكذب والظلم، لذلك قال: فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم.
فإذاً عندهم كذب وظلم، أما إذا كانوا أمراء عدل على الاستقامة، على السنة، على الطاعة، على الدين، يحقون الحق ويُبطلون الباطل، فأنعم وأكرم، لكن إذا كانوا أهل ظلم وكذب، فمن غشي أبوابهم، أو دخل عليهم وشاركهم في ذلك، وأيدهم، وتابعهم، هذا سيُمنع من الحوض، ومن لم يفعل ذلك قال: فهو مني، وأنا منه، يعني: كناية عن بقاء الصلة بنيه وبين النبي ﷺ، لكن الحديث هذا -على أية حال- يدل على أن بعض العصاة سيُطردون عن الحوض، لكن كما قلنا قد لا يكون الطرد نهائياً، لكن سيحصل أن بعض العصاة سيُطردون عن الحوض، كما تكون حال بطانة السوء هذه.
هل الحوض قبل الصراط أم بعده؟
اختلف العلماء هل الحوض يكون بعد الصراط أم قبله؟ يعني: عندنا عدة مشاهد يوم القيامة، في الميزان والصراط والحوض، الآن الصراط والحوض أو الصراط والميزان من قبل الآخر؟
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة آتية إليه، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين، قال: إلى النار والله، ففجأة هم قادمون إلى النبي ﷺ هو قائم على المنبر هو قائم على حوضه، وزمرة يتجهون إليه، حتى إذا عرفتهم، يعني معناها من أمته، خرج رجل بيني وبينهم فقال: هلم، أين؟ قال: إلى النار والله، فقلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله؟ قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أُراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم [رواه البخاري: 6587].
الحديث الآن من ناحية قوله: بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة، وأُخذ بهم وإلى النار والله، هذا يعني أين يكون؟ متى يكون هذا؟
قال القرطبي -رحمه الله-: "فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض، يكون في الموقف قبل الصراط"، فهو أتى به ليستدل به على أن الحوض قبل الصراط، قال: "لأن الصراط إنما هو جسر على جنهم، فمن جازه سلم من النار" [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 703].
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "ظاهر ما تقدم من الأحاديث يقتضي كونه قبل الصراط، إذاً الحوض قبل الصراط؛ لأنه يُذاد عنه أقوام فإن كان هؤلاء كفاراً فالكافر لا يُجاوز الصراط بل يُكب على وجهه في النار قبل أن يُجاوزه، ثم من جاوز الصراط لا يكون إلا ناجياً مسلماً فمثل هذا لا يُحجب عن الحوض" [النهاية في الفتن والملاحم: 1/139].
إذاً: الذين يُذادون عن الحوض أليس منهم كفار، لو كان الصراط قبل، فكيف يجاوز الصراط كافر ويصل للحوض ويُذاد عنه؟!
فما دام سيُذاد ناس عن الحوض، ومنهم كفار فمعنى ذلك أن الحوض قبل الصراط؛ لأن الصراط لا يعبره كافر أصلاً، ولا يبدأ به كفر، الكافر لا يقف على الصراط أصلاً، يؤخذ بهم إلى النار مباشرة، يُكبون فيها.
هناك من قال: إن الحوض بعد الصراط، ولعلهم فهموا ذلك من الميزابين الذين يشخبان من نهر الكوثر الحوض، وقالوا: إن الحوض بجانب الجنة أن هذا يصب عليه، يعني: جانب الجنة، معناها أنه بعد الصراط، لكن هذا ما يلزم، يعني: يمكن يصبها بأمر رب العالمين، يمكن يصب من الجنة على الحوض الذي هو قبل الصراط ما يلزم يكون تحته مباشرة وقريب جداً، وعند الباب وجنب السور، ولذلك فإن الراجح أن الحوض قبل الصراط.
هناك حديث لقيط بن عامر في وفد بني المنتفق في الموضوع هذا لكنه ضعيف، وفيه: فيسلكون جسراً من النار فتطلعون على حوض [رواه أحمد: 16251، وضعفه الألباني في ظلال الجنة: 636]، ولكنه لا يصح.
