الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فأحمد الله تعالى أن يسر السبيل للقاء إخواني في الله في هذا المكان، وأشكره على ما من به من الاجتماع بالأحبة في بيت من بيوت الله .
والله تعالى أخبر أن محبته للمتحابين فيه، والمتجالسين فيه، والمتزاورين فيه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي. [الحاكم في المستدرك: 7314, وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته: 4331].
أهمية تربية النفس
أيها الإخوة الكرام: نتحدث إليكم في هذه الدورة بمشيئة الله تعالى عن سلسلة في تربية النفس.
هذا الموضوع مهم من عدة وجوه:
أولاً: أن الفلاح مرتبط بذلك؛ لأن الله قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9].
والتربية، تربية النفس هي تزكيتها، فلا فلاح إلا بتزكية هذه النفس، والحساب يوم القيامة حساب فردي:وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 95].
فكل واحد هو ونفسه، وبحسب هذه النفس التي تأتي يوم القيامة، سيكون الحساب، فمن الناس من يحاسب حسابًا يسيرًا؟ ومن الناس من يحاسب حسابًا صعبًا عسيرًا؟
ثم إن تربية النفس، مهمة جداً لمواجهة الفتن، وما أكثرها في هذا الزمان، فكيف يصبر الإنسان أمام فتن الشبهات والشهوات إذا لم يكن قد رب نفسه وزكاها؟
ثم إن الأحداث تتوالى، والله من سننه: أنه يمحص ويبتلي، ليعلم من يثبت ومن يرتد على عقبيه: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].
وقد تعرض الصحابة رضوان الله عليهم لعدد من المواطن التي صار فيها فتنة وابتلاء، كما تعرض أصحاب موسى لأمور كثيرة، فانكشف أناس، وبقي أناس على الثبات، وعلى الدين.
ثم إننا نرى حالات كثيرة من الضعف، والفتور، والبرود، والانتكاس والتراجع، فهذا لا يمكن مواجهته إلا بتربية النفس وتزكيتها.
ثم إننا بحاجة لأناس كثيرين من القدوات، لانتشال المجتمع مما هو فيه، والارتقاء بإخواننا وأنفسنا، وهذا لا يتم إلا بوجود نفوس تكون قدوة لغيرها.
ولا بدّ من التزكية كذلك، للثبات على هذا الدين.
تعريف الإخلاص
وأول ما نتحدث عنه في تربية النفس: تربيتها على الإخلاص.
فأما الإخلاص فإن قولك: أخلصت الشيء، أي صفيته ونفيته من الشوائب.
فكلمة الإخلاص، تدل على الصفاء والنقاء، والتنزه عن الأخلاط، والشيء الصافي الذي ليس فيه شائبة.
قال ابن منظور رحمه الله: "أخلص دينه لله: أمحضه، وسميت: سورة الإخلاص، بهذا الاسم؛ لأنها خالصة في صفة الله تعالى، وأن الذي يعمل بها يكون قد أخلص التوحيد لله ، وكلمة الإخلاص هي كلمة التوحيد". [لسان العرب: 7/26].
وللعلماء في تفسير الإخلاص عدة أقوال:
ومن أجملها ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في الإخلاص: "أنه إفراد الله -تعالى- بالقصد في الطاعة". [مدارج السالكين: 3/32].
مكانة الإخلاص وأهميته
ولا بدّ أن يعرف المسلم الذي يريد أن يربي نفسه أن أول ما ينجيه، وأساس النجاة، هو: الإخلاص، ولا قبول للأعمال إلا بالإخلاص، وحتى الأشياء الخطيرة، كالجهاد، وغير ذلك، لا تتم ولا تقبل إلا بالإخلاص، وأن الله لا ينصر من كان في عمله ابتغاء الدنيا، وابتغاء غير الله .
وكذلك، فإن هذه النية هي التي عليها مدار الأعمال من القبول والرد.
والحديث عن الإخلاص -أيها الإخوة- في التربية أمر مهم جداً، كل واحد يريد أن يربي نفسه، لا بدّ أن يتمعن في قضية الإخلاص، وأنها أساس عمل النفس، وهي بمنزلة الروح للجسد في الأعمال.
والله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم [رواه مسلم: 2564]. والإخلاص -كما نعلم- أحد شرطي قبول العمل.
إخلاص العبادة شرط لا خلاف فيه لقبول العمل.
والإخلاص، هو الذي يجعل العمل الصغير يزن جبلاً، والرياء يحقر العمل العظيم، حتى لا يكون هباءً، ويحبط: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23].
"رب عمل صغير تكثره النية" -كما قال ابن المبارك- "ورب عمل كثير تصغره النية" [الجهاد، لعبدالله المبارك: 1/37].
والإنسان إذا أراد أن يربي نفسه، فإن الإخلاص هو حصن حصين، يدخل نفسه فيه، من فتن المضلين، ونزاغات الشياطين.
