الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

25- مقدمة عن اليوم الآخر


عناصر المادة
أهمية الإيمان باليوم الآخر
خطر الكفر باليوم الأخر
أسماء، وأحوال اليوم الآخر

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين.
سيكون موضوع هذه السلسلة مشاهد القيامة، وأهوال القيامة التي تبدأ من البعث والنشور، وتستمر في تلك المشاهد العظيمة في الحساب، والجزاء، والشفاعة، والصراط، والميزان، والحوض، ونحو ذلك من المواقف والأحداث الكثيرة التي تكون فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج: 4].

أهمية الإيمان باليوم الآخر

00:01:10

اليوم الآخر وما أدراك ما اليوم الآخر!
أحد أركان الإيمان الكبرى التي ينبني عليها إيمان العبد، وتستقيم بها عقيدته، ولا يصح بدونها دينه.
وهي أعلى أعمال البر التي يحبها الله ، قال اللهلَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].
والكفر بهذه الأركان أساس الضلال، وباب الخسران والعياذ بالله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء: 136]، ولأجل ذلك كان الإيمان باليوم الآخر قريناً للإيمان بالله -تعالى- في الكتاب والسنة، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 62].
الإيمان باليوم الآخر أساس متين تنبني عليه عقيدة الولاء والبراء عند المؤمن. فولاؤه لمن يؤمن بالله واليوم الآخر لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].


الإيمان باليوم الآخر جعل نبي الله إبراهيم وقومه يفاصلون عليه، فقال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ  [الممتحنة:4].
وقال مؤكداً التأسي بنبيه الخليل إبراهيم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة: 6].
الإيمان باليوم الآخر من أعظم الفوارق بين المؤمن الذي عصم الله -تعالى- دمه، وماله، وعرضه وبين الكافر الذي تعبد الله المؤمنين بجهاده وقاتله، فقال تعالى:  قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة: 29].
الإيمان باليوم الآخر ضروري حتى ينتفع العبد بمواعظ الشرع، فأنت ترى في الأحكام مثلاً: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 232]، هذا حكم شرعي، بماذا قرنه؟!  قال: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[البقرة: 232].
إنه الأساس الذي يدفع العبد إلى إخلاص الدين لله -تعالى-، وترك ما عليه أهل الإشراك والملاحدة، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 110].
الإيمان باليوم الآخر الذي يدفع الإنسان إلى الإخلاص لله ؛ لأنه يعلم أن الله يوم القيامة لا يقبل شركاً، إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك [رواه الترمذي: 3154، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 482].


الإيمان باليوم الآخر أساس متين، لا يتم أتباع النبي ﷺ إلا بذلك لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
الإيمان باليوم الآخر أساس التحاكم إلى شرع الله، وانشراح الصدر بما يأتينا من الأحكام عن الله ورسوله من أمر ونهي وأدب وخلق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
قال مالك بن دينار -رحمه الله-: "إنما العالم الذي إذا أتيته في بيته فلم تجده قص عليك بيته" يعني وعظك بيته، فحاله وهيئته ينبيانك عن صاحبه، قال: "رأيت حصيره للصلاة، ومصحفه، ومطهرته في جانب البيت، ترى أثر الآخرة" [صفة الصفوة: 3/286].
إنه أساس لكي يتحول التحاكم من مجرد رضا قلبي، وإقرار لساني إلى واقع عملي بالجوارح وتنفيذ لأمر الله وانتهاء عما نهى الله عنه ورسوله ﷺ، وعلى ذلك يدور الإيمان الشرعي، انظر مثلاً إلى قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2].
إنه أساس العدل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
وأما الظلم فذاك ضياع الآخرة، روى البخاري عن النبي ﷺ قال: الظلم ظلمات يوم القيامة [رواه البخاري: 2447، ومسلم: 2578] .
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً" [فتح الباري: 5/100].


روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: "لما رجعت إلى رسول الله ﷺ مهاجرة البحر قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟.
قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينا نحن جلوس، مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم" -شاب طايش – "فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها" - هي تحمل قربة ماءها فوق رأسها – "فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً.
قال: يقول رسول الله ﷺ: صدقت، صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم [رواه ابن ماجة: 4009، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجة: 3239].
الإيمان باليوم الآخر أساس التضحية بالنفس، والمال والولد، وكل عزيز في سبيل الله، وتسترخص الدنيا بأسرها لأجل الآخرة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38]، معنى الآية: إلا تعملون بمقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي القيام بالجهاد الاندفاع الخروج فلماذا تتثاقلون؟  أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة: 38].
القعود حال من رضي بالدنيا، ولم يبال بالآخرة، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بالنسبة للآخرة إِلَّا قَلِيلٌ، فأيهما أحق بالإيثار؟! أليست الآخرة أولى! وماذا يكون عمر الإنسان القصير بالنسبة ليوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك جنة أو نار، إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[التوبة: 39].