هناك بعضهم قد فهم من حديث أنس أن الصراط قبل، ومن أين فهموا ذلك؟ حديث أنس: "سألت النبي ﷺ أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله فإنى أطلبك، قال: أطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أُخطأ هذه الثلاث المواطن[رواه الترمذي: 2433، وصححه الألباني صحيح الترغيب:3625].
والحديث صحيح وسبق ذكره، لكن هذا غير صحيح أن الصراط قبل الحوض؛ لأنه لا يلزم من هذا الترتيب، يعني: إذا قال اطلبني في أحد هذه المواقف الثلاثة لا يعني أنها مرتبة، قد يكون هذا قبل، أو هذا قبل، ثم أيضاً ممكن اتجاه سير الناس في مشاهد القيامة الحوض قبل الصراط، وقدمه النبي ﷺ لسبب يسبق إلى الصراط؛ لأنه سبق معنا سابقاً الأنبياء إذا بحثوا عن النبي ﷺ ليتدخل عند الله يشفع في فك الكربة التي هم فيها، أين يجده عيسى ؟ سبق أن ذكرنا المسألة، عيسى سيجده عند الصراط، عند الصراط، يعني: ليس لازماً أنه عبره ممكن عند الصراط، يعني: من هذه الجهة، والصراط هو موجود لكنه لم يُضرب على جهنم بعد.
فإذاً الخلاصة: أن كون النبي ﷺ عند الصراط، وعند الميزان، وعند الحوض، لا يعني في حديث أنس أن هذا قبل هذا، أو أن هذا بعد هذا، ولكنه يقول له: التمسني في أحد هذه المواطن الثلاث، ابحث عني هنا وهنا وهنا.
والصراط له جانبان، جانب أول النار، وجانب نهاية النار، إذا عبره إلى الطرف الآخر، فإذاً الصراط له طرفان، فالحوض ليس بعد الطرف الثاني، ليس بعد عبور النار.
فإذاً: هذه المواقف يمكن النبي ﷺ يكون عند الصراط من هذه الجهة قبل العبور، فيبحث عنه عيسى ويجده .
والحوض قبل نهاية الصراط الأخرى، على أن بعض العلماء له قولاً آخر، قال: الحوض كبير، ويمكن يكون أوله قبل الصراط من هنا، وآخره بعد الصراط من هناك".
لكن الراجح الأول والقول الثالث هذا فيه تكلف، ولذلك فالخلاصة أن الحوض قبل الصراط.
هل الحوض مختص بنبينا أم لكل نبي حوض؟
وقد ورد ما يدل على أن لكل نبي حوضاً، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهل الحوض مختص بنبينا ﷺ أم لكل نبي حوض؟ فالحوض الأعظم مختص به ﷺ لا يشاركه فيه نبي غيره، وأما سائر الأنبياء، فروى الترمذي عن سمُرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة [رواه الترمذي: 2443] وصححه الألباني [السلسلة الصحيحة: 1589] [حاشية ابن القيم: 13/57].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وقد اشتهر اختصاص نبينا ﷺ بالحوض لكن أخرج الترمذي" -وذكر الحديث- "قال: فإن ثبت فالمختص بنبينا ﷺ الكوثر الذي يُصب من ماءه في حوضه، فإنه لم يُنقل نضيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به لغيره في السورة المذكورة" [فتح الباري: 11/467].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله [رواه مسلم: 247].
والحكمة في هذا الذود أن النبي ﷺ يريد أن يُرشد كل أحد إلى حوض نبيه، فهذا من أمته يأتي، وهذا ليس من أمته فيشير إليه لكي ينصرف إلى حوض نبيه، كل واحد يذهب إلى حوض نبيه، علما تقدم أن لكل نبي حوضاً وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم، فيكون ذلك من جملة إنصافه ورعاية إخوانه من الأنبياء، فهي القضية ليست قضية طرد في الأمم الأخرى، الطرد وإنما يقول له الحق حوض نبيك، فمن باب رعاية حقوق الأنبياء الآخرين؛ لأن كل نبي سيتباهى بأتباعه فلذلك يذود من ليس من أمته، وإذا قلنا: إنه يطرد وليس معناه يذود يُبعد لكي ينظم أتباع الأنبياء إلى أنبيائهم، وإنما كان المقصود الطرد فيكون إذاً هو طرد من لا يستحق الشُرب من الحوض، والعلم عند الله -تعالى-، فإذاً هو يُبعد أُناس لينظموا إلى أحواض أنبيائهم، ويُبعد أُناس لأنهم لا يستحقون الشرب من الحوض.
