الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
معنى الحياء
فحديثنا -أيُّها الإخوة- في هذه الليلة عن خلقٍ آخر من الأخلاق الإسلامية الكريمة الحسنة، هو خلقٌ وهو صفةٌ أيضاً من صفات الله تعالى، وأصلٌ من أصول الأخلاق، يحمل على ترك القبيح وفعل الجميل، ألا وهو: الحياء، والحياءُ مشتَّقٌ من الحياة، وقيل في الحياء: هو ماء الوجه، مثلما يكون الحياة للمطر والغيث يسمَّى به حيَّاً؛ لأنَّ فيه حياةُ الأرض والنَّبات والدَّواب، وكذلك فإنَّ حياة الوجه بحيائه كما أنَّ حياة الغرس بمائه، والحياء هو تغيُّرٌ وانكسارٌ وانقباضٌ يعتري النَّفس الإنسانية من خوف ما يعاب به، كما قال الشَّاعر:
لولا الحياء لهاجني استعبار
وقال آخر:
إذا قلَّ ماءُ الوجه قلَّ حياؤه | فلا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه |
حياءك فاحفظه عليك فإنَّما | يدلُّ على وجه الكريم حياؤه |
فالحياء: ماء الوجه، وهو خُلقٌ جميلٌ يحمل النَّفس على ترك الرَّذائل، ويحجزها عن السُّقوط في سفاسف الأمور وحمأة الذُّنوب، وهو من أقوى البواعث إلى الفضائل وفعل الصَّالحات، ويكفي الحياء خيراً كونه على الخير دليلاً؛ لأنَّ الحياء: انكسارٌ وانقباضٌ يجعل الإنسان يترك القبيح، ولذلك قال النَّبيُّ ﷺ: الحياء لا يأتي إلَّا بخير وقد حدَّث بهذا الحديث عمران بن حصين الخزاعي ، وكان في المجلس بشير بن كعب، فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: "أنَّ منه وقاراً ومنه سكينة" أي: دعة ، يقول: منه ما يكون ضعفاً ومنه ما يكون وقاراً، فكأنَّه يريد أن يخصِّص الحديث ويقول كيف أنَّ الحياء خيرٌ كُلُّه؟ لقد وجدنا في بعض الكتب أنَّ من الحياء ما يكون ضعفاً! فقال عمران -راوي الحديث-: "أحدِّثك عن رسول الله ﷺ وتحدِّثني عن صحفك"[رواه البخاري 5766، ومسلم 37]. وفي رواية: "لا أحدثك بحديث ما عرفتك" يعني: الصَّحابي يريد أن يؤدِّب هذا الرَّجل، يقول: "أنا أقول لك حديثاً وأنت تُعارض الحديث بأشياء رأيتَها مكتوبةً! لا أحدِّثك بحديثٍ ما عرفتك" فقال بعض الجالسين: يا أبا نُجيد -وهي كنية عمران بن حصين- أنَّه طيِّبُ الهوى، وأنَّه وأنَّه، فلم يزالوا به حتى سكن وحدَّث"[رواه أحمد 19986]. يعني: سكن غضبه، فقالوا: إنَّ هذا الرَّجل الذي تكلَّم واعترض طيِّب القلب ليس من أهل السُّوء ولا من أهل الأهواء ولا من أهل النِّفاق ولا من أهل البدعة، وهو من أهل الاستقامة فيما نحسب، وأنَّه تسرَّع وأخطأ ونحو ذلك، حتى سكن الصَّحابي رضي الله تعالى عنه وحدَّثهم.
الفرق بين الحياء والجهل
الحياء ولا شك ليس هو الخجل، فإنَّ بعض النَّاس يخلطون بين الحياء وبين الخجل، فالخجل: حيرة النَّفس من فرط الحياء، وهو استكانةٌ وضعفٌ في أوقات ينبغي على الإنسان أن يكون فيها قويَّاً، فالخجل يلازم النِّساء والصِّبيان، ولكنَّه في حقِّ الرَّجل عيبٌ ومذمومٌ، وعكس الحياء: الوقاحة، وصلابة الوجه، وهذه أيضاً صفةٌ مذمومةٌ، كما قال الشَّاعر:
صلابة الوجه لم تغلب على أحدٍ | إلَّا تكامل فيه الشَّرُّ واجتمع |
وسلب الحياء من أعظم النِّقم التي يمكن أن تحلَّ بالعبد، كما قال مالك بن دينار رحمه الله: "ما عاقب الله تعالى قلباً بأشدِّ من أن يسلب منه الحياء" وهذا الحياء الذي يبعث على ترك القبائح وترك الشَّهوات، وألَّا يكون الإنسان كالبهيمة، ويردع الشَّخص عن اقتراف الذُّنوب: لا شكَّ أنَّه نعمةٌ يرزقها الله تعالى من يشاء، كما قال الشَّاعر:
إذا رُزق الفتى وجهاً وقاحاً | تقلَّب في الأمور كما يشاء |
ولم يك للدَّواء ولا لشيءٍ | تعالجه به فيه غناء |
هذا هو الشَّاهد:
ورُبُّ قبيحةٍ ما حال بيني | وبين ركوبها إلَّا الحياء |
فكان هو الدُّواء لها، ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء، فالحياء: أخصُّ التَّقوى ولا يخاف العبد حتى يستحي، وهل دخل أهل التَّقوى في التَّقوى إلَّا من الحياء؟ كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله.
هل الحياء فطريٌّ أم مكتسب
والحياء كبقية الأخلاق منه ما هو جبليٌّ موهوبٌ من الله تعالى، ومنه ما هو مكتسبٌ والله تعالى قد فطر آدم وحواء على هذا الخلق، ولذلك لما أكلا من الشَّجرة ماذا حصل؟ انكشفت السَّوأتان فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا[طه:121]. وكانت السَّوأة من قبل مستورةً فلما أكلا من الشَّجرة انكشفت السَّوأة فبدت وظهرت، فالحياء الذي عند آدم وحواء دفعهما تلقائياً إلى ردِّ فعلٍ مباشرٍ وهو وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لماذا كانا يخصفان عليهما من ورق الجنَّة؟ لكي يسترا العورة التي انكشفت بفعل ذنبٍ، فكانت بالتَّقوى مستورةً وبالمعصية انكشفت العورة، وكان ردُّ الفعل التَّلقائي من آدم وحواء ستر العورة بأقرب شيءٍ فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنَّة، من الأدلَّة على أنَّ الحياء يكون فطريَّاً: بعض الرِّوايات التي جاءت في حديث الأشجِّ: إنَّ فيك لخلتين يحبُّهما الله فقال: فما هما؟ قال: الحلم والحياءقلت: أقديماً كانتا فيَّ أم حديثاً؟ قال: قديماًقال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله [رواه أحمد17862، وصححه الألباني في ظلال السنة190]. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وابن أبي عاصم وصححه الألباني. وكون الحياء مكتسباً فلا شك أنَّ الإنسان إذا استقام على الشَّريعة واهتدى يرزقه الله حياءً.