وروى النسائي -رحمه الله- عن شداد بن الأوس: "أن رجلاً من الأعراب -والأعراب منهم من فقه، وآمن بالله واليوم الآخر، فصار شأنه عظيماً كهذا الأعرابي- جاء إلى النبي ﷺ فآمن به، واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي ﷺ بعض أصحابه فلما كانت عزوة خيبر، غنم النبي ﷺ سبياً، فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم لهم، ووكلهم بإيصال نصيب الأعرابي إلى الأعرابي، -وكان يعني الأعرابي يرعى ظهرهم- فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ،
فأخذه وجاء به إلى النبي ﷺ فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك! ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي ﷺ: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأوتي به النبي ﷺ يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار - في ذات المكان الذي عينه قبل قليل في خطابه للنبي ﷺ جاء السهم رجل صادق فصدقه الله- فقال النبي ﷺ: أهو هو؟، قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي ﷺ في جبته" -يعني: جبة النبي ﷺ "ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً وأنا شهيداً على ذلك  [رواه النسائي: 2080]، وهو حديث صحيح [صححه الألباني صحيح الجامع: 1415].
الإيمان بالله واليوم الآخر الذي يمتحن به صدق العبد في العملقُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف:110]، فقدم الدليل على الإيمان باليوم الآخر بعمل الصالحات وترك الإشراك.
لا بد من إلى الارتباط بين الأعمال، وبين اليوم الآخر، هذه قضية مهمة جداً، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت [رواه مسلم: 47].
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وحتى النساء  لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة[رواه البخاري: 1088] يعني: محرم.


وكذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث [رواه البخاري: 1280] ، لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسأل طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها [رواه مسلم: 1413]، إذاً الإيمان اليوم الآخر هو الذي يدفع الناس إلى أعمال ويمنعهم من أعمال.
قال الحافظ -رحمه الله-: "وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي: من آمن بالله الذي خلقه، وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل هذه الخصال" [فتح الباري: 10/446].
أبسط معاني الإيمان بالدار الآخرة والثواب والعقاب والجنة والنار أن يعلم العبد أنها حق على الحقيقة، وأنه ليس من حقه أن يفعل في الدنيا ما يشاء؛ لأنه تحمل أمانة عظيمة وسوف يسأل عنها غداً في اليوم الآخر، وهنالك ويكون الوزن وجزاء الابتلاء إما سعيد في الجنة، وإما شقي في النار، إن الإيمان العملي يدفع صاحبه إلى مراقبة الله -تعالى- وأن يسعى لمرضاته.
تذكر اليوم الآخر يحول مسارات الناس، بل يغير السيرة. دينار العيار كان رجلاً مسرفاً على نفسه، وكانت له أم تعظه، فلا يتعظ، فمر بيوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام، قد خرجت العظام من أرضها، فنظر إليها فتأثر، فتذكر مصيره ونهايته، وأنه قادم على الله، فأخذ عظماً نخراً ففته ثم فكر في نفسه" فقال: "ويحكي يا نفس كأني بك غداً قد صار عظمك رفاتا، وجسمك ترابا، وما زلتي مكبة على المعاصي والشهوات"، ثم ندم وعزم على التوبة، وقال: "إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين".
ثم مضى إلى أمه متغير اللون منكسر القلب، فكان إذا أجنه الليل أخذ بالبكاء والنحيب ويقول: "يا دينار ألك قوة على النار، يا دينار ألك قوة على النار! كيف تعرضت لغضب الجبار؟" وظل على ذلك يقوم ليله، ويناجي ربه، ويحاسب نفسه.
فرفقت به أمه لما رأت جسمه صار هزيلاً، قالت: ارفق بنفسك قليلاً.
قال: يا أماه دعيني أتعب قليلاً لعلي استريح طويلاً، يا أماه أن لي موقفاً بين يدي الجليل ولا أدري إلى ظل ظليل أم إلى شر مقيل، إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه.
فقالت: بُنياه أكثرت من إتعاب نفسك.
فقال: راحتها أريد، يا أماه ليلتك كنت بي عقيمة إن لابنك في القبر حبس طويل، وإن له من بعد ذلك وقوفاً بين يدي الرحمن، فكان يقرأ في قيامه فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، فيبكي ويضطرب ويخر مغشياً عليه". [التوابين لعبدالله المقدسي: 1/256].