وصية النبي ﷺ بعترته
وقوله ﷺ: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يريدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما [رواه الترمذي: 3788، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1750].
هذا إشارة إلى أن الكتاب والعترة -أهل الدين من آل البيت- مثل التوأمين الباقيين بعد رسول الله ﷺ فهو يوصي بأهل بيته خيراً في الإحسان إليهم، وإيثارهم بالمعروف، والإشفاق لحقهم، والقيام به، وقبل ذلك قال: أذكركم الله في أهل بيتي [رواه مسلم:2408]، كما يقول الأب المشفق: الله الله في أولادي من بعدي، يقول لأصحابه أو لأقاربه، فمن أقام بالوصية بحسن الخلافة في كتاب الله، وفي آل البيت الصالحين أتباع النبي ﷺ وقد يكون من آل البيت وهو كافر، قد يكون من آل البيت مشرك، لكن تكلم من آل البيت، يعني: صاحب الدين، والتوحيد من آل البيت هذا له حقان علينا: حق الأخوة الدينية العامة لكل مسلم، وحق قرابة رسول الله ﷺ، فمن رعى حق كتاب الله ورعى حق قرابة رسول الله ﷺ فسيُجازى بالجزاء الأوفى، وسيكون عند الحوض موعده، ومن أضاع الوصية، وكفر النعمة فحكمه على العكس، فلينظر كل واحد كيف يخلُف رسول الله في كتابه وآل بيته.
الدليل على وجود الحوض الآن
هل الحوض موجود الآن؟ حديث البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر: "أن النبي ﷺ خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن الآن يقول انظر إلى حوضي، والله على كل شيء قدير، يكشف لنبيه ما أراد أن يكشف له من مكانه في المدينة إلى مكان الحوض فيراه، قال: وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها [رواه البخاري: 1344،مسلم: 2296].
قال النووي -رحمه الله-: "هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي على ظاهره كما سبق، وأنه مخلوق موجود اليوم". [شرح النووي على مسلم: 15/59].
وكذلك قال ابن حجر: في قوله: لأنظر إلى حوضي، على ظهاره وكأنه كُشف له عنه في تلك الحالة". [فتح الباري: 3/211].
معنى الصراط
فماذا بالنسبة للصراط؟
الصراط في اللغة: هو الطريق الواضح، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط | إذا اعوج الموارد مستقيم |
[لسان العرب: 7/313].
والمراد بالصراط هنا: الجسر المدود على متن جهنم ليعبر الناس عليه إلى الجنة.
الأدلة على ثبوت الصراط
والصراط حق لا ريب فيه، دل القرآن عليه كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم: 71].
كل واحد فينا وكل واحد في الصحابة وفي المسلمين سيرد على النار، لكن ما معنى الورود؟ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم: 71].
فما هو الورود؟ هل هو دخول النار يعني يتعذب بالنار! طيب والصحابة والصالحين والأنبياء! فالمقصود إذاً بالورود هو المرور، والمرور على أي شيء سيكون؟ على الصراط، وورود النار المرور على الصراط ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 72].
وقد ثبت أيضاً الصراط في السنة، وقال أبو هريرة: "لما قال الناس للنبي ﷺ: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة"، ذكر الحديث بطوله وفيه: فيُضرب الصراط بين ظهري جهنم [رواه البخاري: 7437، ومسلم: 182].
فيُمد عليها مداً، وفي هذا إثبات الصراط والإجماع حصل على هذا، قال النووي -رحمه الله-: "ومذهب أهل الحق إثباته وقد أجمع السلف على إثباته" [شرح صحيح مسلم للنووي: 10/32].
