الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
معنى السِّرِّ
حديثنا في هذه الليلة أيُّها الإخوة عن خلقٍ من الأخلاق العظيمة المتعلِّقة بالصَّبر؛ ألا وهو: كتمان السِّرِّ، والسِّرُّ لغةً: ما يكتم في النَّفس، والجمع أسرارٌ وسرائرٌ، وأسر الشَّيء كتمه، ويقال: أظهره أيضاً فهو من الأضداد، والإسرار خلاف الإعلان، وتعلَّق هذا الخلق بالصَّبر تعلُّقاً واضحاً؛ وذلك أنَّ الصَّبر هو حبس النَّفس في اللغة، وكذلك فإنَّ كتمان السِّرِّ يعني: أن يحبس الإنسان نفسه ويصبرها على كتمان السِّرِّ وعدم إفشائه، فكتمان السِّر إذاً: هو ضبط النَّفس، ضدُّ دوافع الإفشاء، وهذا لا يتمُّ إلا بالصَّبر، وهذا الخلق أيضاً متعلِّقٌ بقوة الإرادة المستندة إلى صحَّة العقل وسلامة الرَّأي، وكتمان السِّرِّ قد يقصد به: أن تكتم سرَّك فلا تخبر به أحداً حتى لا ينتشر، وقد يقصد به: أنَّك إذا استودعت سِرَّاً من شخص آخر أن تكتمه ولا تفشيه، فإذاً: كتمانك لسرِّك ولسرِّ غيرك: هو المقصود في حديثنا هذا، وكلاهما داخلٌ فيه.
وجوب حفظ المسلم سرَّ أخيه المسلم
وقد وردت الأحاديث في إيجاب حفظ الإنسان لسرِّ أخيه المسلم وعدم إفشائه له، كما جاء في حديث المصطفى ﷺ فيما رواه جابر بن عبد الله عنه، قال: إذا حدَّث الرَّجل الحديث ثُمَّ التفت فهي أمانةٌ[رواه الترمذي1959، وأبو داود4870، وصححه الألباني في الصحيحة 1090]. رواه الترمذي رحمه الله، وقال: "هذا حديث حسن" وكذلك رواه أبو داود رحمه الله في كتاب الأدب من سننه، قال المباركفوري شارح التِّرمذي في التَّحفة: "قوله: إذا حدَّث الرَّجل أي: عند أحد الحديث أي: الذي يريد إخفاءه ثم التفتأي: يميناً وشمالاً احتياطاً فهي أمانة فهي أي: ذلك الحديث، أمانة أي: عند من حدَّثه حكمه حكم الأمانة يجب عليه كتمه، وقال ابن رسلان: "لأنَّ الْتَّفاته إعلامٌ لمن يحدِّثه أنَّه يخاف أن يسمَع حديثه أحدٌ وأنَّه قد خصَّه سرَّه، فكان الالتفات قائماً مقامَ اكتم هذا عني، ثُمَّ قال: اكتمه فهو عندك أمانة"[تحفة الأحوذي5/ 195]. وكذلك قال ﷺ: المجالس بالأمانة[رواه السيوطي في الجامع الصغير2575، وحسنه الألباني في الجامع الصغير4095]. أي: حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضريها على ما يقع فيها من قول أو فعل، فكأنَّ المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه أو يراه، وإذا حدَّث الرَّجل الحديث ثُم التفت فهي أمانة ولا شكَّ أنَّه إذا استودع إنسان سراً من أخيه ثُمَّ أفشاه فهي خيانة عكس الأمانة، وداخلةٌ في حديث النَّبيِّ ﷺ الذي رواه عنه أبو هريرة: آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[رواه البخاري33، ومسلم59]. رواه مسلم. فإذاً: إذا أفشي سِرَّ مسلمٍ فقد خانه الذي أفشاه، وقد جاء استثناء في حديث رواه أبو داود وفي إسناده رجلٌ مبهمٌ ولكن معناه صحيح وهو: ما رُوي من حديث جابر عنه ﷺ أنَّه قال: المجالس بالأمانة إلَّا ثلاثةٌ: مجالسٌ سفكُ دمٍ حرامٍ، أو فرجٌ حرامٌ، أو اقتطاعُ مال بغير حقٍّ [رواه أبو داود4871، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود4869]. فهذا يبيِّن أنَّه ليس كُلُّ ما يستكتمه الإنسان يجب أن يكتمه؛ بل إنَّه رُبَّما يكون هناك ما يجب إفشاؤه.