فكان بالإيمان باليوم الآخر محاسبة النفس، تذكر ذلك اليوم كان يجعل مثل هؤلاء يغيرون من مسيرة حياتهم.
لقد أقدم المشركون في مكة، وكان من أكبر معترك المعارك بين النبي ﷺ والمسلمين المؤمنين والصحابة وبين كفار قريش هو اليوم الآخر، يوم البعث؛ لأن الكفار العرب ما كانوا يؤمنون بيوم البعث، ويرفضون هذا الأمر، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7]، وجاءت المؤكدات قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[التغابن: 7].
فكان تكذيبهم باليوم الآخر؛ لأنهم يستبعدون أن الله -تعالى- يعيد الخلق كما كان، ولذلك نشبت المعركة بين أهل الإيمان، وأهل الشرك في مكة من أجل قضية اليوم الآخر، فكان الصراع محتدماً على قضايا معينة صار فيها تكذيب وأخذ ورد ونقاش، مناظرة وجدال، دعوة وإباء.
أما أهل الإيمان فإن قائلهم يقول: كيف نفرح والموت ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى الصراط مرورنا، والوقوف بين يدي الله مشهدنا كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17-18]، يأتي أحدهم إلى فراشه فيلمسه بالليل فيقول: "إنك ناعم لين ولكن فراش الجنة ألين"، ثم يقوم ليله حتى يصبح.
يناجي أحدهم ويقول: يا قومي، والله لا أسكن، ولا يهدأ لي بال حتى أترك جسر جهنم ورائي".
كانوا إذا ذكر ذلك اليوم خافوا خوفاً عظيماً، والله لا يجمع على عبده خوفين وأمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة [شعب الإيمان للبيهقي: 777، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 2666].
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]، فهكذا كانوا ينادون في الثلث من الليل، في ثلث الأوابين، وثلث التوابين، وثلث المستغفرين، وثلث المخطئين، وثلث النادمين، نحن الذين ضيعناه في كثير مما لا يرضي الله.

خطر الكفر باليوم الأخر

00:22:29

الكفر باليوم الآخر ماذا ينبني عليه؟ وما هي نتيجته؟
معول للهدم، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [النحل:38].
كلما ازداد كفار العرب رفضاً لهذه القضية وهي البعث، كلما جاءت الآيات مؤكدة أكثر فأكثر لهذه الحقيقة، قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 26].
كيف لا يعلمون وعندهم هذه العلوم التي أوصلتهم إلى الفضاء، والكواكب، وقيعان البحار، واستخراج المعادن من باطن الأرض، واستكشاف الأحياء الدقيقة، واختراع الأدوية، والآلات؟! كيف هؤلاء لا يعلمون؟!
قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۝ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 6-7].
فلو تأملت في حال هؤلاء الكفار اليوم على ما حصل عندهم من تقدم دنيوي، فإنهم لا يعلمون؛ لأن العلم الحقيقي هو العلم بالله وباليوم الآخر، العلم بشرع الله الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة في اليوم الآخر، هؤلاء لا علم عندهم بهذا، علمهم محصور في الحياة الدنيا، وهذا علم قليل؛ لأنه علم حياة محددة؛ لأنه علم تمشي به أمور في زمن قصير، لكن العلم بالمدة الطويلة، والحياة المديدة، والزمن المستمر، والأمد الذي لا ينتهي هذا ما عندهم علم به، ولذلك كثير من الناس لا يتبادر إلى ذهنه هذا، فإذا نظر إلى الكفار وما عندهم من العلوم قال: هؤلاء أصحاب معارف وعلماء.
نقول: علمهم بقضايا دنيوية محصورة ستنتهي، والدنيا كلها ستفنى، لكن ما علمهم بالآخرة؟ ما علم أدسون وجاليليو وأنشتاين، ما علمهم بالآخرة؟
والكفار المخترعون، وأصحاب جوائز نوبل ما علمهم بالآخرة؟ ولذلك فإن الذي لا يؤمن بالآخرة لو كان عنده علم فعلمه يدعوه للطغيان، قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11]؛ لأنهم لا يرجون لقائنا.
إنه يفرق بين نفاق المنافقين، ورياء المرائين وبين إيمان المؤمنين؛ لأن عدم الإيمان باليوم الآخر هذا من خصال أهل النفاق، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ  لماذا يراءون الناس؟ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ۝ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء: 38-39].