ألم تر أن الله لم يعط إبليس ما أراد في عباده المخلصين، أخره، وأنظره، وأذن له، الإذن الكوني القدري، بأن يعمل، لكن طائفة من العباد لا ينالهم إبليس: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 40]؟
وكذلك، فإن من خلصت نيته لله يكفيه الله ما بينه وبين الناس.
ولو أن الواحد، قال: كيف أنجي نفسي من شرور الخلق؟ الدنيا -الآن- فيها شرور كثيرة، كيف ننجي أنفسنا منها؟ بالإخلاص -أيها الإخوة- تنجو النفس، والله يكفي عباده المخلصين شرور الخلق.
ثم إننا نجد -يا إخوان- أن هناك أعمالاً كثيرةً تضيع لا يكون فيها بركة، ولا تأثير؛ بسبب فقدن الإخلاص، وتتلوث الدعوات بأقذار الرياء، وإرادة الدنيا، ولذلك لا يبقى أثرها في الناس، وتفقد قيمتها، ويخبو نورها، ولذلك كان قوام دعوة الرسل: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين [الشعراء: 109] الإخلاص لله في عملهم ودعوتهم.
فإذا أراد الإنسان أن يعمل عملا مؤثرا له في الناس تأثير وقوة فلا بدّ أن ينطلق من الإخلاص.
لماذا كان المصنفون يفتتحون بحديث: إنما الأعمال بالنيات [رواه البخاري: 1]؟ وهكذا تفتتح الدروس، وحتى دروس الفقه، حتى الفقهاء أصحاب الكتب العلمية يفتتحون كتبهم بما يدل على ذلك؟
لأن النية أيها الإخوة، هي المحرك والباعث للعمل، إذا صلحت صلح العمل.
أقسام الأعمال بالنسبة للنية
والأعمال بالنسبة للنية تنقسم إلى ثلاثة أقسام
قسم لا يتغير عن موضعه بالنية، لا يتأثر بالنية، مثل لو بنى مسجدًا من مال حرام، وقال: أنا أردت بعملي وجه الله، يقال: ما ينفعك، وعملك هذا، لا تؤثر النية فيه.
وقسم -كما قال الإمام المقدسي رحمه الله تعالى: وهي الطاعات مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفي تضاعف فضلها.
أما بالنسبة للأصل، فهو أن ينوي عبادة الله لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعف الفضل، فإن النية الصالحة تكثر الحسنات.
وهنا مسألة مهمة، وهي: أن تتعدد نيات المسلم في العمل الواحد، فمثلاً: أنت ممكن تأتي إلى المسجد، وإتيان المسجد عمل، إذا نويت فيه الصلاة لك أجر، إذا نويت فيه لقاء إخوانك في الله في المسجد لك أجر، إذا نويت فيه أن تطلب فيه علمًا لك أجر، إذا نويت الصدقة على سائل لك أجر، إذا نويت تعليم إنسان في المسجد يحتاج إلى تعليم لك أجر، إذا نويت الاعتكاف لك أجر.
وهكذا يعظم أجرك، كلما تعددت مقاصدك في عملك الصالح.
وهكذا الزواج، إذا نوى إعفاف نفسه أجر، إذا نوى إعفاف الزوجة أجر، وإذا نوى الأولاد: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ[البقرة : 187].
أجر، إذا نوى تكثير نسل هذه الأمة؛ لكي تقر عين النبي ﷺ بها يوم القيامة أجر، إذا نوى أن يكون علاقات مع الناس والأصهار الذين يصاهرهم بهذه الزوجة يستفيد منها في طاعة الله، أو يحملهم على طاعة الله بما حصل بينه وبينهم من الوشائج، والتقرب بهذا الزواج، له أجر، وإذا نوى الإنفاق على الزوجة والأولاد، له أجر، وهكذا تعظم الأعمال بتعدد المقاصد، وهذه مسألة في غاية الأهمية.
القسم الثالث: وهو قسم المباحات، ما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية، أو نيات، قد تصير بها قربات، وينال بها الإنسان معالي الدرجات، لو أن الإنسان مثلاً وضع طيبًا، قال: أنا نويت أن أضع الطيب لآتي مسجد ربي، وأتأدب مع ربي، مع مسجده؛ لأنه أمرنا بأخذ الزينة، فأتطيب للمسجد.
الطيب أصلاً مباح، لكن إذا نوى به التزين لبيت الله، بالإضافة إلى أن يرى منه إخوانه رائحة طيبة، كذلك الملائكة، وهم عباد الله تعالى، دفع الروائح الكريهة التي تؤذي الخلق، وأن هذا مما كان يحبه ﷺ.
فإذًا، تعدد المقاصد، يرفعك درجات عظيمة.