خلق الحياء في الجاهلية
ولذلك تجد عدداً من النَّاس الذين كانوا في جاهليتهم في غاية الوقاحة والكلام السَّيئ ورُبَّما كانوا يغشون مجامع الفسق والفساد، ويتكلَّمون مع النِّساء ولا يبالون، بعدما هداهم الله تعالى رُزقوا الحياء بسبب الهداية، فصار يستحي من الكلام البذيء، يستحي أن يتكلَّم مع امرأةٍ، ورُبما ولو أراد أن يُسلِّم عليها ويراجع نفسه: هل يسلِّم عليها أو لا يُسلِّم عليها؟ وأنَّه لا يمكن أن يغشى أماكن الفسق هذه، فهذا الحياء رزقه الشّخص نتيجة الهداية، فإذاً: الهداية التي يرزقها من أراد الله هي التي تولد الحياء في النَّفس، فإذاً: يمكن اكتسابه بالهداية إذا هداه الله واهتدى الإنسان فيكتسب حياءً لم يكن عنده من قبل، وكان عنده من قبل فعل المعاصي وعدم مبالاة بالمجاهرة بها، وهذا الحياء مكارم الأخلاق عند العرب، فإنَّ العرب كانت تثني على أهله وكان معروفاً عندهم، فقال الشَّنفرة وهو من شعراء مدرسة الصَّعاليك، والصَّعاليك يعني: الفقراء، فبعضهم كان ينهب، فاشتركوا في قضية النَّهب والسَّلب والإغارة، هذه من أساسياتهم وشعرهم تميَّز بها، والشَّجاعة والإقدام والجرأة والسَّلب والنَّهب والإغارة، لكن بعضهم كان يسرق ليُطعم الآخرين ويوزِّع على المحتاجين، وبعضهم كان يأخذ لنفسه وبعضهم كان يتباهى أنَّه يسرق ويقطع الطَّريق ولا يتورَّع عن أكل شيءٍ، ثُمَّ يوزِّع على الفقراء ويتباهى بذلك في شعره، فالشَّنفرة هذا من روَّاد مدرسة الصَّعاليك الجاهلية، وله أشعارٌ من جهة النَّظم ممتازة فيقول مادحاً امرأةً شديدة الحياء:
كأن لها في الأرض نسياً تقصُّه | على أمِّها وإن تحدِّثك تبلتِ |
كأنَّ في الارض نسياً تقصُّه: يعني: إنَّها إذا مشت فإنَّ نظرها في الأرض كأنَّها تبحث عن شيءٍ ضائعٍ في الأرض أضلته وفقدته فهي تبحث عنه، وكذلك النَّابغة وصف حياء امرأة النُّعمان حين مرَّت بمجلسهما فسقط البرقع الذي على وجهها والنَّصيف الذي كانت قد تقنَّعت به مباشرةً، فالمرأة صار عندها ردَّة فعلٍ مباشرةً لما سقط الخمار فسترت وجهها بيدها، فقال النَّابغة:
سقط النَّصيف ولم ترد إسقاطه | فتناولته واتقتنا باليد |
فيدٌ على الوجه ويد لترفع الخمار، وهذا هو التَّصرف الطَّبيعي من امرأةٍ عندها حياءٌ إذا حصل وسقط منها الغطاء أو سقط الخمار، أو هبَّ الهواء أو انكشف الثَّوب، أمَّا التي ليس عندها حياء فلذلك فهي تخرج كيفما اتَّفق، تضع الحجاب كيفما كان ولا تبالي، وإن خرج جزءٌ أو أجزاء من جسدها، وكان العرب يستحيون حتى أنَّ بعضهم كان يستحي في حال شركه، كما حدث لأبي سفيان قبل أن يسلم لما استدعاه هرقل ملك الرَّوم، وسأله أسئلةً عن النَّبيِّ ﷺ وعن حالهم معه، فقال أبو سفيان: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عنه" فهم كُلُّهم كانوا كفاراً، إذا كذب أصحابه لن يعترضوا عليه مع أنَّ هرقل كان وضعهم لكي لا يكون هناك نظر واتفاق على الأخبار بأشياء غير صحيحة، وقال هذا صاحبكم وأنتم اجلسوا خلفه فإذا كذب فأخبروني، فأبو سفيان كان يضمن أن أصحابه الذين خلفه الكفَّار الذين كانوا مثله لو كذب ما كذَّبوه، لكن كان يخشى من شيءٍ آخر، فرُبَّما ما كان يخشى أن يكذِّبه أصحابه؛ لكن كان يخشى أنَّه لو كذب وسكتوا وما كذَّبوه سيكون عندهم بعد ذلك -عند أصحابه الكفَّار المشركين- أنَّه كذَّب، ولذلك قال: فوالله لولا الحياء، يعني: ما ردعه إيمانٌ ولا تقوى ولا أنَّه يعتبر الكذب محرَّماً، بل قال: والله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عنه، لكن استحييت أن يُقال: أبو سفيان كذب، فعند العرب كان هذا الخلق معروفاً، وكان يردع عن أشياء كثيرةٍ، وعند بعض العرب كانت صفة الحياء موجودةً، ولكن تقريباً الآن شبه مفقودة عند العرب، والمقصود بالعرب من غير الإسلام، فقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري أنَّ رسول الله ﷺ بعثه مع أبي عامر إلى جيش في أوطاس، ورمى رجلٌ من بني جُشمٍ من الكفَّار أبا عامر بسهمٍ فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت يا عم من رماك فأشار أبو عامر إلى أبي موسى فقال: إنَّ ذاك قاتلي، قال أبو موسى: فقصدت إليه فاعتمدته فلحقته فلما رآني ولى عني ذاهبا فاتبعته وجلعت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكرَّ بمجرَّد أن ذكَّره بقضية الحياء، كفَّ عن الهرب؛ لأنَّهم يعتبرونه عيباً كبيراً، ذكَّره بالحياء والهزيمة: ألا تستحيي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكرَّ فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فضربته بالسَّيف فقتلته"[رواه النسائي8730]. فهل تقول: أنَّ العرب هؤلاء لو ذُكِّروا بالحياء من الهزيمة لذكروا؟
قصة حياء موسى
والحياء يكون في البيوت الكريمة التي فيها تربيةٌ، ولذلك جاء في قصَّة بنتي الرَّجل الصَّالح لما سقى لهما موسى وتولَّى إلى الظِّل، ودعا الله فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ يعني: فقيرٌ إلى خيرك يا ربِّ ومحتاجٌ إلى رحمةٍ منك وفضلٍ، فجاء الجواب مباشرةً من الله إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ جاءت وجاء الفرج معها، فكيف جاءت هذه المرأة؟ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لستُ أنا التي أدعوك إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ والدَّعوة ليس فيها ريبةٌ وهي واضحةٌ، ما هو السَّبب؟ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا يعني: هذه امرأةٌ أجنبيةٌ تدعو رجلاً أجنبياً، ولذلك كانت البنت هذه في غاية الحكمة والحياء فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ فالأب ضعيفٌ لا يستطيع أن يأتي بنفسه فجاءت البنت إذا ليس في البيت أولادٌ ذكورٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فهذا المعنى في هذه المرأة الذي عبَّر عنه عمر بقوله: "ليست بسلفع من النِّساء خرَّاجة ولاجَّة" أمَّا السَّلفع: فهي السَّليطة الجريئة قليلة الحياء، فيقول عمر هذه المرأة جاءت تمشي على استحياء لم تكن بسلفع خرَّاجة ولاجَّة، ولكن جاءت مستترةً قد وضعت كمَّ درعها على وجهها استحياءً"[رواه ابن ابي شيبة32503]. وفي رواية: "جاءت تمشي على استحياء قائلةٌ بثوبها على وجهها، ليست بسلفع من النِّساء خرَّاجة ولاجَّة" الآن ممَّا أذهب الحياءَ من كثيرٍ من النِّساء قضية كثرة الخروج من البيت خرَّاجة ولاجَّة ومع الوقت يذهب الحياء؛ لأنَّ مستودَع الحياء في البيت، فطيلة ما تكون المرأة في بيتها يكون حياؤها أشدُّ، ولذلك العذراء أشدُّ النِّساء حياءً؛ لأنَّها لا تخرج، ولذلك فهي شديدة الحياء، ولذلك وُصِف النَّبيُّ ﷺ بهذه الصَّفة أنَّه أشدُّ حياءً من العذراء في خدرها.
الأحكام المتعلِّقة بالحياء
والحياء خلقٌ مهمٌ لدرجة أنَّ الشَّريعة قد علَّقت به أحكاماً، كما قلنا: إنَّ لبعض الأخلاق أحكاماً متعلِّقةٌ بها، فمثلاً: الحياء عند البكر إذا سُئِلت عن موافقتها كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رسول الله ﷺ عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ يعني: هل تأخذ موافقتها أم يعقد عليها من غير استشارة؟ فقال لها رسول الله ﷺ: نعم تستأمر يعني: رأيُها مهمٌّ وموافقتها مهمَّةٌ معتبرةٌ لا بُدَّ من ذلك، فقالت: فقلت له: إنَّها تستحيي، فالعادة لو قلنا لها هل توافقين على فلانٍ؟ تستحي وهذه طبيعة المرأة في ذلك الوقت، فقال رسول الله ﷺ: فذلك إذنها إذا هي سكتت [رواه مسلم1420]. وفي رواية: أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: استأمروا النِّساء في أبضاعهنقيل: فإنَّ البكر تستحيي أن تتكلَّم، فقال رسول الله ﷺ: سكوتها إذنها[رواه أحمد24231، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 398]. وفي رواية: إذنها صماتها[رواه البخاري 6570]. فإذا صمتت البكر فإنَّه يتعلَّق حكمٌ هنا بقضية الصَّمت، إذا كان ذلك نتيجةَ حياءٍ وليس نتيجةَ تهديدٍ، كأن يُقال لها: إذا رفضت عند القاضي ستذوقين الأمرَّين، فهنا سكوتها ليس حياءً وإنَّما سكوتها خوفٌ ورهبةٌ وإكراهٌ تحت وطأة التَّهديد بالتَّعذيب أو الحرمان ونحو ذلك، فإذا كان سكوت البكر حياءً فإنَّه يعتمد عليه حكمٌ شرعيٌّ، وهو اعتبارها موافقةً وأنَّها آذنةٌ بهذا الزَّواج، فالثَّيب تعرب عن نفسها فتتكلَّم؛ لأنَّ لها خبرةٌ سابقةٌ بالزَّواج، فهي أجرأ من البكر، لكن هذه الأيام انعكست فصارت المرأة المتزوجة أشدَّ حياءً من بنات المتوسط والثَّانوي في الغالب؛ لأنَّ هؤلاء يكلمن بالهاتف ويعملن المصائب، فالمرأة صارت إذا تزوَّجت صار عندها حياءٌ أكثر من قبل، مع الأسف هذا الشَّيء من المصائب التي ابتلينا بها في هذا الزَّمان.