فجحد الذين كفروا الأدلة الواضحة عن اليوم الآخر، والبراهين الساطعة على أن هناك يوماً يبعث الله فيه الناس من القبور فيجازيهم، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 51].
كيف ننساهم؟ نتركهم في النار، ونتخلى عنهم أحوج ما يكونوا إلينا، فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وأعرضوا عن الوحي، وأعذارهم كاذبة، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15]، ما هي حجتهم في عدم الإيمان؟ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].
عدم الإيمان باليوم الآخر هو سبب المعصية، وقد يكون موجوداً عند بعض الناس فينقص، ويغيب عن البال كثيراً اليوم الآخر فتقع المعاصي، وبعض المعاصي أهلها لا يؤمنوا باليوم الآخر، أو إيمانهم به ضعيف، يتجلى في الأدلة. وأرباب المعاصي إما أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، أو إيمانهم به ضعيف.
عن أبي هريرة قال: "علمت أن رسول الله ﷺ كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء " أبو هريرة من اعتنائه بالنبي ﷺ كان يتلمس ماذا يعجب النبي ﷺ من الطعام أو الشراب فيهيئه له، فتحين أنه سيفطر يوماً بعد الصيام فأعد نبيذ صنعه في دباء.
النبيذ: كل ما ينبذ في الماء من زبيب أو تمر أو غيره، في أول الأمر يكون الماء حلواً بفعل النقع الذي حصل للزبيب أو التمر، فيشرب، وكانوا يحبونه، لكن إذا بقي هذا ثلاثة أيام وأكثر يبدأ التخمر، ومن الأشياء التي تساعد على التخمر وتحفز التخمر وتسرع التخمر أن يُجعل الشراب في الدباء.
الدباء: القرع إذا قطع فصارت هذه القطعة مثل الصحن، الإناء الذي يوضع فيه الماء المنبوذ فيه زبيب أو تمر ونحو ذلك، "قال: فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ، فلما كان المساء جئته أحملها إليه، فقلت: يا رسول الله! إني قد علمت أنك تصوم في هذا اليوم فتحينت فطرك بهذا النبيذ، فقال: أدنيه مني يا أبا هريرة، فرفعته إليه فإذا هو ينشوا" -يعني: يفور، وله فقاقيع على سطحه كهيئة الماء الذي يغلي، وهذا دليل التخمر، إذا رأيت هذا الشراب قد بقي فترة مدة وقد يكون أحيان في جو حار، أو في الدباء ونحو ذلك، أو مدة طويلة يبدأ يصدر فققايع ويفور كأنه يغلي، هذا علامة على أنه قد تخمر وصار مسكراً، "فقال النبي ﷺ: خذ هذه فاضرب بها الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر [رواه النسائي: 5213] صححه الألباني [السلسلة الصحيحة: 3010].


وهؤلاء الذين يشربونه أهل الخمور والعلامة الحمراء والعلامة السوداء، رد ريبل، وبلاك ريبل، وأنواع من الخمور هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
والزهد في الآخرة والأعراض عنها سيؤدي إلى الركون للدنيا حتماً: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس: 7].
إذاً بدلوا بدلاً عن الآخرة اطمئنوا وركنوا إلى هذه الدنيا، فصارت هي نهاية قصدهم، وغاية مرامهم، فسعوا لها، وأكبوا عليها، ونهلوا من لذاتها، واشتغلوا بشهواتها، وصرفوا أوقات العمر فيها، فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، ولن يبقوا، وكأنها دار مقر وهي ليست إلا ممر إلى دار المقر وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ لا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الكونية، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ [يونس: 8].
فهي أجدر بهم، وهي صاحبتهم، فلا عجب أن أحبط الله أعمال المكذبين بالآخرة، وحرمهم من ثوابها أحوج ما يكونون إليه، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 147].
إذاً عدم الإيمان باليوم الآخر يؤدي إلى حبوط العمل؛ لأنها على غير أساس، إذا ما وجد الإيمان بالله وباليوم الآخر تحبط الأعمال تبطل مهما كانت.
هذه الآيات الجامعة في شأن المكذبين بالآخرة ربطت بين كفرهم بالآخرة وكفرهم بالله ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ۝ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ۝ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ۝ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ۝ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 27-34].
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[الجاثية: 24]، الكفار يقولون أرحام تدفع وأرض تبلع ومرور الوقت والأيام هو الذي يفني الحياة، وليس هناك من حياة بعد ذلك، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[الجاثية: 25].
ما دام تقول في بعث أحيي آباءنا، انظر إلى حجج الكفار؟! قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[الجاثية: 26].
فإذاً سيأتي ذلك اليوم الذي يندم فيه هؤلاء الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، وسوف تظهر لهم سيئاتهم، وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الجاثية: 33].
وأفضع ما في الكفر باليوم الآخر من البلايا أن فيه تكذيب لله -تعالى- وشتم له ، والدليل على أن عدم الإيمان باليوم الآخر هو شتم لله هذا الحديث: روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك فهل يكون ترك الإيمان باليوم الآخر تكذيب لله؟ المكذب بيوم البعث هل هو مكذب بالله، أو مكذب لله؟ يكذب الله قال: فأما تكذيبه إياي فقوله: لم يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته الإعادة أسهل من الابتداء، إذا ابتدئه من عدم أليس قادراً على أن يعيده؟ بلى، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد[رواه البخاري: 4482].


ماذا يعتقد هؤلاء الذين لا يؤمنون باليوم الآخر؟ ماذا ينبني على جحد اليوم الآخر؟ أن الأمور ستذهب سدى، وإذا كان لا يوجد  يوم آخر فلماذا يعبد الله؟ ولماذا يطاع الله؟ ولماذا يخالف الإنسان هواه؟ ولماذا يجاهد نفسه؟ ولماذا يمنع نفسه من الوقوع في المعاصي؟ إذا كان لا يوجد يوم آخر الإنسان يعاقب فيه أو يثاب، فلماذا كل هذه المجاهدة؟ ولماذا كل هذه الأعمال؟ فينبني على عدم الإيمان باليوم الآخر اعتقد أن الله خلق الخلق عبثاً خلقهم سداً وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[الأنعام:29].
هذا اعتقاد الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، أنهم يقولون: هكذا نذهب ونأتي، نولد ونموت، وانتهى كل شيء، لا يوجد شيء بعد هذا، هذا تنقص لله، هذا تكذيب لله، هذا اتهام الله أنه ليس له حكمة، اتهام الله أنه خلق الخلق عبثاً، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، محال، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116].
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الجاثية:21]، ما يمكن، فإذاً ينبني على التكذيب باليوم الآخر نفي الحكمة من الخلق، ونفي الحكمة من التكليف، وادعاء أن المسيء والمحسن سواء، وأنه لا ثواب ولا عقاب، وهذا فيه نسبة النقص لله، ولذلك نزه الله تعالى عنه نفسه فقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116]، ولأجل ذلك ختم الله هذه الآيات من سورة الجاثية في شأن المكذبين بالبعث ختمها بحمده على حكمته في خلقه وشرعه ونزه نفسه عن هذا الباطل، قال: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية: 37].