والفقهاء رحمهم الله عندما يتكلمون في النيات، لهم في ذلك اعتبارات، فمثلاً: النية يتكلمون عنها من باب تمييز العبادات عن العادات، فمثلاً: ما الذي يميز غسل التبرد والتنظيف عن غسل الطهارة، أو رفع الجنابة؟
بالنية.
ما الذي يميز العبادات عن بعضها؛ هاتان ركعتان، وهاتان ركعتان، لكن هذه سنة الفجر، وهذه الفريضة، هذه تحية المسجد، وهذه الفريضة، ما الذي ميز هاتين عن هاتين؟
النية.
فإذًا، النية عند الفقهاء يستعملونها في تمييز العادات عن العبادات، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، ولكن عندما نتكلم في مقال الإخلاص في مسألة النية، نقصد تخليص هذه النية من الشوائب، وابتغاء وجه الله .
ثمرات الإخلاص
النصر في معركة الحياة
إن الإنسان المسلم الذي يريد أن يربي نفسه، يعلم أن هذه النفس التي تنتج أعمالاً، وتقوم بأعمال، لا يقبل عملها إلا بأن تصح النية، يبتغي وجه الله، وأنه واحد من أفراد المجتمع المسلم الذي ينبغي أن يقاتل الكفار، وأن يواجه المنافقين، وهذه معارك ضد أعداء الله، وضد كل مبتدع، ومنافق، وكافر، ومارق، وعاص، فاسق، وناشر للفساد، كيف ننتصر على هؤلاء، إذا لم تكن نفوسنا فيها إخلاص؟
نحن يا جماعة، في معركة، هذه الحياة معركة بين الحق والباطل، والخير والشر، لا يمكن أن ننتصر فيها إلا إذا صار عندنا إخلاص لله ، لا يمكن أن يأتي التمكين إلا بالإخلاص، النبي عليه الصلاة والسلام كان يحرص على الضعفاء، لماذا يقول: أبغوني الضعفاء [رواه أبو داود: 2596، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 779]؟
هاتوا الضعفاء: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم [رواه النسائي: 3178، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2388].
هناك عمليات تمحيص، الله يقدرها في عباده: اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37]،مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].
لا يمكن أن الله يتركنا هكذا دون تمحيص، كيف ينكشف الناس؟
بهذه العمليات.
لماذا يتساقط أشخاص؟ لماذا تمر فتنة، يمر حادث، فترى تصرفات عجيبة منهم، من يبتغي الدنيا، ومن يبتغي رئاسة، من يكون عنده حب لمنصب، تطلع، أو أن يقع في شيء من موافقة ظالم، أو اشتراك في منكر، عندما يعرض عليه، ويقوم أمامه المنكر، لماذا؟ ومنهم من يثبت، يعصمه الله ، بأي شيء؟
بالإخلاص: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].
الله يقدر أشياء ما في واحد إلا وتقع في حياته أحداث، قد يتعرض لفتنة مال، فتنة امرأة، فتنة نفاق، شبهة.
صفاء القلب
أيها الإخوة: لا يمكن للإنسان أن يعيش مستريحًا إذا كان في قلبه دغلا، إذا كان في قلبه أخلاط، إذا كان في قلبه حقد، أو غل، عندما ينقي هذا القلب بالإخلاص، يذهب هذا الحقد، ولا يبقى في القلب غل، ولا يمكن للإنسان أن يفعل ذلك إلا بإخلاصه لرب العالمين.
مغفرة الذنوب
ثم لما نتكلم عن قضية تربية نفوسنا على الإخلاص: ألسنا نحتاج إلى مغفرة الذنوب التي تنتجها هذه النفس، وتقوم بها؟ وعندما تنظر وتتأمل في بعض القصص التي ذكرها لنا ﷺ، من امرأة بغي سقت كلبًا، فغفر لها. [البخاري: 3467، ومسلم: 2245].
أو رجل أماط الأذى عن الطريق، فغفر له. [البخاري: 652، ومسلم: 1914].
هل كل واحد يسقي كلبًا، أو يميط شيء من الطريق، يغفر له ذنبه بهذا العمل؟
كلا، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وإنما لأمور قامت في نفوس هؤلاء، تسببت في النتيجة، وهي المغفرة، قال: "فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها". [منهاج السنة: 6/112].
قد يكون حصل في تلك اللحظة، يعني الإخلاص لا يأتي دائمًا بمدة طويلة، وإنما يمكن أن يقع في قلب إنسان فجأة نوع من التنبه، يوجب له إخلاصًا، يحدث له إخلاصًا عظيم، الإنسان قد يأتي بلحظة تأمل.