كيف يكون الحياء من الله تعالى
فلو أردنا أن نربط الحياء بعلاقة الإنسان بربِّه؛ فكيف يكون الحياء من الله؟ أن الإنسان يستحيي من ربِّه في أن يعصيه، وقد أسدى إليه ربُّه من المعروف وأكرمه بالنِّعم وأسبغ عليه من الآلاء ما لا يعد ولا يحصى، فإنَّ الإنسان بطبعه إذا أحسن إليه شخصٌ أنَّه يستحيي من معصيته ومخالفة أمره، فلو أحسن إليه بشربة ماءٍ استحيا من أن يعصيه وأن يخالفه أو يؤذيه، فكيف بالله تعالى! فالحياء من الله: أنَّ الإنسان يتذَّكر النِّعم فيستحيي من المعصية ومن مخالفته وأن يراه على صورةٍ أو هيئةٍ يكرهها ويبغضها، ولذلك قال الشَّاعر:
هب البعث لم تأتنا رسله | وجامحة النَّار لم تضرم |
أليس من الواجب المستحق | حياء العباد من المنعم |
فهذا من الواجب المستحقِّ، ومن الحياء أيضاً في العلاقة بين العبد وربِّه: حياءُ العاصي ممَّن عصاه، فإنَّه إذا عصاه يستحيي إذا كان مؤمناً تقياً، كيف أنَّه أنعم عليه وفعل له من المعروف وأسبغ عليه النِّعم؛ ثُمَّ هو يعصيه بعد ذلك، فيستحي ويتوب ويعتدل ويستقيم ويؤوب إلى الله ، وبعض الأنبياء مع أنَّ ما فعلوه كان له وجهاً شرعياً، لكنَّهم استحيوا منه كما حصل لآدم وموسى وإبراهيم في حديث الشَّفاعة المعروف، عندما يجتمع النَّاس يوم القيامة وينزل بهم الكرب والهم ما لا يعلمه إلَّا اللهُ ، حتى يتمنُّوا الفكاك ولو إلى النَّار، فيفزع النَّاس من هذا الوقوف في هذا اليوم العظيم تحت الشَّمس والزِّحام خمسين ألف سنة على أقدامهم لا راحة ولا قعود، فيفزعون إلى الأنبياء فيأتون آدمَ فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربِّك حتى يريِّحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربَّه منها، يعني: يستحي من الله تعالى فكيف يتقدَّم للشَّفاعة وهو قد فعل فعلته، مع أنَّ الله تاب عليه فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[البقرة:37]. قطعاً يقيناً أنَّه تاب عليه، ومع ذلك استحيا، فيذهبون بعده إلى نوح، فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، قال: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربَّه منها، أو يقول لي دعوةٌ دعوت بها على قومي مع أنَّ لها وجه، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناك وذكرت خطيئته التي أصاب مع أنَّها كذبٌ لله وفي الله، لكن لأنَّ صورتها صورة خطيئة ولو أنَّ التَّبرير موجودٌ فيستحيي ويقول: ائتوا موسى الذي كلَّمه الله وأعطاه التَّوراة، قال: فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب أنَّه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، قد تاب الله عليه وصار نبياً ورسولاً وعمل أعمالاً، ومع ذلك يستحيي ربَّه منها، ويقول: ائتوا عيسى، ثُمَّ يحوِّلهم على النَّبيِّ ﷺ محمد فيشفع فتقبل شفاعته فيهم[رواه البخاري6975، ومسلم 193]. فالصَّالحون ولو كانوا قد تابوا وأنابوا، لكن سابق المعصية التي حصلت يوجب حياءً من الرَّب عندهم، ولذلك لما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: "مالي لا أجزع ومن أحقُّ بذلك منِّي، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لهمَّني الحياء منه مما صنعت" يعني لو غفر لي لكن يبقى الذَّنب الذي فعلته أستحيي منه "إنَّ الرَّجل يكون بينه وبين الذَّنب الصَّغير فيعفو عنه ولا يزال مستحياً منه"[حلية الأولياء2/103]. مع أنَّه سامحه وتجاوز عنه وعفا عنه، لكن لو قابله مرَّةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً يبقى كُلَّ ما قابله مع أنَّه سامحه، لكن يبقى في نفسه شيءٌ من الاستحياء من هذا الرَّجل الذي أخطأ عليه
فيا حسرة العاصين عند معادهم | هذا وإن قدموا على الجنَّات |
لو لم يكن إلَّا الحياء من الذي | ستر القبيح لكان أعظم الحسرات |
وقال الحسن رحمه الله: "لو لم نبك إلَّا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء"[جامع العلوم والحكم 75]. وأبو حاتم الخلقاني أنشد الإمام أحمد رحمه الله بيتين فقعد الإمام في بيته يبكي منهما:
إذا ما قال لي ربِّي | أما استحييت تعصيني |
وتخفي الذَّنب من خلقي | وبالعصيان تأتيني |
تخفيه من خلقي ولا تخفيه مني! يعني: لا يمكن إخفاؤه من الرَّب ، كان الفضيل رحمه الله في عرفات وقد رفع رأسه إلى السَّماء وهو يبكي، ويقول: "واسوأتاه منك وإن عفوت"[التبصرة لابن الجوزي2/ 129]. واحيائي منك وسوأتاه والعيب الذي ارتكبته في حقِّك وإن عفوت
يا خجلة العبد من إحسان سيده | يا حسرة القلب من ألطاف معناه |
فكم أسأت وبالإحسان قابلني | وخجلتي وحيائي حين ألقاه |
يا نفس كم بخفي اللطف عاملني | وقد رآني على ماليس يرضاه |
يا نفس كم زلَّةٍ زلَّت بها قدمي | وما أقال عثاري ثم إلا هو |
يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي | وصابري فيه إيقاناً برؤياه |
فضيل خلق الحياء
هذا الخلق الكريم: ما فضيلته؟ وما ثوابه؟ وما منزلته؟ الحياء: أولاً: من الإيمان، وهذا من أعظم فضائل هذا الخلق، وهما رضيعا لبان تقاسما على ألا يفترقا، ولا يمكن أن تجد إيماناً بدون حياءٍ، فالحياء شعبة من الإيمان، والنَّبيُّ ﷺ رفض أن يعاتب إنساناً حيياً على كثرة حيائه، وذلك كما جاء في الحديث الصَّحيح: أنَّ رسول الله ﷺ مرَّ على رجلٍ من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، وفي رواية: وهو يعاتب أخاه على الحياء، يقول: إنَّك لتستحيي حتى كأنَّه يقول قد أضرَّ بك حياؤك، وأذهب حقوقك وجعلك في حرج، فقال رسول الله ﷺ: دعه لا تعاتبه فإنَّ الحياء من الإيمان[رواه البخاري 24]. فالحياء قد يحول بين الشَّخص وبين طلب حقِّه، افرض مثلاً: أنَّه عمل شيئاً لشخصٍ فيستحي أن يطلب الأجرة، هناك ناسٌ عندهم حياءٌ فيستحيون من طلب حقوقهم، فيحصل عليه ضررٌ أليس كذلك؟ يعني: حقوقه عند الناس وهو يستحي أن يطلبها، ورُبَّما أيضاً بعض النِّساء تستحي أن تطلب نفقةً من زوجها، وبعض الأزواج لا يأبهون ما دام المرأة ساكتة، فكثرة الحياء تؤدِّي عند بعض النَّاس إلى نوعٍ من ذهاب الحقوق، فالرَّجل هذا يقول: لأخيه أنت تستحيي وحقوقك عند النَّاس، فقد أضرَّ بك كثرة الحياء، ومع ذلك النَّبيُّ ﷺ قال: دعه فإنَّ الحياء من الإيمان يعني: ولو كان الحياء منعه من استيفاء حقَّه، لكنَّ حقَّه لا يفوت يوم القيامة، فالحقيقة وإنَّ منعه من بعض المنافع في الدُّنيا لكنَّه يوم القيامة سيأتيه حياؤه بخيرٍ عظيمٍ، ويوم القيامة يتضح أنَّ الشَّيء الذي استحيا من أخذه أو من المطالبة به وملاحقة النَّاس؛ قد جاءه موفوراً أعظم مما لو أخذه في الدُّنيا وأفضل وأكثر فائدة، ولذلك الحياء لا يأتي إلَّا بخيرٍ وإذا سلب العبد الحياء فإنَّه لا شيء يحجزه عن القبائح والدنايا، وقال محمد بن عبد الله البغدادي:
إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤه | فلا خير في وجهٍ إذا قل ماؤه |
كما تقدَّم، فيصبح الواحد صفيق صلب الوجه لا يستحيي من أحدٍ، وكلامه سيئٌ وتصرفاته فيها إيذاءٌ لعباد الله تعالى، فلذلك يحصل النُّفور منه، فمن علامات الشَّقاء والقسوة في القلب وجمود العين وقلِّة الحياء والرَّغبة في الدُّنيا وطول الأمل، ولذلك كان الحياء أبهى زينةٍ يتزين بها كما قال ﷺ: ما كان الفحش في شيءٍ قطَّ إلَّا شانه، وما كان الحياء في شيءٍ قطَّ إلَّا زانه[رواه الترمذي1974، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1974]. فالحياء إذاً زينةٌ، ونزعه عيبٌ كبيرٌ عمَّن نُزع عنه.