وكان النبي ﷺ يفتتح صلاته بحمد الله، ويقرنها بالحمد، ويقرن الحمد بالإيمان بالبعث والجنة والنار، وروى ابن عباس عن النبي ﷺ: "كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت... [رواه البخاري: 7385] الحديث.
قوله: ولقاؤك حق، هذا الإقرار بالبعث، هذا الإقرار باليوم الآخر، أنت الحق إشارة إلى المبدأ أنت خلقتنا، والله أول ليس شيء قبله، والساعة حق إشارة إلى المعاد، والنبيون حق إشارة إلى الشرع الذي يبتلى به العباد لكي يجازوا في اليوم الآخر.

أسماء، وأحوال اليوم الآخر

00:42:45

العرب من عادتهم أن الشيء إذا كان عندهم عظيماً له شأن كثروا من أسمائه، هذا أمر يلفت النظر، قال القرطبي -رحمه الله-: "وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه، هذا ماهية كلام العرب، ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه، وتأكد نفعه لديهم وموقعه جمعوا له خمسمائة اسم، ولهذا نظائر". [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 544].
فالقيامة لما عظم أمرها عند رب العالمين، وكثرت أهوالها سماها في كتابه بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة.
قال البخاري -رحمه الله-: "باب القصاص يوم القيامة، وهي الحاقة؛ لأن فيها الثواب، وحواق الأمور الحقة، والحاقة واحد والقارعة والغاشية والصاخة، والتغابن غبن أهل الجنة أهل النار". [رواه البخاري: 5/2393].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة، ولقوم النار، وقيل: لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، أي: تخاصمهم، وقيل: لأنها حق لا شك فيه" [فتح الباري: 11/396].
لماذا سميت الغاشية؟ لأنها تغشى الناس بأفزاعها وتعمهم بذلك.
لماذا سميت بالصاخة؟ صخ فلان فلاناً إذا أصمه، وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة بأمور الآخرة مصمة عن أمور الدنيا، فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ[عبس : 33] بصيحتها أغلقت الآذان وأصمتها عن الدنيا وفتحتها على الآخرة، وتطلق الصاخة أيضاً على الداهية.
لماذا سمي يوم القيامة بيوم التغابن؟ لأن أهل الجنة ينزلون منازل الأشقياء التي كانت أعدت للأشقياء لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتغابن من طرف واحد.


ولكن ذكر بهذه الصيغة للمبالغة، يعني: اليهودي والنصراني والمجوسي، المشرك الكافر الذين استحقوا دخول النار لهم أماكن في الجنة لو أسلموا، فأهل الجنة من المسلمين الموحدين المؤمنين يأخذون أماكن الكفار في الجنة التي لو أسلموا لكانوا فيها، فيرثونها هم بالإضافة إلى أماكنهم، وهذا في الحقيقة بالنسبة للكافر غبن عظيم يُغبن بهذه الطريقة، فيذهب مقعده من الجنة ويكون في النار، ويفوت عليه ذلك النعيم العظيم.
ليوم القيامة أسماء كثيرة فمن ذلك: يَوْمَ الْجَمْعِ [الشورى: 7]، يوم: الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103]،  يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32]، يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]، يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم: 39]، يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر: 15]، يوم المآب، يَوْمَ الْفَصْلِ[الدخان: 40]، يوم العرض على الله، ويَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42]، ويَوْمُ الْخُلُودِ [ق: 34].
ومما ورد فيها من الأوصاف: يَوْمٍ عَظِيمٍ[الأنعام: 15]، يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 9]،  يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103]، يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان: 10]، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار: 19]، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا  [الطور: 13]، لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42]، ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52]، ويَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [المرسلات: 35]، ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[الشعراء: 88]، ويوم لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء: 42]، ويَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ[الروم: 43]، ويَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ [إبراهيم: 31]، ولِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: 9]، أوصاف وأفعال وأحوال وردت لذلك اليوم.
فلنأتي إلى أسماء اليوم الآخر بالتفصيل: يوم القيامة أشهرها، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 113]. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87].
لماذا سميت القيامة بهذا الاسم؟
لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 4-6].
فليس للإنسان إلا موضع رجليه، والناس يوم القيامة يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] لا يجلسون، ولا يضطجعون لكنهم يقفون على أقدامهم.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين، حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه [رواه البخاري: 4938، ومسلم: 2337]، وسيأتي في مشاهد القيامة إن شاء الله.
سبب آخر لتسميته بيوم القيامة تقوم الملائكة صفاً لهول ذلك اليوم، تقوم الملائكة لمجيء الله لفصل القضاء بين الناس، قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38].