هناك أشياء تأتي بالتدرج تزيد مع الإنسان حتى يهتدي، وهناك أحيانًا مثل هذه الأشياء، كالهداية تحدث في لحظة، يعني مثل السحرة الذين كانوا مع فرعون، كيف اهتدوا؟ هل مورست عليهم الدعوة، وانتقلوا من مرحلة إلى مرحلة، إلى مرحلة، حتى أسلموا؟ موسى مثلاً معهم كان سنوات يلازمهم، هؤلاء ناس جيء بهم من أقطار البلد، جاؤوا بكل سحار عليم، من أقطار البلد، لكن في لحظة واحدة دخل النور في القلب: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِين[الأعراف: 120]؟
الله قد يقذف الإيمان في قلب الإنسان في لحظة.
الإخلاص أحيانًا يأتي للإنسان في لحظة تجرد، في لحظة تأمل، الله يريد به خيرًا، ينتبه لنفسه، فيعرف من معاني هذا الشيء العظيم في لحظة، ممكن مثل هذا الإنسان العاصي يكون يمشي في البرية، فيصادف ذلك الكلب، فيحصل له انتباه، يحصل له يقظة، فيريد أن يعمل هذا العمل لله بشيء عظيم من الإخلاص، فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها، فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا، يغفر لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال.
تحول المباحات إلى طاعات
ثم نحن نفعل مباحات كثيرة، ربما لو عددنا الأشياء التي نعملها من المباحات مقارنة بالطاعات لجاءت المباحات أكثر، أما مسألة المعاصي -نسأل الله السلامة والعافية- قد تتفوق على المباحات أحيانًا وعلى الطاعات، لكن هذه المباحات كيف نستفيد منها؟ كيف تنقلب إلى طاعات؟
بالنية، بالإخلاص.
أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
نعم، بالنية.
ممكن نحن ندخل بقالات نشتري حاجيات للبيت نحاسب عند الآلة، كم واحد يكتب له بهذا الإنفاق أجر؟ وكم واحد ينفق المال ولا يكون له شيء؟
النبي ﷺ قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك[رواه البخاري: 1295، ومسلم: 1628].
ما هو الشرط إذًا لانقلاب المباحات إلى طاعات يؤجر عليها الإنسان؟ ما هو -يا إخوان- حسب الحديث؟
تبتغي بها وجه الله.
إذًا، شرط لا بد أن تبتغي وجه الله بالمباح، حتى يكون لك أجر وصدقة مثلاً كما في هذا الحديث.
فإذًا المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، كما قال النووي رحمه الله: "فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما من النظر إلى الحرام، أو الفكر فيه، أو الهم به إلى غير ذلك من المقاصد الصالحة". [شرح النووي على مسلم: 7/92].
تفريج الكرب
أيها الإخوة: إن نفوسنا تمر في لحظات من الكرب شديدة، فما الذي يخلصنا من الكربات؟
أعمال نعملها لله نبتغي بها وجه الله .
الثلاثة الذين دخلوا في الغار، وانطبقت عليهم الصخرة: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه [رواه البخاري: 2272].
فإذًا انفرجت بسبب إخلاصهم.
النجاة من كيد الشيطان
النجاة من كيد إبليس، نفوسنا كيف تنجو من كيد إبليس؟
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39-40].
وكذلك المخلصين الذين أخلصوا عملهم لله .
من ثمرات الإخلاص الحصول على الأجر حتى وإن عجز عن العمل
ثم نحن عندنا جوانب ضعف ممكن أن تعطلنا عن أعمال من الصالحات.
فإذا، قال: أنا هذه النفس كيف أحصل على أجر لها، حتى لو ما عملت العمل الذي عجزت نفسي عنه؟
فنقول: بهذا القصد الصالح، وبهذه النية الطيبة: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[التوبة : 92].
فعندهم إخلاص عظيم، جعل نفوسهم تحزن، وعيونهم تفيض من الدمع، دلالة على الصدق الموجود في نفوسهم: إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر [رواه البخاري: 2684].
وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر [رواه مسلم: 1911].
فهكذا تصل النفوس إلى درجات من الأجر في أعمال ما عملتها، بسبب النية الصالحة: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه [رواه مسلم: 1909].
بل الإنسان ممكن يعمل عملاً خطأ، ويأخذ أجراً، إذا اجتهد، وهو من أهل الاجتهاد، فأخطأ ولم يصب الحق، يكون له الأجر.
هذه مسألة دقيقة -الآن-، هذا المجتهد الذي أخطأ. لو واحد، قال: هذا أخطأ كيف يأخذ أجر؟ هل في أجر على الخطأ؟
لا، لا يأخذ أجرًا على الخطأ، بطبيعة الحال، لكن الأجر على أنه نوى الحق، لما كان عنده نية حسنة، فالله آتاه أجرًا على ذلك.