الصراط حق على الحقيقة، وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وحاول بعض المبتدعة، وبعض المتعسفين وبعض المعتزلة أن يقول: إنه ليس بصراط حقيقي وإنه شيء معنوي، وأنه طاعة الله، لكن هذا ضلال وإجراء نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها مما يجب على المؤمن لا بد، دلت الأخبار الصحيحة في الصحيحين والمسانيد والسنن والصحاح على أنه طريق يُضرب على متن جهنم، وليس العبور على الصراط، بأعجب من المشي على الماء، أو الطيران في الهواء، أو الوقوف في الهواء، فإذاً طريق يُضرب على جنهم جسر يُضرب على متن جهنم سيعبر الناس عليه من طرفه إلى طرفه الآخر.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن-نادى منادي بصوت مرتفع- لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار [رواه البخاري: 4581 ، ومسلم: 183].
فإذاً أهل الصليب مع صليبهم في النار، اليهود في النار مباشرة بدون مرور على الصراط مباشرة، يُسبحون إلى النار، وكيف الشخص يمشي يوم القيامة على وجهه؟ الكافر يمشي على وجهه، وجهه تحت، يمشي على وجهه حقيقة والذي أمشاه في الدنيا على رجليه، قادر أن يمشيه يوم القيامة على وجهه [رواه البخاري: 4760].
ويُسبحون إلى النار، ويرمون في النار، قال: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وَغُبَّرِ أهل الكتاب، بقاياهم.
فإذاً من بقي؟ الموحدون، إذاً الكفار إلى النار مباشرة، قال: فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيُشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحسبون لهبها ولفحها ماء، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور : 39].
قال ﷺ: يحطم بعضها بعضاً، يأكل بعضها بعضاً لشدة حرها، فيتساقطون في النار، ثم يُدعى النصارى: فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيُشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر.
بقي أهل التوحيد سواء كانوا أهل طاعة أو عصاة، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، يعني: علموها له، وهي صفة معلومة عند المؤمنين، فإذا قلت لك الآن صف لي ربك؟ فأنت تقول: سميع بصير عليم، له وجه يليق بجلاله وعظمته، وله يدان وكلتا يدي ربي يمين، فأنت تصفه من خلال ما ورد من نصوص القرآن والسنة.
فيأتيهم في أول الأمر على صورة غير صورته الحقيقة التي يعرفها المؤمنون، امتحاناً، فيقول لهم للباقين الآن من الموحدين، فيقول لهم: ماذا تنتظرون، تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا، أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، لزمنا الطاعة وما رحنا مع المشركين والزائغين، فيقول: أنا ربكم، فيقول: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً ليست بربنا، ما ربنا من خفاء، في رواية، قال: حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، لأن المؤمنين وإن كانوا ما رأوا الله من قبل لكن الصفات التي يعرفونها منذ أن كانوا في الدنيا ما تنطبق هنا، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيُكشف عن ساق، يكشف ربنا عن ساقه، ولله ساق تليق بجلاله وعظمته كما أن له قدم يضعها في النار تليق بجلاله وعظمته، كما أن له يد ، ووجهه لا كوجوه المخلوقين، ولا كأقدام المخلوقين، ولا كساق المخلوق، ولا كأصابع المخلوق، فله سبحانه الصفات الكاملة العُليا، السمع والبصر والوجه والغضب والرضا والمحبة، له صفات الكرم، إلى آخر الصفات الكثيرة والأسماء .
لما يكشف ربنا عن ساقه لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، المؤمنون الذين كانوا يصلون لله اختياراً، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً، اتقاء ما كان يصلي إلا بالقوة، ورياءً بالإحراج نفاق رياءً، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، لأنه إذا صار طبقة واحدة كيف سينحني، فيسقط على وجهه، أي صار فقاره واحدة كالصحيفة، فلا يقدر على السجود، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، الله على كل شيء قدير، وهذا الذي يسميه العلماء حديث الصورة، ولا يمكن للمسلم أن يُكيف ويتخيل؛ لأنه أصلاً مهما تخيل لا يمكن إدراك هذا، ولذلك تؤمن بها كما وردت هكذا وردت هكذا نؤمن بها، يأتيهم في صورته الحقيقية، فيقولون: أنت ربنا، ويسجدون، ثم يُضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شويكة، يقال: لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح والطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم [رواه البخاري: 4581، ومسلم: 183]، إذاً سيؤمرون بالعبور ولابد من العبور ما في مجال لغير ذلك.