سمي بيوم القيامة لأن الساعة تقوم فيه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ[الروم: 12]، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ[الروم: 14].
سميت بيوم القيامة لأن سوق الحساب يقوم فيها، قال تعالى عن إبراهيم رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41].
وقيل: لأن الأشهاد يقومون فيه، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر: 51]، جمع شاهد أو شهيد، والمراد الذين يشهدون على الأمم، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41].
سمي بيوم القيامة لأن الناس أيضاً يقومون فيه من قبورهم: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43]، إذاً هذه بعض أسباب تسمية اليوم الآخر بيوم القيامة.
لماذا سمي اليوم الآخر باليوم الآخر، أو الآخرة أو الدار الآخرة؟
قال الله -تعالى-: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 177]. وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[البقرة: 130]، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص: 83]، قال رسول الله ﷺ: والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه، وأشار بالسبابة في اليم، فلينظر بما ترجع[رواه مسلم: 2858]، ما الدنيا بالنسبة للآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر.
فلماذا سميت هذه الدار بالآخرة؟ اليوم الآخر الذي لا يوم بعده هو آخر يوم ما بعده يوم.
تسمى أيضاً القيامة بالساعة وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85]،إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، الساعة قائمة لا محالة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[الحج:1].
هذه الساعة التي تضع كل ذات حمل حملها إذا قامت من الفزع، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 2]، مع أنها مجبولة على محبة ولدها وخصوصاً في حال الإرضاع؛ لأن الولد لا يعيش بدونه، ومع ذلك تتخلى عنه تذهل تنشغل وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا من شدة الفزع والهول، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى كأنهم قد شربوا الخمر ولكنهم ليسوا كذلك، ما هو السبب؟  وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
فأذهب عقولهم، وأفرغ قلوبهم، وملئها من الفزع، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10] ، وشخصت الأبصار، في ذلك اليوم لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لقمان: 33] ، لا يؤدي عنه شيئاً، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37]، هنالك يعض الظالم على يديه ويقول: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ۝ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان: 28]، وتَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106].


وتنصب الموازين، والميزان دقيق يقيس مثاقيل الذر من الخير والشر، وتنشر صحائف الأعمال، وفيها كل النيات والأقوال من صغير وكبير، وينصب الصراط على متن جهنم، وتقرب الجنة للمتقين، ويؤتى بالجحيم للغاوين، هنالك يحضرون، ويُحضرون، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يعد له عدته، ولا يلهيه الأمل فيترك العمل.
يسمى يوم القيامة بيوم البعث وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ  [الروم: 55-56].
فأخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون أيضاً منهم جهل عظيم؛ لأنهم يقولون حالفين بالله العظيم أنهم مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، ما لبثوا في الدنيا غير ساعة، وهذا كذب كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ، ما زالوا أيضاً يؤفكون عن حقائق الإيمان، ويأتفكون بالكذب، ففي الآخرة يظنون أيضاً أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة، فأهل الإيمان ينكرون عليهم هذا الكذب ويقولون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ[الروم: 56].
ويقيمون عليهم الحجة لما يحلفون أنهم ما لبثوا غير ساعة لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ  يعني: في علم الله وقضائه وقدره إلى يَوْمِ الْبَعْثِ، من يوم أن خلقتم إلى أن بعثتم، وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ؛ لجهلكم تقولون هذا.
يسمى يوم القيامة أيضاً بيوم الخروج يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ  [ق: 42]، لأن الخروج يكون من القبور للاجتماع للحساب، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43]،  ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25].
يسمى يوم القيامة أيضاً بالقارعة: الْقَارِعَةُ ۝ مَا الْقَارِعَةُ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة: 1-3]، لماذا سميت بهذا؛ لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها، القارعة من أسماء القيامة، العرب تقول: أصابتهم قوارع الدهر، يعني: أهواله وشدائده، ولهذا عظُم أمرها عند الله، ففخمه، واستعظمه فقال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، وفسره: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4].
يعني: في انتشارهم، وتفرقهم، وذهابهم، ومجيئهم، وحيرتهم، واضطرابهم، وسرعة تحركهم كالفراش المبثوث يموج بعضه في بعض، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ [القمر: 7].
يسمى يوم القيامة أيضاً بيوم الفصل كما قال تعالى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ[الصافات: 21]، فلماذا سمي بيوم الفصل؟ يوم القضاء بين العباد، الحكم بينهم، بيان الحقوق، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ [المرسلات: 38].