ثم إن الإنسان أحيانًا يخطئ في موضع صدقة، افرض واحد قام أعطى صدقة لمحتال ما يستحق الصدقة، واكتشف فيما بعد أنه محتال وكذاب، الصدقة وضعت في غير موضعها، هل يؤجر عليها؟
يؤجر، بأي شيء مع أن المسار وضعت في موضع غلط، لم تصادف مسكينًا فقيرًا محتاجًا؟ بأي شيء أجر؟
أجر بسبب نيته.
كما أن رجلاً من بني إسرائيل تصدق على زانية، وتصدق على سارق، وتصدق على غني، صدقة على غني؟ في شيء اسمه صدقة على غني؟ الصدقة على الفقراء، لكن يؤجر، ورأى في المنام من يقول له -والمنام الصالح من الملك-: فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغنى يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته [رواه مسلم: 1022].
بل أحيانًا النية تجعل الإنسان يمكن أن ينتفع بمال لا يجوز له الانتفاع به في الأصل، مثل لما حصل أن رجلاً من الصحابة واسمه "يزيد" دخل المسجد، وضع صدقته عند رجل في المسجد، ولده "معن" جاء محتاج، فأخذ الصدقة من هذا الرجل، ولا يدري أن أباه هو الذي وضعها عند هذا الرجل، رجع للبيت، أعطاه لأبيه، غضب أبوه، أنه أخرجها لله، والآن رجعت إليه، وصارت خصومة، فخاصمه إلى رسول الله ﷺ فقال: لك ما نويت يا "يزيد"، ولك ما أخذت يا "معن" [رواه البخاري: 1422].
فكيف حصل ذلك؟
بالنية، أن هذا لما أخرجها لله، ما قصده أن يعطيها لولده، لكن هكذا جرت الأقدار، قدر الله تعالى جرى، فصار هذا جائزًا له، وذاك مأجور عليه.
من ثمرات الإخلاص دفع الفتن
والإنسان إذا كان مخلصًا لله: دفع الله عنه الفتن: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. وفي قراءة: المخلصين.
فبسبب إخلاصه، دفع الله عنه الفحشاء.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تكلم في مسألة طلب المغفرة، قال: يعني أن الأنبياء في قصصهم لا نكاد نجد نبيًا إلا ونجد في أدعيته طلب المغفرة، قال: إلا يوسف ؛ لأن الله صرف عنه السوء والفحشاء، وهذه النكتة التي من أجلها لم يذكر في أنه طلب المغفرة، فصرف الله عنه السوء والفحشاء بإخلاصه.
إذًا، الآن نحن -يا إخوان- نتعرض لأشياء من السوء والفحشاء في الأسواق، في البيوت، في الأجهزة، في القنوات والشبكات، هناك أناس ينجيهم الله ، بأي شيء ينجيهم؟
بحسن مقصدهم: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين [يوسف: 24]، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف : 24].
فالإخلاص -يا إخوان- سبب أن الشاب يبعد بإرادة الله وأمره عن السوء والفحشاء، وما أسهل الوقوع في السوء والفحشاء، في هذا الزمن سهل جداً جداً، لكثرة منافذ الشر، ولذلك صار الإخلاص عاملاً واقيًا من السوء والفحشاء، والله يثبت المخلصين، والله يكتب لهم النجاة.
من ثمرات الإخلاص تأثر الناس بالمخلصين
والإخلاص من فوائده: أنه يحصل به التأثر من الناس، الله أمر بالصبر مع قوم لهم مواصفات، فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ[الكهف: 28].
فإذًا، لإخلاصهم أمر بلزومهم، فصاحب الإخلاص يمكن أن يكون له تأثير عظيم على الناس، وأن يكون سببًا في تثبيتهم، وجذبهم إلى الحق والهداية، ولو أن إنسانًا أراد أن يبحث عن مخرج، أو عاصي يريد أن يتوب، يتوجه لمن؟
لأهل الخير، يبحث عنهم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28].
كيف نحصل الإخلاص؟
قال واحد: أنا أريد أن أدرب نفسي على الإخلاص، ماذا أفعل لكي أدرب نفسي على الإخلاص؟
فنقول: يا أخي، عليك بلزوم المخلصين، كما جاء في هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
قد تقول لي: إنها معرفة صعبة، كيف أعرف أن هذا مخلص وهذا غير مخلص، هذه قضية قلبية؟
لكن -يا إخوان- هناك آثار، وهناك علامات: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُk فهؤلاء يظهر من كلامهم وأفعالهم ما يدل على إخلاصهم.
والإنسان أحيانًا حتى يصل إلى المقصود قد يتعب، وينفق وقتًا، وسلمان الفارسي حاول أولاً دخل مع راهب، لكنه كان جماعاً للدنيا، سارق، يأخذ صدقات الناس، اكتشف أمره، ثم بعد ذلك وفقه الله لراهب مخلص، لكن أول ما سقط ما سقط على مخلص.