الحياء من صفات الخالق
وسبق أن قلنا: أنَّ من القواعد: أن يتخلَّق المخلوق بصفات الخالق التي تليق بالمخلوق، والتي يجوز له أن يتَّصف بها، فمثلاً: الله رحيمٌ يحبُّ الرُّحماء كريمٌ يحبُّ الكرماء عليمٌ يحبُّ العلماء قويٌّ يحبُّ المؤمن القوي، فالمؤمن القوي أحبُّ إليه من المؤمن الضَّعيف، والله حييٌّ يحبُّ الحياء ويحبُّ أهل الحياء وترٌ يحبُّ أهل الوتر، وهكذا أيُّ صفةٍ للخالق يجوز للمخلوق أن يتَّصف بها، فينبغي على المخلوق أن يتخلَّق بأخلاق الله، ومن الأدلَّة على أنَّ الله قد اتَّصف بالحياء: قول النَّبيِّ ﷺ في الحديث الصَّحيح الذي رواه أبو داود والترمذي: إنَّ الله حييٌّ كريمٌ يستحيي إذا رفع الرَّجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين[رواه أبو داود1490، والترمذي 3556، وصححه الألباني في الترغيب والتهريب1635]. الله يستحي، وورد أيضاً في الحديث الصَّحيح الذي رواه أبو داود والنَّسائي وهو قوله ﷺ: إنَّ تعالى حييٌّ ستِّيرٌ يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر [رواه أبو داود4014، والنسائي 406، وصححه الألباني في صحيح أبي داود4012]. لأنَّ الله حييٌّ ويحبُّ الحياء، فإذا اغتسل ولو كان في صحراء وما حوله أحدٌ فليستتر، ولا يكشف نفسه يتوارى خلف شيءٍ، ليس لأجل ألَّا يراه أحدٌ؛ لكن حياءً من الله ، بعض المبتدعة يرفضونه ويؤولونه ويحرِّفون نصوصه، فحياءً يليق بجلاله وعظمته كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأمَّا حياء الرَّبِّ تعالى من عبده: فذاك نوعٌ آخرٌ لا تدركه الإفهام ولا تكيِّفه العقول، فإنَّه حياءُ كرمٍ وبرٍّ وجودٍ وجلالٍ، فإنَّه تبارك وتعالى حييٌّ كريمٌ، ويستحي أن يعذِّب ذا شيبةٍ شابت في الإسلام"[مدارج السالكين2/ 262]. يعني: شاب على طاعة الله وابيَّض شعرُه في طريق الاستقامة فالله يستحيي أن يعذِّبه، فهو صفةٌ لله ، الحياء يحمل على ما يليق به كسائر صفاته نُؤمن بها ولا نكيِّفها، فالله مع كرمه وكمال غناه عن الخلق كُلُّهم من كرمه أنَّه يستر العاصي بما يقيِّض له من أسباب السِّتر ويعفو عنه ويغفر له، ويتحبَّب إليه بالنِّعم، ويستحيي ممن رفع يديه أن يردَّهما إليه خاليتين، وإذا كان الله يستحيي فنحن لا بُدَّ لنا أن نتخلَّق بهذه الصِّفة؛ فإنَّ الله يحبُّ من تخلَّق بصفاته، فإذاً: الحياء من صفات الله ويحبُّه الله، ولذلك لما قال النَّبيُّ ﷺ للصّحابي: إنَّ فيك لخلتين يحبُّهما الله قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبُّهما الله .
توارث الأجيال لخلق الحياء
ومن حكمة الله أنَّه أبقى في البشرية قاعدةً تتعلَّق بالحياء، توارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، بالرَّغم من التَّحريفات التي أصابت الكتب، وبالرَّغم من الانقطاع الذي حصل بين الرُّسل، فكم بين عيسى والنَّبيِّ ﷺ؟ قريباً من ستمائة عام كما جاء في حديث سلمان ، لكن بقيت عباراتٌ تتداولها الأجيال من كلام النُّبوَّة الأولى، مع ما أصاب الكتب من التَّحريف والانقطاع الذي حصل لكن بقيت عبارةٌ تتداول كما قال النَّبيُّ ﷺ: إنَّ مما أدرك النَّاس من كلام النُّبوُّة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت[رواه البخاري3296]. فهذا الحديث الصَّحيح الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى يبيِّن كيف أنَّ هذا الوصية بهذا الخلق قدَّر الله أن تنتقل في أجيال البشرية جيلاً بعد جيلٍ يتواصون به لأجل أهمية هذا الخلق، فإنَّ قال قائل: ما معنى الحديث: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت فقد ذكر العلماء فيه معنيين: المعنى الأول: تهديدٌ ووعيدٌ، كيف؟ إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، يعني: إذا تركت الحياء ولم يكن عندك حياء يردعك عن القبائح؛ فافعل ما شئت منها، فأنت ستجازى بها وستُحاسب عليه وستعاقب، فإذاً: هذه عبارة تهديدٍ ووعيدٍ: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، وليس المقصود: افعل ما شئت يعني ذلك إذناً وإباحةً! لا، وإنَّما هو تهديدٌ ووعيدٌ، كما قال الله تعالى في الآية: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ[فصلت:40]. هل معنى: اعملوا ما شئتم أنَّه يسمح لهم أن يعملوا ما يشاءون؟ لا، فهذا تهديدٌ وهذا من أساليب العرب في التَّهديد الوعيد، يقول: افعل ما تريد، لكنَّه يقصد أنَّه سيعاقبه ويتوعَّده، ويقول: افعل ما يحلو لك فستجد في النِّهاية مصيرك وعاقبتك، معنى آخر: رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت يعني: إذا كنت تريد أن تفعل أمراً فنظرت في هذ الأمر هل يستحيا من فعله أم لا، فخرجت بأنَّه لا يستحيا من فعله فاعمله ولا حرج عليك و لا بأس، فإنَّ هذا عملٌ مباحٌ، ولو كان العمل هذا فيه معصيةٌ أو مذمومٌ، انظر هل يستحيا من هذا العمل إذا فعله الشَّخص أو لا، إذا لم يستحيا منه فافعله، فيكون هذا للإباحة، فالذي ينبغي تركه هو ما يستحيا منه، والذي يجوز فعله هو ما لا يستحيا منه من الله تعالى، انظر هل تستحي من الله إذا فعلته، وهل تستحي من الصَّالحين، فإنَّه دليلٌ على أنَّه لا بأس به، ولذلك استحي من الله كما تستحي من الرَّجل الصَّالح من قومك، فإذا شكَّ الإنسان في عملٍ: هل يجوز أو لا يجوز، فليعرضه على الحياء؛ فإن وجد أنَّ هذا العمل لا يستحيا منه يفعله، ويعلم أنَّ الله مطلِّعٌ عليه وأنَّه لا يستحي من فعل هذا العمل،ولو أنَّ شخصاً يراه أو حصل بحضرة عالمٍ صالحٍ، فإنَّ هذا الفاعل لا يستحي من فعله أمام هذا الرَّجل الصَّالح، إذاً: لا حرج في فعله وليقدم عليه، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت عند ذلك، وكلا المعنيين صحيحٌ.
من العقوبات: نزع الحياء
ومن العقوبات ما يتعلَّق بهذه المسألة الأخيرة من العقوبات: أن يبتلى العاصي بانسلاخ قبح العمل من قلبه حتى لا يعود يستحيي منه ولو أمام الناس، ولذلك يجاهر بالمعاصي ويصوِّرون صوراً، ويأتون ويحدِّثون: فعلنا كذا مع فلانة، وسافرنا وفعلنا كيت وكيت، وهذه هي الصُّور، ويوِّزع على النَّاس؛ فهذا رجلٌ وصل إلى درجة أنَّه زال من قلبه استقباح الذَّنب وزال الحياء، فصار لا يبالي لو اطَّلع ورآه النَّاس، بل يتباهى بذلك، ولذلك هدَّد النَّبيُّ ﷺ بقوله: كُلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإنَّ من الإجهار أن يعمل الرجل في الليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه فيقول يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه[رواه مسلم2990 بهذا اللفظ]. وهناك شريحةٌ من شرائح المجتمع بهذه الصِّفة موجودةٌ.