أقسام الناس في المرور على الصراط
ويكون الناس نتيجة عبور الصراط على ثلاثة أنواع: فناج مُسلم ما أصابه شيء؛ لأن الصراط عليه كلاليب وخطاطيف وحسك، مأمورة بأخذ من أُمرت بأخذه، الكلاليب والحسك والخطاطيف تعرف المطلوب، إذا مر عليها أخذته مباشرة فأسقطته في النار، فناس يمرون كطرف العين من الطرف للطرف كلمح البصر، وناس يمرون بسرعة البرق، وناس يمرون بسرعة الريح، وناس يمرون بسرعة الأجاويد والطير، واحد يجري، وواحد يمشي، وواحد يزحف، فالنتيجة ناج مسلم، ومخدوش مرسل تنال منه الكلاليب والخطاطيف تناله وتنهش حتى يصل في النهاية إلى القنطرة، ثم إلى الجنة.
والثالث: مكدوس في نار جهنم، ساقط فيها، فهو ممر رهيب جداً تقف الرسل على جانبه يدعون للخلق المارين بالسلامة، ويقولون: اللهم سلم سلم، وقال ﷺ: ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجزيها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. [رواه البخاري: 7437، ومسلم [182].
من شدة الأهوال لا يتكلم أحد إلا الأنبياء، وما هو كلامهم عندئذ؟ اللهم سلم سلم، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن وفيه أحوال، ناس يتكلمون، وناس يدافعون بالباطل، وناس يذبون ويكذبون، وناس أحيان يُختم على أفواههم ما أحد يتكلم مرة بالختم لا يتكلم، ومرة بالفزع والهول لا يتكلم.
فإذاً: الذب أو التلاوم أو المخاصمة في أحوال وختم على الفم أو الهول الذي يُسكت الواحد في أهوال، وفي حال الصراط، إذا جاءوا يعبرون الصراط ما في كلام انتهى الكلام، ما في إلا الرسل إلا الرسل يتكلمون، وبقية الناس لا يتكلمون بشيء، الرسل إذا تكلموا قالوا: اللهم سلم سلم من شدة ما يرون من الهول في ذلك الوقت، الكلاليب والخطاطيف التي على جسر جهنم الشوك الكلوب معروف الحديدة المعطوفة ومعرف كيف هذه الحديدة التي تأخذ أو يصيد بها السمك، هذه تنهش اللحم، حسك مثل شوك السعدان قال: فإنها مثل شوك السعدان، وضرب لهم مثل للتقريب وأخبرهم أنها بنجد.
كلاليب: الكلوب هذا يخطف الناس، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يُبق بعمله، ومنهم من يُخردل ثم ينجو.
فالكلوب الحديدة معطوفة الرأس التي يعلق فيها اللحم إذا انغرزت فيه تُرسل في التنور، أما السعدان: نبت له شوكة عظيمة.
والكلاليب: جمع كلوب الحديدة معطوفة الرأس، ومعنى: مُخردل: يعني مُقطع بالكلاليب، دحض مزلة: تنزلق الأقدام ولا تثبت عليه إلا من ثبته الله، الموضع الذي تنزل فيه الأقدام، ولا تستقر يقال عنه: دحض مزلة بمعنى واحد.
الصراط هذا أحد من السيف وأدق من الشعرة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف [رواه مسلم: 183].
وهذا الكلام إذا قاله الصحابي فلا بد أن يكون بلغه عن النبي ﷺ، قال بلغني، ممن بلغه؟ إما عن النبي ﷺ مباشرة أو عن طريق صحابي آخر له حكم الرفع.
وعند أحمد من رواية عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: إن لجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب، وحسك يأخذون ما شاء الله [رواه أحمد: 24837، وقال محققو: إسناده ضعيف بهذا السياق].
الله علمها من تأخذ، وعن سلمان موقوفاً: "ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا، فيقول: من شأت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك". [المستدرك: 8739، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 941].
وعن عبد الله بن مسعود قال: يوضع الصراط على سواء جهنم، مثل حد السيف المُرهف مدحضة مزلة عليه كلاليب من نار يخطف بها [رواه الطبراني في المعجم الكبير: 8992، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب: 3627].