يوم يفصل بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل، جمعنا المؤمنين والمكذبين، جمعنا أطراف الصراع والمتقاتلين، وجمعنا الدعاة والمدعوين، جمعنا الخلق أجمعين، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ: 17]، لما وعد الله بالجزاء والثواب، ولا يعلم وقته على التعيين إلا هو.
قال: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104]، قال النبي ﷺ: كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس[رواه أحمد: 17371، قال المحققون: "إسناده صحيح رجاله ثقات" مسند أحمد: 4/147] ، يعني: يحكم بين الناس.
يسمى يوم القيامة أيضاً بيوم الدين، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ۝ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: 15]، والدين في لغة العرب يطلق على الجزاء والحساب، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ  [الصافات: 20]، هذا يوم الجزاء والحساب.
وتسمى القيامة بالطامة، فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات: 34]، الداهية العظيمة، سميت بذلك؛ لأنها تطم على كل شيء، وتعم ما سواها -لعظم هولها- وتغطي عليه كما قال تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46]، وفي أمثال العرب: جرى الوادي فطم على  القرى، غطاها وغمرها.
وقيل: الطامة هي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، وهذا يعود للمعنى الأول؛ لأن هذه النفخة أول ما يطم على الناس من شأن القيامة، فهذه الطامة القيامة الكبرى، والشدة العظيمة التي تغطي على الناس من شدتها.


يوم القيامة يسمى أيضاً بيوم الحسرة كما قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[مريم:39]، يوم الحسرة لماذا؟ لأن أهل الباطل يتحسرون ويندمون ندامة تتقطع منها القلوب، وتتصدع منها الأفئدة، ولا مجال حينئذ، ولا فائدة من الندم فقد فات الأوان.
قال البخاري -رحمه الله-: باب قوله: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، ثم روى فيه حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ وفيه: وكلهم قد رآه -يعني الموت- فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود، فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ  [مريم: 39]" [رواه البخاري: 4730، ومسلم: 2849].
هؤلاء في غفلة أهل الدنيا، إنها حسرة العذاب الأليم المقيم، والحرمان من كل راحة ونعيم، إنها حسرة اليأس من الموت.

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

يعني: في أوقات تأتي على الإنسان ممكن أن يتمنى الموت، ولا يجد الموت، والكفار سيقع لهم هذا يوم القيامة، وسيتحسرون حسرة المجرم الذي فرط في جنب الله، والآن جاري الحساب: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ[الزمر: 56]، فلا أمل في استدراك ما فات، فيحصل التحسر.

نعمر الدنيا وما الدنيا لنا دار إقامة إنما الغبطة والحسرة في يوم القيامة

 

تسمى أيضاً بالغاشية: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية: 1]، تغشى الخلائق وتعمهم بشدائدها، فيجازون بأعمالهم ويتمايزون فريق في الجنة وفريق في السعير، تغشاهم بأفزاعها.
يسمى يوم الحساب بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص: 26]، ويوم الدين، ويوم الجزاء،  وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر: 27]، يمنعه كبره من الإيمان بيوم الحساب، ويحمله على الشر والفساد.

إن يوم الحساب يوم عسير ليس للظالمين فيه نصير
فاتخذ عدة لمطلع القبر وهول الصراط يا منصور

من أسمائها الواقعة: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة: 1]، لماذا سميت الواقعة؟ لتحقق وقوعها، وتأكد ذلك، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 15]، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة: 2]، فلا شك.
سمي يوم القيامة بيوم التلاق: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ[غافر: 15] تلاقي ماذا؟ مع ماذا؟ ومن مع من؟ قال ابن عباس وقتادة: "يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض" [تفسير ابن كثير: 6/106].

فهذا يوم جديد، ومشهد غريب يلتقي فيه أهل السموات مع أهل الأرض لقاءً لم يكن من قبل، فمن كان من أهل السعادة كان فخوراً، وكان شرفه ظاهراً بارزاً لأهل السماء ولأهل الأرض، ومن كان من أهل الشقاء كانت الفضيحة كبيرة والخزي عظيماً، إنه يوم لقاء الله، يوم يلتقي الخالق بالمخلوق، يلقى الخلق ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 223]، يلتقي أيضاً العابدون بالمعبودين، والظالم بالمظلوم، يلتقي الأولون والآخرون في صعيد واحد، نلقى أبانا آدم، يوم التلاقي يشمل هذا كله.