إذا لم تخش عاقبة الليالي | ولم تستحي فاصنع ما تشاء |
فلا والله ما في العيش خير | ولا الدُّنيا إذا ذهب الحياء |
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ | ويبقى العود ما بقي اللحاء |
أما إذا ذهب اللحاء جفَّ العودُ ومات! وكذلك الحياء إذا ذهب الحياء انتهى.
الحياء من أخلاق الأنبياء
وهو من أخلاق الأنبياء، وقد كان موسى رجلاً حيياً ستِّيراً، قيل إنَّه كان في شرع بني إسرائيل جواز أن يغتسل الإنسان بحضرة النَّاس، لكن موسى كان يستحي مع ذلك ويذهب بعيدًا ويغتسل، وكان من حياء موسى أن صارت قصة الحجر وجرى بثوبه لما اتهمه بنو إسرائيل إفكاً وآذوه وقالوا فيه انتفاخٌ في الخصيتين، اتهموه بهذا الاتهام الباطل فبرَّأه الله منه بجريان الحجر بثوبه، وعدى وراءه يضربه بعصاه حتى رأوه أحسن ما خلق الله، كان ذلك لأجل التَّبرئة، من حياء موسى أنَّه كان يستر جلده بحيث لا يكاد يرى منه شيءٌ: إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يُرى من جلده شيءٌ[رواه البخاري 3223]. رواه البخاري. وكذلك مثل عثمان بن عفان كان لديه هذه الصَّفة، كان لا يكاد يُرى من جلده شيءٌ لأجل حيائه، فبعض النَّاس مثلاً قد يسير عاري المنكبين، ولا يكون هذا حراماً لكن لو كان عنده حياء شديد ما فعل ذلك، فالحياء يحشم الإنسان فهو يجعله رُبَّما يترك أشياء وإن كانت مباحةً، لكن لأجل زيادة الحشمة وزيادة المروءة والمحافظة على المروءة، ونبيُّنا ﷺ قد جمع بين الحياء أيضاً فبلغ المبلغ الأعظم بين البشر، فكان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه، فالمرأة البكر إذا كانت سترها وفي خدرها فكيف يكون حالها إذا دخل عليها فجأةً رجلٌ أجنبيٌّ، فكان ﷺ في حيائه الفطري أشدَّ من هذه البكر، وكان في الحياء المكتسب في الذَّروة العليا، وكان إذا كره شيئاً لا يتكلَّم به لحيائه ﷺ، بل يرى ذلك في وجهه فيقوم أصحابه للتَّغيير، وحصلت حادثةٌ تبيِّن حياء النَّبيِّ ﷺ بيناً جلياً، فروت عائشة رضي الله عنها قالت: سألت امرأةٌ النَّبيًّ ﷺ: كيف تغتسل من حيضتها؟ يصف لها كيفية الغسل من الحيض، فعلَّمها ﷺ كيفية الغسل، وبعد الانتهاء من الغسل قال: تأخذي فرصةً ممسَّكةً فتطهر بها قطعة قطن أو قطعة قماش، كما ذكر صاحب القاموس التي تتنظِّف بها المرأة بعد حيضها تأخذ قطعة قطن أو قطعة قماش ممسكةً يعني: فيها مسكٌ وهو الطِّيب المعروف، قال: تأخذي فرصةً من مسكٍ فتطهر بها المرأة، قالت: كيف أتطهَّر بها؟ ما فطنت فقال: تطهرين بها سبحان الله[رواه مسلم332]. واستتر بيده على وجهه، النَّبيِّ ﷺ غطَّى وجهه بيده حياءً، امرأة تسأل كيف وصلت إلى هذه الدَّرجة في السُّؤال، فعائشة رضي الله عنها قالت: فاجتذبتها إليَّ على هذا الموقف، يعني: كأنَّها أخزت النِّساء اليوم، وعرفت ما أراد النَّبيُّ ﷺ فقالت: "تتبَّعي بها أثر الدَّم" يعني: مكان خروج الدَّم امسحي بالفرصة الممسَّكة بعد الغسل لتطييب المحل، أليس المحل خرج منه دمُ الحيض الذي هو منتن ورائحته كريهة! فبعد الغسل تمسحي به مكان خروج الدَّم هذا هو المقصود، لكن النَّبيُّ ﷺ استحى أن يبيِّن ذلك بالتَّفصيل أمام المرأة الأجنبية، فغطَّى وجهه بيده ﷺ لما سألته عنه.
الحياء خلق الإسلام
ونظراً لأنَّ لكُلِّ دينٍ خلقاً فإنَّ خلق الإسلام هو الحياء، كما جاء ذلك في الحديث الصَّحيح، والصَّحابة رضوان الله عليهم الذين تربُّوا على يد النَّبيِّ ﷺ لا شكَّ أنَّهم سيأخذون من صفاته، فإن المتربي يأخذ من صفات المربي، فكان حياؤهم رضوان الله تعالى عليهم واضحاً، كانوا لا شكَّ أنَّهم يتفاوتون في الأخلاق، لكن فيهم الكرم وفيهم الشَّجاعة وفيهم الحياء والعفَّة، ولكن بعضهم أشدُّ حياءً من بعض كما أنَّ بعضهم أعلم من بعض وهكذا،
نماذج من حياء الصَّحابة
حياء فاطمة بنت محمد ﷺ:
احتاجت فاطمة رضي الله عنها إلى خادمٍ، فالحال شديدٌ: تطحن بالرَّحى والغسل، فاحتاجت إلى خادمٍ من مشقَّة العمل فزوجها علي حاله معروف، ليس صاحب تجارات وأموال، فمن أين الخادم، فتتحوِّل المرأة إلى أبيها، فذهبت فاطمة رضي الله تعالى للنَّبيِّ ﷺ تسأله خادماً، فقال: ما جاء بك يا بنية فقالت جئت أسلم عليك واستحيت أن تقول جئت أطلب خادماً هي ربما ترددت وغلب عليها في النهاية أن تذهب وتطلب، لما وصلت استحيت فاستحيت قالت: "جئت أسلم عليك" حتى إذا كانت الليلة القابلة أتته فقالت مثل ذلك، فاستحيت أن تسأل أباها الخادم وكانت بحاجة إليه، ثُمَّ النَّبيُّ ﷺ علَّمهما ما هو خيرٌ لهما من الخادم: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين الحمد لله ثلاثاً وثلاثين والله أكبر أربعاً وثلاثين قبل النَّوم يغنيان عن الخادم[رواه الترمذي3408، وصححه الألباني في صحيح الترمذي3408]. وهذا دليلٌ على أنَّ الأذكار تقوِّي البدن، وأتى رسول الله ﷺ فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوبٌ إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلمَّا رأى النَّبيُّ ﷺ ما تلقى قال: إنَّه ليس عليك بأسٌ إنَّما هو أبوك وغلامك[رواه أبو داود 4108، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4106]. والمسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم ماذا تكشف السَّيدة على عبدها؟ فجمهور العلماء على وجوب الحجاب،
حياء عائشة رضي الله عنها
وعائشة رضي الله تعالى عنها استحيت من عمر بعد وفاة عمر، وهذا حياءٌ عظيمٌ فقالت: "كنت أدخل البيت الذي دُفن فيه رسول الله ﷺ وأبي واضعةٌ ثوبي يعني بدون حجاب، وأقول إنَّما هو زوجي وأبي" فليس هناك من أحدٍ غريبٌ مع أنَّهم موتى، فلمَّا دُفن عمر والله ما دخلت إلَّا مشدودةٌ عليَّ ثيابي حياءً من عمر ، مع أنَّ المكان الذي كان فيه مفصولٌ، فهي كانت في مكان غير المكان الذي فيه القبور هي لا تنام بين القبور، ولكن مع ذلك هو كان في هذا حجرتها والمكان الذي تدخل فيه مجاورٌ لهذا مع ذلك كانت تستحي لوجود عمر، فلا تدخل إلَّا وعليها ثيابها، وأمَّا مكان سكنها ليس بين القبور. أيضاً من القصص التي حصلت للنِّساء على عهد النَّبيِّ ﷺ مما يبيِّن حياء الصَّحابيات: أن فاطمة بنت عتبة لما جاءت تبايع النَّبيَّ ﷺ، وأركان بيعة النِّساء معروفةٌ مذكورةٌ في الآية: أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ[الممتحنة:12]. الآية. والنَّبيُّ ﷺ يتلو عليهنَّ بنود البيعة من دون مصافحة، فما صافح النبي ﷺ امرأةً أجنبية قطَّ لكن من بعيد، يقول: بايعتك وتبايعنني، تقول الواحدة بايعتك على كذا وكذا وكذا، فلما ذكر لهنَّ بنود البيعة على ألَّا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين، وضعت فاطمة بنت عتبة يدها على رأسها حياءً فأعجبه ما رأى منها، يعني: من حياء هذا المرأة وذلك بمجرَّد ذكر الزِّنا، وقالت: أو تزني الحرَّة؟ استغربت؛ لأن ذلك كان في الإماء أمَّا في الأحرار فلم يجر ذلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: أقري أيتها المرأة فوالله ما بايعنا إلَّا على هذا، قالت: فنعم إذاً، فبايعها ﷺ،
حياء عثمان بن عفان رضي الله عنه
عثمان ضرب المثل بين الصَّحابة في الحياء حتى قال ﷺ والسَّلام ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة[رواه مسلم2401]. والله إنَّ الملائكة لتستحيي من عثمان، قال: الحياء من الإيمان وأحيى أمتي عثمان [رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق7853، وصححه الالباني في صحيح الجامع3198]. فأشدُّهم حياءً هو عثمان ، ومن شدَّة حيائه قال عنه الحسن: "إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء يمنعه الماء أن يقيم صلبه"[رواه أحمد543]. فحتى عند الغسل وليس عنده أحدٌ فلا يتعرَّى من كُلِّ ثيابه، لا يقيم صلبه وإنَّما يكون منحنياً زيادةً في السِّتر، مع أنَّه ليس عندهم أحدٌ، وقال أبو موسى : "إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياءً من ربِّي "[الزهد لأحمد 1089]. وقال قتادة رحمه الله: "كان أبو موسى إذا اغتسل في بيتٍ مظلمٍ تجاذب وحنا ظهره حتى يأخذ ثوبه ولا ينتصب قائماً"، وعن أنس قال: "كان أبو موسى الأشعري إذا نام لبس ثياباً عند النَّوم مخافة أن تنكشف عورته"[حياة الصحابة للكاندهلوي3/ 422].