الصراط أحد من السيف، أحد من الموسى، أدق من الشعر، إن الله على كل شيء قدير، الملائكة تقف على جانبيه وهو أدق من الشعر؟ نعم، الأمانة والرحم وصلة الرحم؟ نعم، الله على كل شيء قدير، ليس بمستبعد ولا مستنكر، طول الصراط من الطرف إلى الطرف لكن كم؟ الله أعلم، لم يرد في ذلك نص يُثبت مسافة معينة، يمر المؤمنون على الصراط كل على حسب عمله.
فإذاً المرور يكون بسرعات مختلفة كطرف العين، والبرق والريح وأجاويد الخيل والركاب، وهذا بناء على أعمالهم، حيث أن جهنم مظلمة، والذي سيمر على الصراط لا بد له من نور وإلا يقع فيها، والصراط أدق من الشعرة.
إذاً كيف سيعبر بدون نور لا بد من نور، وما هو مصدر النور –لا بد من نور قوي- روى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: ثم يؤمرون فيرفعون رؤوسهم فيُعطون نورهم على قدر أعمالهم، قال: فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل بين يديه، مثل الجبل أمامه يضيء له الطريق، ومنهم من يُعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يُعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يُعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ مرة فإذا أضاء قدم، يتقدم لأن هناك نور، وإذا طفئ قام، أمسك عن التقدم؛ لأن زلة في نار جهنم.
فإذاً سيقف حتى يُضيء مرة أخرى، الأعمال الضعيفة، ولذلك النور مرة يضيء ومرة يطفأ، إلى أن يمر فيمر ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقول: انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الرجل، ويرمل رملاً، فإذاً من الناس من يجري ويرمل، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، قال: يجر يداً وتعلق يد، ويجر رجلاً وتعلق رجلٌ، كيف؟ أليس الآن يخرج من الصراط كلاليب وشوك وحسك وخطاطيف، فهذا المسكين هذا يُخلص يد فتعلق الأخرى، يُخلص رجل ليتقدم فتعلق الأخرى، حتى يمر، كم يأخذ من الوقت؟ لأن هذا عرض جهنم سيمر عليه من الطرف إلى الطرف، يُضرب على سواء جهنم ليس من وسط جهنم من الطرف إلى الطرف، كل المسافة لابد أن يقطعها، قال: وتضرب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناكي لقد أعطانا ما لم يعطي أحداً[المعجم الكبير للطبراني: 9763]، الحديث هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- حديث صحيح وصححه الألباني [صحيح الترغيب: 3591].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه هُدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى ثبوت قدم العبد على هذا الصراط"، الآن في الدنيا على حسب ثوبت قدمك الآن على الحق وعدم الزيغ سيكون الثبات هناك، قال: "يكون ثبوت قدمه الى الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط"، يعني: الآن في الدنيا، يكون سيره على ذاك الصراط، "فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاءً وفاقاً هل تجزون إلا ما كنتم تعملون، ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذلك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثُرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، الشبهات والشهوات، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46]" [مدارج السالكين: 2/15].
إذاً الكفار سُحبوا إلى النار لا يمرون على الصراط حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، وفي الصحيحين: وتبقى هذه الأمة، وفيها منافقوها[رواه البخاري: 6573، ومسلم: 182].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ثم ينطلق سبحانه ويتبعونه ويضرب الجسر ويساق الخلق إليه، هو دحض مزلة مظلم لا يمكن عبوره إلا بنور، فإذا انتهوا إليه، قُسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم وأعمالهم وإخلاصهم في الدنيا، فنور كالشمس، ونور كالنجم كالسراج في قوته وضعفه" [تحفة المودود: 1/308].
وقد طفي نور المنافقين على الجسر أحوج ما كانوا إليه كما طُفأ في الدنيا من قلوبهم، وأعطوا دون الكفار نوراً في الظاهر، كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن، فيقول للمؤمنين: قفوا لنا نقتبس من نوركم ما نجوز به، فيقول المؤمنون:ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد: 13]، يعني: ارجعوا إلى الدنيا، خذوا نوراً تجوزون به، وقيل: ارجعوا وراءكم حيث قُسمت الأنوار، فالتمسوا هنالك نوراً تجوزون به، فيرجعون فيُضرب الباب، وهذه خدعة التي يخدع الله بها المنافقون يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 12-15]، بهذه الشبهات وأمراض القلوب واستجبتم لها ووقعتم فيها، فيسقطون في النار هؤلاء المنافقون.