من أمثلة كتمان الصَّحابة للسِّرِّ
فاطمة بنت محمد وكتمان السِّر
ولنأخذ أمثلةً من كتمان الصَّحابة رضوان الله تعالى عنهم لأسرار النَّبيِّ ﷺ، وعلى رأس هؤلاء: فاطمة ابنته ﷺ، فعن مسروقٍ حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت: إنَّا كُنَّا أزواج النَّبيِّ ﷺ عنده جميعاً لم تغادر منَّا واحدةٌ -هذه رواية البخاري ورواية مسلم- كُنَّا أزواج النَّبيِّ ﷺ عنده لم يغادر منهنَّ واحدةٌ، فأقبلت فاطمة عليها السَّلام تمشي لا والله لا تخفى مشيتها من مشية رسول الله ﷺ" في رواية مسلم: "فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله ﷺ شيئاً، فلمَّا رآها رحبَّ قال: مرحبًا بابنتي ثُمَّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثُمَّ سارَّها فبكت بكاءً شديداً، فلمَّا رأى حزنها سارَّها الثَّانية فإذا هي تضحك، فقلت لها: أنا من بين نسائه" وكانت عائشة أجرأ نساء النَّبيِّ ﷺ"خصَّك رسول الله ﷺ بالسِّرِّ من بيننا، ثُمَّ أنت تبكين فلمَّا قام رسول الله ﷺ سألتها عمَّا سارَّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله ﷺ سرَّه، فلمَّا تُوفِّي قلت لها عزمت عليك بما لي عليك من الحقِّ" وحقُّ عائشة على فاطمة أنَّها أمُّ المؤمنين وزوجة أبيها "عزمت عليك ما لي عليك من الحقِّ لما أخبرتني، قالت: أمَّا الآن فنعم" أمَّا بعد وفاة النَّبيِّ ﷺ فنعم معناه: السِّرُّ متعلِّق بحياته وبعد وفاته، يمكن لها أن تفشيه هذا فهم فاطمة رضي الله عنها "فأخبرتني قالت: أمَّا حين سارَّني بالأمر الأول فإنَّه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كُلَّ سنةٍ مرَّةً وإنَّه قد عارضني به العام مرَّتين، ولا أرى الأجل إلَّا قد اقترب أي: أن جبريل هذا العام راجع القرآن معي مرَّتين ما معناه لا أرى إلَّا الأجل قد اقترب فاتقي الله واصبري فإنَّي نعم السَّلف أنا لك قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلمَّا رأى جزعي سارَّني الثَّانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكون سيدة المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمَّة في رواية مسلم فضحكت ضحكي الذي رأيت"[رواه البخاري5928، مسلم2450]. قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه أنَّه لا ينبغي إفشاء السِّرِّ إذا كانت فيه مضرَّة على المسرِّ؛ لأنَّ فاطمة لو أخبرتهنَّ لحزنَّ لذلك حزناً شديداً"[فتح الباري11/ 80]. لا شكَّ أنَّه لو أخبرتهنَّ ذلك الوقت قبل وفاته ﷺ أنَّ الأجل قريبٌ وقد حان سيكون حزناً عامَّاً شديداً، فيكون في ذلك ضررٌ فلذلك طلب منها ﷺ أن تكتمه، وأن تتهيأ لحدوثه.