يسمى اليوم الآخر أيضاً يوم التناد، التنادي: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32]، وهذا الاسم كان معروفاً في العرب من قديم، وأمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور قال:

 

وبث الخلق فيها إذا دحاها فهم سكانها حتى التنادي

[تفسير البحر المحيط لمحمد الأندلسي: 7/444].
التنادي: يعني أن هناك نداءات في ذلك اليوم الكل منادى، حتى كأنه لم يكن قبل اليوم نداء، وحتى كأنه لا شيء في هذا اليوم إلا النداء، فما هو النداء؟ ومن الذي ينادي من؟ نداء على آدم أول من يدعى يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار [رواه البخاري: 3348].
هذا نداء، نداء لأهل القيامة جميعاً، يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، نداء تتميز به كل أمة بمعبودها الذي كانت تعبده، كما روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال عن ذلك اليوم: ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيتبع أهل الصليب الصليب، ويتبع عباد الشمس الشمس، ويتبع عباد القمر القمر [رواه البخاري: 7001، ومسلم: 183] ويكثر تنادي الناس فيما بينهم، وينادي أهل الجنة أهل النار، وينادي أهل النار أهل الجنة، وينادي أصحاب الأعراف الفريقين جميعاً، وينادي أهل النار مالكاً فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف: 77].
وينادي أهل النار الله فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ[المؤمنون:107]، وينادي المشركون آلهتهم وشركائهم: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:64]، وهكذا يولون مدبرين، ذُهب بهم إلى النار، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۝ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:10]، وينادي ولمن ينادي ومن ينادي ولن يجيبه

 

أي يوم نسيت يوم التلاقي أي يوم نسيت يوم التنادي
أي يوم يوم الوقوف إلى الله ويوم الحساب والإشهاد
أي يوم يوم الممر على النار وأهوالها العظام الشداد
أي يوم يوم الخلاص من النار وهو العذاب والأصفاد

يسمى يوم التغابن أيضاً كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ[التغابن: 9]، يجمع الله الأولين والآخرين والأنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض.
يوم الجمع، عرفنا لماذا يسمى يوم التغابن، أما يوم الجمع فلأن الله يجمع بين كل عبد وعمله، ويجمع بين الظالم والمظلوم، ويجمع بين النبي وأمته، ويجمع بين الناس وثوابهم أو عقابهم، ويجمع الأولين مع الآخرين، ويجمع أهل السماوات مع أهل الأرض ويجمع الجن مع الأنس.
يوم التغابن الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، فهو غبن من طرف واحد، أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل النار أخذوا النار، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44]. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة: 108]، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16].
قال ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فقال: هذا فكاكك من النار [رواه مسلم: 2767].


ومقعدك في النار يأخذه هذا الكافر، ومقعد الكافر في الجنة -لو آمن- أنت تأخذه، إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل في رواية ابن ماجه [4292] ، يعني: من المشركين؛ لأنهم ملل شتى يهود نصارى مجوس بوذيون هندوس إلخ.. إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجلٍ رجلاً من أهل الملل، فقال له: هذا فداءك من النار [رواه أحمد: 19685، وقال المحققون: حديث صحيح وهذا إسناده حسن. مسند أحمد: 4/409].
الفكاك: الخلاص والفداء، فكل واحد من البشر مؤمنهم وكافرهم له مقعدان: مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار، فهذا معنى الفكاك.
يا أيها المؤمن: كنت معرضاً لدخول النار، ولك مقعد فيها لو كفرت سيأخذه هذا الكافر، والكافر هذا له مقعد في الجنة لو أسلم لكن ما أسلم فستأخذه وترثه أنت يا أيها المؤمن.
قال الحسن وقتادة: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علماً، فعلمه وضيعه، هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجى به".
يعني: هذا غبن عجيب يعني: واحد تعلم وصار يعلم الناس، ثم ما عمل هو بعلمه، فهلك، والذين تعلموا منه عملوا ونجوا وفازوا.
قال: "ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها" -فأخذه من حرام ومن المصادر التي حرمها الله، وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيراً، "وتركه لوارثه لا حاسب عليه فيه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه"، فهذا أخذ المال من مصادر قد تكون مباحة، وقد تكون مشبوهة، وقد تكون محرمة، حتى الواحد لو أخذ مالاً من طريق مباح سيسأل عن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه[رواه الترمذي: 2532، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 946].
فهذا اكتسب مالاً من مصادر سيسأل عنها، وبخل به، ولم يخرج حق الله منه، ولم يعمل فيه خيراً، ومات، فورثه وارث له مؤمن تقي فعمل فيه بطاعة الله، فهو ما تعب على المال، الذي تعب أبوه لكن لما ورث المال قام فيه بحق الله، فمسكين ذلك الذي تعب وشقي وجمعه، ثم سيعذب من أجل المال الذي تركه، وهذا الذي أخذه حلالاً بالسهل ثم أطاع الله فيه ونجى، قال: "ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد وعمل السيد بمعصية ربه فشقي". [تفسير القرطبي: 18/137].

هذا الزمان زمان حيث ما نظرت عين به وقعت منه على عبر
قل للغرير الذي أبدا نواجذه ضحكاً سيبسم يوم الفصل عن كشرِ
يوم التغابن لا تدري تساق إذا سيق الورى زمراً في آية الزمر
من خاف أدلج إن الخائفين لهم في الليل همهمة بالذكر والسور

نسأل الله أن يجعلنا بالآخرة مؤمنين، وأن يجعلنا فيها من الفائزين، وأن يرزقنا جنات النعيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.