فالإنسان فعلاً ممكن يتعب في البداية، ممكن يأتي شاب، يقول: أنا أريد التوجه إلى الله ، لكن ما أعرف؟ أنا أذهب مع من؟ وألزم من؟
فنقول: طيب سيظهر لك من خلال معايشتهم، ما يدل على صدقهم، أو كذبهم، سيظهر لك من خلال ملازمتك له ما يدل على صدقه، أو كذبه.
ولذلك يحتاج الإنسان إلى نوع من النباهة في البداية.
وأنت ماذا لك في الحقيقة؟
لك الظاهر، الأصل أن لك الظاهر، هذا إنسان ظاهره الخير، يأتي المسجد، يحضر الدروس، ما عنده منكرات ظاهرة، ولا معاصي ظاهرة، إذًا هذا المطلوب، إذا تكشف لنا بعد ذلك شيء آخر، نصحناه، وتركناه، هذه قضية أخرى، لكن في البداية نحن ماذا لنا؟
الظاهر.
وأما قضية سوء الظن بالمسلمين، يقول: أنا أذهب مع فلان أو فلان، وفلان طيب، يمكن يكون قصدهم سيئ؟ يمكن عندهم أشياء بطالة؟
نقول: ليس هكذا يتعامل مع المسلمين، يتعامل معهم بحسن الظن.
الأمر الثاني: بالإضافة إلى لزوم المخلصين لتحصيل الإخلاص: قضية إخفاء الأعمال؛ لأن السلف كان عمل الخلوة أحب إليهم من عمل الجلوة، وأن المخلصين كما دلت على ذلك أعمالهم كانوا يخفونها، بل إنهم كانوا يعلمون ذلك لطلابهم الإسرار بالعمل، ما كان عندهم تكلف، وإنما تظهر المسألة عليهم عفويًا، ومسألة التصنع تنكشف، ولو بعد حين، يعني الإنسان في قلبه أحيانًا يحس أن هذا تكلف، وهذا تصنع، يقوده قلبه إلى الإحساس بذلك، لكن واحد جلس مع البخاري رحمه الله في المجلس، فكان هناك قذاة، واحد أخذ شيئًا من لحيته، فطرحه في الأرض، فنظر البخاري إليه، ثم نظر إلى من حوله، فلما ظن أن الناس غفلوا عنه، وأنه لا أحد يراه أخذها، فدسها في كمه، خرج خارج المسجد، ألقاه، في واحد الله قدر أن يرى هذا، وكان يراقب البخاري، والقدوات كانوا موضع مراقبة، وقدوة من الطلاب، فرأى هذه الحركة، فنقل القصة إلينا، أنت تظن أن الآن يعني القصص عن السلف، عن ابن المبارك، وغيره، أن تعمدوا إظهاره، أو تعمدوا أن يحدث هذا بحضرة الناس، لا، لكن نقلت من قبل أشخاص اطلعوا عليها، فجأة، خفية، كان طلاب أيوب يلاحظون أن شيخهم يرق إذا حدث بالحديث، فيلتفت فيمتخط، ويقول: "ما أشد الزكام [الثقات لابن حبان: 12668].
لكن كانوا يعرفون أن ما به من زكام، إنما هو لإخفاء البكاء.
فإذا أعيا أحدهم إخفاء ذلك، يقوم خشية أن ينكشف أمره، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته، فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام". [الزهد لأحمد بن حنبل: 1494].
قال محمد بن واسع: "إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم". [سير أعلام النبلاء: 11/150].
لأنه كان يخفي ذلك عنها.
حقيقة الإخلاص
الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدًا غير الله، لا تريد أن يطلع عليه غير الله، كونه يطلع الناس عليه بدون قصد منك، هذا أمر ربما قدره الله لكي يقتدى بك، وتأخذ أجرًا إضافيًا، لكن أنت في الأصل فعلته لله، وأخفيته عن الناس، فإذًا إخفاء العمل من وسائل تربية النفس على الإخلاص: حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه [رواه البخاري: 1423].
وكذلك أن الإنسان إذا عمل العمل -يا إخوان- يكون غير مبالٍ بثناء الناس ومدحهم، وألا يكون مباليًا بالمكانة: إن كان في الساقة كان في الساقة مؤخرة الجيشإن كان في الحراسة التي تطلب جهدًا كان في الحراسة تتطلب جهداً مشقة تعب: وإن كان في الساقة[رواه البخاري: 2887].
وراء، ليس بظاهر في الأمام، ولا في المقدمة كان في الساقة بحسب ما يوضع.
إذًا، أنت ممكن أحيانًا تكتشف أشياء من هذا الدخن في قلوب بعض الناس عندما يعترض، أنه وضع في مكان له أهمية أن يوضع فيه، لكن؛ لأنه ليس بارزًا، وليس في المقدمة، ولا يطلع الناس عليه، يقول: لا، ليش وضعتموني في هذا المكان؟ ضعوني في مكان بارز، أنا أريد أن تعرف منجزاتي، وهكذا تضيع جهودي.