من صور نزع الحياء في عصرنا
وعند بعض النَّاس تلبس المرأة سروالاً طويلاً عند النَّوم مع زوجها لماذا؟ قال: إذا ماتت أثناء النَّوم، وهذا احتمالٌ، فتصبح أجنبيةً عن الزَّوج فلا تنكشف عليه، وهذه سخافة تفعلها بعض الصُّوفيات حيث أن من شعارهم لبس السَّراويل ليس من باب أنَّه حياءً لكن اعتقاداً بهذا الحكم المرجوح، وقال به بعض الحنفيَّة: أنَّ المرأة تصبح أجنبيةً على زوجها، لكن غلط، إذاً لا ترث منه إذا أصبحت أجنبيةً، فالرَّجل يحتاج أن يأتي أهله، ومسألة أنَّها تلبس لباساً طويلاً حتى في الفراش لأجل إنَّها إذا ماتت؛ فهذا ورعٌ فاسدٌ، وعن أبي واقد الليثي أنَّ رسول الله ﷺ بينما هو جالسٌ في المسجد والنَّاس معه، وذكر قصة الثَّلاثة: حيث أنَّ واحداً منهم جلس خلف، قال النَّبيُّ ﷺ في شأنه: وأمَّا الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه[رواه البخاري66]. كأنَّه استحيا أن يدخل في وسط الحلقة، ويقول: وسعِّوا لي مثلاً ونحو ذلك، استحيا وجلس وراء فهذا استحيا الله منه، ومعنى ذلك: ولابُدَّ أن هذا يقتضي رضا الله عن هذا الرَّجل مع إثبات صفة الحياء لله ، والنَّبيُّ ﷺ قد أوصى الواحد منا قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرَّجل الصَّالح من قومك[رواه الطبراني5406، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4306]. بالأفعال والتَّصرُّفات، الإنسان يستحيي من الله، يعني: يريد أن يضرب له صورةً يقرِّب له بها، وإلَّا الإنسان يستحيي من الله أكثر لكن حتى تقرب الصُّورة، قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرَّجل الصَّالح من قومك فكيف تكون معه كذلك؟ وهذا معنى الحديث لما قلنا إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، لمَّا سُئل بعضهم عن المروءة قال: هي ألَّا تفعل في السِّرِّ أمراً وأنت تستحيي أن تفعله جهراً، ولذلك الإنسان لو أراد أن يفعل معصيةً أقلَّ شيءٍ يستحي من الملائكة الذين معه وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الإنفطار:10]. فلو أنَّه تفطَّن فقط للاستحياء من الملائكة التي تكون حاضرةً مع الإنسان، فإذا استحيا من الملائكة ما فعل الذَّنب، ولا ينهي إنسانٌ كأن يقول: أنت تستحيي من الناس الاستحياء من النَّاس يجرُّ إلى تقوية الحياء، ولذلك قال: الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه النَّاس[رواه مسلم 2553]. ما سبب كراهية أن يطلع عليه الناس؟ استحياءً.
وبعد هذا كُلِّه تعال انظر في المجتمع واطَّلع على ما يحدث سفور النِّساء من كشف الشُّعور والوجوه، والحسرة عن الأقدام بإظهار الزِّينة، فالنِّقاب الواسع والغطاء الشَّفاف والجرأة مع الرِّجال والكلام مع الباعة، كأنَّها سيدته فتتكلَّم معه باستخدام الألفاظ البذيئة مع الرِّجال، فهناك -ولا شكَّ- ظواهرٌ كثيرةٌ في عصرنا تدلُّ على انعدام الحياء أو ندرته عند البعض؛ جعلت هناك انتشاراً واسعاً للفساد في المجتمع، فعمَّ الفساد وتبلَّد الإحساس، وإلَّا فإنَّ الإنسان يستغرب كيف ترضى امرأةٌ أن تلتقط لها صورةً توضع على غلاف مجلةٍ تدور في أنحاء العالم بين النَّاس؟ فمعنى ذلك: ذهاب الحياء، فالشَّيء الذي نجده في الارتباط الواضح بين انتشار الفساد وبين قلة الحياء؛ يبيِّن أهمية تعليم أولادنا هذا الخلق العظيم وتربيتهم عليه، ولو أنَّك علَّمت الولد والصَّبي ألَّا يخلع ثيابه من صغره لا يخلع ثيابه أمام إخوانه ولا أمام أهله ولا يمشي في البيت عارياً وأنكرت عليه ولاحقته في هذه المسألة؛ سيصبح عنده عيباً، وبالتَّالي يستفيد عند الكبر إذا كبر تنطبع فيه هذه الصِّفة، لكن في بعض النَّاس الآن يُلبِسون بناتهم في سنِّ السَّادسة والسَّابعة والثَّامنة والتَّاسعة ملابس سيئةً، فإذا تعوَّدت البنت على هذا النَّوع من التَّعري ماذا سيبقى إذًا من حيائها إذا كان قد فسد في الصغر؟ وهل يا ترى ستلتزم بالحجاب عندما تُؤمر به فجأة إذا بلغت؟ كما يقول بعض النَّاس: لن نعقِّد البنات من الصِّغر، فنقول: لن نلزمها بحجابٍ كاملٍ وهي صغيرةٌ، ولكن أن نلبسها ثياباً إلى نصف الفخذ وعارية الصَّدر والأكتاف واليدين، ثُمَّ نتوقَّع منها حياءً في المستقبل! فيوجد اليوم في الأسواق ألبسة البنات التي تمهِّد لزوال الحياء منهن في المستقبل إذا كبرن، وهذا تخطيطٌ يهوديٌّ واضحٌ، فهؤلاء مصمِّمو الأزياء من اليهود أو المتعاونين معهم، ماذا يفعلون؟ وما هو غرضهم من تصميم الألبسة بحيث تكون مثيرة للغرائز؟ يفصِّلونها تفصيلاً بحيث حتى لو كانت المرأة فيها قبحٌ تظهرها أجمل ممَّا هي عليه الحقيقة في تقاطيعه وفي قصاته وفي كسراته وفي فتحاته وفي ضيقه وفي شفافيته، فهذه الثِّياب لا تُصمَّم عشوائياً إنَّما تُصمَّم بعمليةٍ مدروسةٍ، والغرض منها إزالة الحياء من النِّساء؛ لأنَّ اليهود يبحثون عن مسألة إفساد العالم، وهذا يكب في بيوت المسلمين كبَّاً هذه الثِّياب ويلبسونها بناتهم، فالاعتناء بهذه المسألة جدٌّ مهمٌّ وخطيرٌ، ينبغي أن يقدَّر له قدره.