أنس بن مالك وكتمان السِّر
ومن الصَّحابة -أيضاً- الذين كانوا من أصحاب سرِّ رسول الله ﷺ: أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فقد جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: أسرَّ إليَّ النَّبيُّ ﷺ سِرِّاً فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أمُّ سليم فما أخبرتها به"[رواه البخاري5931]. وفي رواية مسلم قال أنس: "أتى عليَّ رسول الله ﷺ وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلَّم علينا فبعثني إلى حاجةٍ فأبطأت على أمِّي، فلمَّا جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله ﷺ لحاجةٍ، قالت ما حاجته؟ قلت: إنَّها سرٌّ" الولد إذا فهم يكتم حتى عن أمِّه فما هو موقف الأمُّ الواعية في هذه الحالة؟ هل تقول له: أنا أمُّك ولا بدّ أن تخبرني ولي عليك حقٌّ ولا تخبأ عني؟ كلا هو سرٌّ لا يجوز إفشاؤه، ثُمَّ هو سرٌّ من النَّبيِّ ﷺ، فكان موقف الأم أن قالت: لا تحدثنَّ بسرِّ رسول الله ﷺ أحدًا، قال أنس: والله لو حدَّثت به أحداً لحدثتك يا ثابت"[رواه مسلم2482]. لأنَّ ثابت هو الذي يرويه عن أنس. وفي رواية أحمد قال أنس: "كنت ألعب مع الغلمان فأتانا رسول الله ﷺ فسلَّم وأخذ بيدي فبعثني في حاجةٍ وقعد في ظلِّ حائطٍ أو جدارٍ حتى رجعت إليه، فبلَّغت الرِّسالة التي بعثني فيها، فلمَّا أتيت أمَّ سليمٍ قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني النَّبيُّ ﷺ في حاجةٍ له، قالت: وما هي؟ قلت: سرٌّ، قالت: احفظ على رسول الله ﷺ سرَّه، قال: فما حدَّثت به أحداً بعد"[رواه أحمد12079]. وفي رواية أيضاً لأحمد: عن قول أمِّه -أم أنس- قالت: أي بُنيَّ: فاكتم على رسول الله ﷺ سرَّه"[رواه أحمد12807]. وروى ثابتٌ عن أنس قال: "خدمت رسول الله ﷺ يوماً حتى إذا رأيت أنِّي قد فرغت من خدمته قلت: يقيل رسول الله ﷺ" يأخذ الآن في القيلولة ففرصةٌ لي أن أذهب وأرُّوح عن نفسي "فخرجت إلى صبيان يلعبون، قال: فجاء رسول الله ﷺ فسلَّم على الصِّبيان وهم يلعبون فدعاني رسول الله ﷺ فبعثني إلى حاجةٍ له فذهبت فيها وجلس رسول الله ﷺ في فيء حتى أتيته واحتبست عن أمي عن الإتيان الذي كنت آتيها فيها" حسب الموعد المحدَّد كُلَّ يومٍ فهي متعوِّدة أنَّ ولدها يأتيها فيه "فلمَّا أتيتها قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله ﷺ في حاجة له، قالت: وما هي؟ قلت هو سرٌّ لرسول الله ﷺ، قالت: فاحفظ على رسول الله ﷺ سرَّه، قال: ثابت قال لي أنس: لو حدَّثت به أحداً من النَّاس لحدَّثتك به يا ثابت"[رواه أحمد13045]. وذلك من عظم مكانة ثابت عند أنس؛ لأنَّه من أخصُّ طلابه وأفضلهم، وفي رواية لأحمد أيضاً: أنَّ ثابت قال يا أبا حمزة أتحفظ تلك الحاجة اليوم أو تذكرها بعد عشرات السَّنين؟ قال: أي والله وإنِّي لأذكرها، ولو كنت محدِّثاً بها أحداً من النَّاس لحدَّثتك بها يا ثابت"[رواه أحمد 13404]. ولذلك قال أنس : "إنَّ للنَّبيِّ ﷺ عندي سراً لا أخبر به أحداً أبداً حتى ألقاه"[رواه أحمد 14011]. رواه أحمد. وهذا السِّرُّ كما توقَّع بعض الشُّرَّاح قال ابن حجر في الفتح: "قال بعض العلماء كأنَّ هذا يختصُّ بنساء النَّبيِّ ﷺ، وإلَّا فلو كان من العلم ما وسع أنساً كتمانه"[فتح الباري11/82].
إذاً: هذا ليس من العلم قطعاً؛ لأنَّ كتم العلم لا يجوز، فسيكون هذا من الأسرار التي تختصُّ بأهل النَّبيِّ ﷺ، أيضاً من الصحابة الذين كانوا مشهورين بحفظ سرِّ النَّبيِّ ﷺ: حذيفة، ولذلك استكتمه أسماء جماعةً من المنافقين، وكذلك ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أذن له ﷺأن يسمع سواده حتى ينهاه، وكذلك فقد جاء في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، قال: أردفني رسول الله ﷺ خلفه ذات يومٍ فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أُحدِّث به أحداً من النَّاس، ثُمَّ ذكر قصَّة الجمل وفيها: أنَّ النَّبيَّ ﷺ دخل حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ، فلمَّا رأى النَّبيَّ ﷺ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النَّبيُّ ﷺ فمسح ذفراه فسكت، فقال ﷺ: من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إيَّاها؟ فإنَّه شكى إليَّ أنَّك تجيعه وتدئبه [رواه أبو داود2551، وصححه الألباني في صحيح أبي داود2297]. يعني: تواصل عليه العمل حتى أرهقته جداً، وهذا من المعجزات النَّبوية: أنَّ الجمل كلَّم النَّبيَّ ﷺ، وهذا من القصص التي من المستحسن أن تُذكر للأطفال وتقصُّ عليهم، فإذاً: هناك عددٌ من الصَّحابة أسرَّ إليهم النَّبيُّ ﷺ بأسرارٍ وكتموها، وكانوا نعم الصُّحبة للنَّبيِّ ﷺ؛ اصطفاهم الله على العالمين، وكان من اصطفائهم لأنَّ الله علم أنَّ فيهم من الخصائص والمزايا ما لا يوجد في غيرهم.