بعض الناس فعلاً لا يريدون أجرًا في الآخرة، يريده في الدنيا الآن.
يقول: أنا أريد أن تعرف جهودي، ولذلك تجد أحيانًا في بعض خواتيم مشاريع ذكر ما تم إنجازه، قد يكون هذا أحيانًا -يا إخوان- باب من أبواب الرياء، ولذلك إذا لم يكن له مسوغ شرعي لا تعددت منجزاتك التي عملتها، ولماذا تعددها؟
اجعلها بينك وبين الله.
كيفية تربية النفس على الخلاص
وكذلك، فإن الإنسان المسلم يربي نفسه على الإخلاص: بأن يخاف بعد كل عمل صالح ألا يقبل منه، يفترض هذه الفرضية، يضع ذلك في ذهنه، قد لا يقبل منه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60].
يخافون ألا يقبل منهم.
هؤلاء يسارعون في الخيرات؛ لأن الإنسان إذا خاف ألا يقبل منه هذا العمل، يقول: أحتاج أعمل عملًا آخر، وأحتاج عملا ثالثا، ورابعا، وهكذا، يسارعون في الخيرات، يأتون الإخلاص، ويخافون ألا يقبل منهم.
والعلماء رحمهم الله ضربوا لنا أمثلة في هذا:
السلف أهل البر، أهل التقوى.
أتعلمون أن الإمام الماوردي رحمه الله: "لم يظهر شيئًا من تصانيفه في حياته، جمعها ولما دنت وفاته، قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني من تصنيفي، فلما مات أخذها واستخرجها". [طبقات الشافعية الكبرى: 5/175].
فنشرت مصنفات الماوردي رحمه الله تعالى، فأظهر الله كتبه، فسارت بها الركبان، وانتشرت.
وكذلك، فإن من الأمور التي يحرص عليها المسلم: ألا تلتبس عليه تمييز الإخلاص عن ترك العمل.
ومسألة الرياء ودخولها في الأعمال، قال العلماء، فيها أقوالاً كثيرة، وملخصها: أن العمل إذا أراد الإنسان به وجه الله، واستمر على ذلك ثبت أجره، إذا نوى به الناس أو الدنيا وابتدأه، لذلك حبط العمل، وعليه الإثم، إذا بدأ العمل لله، وطرأ عليه الرياء، فعليه أن يدافعه، فإذا لم يدافعه، فبحسب قوة هذا، أو هذا يؤجر، أو يأثم، مثل الدعاء، والقدر، قدر نازل، مصيبة نازلة، والعبد دعا بدعاء بحسب قوة الدعاء قد يرفع القدر النازل بهذا القدر الصاعد، وهو الدعاء، وقد يخفف، وقد ينزل قويًا على صاحبه، فبحسب الرياء الذي طرأ والإخلاص الذي مع الشخص يتصارعان، وبناء على قوة هذا، أو هذا تكون النتيجة.
هل سرور الإنسان بثناء الناس عليه يقدح في إخلاصه؟
الجواب: كلا، إذا أراد بعمله وجه الله ، لكن أن يسمع بذلك ليراه الناس هذا يحبط عمله.
كثير من الشباب يقول: إننا عندما نختلط بإخواننا في الله، أو بأناس أحسن منا، بقدوات نتحمس للعمل، هل حماسنا هذا لا نؤجر عليه؟ أو هو من الرياء؟ أنا أعرف أني لو كنت في بيتي ما نشطت هذا النشاط، لكن لما صرت مع إخواني نشطت؟
طيب هذا أنت تجده مثلاً حتى في صلاة التراويح، لو صليت وحدك يمكن ما تتجاوز صلاتك عشر دقائق، في صلاة التراويح ساعة.
فمن الطبيعي إذًا أن الإنسان إذا دخل في معمعة المجتهدين، واختلط بهم تحمس، هذا شيء طبيعي أن الإنسان يتحمس إذا خالط المجتهدين، لكن ما دام عمله بدأه لله، فهذه الزيادة التي حصلت بالحماس الذي نشأ من مخالطة المجتهدين، هذا أجر له، وليس إثمًا ولا رياء.
أيها الإخوة: إن انبعاث هذا النشاط من خلال مخالطته الطيبين والصالحين هو خير، ولذلك أمرنا بمخالطتهم، وأن نكون معهم، وأن نلزمهم.