أمورٌ يظنُّها بعض النَّاس من الحياء وليست منه
إذا انتقلنا إلى جانبٍ آخرٍ من الجوانب المتعلِّقة بالموضوع وهو اختلاط مفهوم الحياء بأشياء أخرى يظنُّ الواحد أنَّها من الحياء وليست كذلك، أو يستعمل الحياء في مكانٍ لا يستعمل فيه، أو يستحيي من أشياء في الشَّريعة لا ينبغي أن يستحيا منها، بل على الإنسان أن يكون فيها ماضياً واضحاً، ولنضرب بعض الأمثلة: نحن نعلم أحكام الدِّين، فالله لا يستحيي من الحقَّ وهكذا، جاءت المرأة إلى النَّبيِّ ﷺ قالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستحيي من الحقِّ، هل على المرأة غسلٌ إذا احتلمت؟ فلم يمنع الحياء الصَّحابة رضوان الله عليهم من التَّفقُّه في الدِّين، والنَّبيُّ ﷺ يعلم أنَّ هناك أشياء ترتبط بالعورات وترتبط بالجماع وترتبط بدخول الخلاء، عندما تُذكر يحصل في النَّفس شيءٌ، ولكن لا بُدَّ من تعلُّمها هل تبقى الأمة جاهلةً ولا تعلم هذه الأشياء لأنَّها مرتبطة بدخول الخلاء وبالجماع والجنابة لا تعلم الأمة ويقال: هذا من الحياء؟ الجواب: لا، بل إنَّ النَّبيَّ ﷺ مهَّد لذلك ولطَّفه، وقال: إنَّما أنا لكم مثل الوالد لولده وفي رواية: إنَّما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم[رواه أبو داود8، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود 8]. فهذه عبارةٌ تمهيد؛ لأنَّه يريد أن يقول بعدها شيئاً رُبَّما يتوهَّم منه أنَّ من الحياء ألَّا يقوله، لكن هو قال: إنَّما أنا بمنزلة الوالد أعلِّمكم إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها[رواه ابن ماجه 313، وحسَّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه 313]. الحديث.
والصَّحابة فقهوا ذلك وعلموه كما قلنا، وجاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: يا رسول الله إنَّا نكون بالبادية فتخرج من أحدنا الرُّويحة، فقال رسول الله ﷺ: إنَّ الله لا يستحيي من الحقِّ إذا فعل احدكم فليتوضأ ولا تأتوا النِّساء في أعاجزهنَّ وقال مرَّةً: في أدبارهنَّ[رواه أحمد 655، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده ضعيف" مسند أحمد655]. فكلمة: لا تأتوا النِّساء في أدبارهن، وكذلك الأحكام التي ذكرها ﷺ بمسألة الجماع والجنابة وغيرها؛ شيءٌ لابُدَّ من تبيينه للأمة، ولا يقال: إنَّ الحياء يقتضي ألَّا يذكر فلا مصلحة من ذكره أعظم ، بل ليس من الحياء ترك هذا.
لاحياء في تعليم الجاهل
وعن سعيد بن المسيب أنَّ أبا موسى قال لعائشة: إنِّي أُريد أن أسألك عن شيءٍ وأنا أستحيي منك، فقالت: "سل ولا تستحي فإنَّما أنا أمُّك" لأنَّ عائشة زوج النَّبيِّ ﷺ وهي أمُّ المؤمنين، فسألها عن الرَّجل يغشى ولا ينزل، يعني: يجامع أهله لكن بدون إنزال، فهل عليه غسلٌ أم لا؟ فقالت: عن النَّبيِّ ﷺ: إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل[رواه أحمد24699، وقال شعيب الأرنؤوط: "حديث صحيح"]. يعني: إذا حصل الإيلاج ما يمكن يمسُّ الختان الختان إلَّا إذا حصل الإيلاج فقد وجب الغسل، سواءً أنزل أو لم ينزل، فعلَّمته الحكم ولم تقل له: استح كما يقول بعض النَّاس فعنده شيءٌ عجيبٌ بين أصحابه، يقول الفحش وسائر الأشياء التي يستحيا منها، وإذا جاء عند شيخٍ يستحيي أن يسأل، أفي أمور الدِّين والأشياء التي ينبغي عليك أن تتعلَّمها تستحي؟ وأنت مع أصحابك ومع أهل السُّوء والفساد تقول الكلام الذي فيه سائر أنواع الفحش! فهذا من العجائب، فعند الحاجة عن السُّؤال عن أمرٍ من أمور الدِّين لا يستحيي الإنسان من السُّؤال، لكن ينبغي أن يكون السُّؤال مؤدباً؛ لأنَّ بعض النَّاس رُبَّما يفهم أنَّك إذا أردت أن تطرح سؤالاً على شيخ أو تسأل عالماً تأتي بأبشع الألفاظ وتقولها، وهذا لا يمكن ولا يكون، لماذا نجد في القرآن مثلاً: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ[البقرة:187]. والنَّبيُّ ﷺيقول: إذا أتى أحدكم أهله استعمل على الجماع لفظ فعل: أتى، لماذا؟ من باب عفَّة اللسان وعدم الفحش في القول، فإذا كان يمكن أن يؤدِّي المقصود بكلمةٍ لطيفةٍ فلا يستخدم أصرح منها أو أفحش في حالات الضَّرورة وفي حالات معيَّنة، كما استنطق النَّبيُّ ﷺ ماعزاً فقال له عبارةً صريحةً جداً؛ لأنَّ المسألة يعتمد عليها إزهاق روحه، ولذلك استفصل واستوضح منه استيضاحاً شديداً مفصَّلاً، لكن في الأحوال الأخرى ما فعل ذلك ﷺ، فلا يتعلَّم العلم: مستح ولا مستكبرٌ، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى فأمران يمنعان الإنسان من العلم بالأمور والأحكام الشَّرعية المهمَّة له: الاستكبار؛ يستكبر ويقول: فأنا دكتورٌ كيف أذهب وأسأل إمام مسجدٍ؟ أو يكون مدير عام أو يقول: أنا التَّاجر الفلاني وصاحب الملايين، فبعض النَّاس يحملهم الكبر على ترك السُّؤال، ويبقى يعيش في جهل ولا يسأل فهذا هو الاستكبار.
الأمر الثَّاني: المانع من التَّعلُّم: الاستحياء في غير موضعه، فبعض النَّاس من رواسب جاهليتهم رأوا أشياءً كالأفلام القذرة ثُمَّ يحتار في شرعية هذه الأفعال رُبَّما يفعلها دون سؤالٍ، فينبغي أن يكون السُّؤال حاصلاً ومؤدباً، كذلك عندما يأتي الجواب فيكون أيضاً بلسان اعفِّ، فهذه قاعدة: كُلُّما أمكن الاستغناء عن التَّصريح في قضايا ذكر العورات والجماع ونحو ذلك؛ فعلناه واكتفينا بالتَّلميح، فإذا كان لا بُدَّ من التَّصريح فبأحسن العبارات وألطف الأشياء، كأن يقال مثلاً: أيُّ فعلٍ يسبِّبُ دخول النَّجاسة إلى الجوف لا يجوز لك أن تفعله مع زوجتك، فلا يحتاج القضية إلى تصريح مخلٍّ لا من السَّائل ولا من المسؤول، وهذا أمرٌ الأمور المتعلِّقة بالاستمتاع ونحو ذلك جاء ذكرها في العبارات في النُّصوص الشَّرعية، كما قلنا ذكراً لطيفاً بعيداً عن الفحش، فإنَّ الله كنَّى عن أشياء مستبشعة بأشياء لطيفة، مثل: قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ[البقرة:223]. ما فصَّل فيها، وإنَّما شبَّه النِّساء بالمزرعة والرَّجل بالزَّارع، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم على أيِّ هيئةٍ وعلى أيِّ طريقةٍ، فالمهم أن تتقي أمرين: الحيض، والإتيان في الدُّبر، وإذا حصل للإنسان شيءٌ من الحياء أو أنَّه ما استطاع أنَّ يسأل فهل يبقى في جهلٍ؟ لا، وإنَّما يوكِّل غيره أن يسأل له، وهذا حصل على عهد النَّبيِّ ﷺ، فيقول عليُّ كنت رجلاً مذاءً فأمرت المقداد أن يسأل النَّبيَّ ﷺ، فعليُّ استحيا؛ لأنَّ ابنة النَّبيِّ ﷺ تحته، فكيف يسأل النَّبيَّ ﷺ؟ وكان يغتسل دائماً من المذي حتى تشقَّق ظهره، فهل بقي عليٌّ على جهله؟ الجواب: لا، وإنَّما وكَّل شخصاً آخر ليقوم بالمهمَّة، فيحصل على العلم ويتلافى الحرج، قال: فأمرت المقداد أن يسأل النَّبيَّ ﷺ فسأله، فقال: فيه الوضوء[رواه البخاري132]. يعني: الحكم: الوضوء، وقال ﷺ: توضأ واغسل ذكرك[رواه البخاري 266]. وفي رواية: فقلت لرجلٍ جالسٍ إلى جنبي: سله، فسأله.