المرور على الصراط خاص بأهل الإيمان
المرور على الصراط الراجح فيه أنه لأهل الإيمان، وأما الكفار فيُذهب بهم مباشرة إلى النار، قال ابن رجب -رحمه الله- في كتابه التخويف من النار: "واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومُشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط، وساق أحاديث منها حديث أبي سعيد المتقدم، ثم قال: فهذا الحديث صحيح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح والعُزير من أهل الكتاب فإنه يُلحق بالمشركين في الوقوع بالنار قبل نصب الصراط، إلا أن عُباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولاً" ، عباد الشمس مع الشمس في النار، عباد القمر عباد الكواكب مع الكواكب في النار، عباد النجوم معها في النار.
والذين عبدوا عيسى والعزير، وعزير وعيسى أبرياء إلى الله مما فعل هؤلاء المشركون وأشركوا بهم مع الله؟ فهؤلاء فإنهم يتخلفون مع أهل الملل الذين عبدوا.
قال: "وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء، ثم يردون النار بعد ذلك". [التخويف من النار: 1/233].
أول الناس عبورا على الصراط
قلنا: إن أول من يعبر الصراط هو محمد ﷺ، وأول أمة تعبر هي أمة محمد ﷺ؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: فأكون أنا وأمتي أول من يُجيز -يعني يعبر- ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم[رواه مسلم: 182].
وأول من يعبر الصراط من هذه الأمة هم فقراء المهاجرين، نتذكر أننا قلنا في الحوض قبل قليل: إن أول من يرد الحوض فقراء المهاجرين، وأول من يعبر الصراط هنا فقراء المهاجرين، لقد صبروا وأوذوا وأُخرجوا من ديارهم وما كان لهم مأوى وأووا إلى الله وهاجروا إليه وإلى رسوله.
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله ﷺ: هم في الظلمة دون الجسر، قال اليهودي: فمن أول الناس إجازة؟ قال النبي ﷺ: فقراء المهاجرين [رواه مسلم: 315].
ما هو شعار المؤمنين على الصراط؟ ورد أحاديث ضعيفة لكن ثبت في الصحيحين: ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم [رواه البخاري: 7437، ومسلم: 182]، الذي ثبت أن الكلام يومئذ أو عندئذ للرسل فقط وهو اللهم سلم سلم.
هناك أمران عظيمان عند الله يقومان على جنبتي الصراط الأمانة والرحم، وتُرسل الأمانة والرحم فتقومان في جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، هذه رواية مسلم [195].
فلعظم شأنهما وعظم حقهما، يوقفان هناك للأمين والخائن والواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل، فعلينا إذاً رعاية الأمانات وصلة الأرحام؛ لأن الصراط الموقف العظيم هذا فيه تأكيد على حق هذين الأمرين.
الصراط من أعظم أهوال يوم القيامة
إن الهول في ذلك الموقف عظيم، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها- لما ذكرت النار وبكت، ولما ذكرت عائشة النار وبكت قال الرسول ﷺ: ما يبكيك؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول ﷺ: أما في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحد أحد، خلاص من الهول لا يذكر أحدٌ أحداً، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] ، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم [رواه أبو داود:4757]، وسبق الكلام عن الحديث وقال العراقي: "إسناده جيد" [تخريج أحاديث الإحياء: 4469].
ومما يدل على شدة الموقف في ذلك اليوم أن أنس لما سأل النبي ﷺ أن يشفع له قال: أنا فاعل، سأله أنس أين أطلبك، "يا رسول الله، فأين أطلبك، فقال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطأ هذه الثلاث المواطن، [رواه الترمذي: 2433، وصححه الألباني صحيح الترغيب:3625] هذه الثلاث من هولها، الناس يحتاجون الحاجة إلى رحمة رب العالمين.
والنبي ﷺ يُبحث عنه يوم القيامة في تلك المواطن الثلاث، احفظ هذه المواطن يا عبد الله لأنك تبحث عن النبي ﷺ يوم القيامة عندها، والعلم بها مفيد جداً، والإيمان والثبات على الحق والعمل الصالح.