أما أن بعض الشباب يتركون العمل خوفًا من الرياء، فهذا ما الذي حملهم عليه؟ واحد يريد أن يعمل عملاً تركه، قال: أنا أخاف الرياء، ما الذي حمله على ذلك؟ الناس، لأجل الناس ترك العمل، فإذًا لأجل الناس ترك العمل، ولأجل الناس عمل العمل، النتيجة واحدة لأجل الناس عمل، ولأجل الناس ترك، إذًا صارت القضية واحدة، وهي من أجل الناس، ولذلك فإن الإنسان يعمل العمل، ولا يتركه إذا اطلع عليه الناس، يستمر على ما كان عليه، واحد دخل المسجد، قال: أنا أبغى أجلس بين المغرب أجلس إلى العشاء، دخل واحد اطلع عليه هل يقول خلاص سأقوم وأخرج حتى لا أقع في الرياء؟ لا يبقى على ما هو عليه، ما هي نيته الأصلية أنه كان يريد أن يبقى إلى العشاء، إذًا هو يبقى على عمله، واطلاع الناس عليه لعله من عاجل البشرى له، فلا يخدعنه الشيطان في هذه المسألة.
وسائل الإخلاص
أيها الإخوة: إن نفوسنا لا تستقيم على الإخلاص إلا بأن نعرف أسماء الله وصفاته التي تحملنا على الإخلاص له، إن لجوءنا إلى الدعاء بأن نكون من المخلصين، وأن نستعيذ بالله من الرياء، والشرك، النبي عليه الصلاة والسلام علمنا دعاء عظيمًا، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه [رواه أحمد: 19622، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 36].
بمناسبة الحديث عن قضية النشاط في العبادة لرؤية الإخوان في الله، ليس من الخطأ أبدًا أن يتعاون إنسان مع أخ له في الله لكي يعمل عملاً لو أنه بمفرده ربما ما عمله، وهذه -يا إخوان- وسيلة عظيمة للتعاون على البر والتقوى، وليس رياء، وليس كل الأعمال تستطيع أن تعملها وحدك مثلاً حفظ القرآن تسميع ما تحتاج إلى تسميعه، ضبط القراءة تحتاج تقرأ على شيخ.
هناك أعمال تحتاج على الأقل إلى شخص آخر يقوم بها معك، وأعمال تحتاج إلى أشخاص كثيرين، ولذلك طرح المشاريع على الإخوان في الله، وإشراكهم فيها أنت إذا قصدت وجه الله تؤجر، الدال على الخير كفاعله [رواه أبو داود:5129، والسلسلة الصحيحة: 1660].
أحيانًا الواحد يستطيع أن يعمل عمل وحده، لكن يقول: أنا أحب الخير لأخي في الله، ولذلك سأخبره عن عملي وأشركه فيه، وأدخله فيه؛ لأجل أن أنفعه فقد يؤجر أيضاً.
من وجه آخر مذاكرة العلم، أليس من هدي السلف مذاكرة العلم، كيف كانوا يذاكرون العلم؟
هذا يسرد الحديث على الآخر، ثم هذا يسرده عليه حفظ القرآن، هكذا يعملون.
من القصص الجميلة لعلمائنا المعاصرين، الشيخ ابن بسام يكبر الشيخ ابن عثيمين بسنة، طلبا العلم معًا في الكتاب من الصغر، زملاء في طلب العلم، ثم بدآ في حفظ القرآن، يقول الشيخ: فأنا أقرأ ثمن، ثم الشيخ يقرأ عليّ ثمن، وأنا أقرأ الثمن الذي بعده، والشيخ يقرأ عليّ الثمن الذي بعده، حتى ننهي الختمة، إذا أنهينا الختمة الذي بدأ ثانيًا يبدأ أولًا -يعني بدأ ابن بسام يبدأ بالثمن الأول ثم ابن عثيمين بالثمن الثاني- حتى انتهوا من القرآن، الختمة التي بعدها، يبدأ ابن عثيمين ثم البسام، هذا من صور تعاون طلبة العلم.
طيب هل يقول: أنا ما أريد أتعاون مع أحد، يمكن أنا الآن إذا قلت: تعال اسمع لك، يمكن يصير فيها رياء، هذه ما هو قصده، أليس أن تستعين به على البر والتقوى؟ أليس تستعين به على طلب العلم؟ إذًا ما دام الباعث لله طيب فلا يضرك أن يشترك معك أشخاص آخرون في العمل.
ثم إن النفس تنفر من الرياء -أيها الإخوة- إذا عرفت عاقبته، إذا عرفت أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هم أولئك المرائين.
ومما يحمل النفس أيضاً على الإخلاص أن تقطع الطمع بما عند الناس من الثناء، أو المقابل المادي، إذا قطعت الطمع بما في أيدي الناس سهل عليك الإخلاص.
وكذلك محاسبة النفس في اللحظات والخطرات ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بقيامي؟ ما أردت بجلوسي؟ وهكذا دائمًا يكون الإنسان على محاسبة لنفسه، وهذه من أعظم وسائل تربية النفس على الإخلاص.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.