من المواضع التي لايجوز فيها الحياء مطلقاً
ومن المواضع التي لا يجوز فيها الاستحياء أبداً: قضية الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإنَّ بعض النَّاس يستحيي من إنكار المنكر، والله تعالى لا يستحيي من الحقِّ، وليس الحياء موضعٌ إذا ضلَّ النَّاس أو حصل باطلٌ، ويدلُّ على ذلك قول النَّبيُّ ﷺ: لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ النَّاس أن يقول بحقٍّ إذا علمه [رواه الترمذي2191، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن التَّرمذي2191]. أو شهده أو سمعه، هذا نصٌّ مهمٌّ، فهيبة النَّاس لا تمنع الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، آثروا الحياء من الله على الحياء من النَّاس، ولذلك لا يمكن أن يُقال: كنت أريد أن أنكر المنكر فاستحييت من الموجودين، فهذه كارثةٌ وطامةٌ، أو كنت أُريد أن أنهاهم عن خطأ فاستحييت من الكلام لايجوز أبداً، وكان هناك مواقفٌ من العلماء وحتى بعضهم ليسوا من العلماء لكن في الحقِّ ما كانوا يستحيون، فمن هذه المواقف لما أحضر المأمون أصحابَ الجوهر فناظرهم على متاعٍ كان له، ثُمَّ نهض المأمون لبعض حاجته، ثُمَّ خرج ودخل عليهم مرَّةً أخرى في المجلس، فقام كُلُّ من كان في المجلس إلَّا ابن الجعد لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب ثُمَّ استخلاه، يعني: أخذه على جنبٍ، فقال له: يا شيخ ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك؟ قال: أجللت أميرَ المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النَّبيِّ ﷺ، قال وما هو؟ قال علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النَّبيُّ ﷺ: من أحبَّ أن يمثلَّ له النَّاس قياماً فليتبوأ مقعده من النَّار فأطرق المأمون متفكِّراً في الحديث، ثُمَّ رفع رأسه فقال: لا يشترى إلَّا من هذا الشَّيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار"[تاريخ الإسلام16/282]. قد يعقب الله بعض الأقوياء في الحقِّ حتى من نعيم الدُّنيا بسبب قوُّتهم، ولو ابتلوا فيكون في ابتلائهم أجراً لهم على صبرهم، وقال الإمام ابن مهدي رحمه الله: "ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان" يعني: الثَّوري "استحياءً وهيبةً منه"[سير أعلام النبلاء7/267]. ومع ذلك كان في مواقع الحميَّة والغضب لدين الله شديداً، وقد أنكر مرَّةً على المهدي الخليفة واشتدَّ في الإنكار حتى قال له وزير المهدي: "شطت تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ يعني: هذا أسلوبٌ شديدٌ "فقال له سفيان: اسكت ما أهلك فرعون إلا هامان" أنت وزيره فأنت ستهلكه "فلمَّا ولَّى سفيانٌ قال أبو عبيد الله: يا أمبر المؤمنين ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال: له اسكت ما بقي على وجه الأرض من يستحيا منه غير هذا"[الورع للإمام أحمد 1/95].
من صور نزع الحياء في عصرنا
من المشاهد العملية الموجودة في عصرنا هذا لقضية الحياء في غير موضعه: يأتي أحدهم يقول: وكنَّا في اجتماعٍ أو في سفرٍ أو في شركةٍ، أو ذهبنا إلى أقرباء فمدَّت المرأة يدها فاستحييت منها فصافحتها، فهذا الرَّجل الذي صافح المرأة الأجنبية بهذا العذر القبيح جداً ماذا حصل؟ لم يستحي من الله وصافح المرأة، فهل يجوز مصافحة المرأة الأجنبية؟ لم يستحي من الله إذاً، فلا يجوز أن يُقال في مثل هذا الحال استحيينا وصافحنا النِّساء، كما أنَّه لا يجوز أن يُقال: استحييت أسأل وفعلت عن جهلٍ ووقعت في الخطأ، كذلك ليس من مواضع الحياء الشَّرعية أن يحتاج الإنسان إلى أخذ كتابة على الدِّين وإشهاد أو توثيق، فيقول: استحييت أن أقول له: أعطني ورقةً، ولذلك النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجلٌ كانت تحته امرأةٌ سيئةُ الخلق فلم يطلِّقها، ورجلٌ كان له على رجلٍ مالٌ فلم يشهد عليه، ورجلٌ آتى سفيهاً ماله وقال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ[النساء:5].[رواه الحاكم3181، وصححه الألباني في الجامع الصغير 5386]. فهذا الحديث صحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي، وصحَّحه الألباني. فينبغي معرفة معناه: فمعناه: لا يقبل دعاؤهم في خصومهم، فالرَّجل الذي تحته امرأةٌ سيئةُ الخلق فلم يطلِّقها فهذا لا يُقبل دعاؤه عليها، وليس لا يقبل دعاؤه بالمغفرة والرَّحمة والجنَّة، وكذلك لو أنَّه أعطى أو أقرض رجلاً مالاً ولم يشهد وضاع المال فمكث يدعو على هذا الذي أخذ منه وضيَّعه، فيقال له: أنت المقصِّر؛ لأنَّك ما أخذت عليه إثبات فلم تُشهِد عليه، ثُمَّ تقول الآن أدعو عليه! فهذا الحديث مقيَّدٌ فالدُّعاء على خصومهم وليس أنَّهم لا يقبل لهم دعاءٌ أبداً، وهذا ممَّا يشكل على عدد من الشَّباب الذين يقرأون الأحاديث دون الرُّجوع إلى معانيها وشروحها، بل إنَّ الإمام الشافعي رحمه الله من فقهه لما أهداه مالكٌ مالاً عظيماً قال الشافعي لمالك: "إنَّك موروثٌ وأنا موروثٌ" يعني: يمكن أنك ستموت أو أموت أنا "فلا يثبت جميع ما وعدتني إلا تحت خاتمي ليجري ملكي عليه، فإن حضرني أجلي كان لورثتي دونك، وإن حضرك أجلُك كان لي دون ورثتك، فتبسَّم في وجهي وقال: أبيت إلَّا العلم، فقلت: لا يستعمل أحسن منه، قال الشافعي: فما بتُّ إلَّا وجميع ما وعدني به تحت خاتمي"[ثمرات الأوراق1/90]. إذاً: هذه مع أنَّها هديةٌ لكن قال: اكتب فلو صار شيءٌ بيني وبينك غداً فرُبَّما نازعني ورثثك، فقطعاً لدابر الكلام والمخاصمات اكتب لي، افرض أنَّه أهداك أرضاً مع أنَّها هديةٌ لكن قطعاً للخصومات في المستقبل اكتب ذلك ووثِّقه ولا تقل: استحييت مثلاً، فهذه حقوقٌ وكتابتها أحسن من المخاصمة فيما بعد، فإذاً: هناك استحياءٌ لا يجوز وهناك استحياءٌ مكروهٌ وهناك استحياءٌ لا محلَّ ولا وجه له، وينبغي أن نعلم أنَّ رأس الاستحياء هو الاستحياء من الله، فالاستحياء أنواعٌ: الاستحياء من الله، كما قال النَّبيُّ ﷺ لما سُئِل: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلَّا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت: يا رسول الله: إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينَّها أحدٌ فلا ترينَّها ولذلك تكلَّم العلماء في صلاة العُراة: افرض أنَّ أناساً قطع عليهم اللصوصُ الطَّريق وسلبوهم لباسهم، كانوا أو مساجين مثلاً: فجرِّدوا من ثيابهم، أو كما حدث في بعض البلدان ممَّا وقع على المسلمين من البلاء جُرِّدوا من ثيابهم، فكيف يصلُّون؟ قالوا: جماعة العراة إمامهم في وسطهم لا يتقدَّم؛ لأنَّ هذه أحفظ طريقةً للعورات، فيكون إمامهم وسطهم ويكونون صفَّاً واحداً، ثُمَّ قالوا: يا رسول الله إذا كان أحدُنا خالياً؟ فالله أحقُّ أن يستحيا منه[رواه أبو داود4019، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود4017]. فنزعُ الثِّياب له أحكامٌ وهناك أمورٌ لابُدَّ من نزع الثِّياب فيها، مثل: قضاء الحاجة، وإتيان الزَّوجة، إذ لا بُدَّ من نزع الثِّياب فيها، والأشياء التي لا داعي لنزع الثِّياب فيها فما هو الحكم؟ عدم نزع الثِّياب، لماذا؟ حياءً من الله؛ لأنَّه قال في الحديث: يا رسول الله إذا كان أحدُنا خالياً؟ قال: الله أحقّ أن يستحيا منه من النَّاس فإذاً لا يكشف الإنسان عورته ولو كان خالياً دون سببٍ حياءً من الله ، وقلنا: إنَّ الاستحياء أنواع: ورأسه الحياء من الله تعالى، والحياء من عباد الله الصَّالحين وحياءُ الولد من والديه، وحياء المرأة من زوجها، وحياء الجاهل من العالم، وحياء الصَّغير من الكبير، وحياء البكر من الإفصاح عن رغبتها، وهذا ذكرنا سابقا.
نكتفي بهذا القدر ونسأل الله أن يجعلنا من المتخلِّقين بالأخلاق الحسنة، ومن المحافظين عليها، وصلَّى الله عليه وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهٍ وصحبه أجمعين.