قال القرطبي: "تفكر الآن فيما يحل من الفزع بالفؤاد، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كُلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدته واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يدك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف يُنكسون، فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم وتعلو أرجلهم، فياله من منظر ما أفضعه ومرتقاً ما أصعبه ومجاز ما أضيقه". [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 757].
إذا مُد الصراط على جحيم | تصول على العصاة وتستطيل |
فقوم في الجحيم له ثبور | وقوم في الجنان لهم مقيل |
وبان الحق وانكشف الغطاء | وطال الويل واتصل العويل |
[التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 753].
كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حُجر امرأته فبكى، فبكت امرأته قالت: ما يُبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله -تعالى-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم: 71]، ولا أدري أأنجوا منها أم لا.
من أسباب النجاة على الصراط
فما هي الأعمال يا ترى التي تؤدي إلى أن يجوز الإنسان الصراط؟ لأن الذي يقرأ موضوع الصراط يا إخوان موضوع مهول وشديد، يعني: أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وخطاطيف وكلاليب، وطويل وظلمة، ونار تحت تلظى، يعني: كيف النجاة؟
فمن الأشياء التي تُنجي على الصراط نصرة المظلوم، قال ﷺ: من مشى مع مظلوم حتى يُثبت له حقه، ثبته الله قدميه على الصراط يوم تزول الأقدام، رواه ابن أبي الدنيا [هواتف الجنان لأبي الدنيا: 149]، وحسنه الألباني [صحيح الترغيب: 2614].
السعي في حاجة المسلم كذلك، قال: ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يُثبتها له أثبت الله -تعالى- قدمه يوم تزل الأقدام حديث صحيح [الطبراني في الكبير: 13646، وحسنه الألباني صحيح الترغيب: 2623].
اتجاه الناس بعد الصراط
تجاوز الناس الصراط وعبروا إلى أين سيتجهون بعد ذلك؟ إلى قنطرة، يُحبسون عليها ويقفون مدة، قال ﷺ: يخلُص المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فَيُقَصُّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أُذن لهم بدخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا [رواه البخاري: 6535].
فإذاً هناك قنطرة بعد الصراط سيحبسون عليها للتهذيب والتنقية بينهم مظالم، القنطرة هي جسر، والمراد بها طرف الصراط مما يلي الجنة.
وقيل: صراط آخر خاص بالمؤمنين يُقتص فيه لبعضهم من بعض ويؤخذ للمظلوم حقه، والأظهر أنها قنطرة مستقلة وليست متصلة بالصراط العظيم على النار، يُحسبون على قنطرة بين الجنة والنار فهي منفصلة عن ذلك الصراط المضروب على النار، لتنقية المؤمنين الناجين، هنالك حساب تقدم لكن هؤلاء نجوا وإلى الجنة مصيرهم، لكن هنالك قصاص بينهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة إلا طيبة بل إن كان في النفس خُبث طُهرت وهُذبت"، كما في الصحيح أن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة. [مجموع الفتاوى: 226].
فهم صحيح أنهم نجوا من النار الآن لكن في شوائب، حقوق لبعضهم من بعض تُقتص الآن، وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي نتيجته عند بعض الناس أنه تفنى حسناته ويؤخذ من سيئات المظلوم وتوضع عليه وإلى النار، فهذا غير هذا؛ لأن هؤلاء الذين عبروا نجوا، فبقيت الشوائب يقتص من بعضهم لبعض ويدخلون وأنفسهم نظيفة وصدورهم سليمة، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47].
الآن وصلنا إذاً إلى باب الجنة، ودخل الكفار النار، ماذا من التفصيل الوارد في القرآن والسنة في الجنة؟ وماذا من التفصيل الوارد في القرآن والسنة في النار؟
عن هذا سيكون إن شاء الله موضوع الدورة القادمة في الصيف القادم، إن شاء الله، وبذلك نكون قد أنهينا هذه الدورة ودروس هذه الدورة، وهذا الدرس الأخير، وذكرنا فيما سبق أشراط الساعة، ثم ذكرنا الموت والبرزخ ثم ذكرنا الآن مشاهد القيامة وأهوال القيامة، وبقي الجنة والنار بمشيئة الله -تعالى-.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يُعيذنا من النار، وصلى الله على نبينا محمد.