من خصائص ومزايا الصحابة: أنَّهم كتموا أسراره ﷺ
ومن تلك الخصائص والمزايا: أنَّهم كتموا أسراره ﷺ وحفظوها ولم يفشوها، وحصلت لأمِّ سلمة قصَّةٌ خشيت فيها أن تكون أفشت على النَّبيِّ ﷺ سرَّه، وذلك فيما رواه أحمد قال: دخل ناسٌ من أصحاب رسول الله ﷺ على أمِّ سلمة، فقالوا: يا أم المؤمنين حديثنا عن سرِّ رسول الله ﷺ؟ قالت: كان سرُّه وعلانيته سواء" فهي ما أعطتهم أسراراً، لكن قالت لهم: كان سرُّه وعلانيته سواء، ثُمَّ ندمت فقالت أفشيت سرَّ رسول الله ﷺ، قالت: فلما دخل أخبرته فقال: أحسنت [رواه أحمد 26679، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده جيد"]. يعني: أنَّها لم تفشي له سرَّاً، وإنَّما الذي قالت لا يضرُّه ﷺ، وينفع غيره: وهي أنَّه لا ازدواجية بين الظَّاهر أمام النَّاس والباطن في البيت الكُلُّ سواء، وأنَّه ﷺ لم يكن ذا وجهين، وأنَّه ﷺ كان كما يبدو للنَّاس يكون في بيته.
أنواع الأسرار
نريد أن نعرف الآن ما هي أنواع الأسرار؟ تنقسم الأسرار إلى ثلاثة أنواع:
أولاً: ما أمر الشَّرع بكتمانه، ثانياً: ما طلب صاحبه كتمانه، ثالثاً: ما من شأنه الكتمان واطلع عليه بسبب الخُلطة أو المهنة.
ما أمر الشَّرع بكتمانه
فأمَّا النَّوع الأول: وهو ما أمر الشَّرع بكتمانه، يعني: حتى لو أن صاحبه لم يستكتمك إيَّاه، فهناك أسرارٌ يجب أن تحفظ حتى لو طلب منك أحدٌ أن تحفظها، فمثلاً: ما يجري بين الزَّوجين حال الوقاع، ولو ما طلبت الزَّوجة من زوجها أن يكتم، ولو ما طلب الزَّوج من زوجته أن تكتم؛ فإنَّه لا يجوز للمرأة ولا يجوز للرَّجل أن يفشي كُلُّ منهما لطرف ثالثٍ بما يدور بينه وبين صاحبه، وقد ورد في ذلك حديثٌ هو في صحيح مسلم ورواه أبو داود وأحمد أيضاً، لكن مدار الأسانيد كُلُّها على رجل يُقال له عمر بن حمزة العمري: حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال: رسول الله ﷺ: إن من أشرِّ النَّاس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرَّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثُمَّ ينشر سرَّها[رواه مسلم1437، وأبو داود4872، وأحمد11673، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده على شرط مسلم" مسند أحمد11673]. طُرق روايات مسلم وأحمد وأبي داود تلتقي عند عمر بن حمزة العمري وهو ضعيف، ولكن هذا الحديث له شواهدٌ بمعناه، ومن ذلك: حديث أسماء بنت يزيد أنَّها كانت عند رسول الله ﷺ والرِّجال والنِّساء قعودٌ عنده، فقال ﷺ في موعظةٍ يعظ بها الرِّجال والنِّساء: لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأةً تخبر بما فعلت مع زوجها؟ فأرم القوم يعني: سكتوا، فقلت القائلة أسماء بنت يزيد، وفي رواية: فتطاولت فتاةٌ ليسمع صوتها النَّبيُّ ﷺ، فأرم القوم فقلت: "أي والله يا رسول الله إنهنَّ ليقلن وإنَّهم ليفعلون" يعني: هذا موجودٌ في المجتمع، فهناك أناسٌ يتحدَّثون بأسرار الاستمتاع الزَّوجي، قال ﷺ: فلا تفعلوا نهى عنه أولاً، ثُمَّ ضرب له مثلاً قبيحاً جداً لينفِّر منه لا تفعلوا، فإنَّما ذلك مثل الشِّيطان لقي شيطانةً في طريقٍ فغشيها والنَّاس ينظرون [رواه أحمد 27624، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة12/ 715]. إذاً: قبيح ومحرَّم جدَّاً، وحرام أن يقول الرَّجلُ بما يفعله مع زوجته أو المرأة ما تفعله مع زوجها من تفاصيل الوقاع، ووصف ما يجري بينهما على الفراش، أمَّا مجرَّد ذكر هل حدث وقاع أم لا فإنَّ العلماء قالوا إنَّه مكروه؛ لأنَّه من خوارم المروءة إلَّا إذا دعت إلى ذكره حاجةٌ وترتَّبت عليه فائدة؛ فيكون مباحاً كما لو ادَّعت االمرأة على زوجها بأنَّه عنين أو معرض عنها، أو أنَّه عاجز عن وطئها عند القاضي مثلاً، فإنَّه يجوز أن يذكر ذلك كما فعل الصَّحابي وأخبر أنَّ التي ادَّعت وقالت ما معه إلا هدبة الثَّوب أنَّها تكذب، وقال يا رسول الله: "إنِّي لأنفضها نفض الأديم"[رواه البخاري5487]. وأخبر النَّبيَّ ﷺ أنَّه يأتيها، فهذا كان لحاجة الشَّكوى والرَّد على الدَّعوى عند القاضي يترتب عليه أحكام التَّفريق بين الزَّوجين؛ فهنا سيكون الكلام بهذه الحدود لهذه المصلحة فأمره واضحٌ، كذلك لما أراد ﷺ أن يُبيِّن لسائل أمراً قال له: إني أفعل ذلك أنا وهذه ثُمَّ نغتسل، ولما أراد أن يدعو لأبي طلحة بعدما مات ولده قال له: أعرَّستم الليلة؟ أي: هل أتيت أهلك؟ قال: نعم، فدعا له بأن يبارك له في تلك الوطأة التي وطئها أهله وفعلاً خرج منه ولد من هذا الوطء سُمِّي بعبد الله وخرج من عبد الله رجلٌ كثيرٌ قاتلوا في سبيل الله من تلك الدَّعوة، ولو اطِّلع إنسانٌ على سرٍّ عند جاره أو صاحبه ورُبَّما لا يشعر هذا الجار والصَّاحب أو لم يرى الدَّافع لكي يؤكِّد على صاحبه حفظ هذا السَّر؛ فإنَّه يجب عليه أن يحفظه، ثُمَّ إنَّ قوله ﷺ: إذا حدَّث الرَّجل بالحديث ثُمَّ التفت فهي أمانةٌ يعني: حتى لو ما طلب بل بمجرَّد الالتفات يميناً وشمالاً احتياطًا حتى يتأكَّد أنَّه لا أحد يسمع، فمجرَّد الالتفات معناه صار الحديث أمانةً عندك، ولو ما قال لك احفظه أو اكتمه، ولو ما قال لك أحرِّج عليك ألا تفشيه؛ فكما قال الحسن رحمه الله: " إنَّ من الخيانة أن تُحدِّث بسرِّ أخيك"[الصمت وآداب اللسان404]. فالإنسان قد يطَّلع على أسرارٍ للنَّاس من عوراتهم أو ما شابه ذلك؛ فلا يجوز له أن يفشيها؛ لأنَّ الشَّارع تلقائيا يؤكِّد على حفظها، حتى لو ما طلب صاحبها.
ما طلب صاحبُه كتمانه
النَّوع الثَّاني: ما طلب صاحبه كتمانه، أي: استكتمك إيَّاه وائتمنك عليه؛ فلا يجوز لك بثُّه ولا إفشاؤه للغير، حتى أخصُّ أصدقاء صاحب السِّر، ولا تقل هذا صديقُ صاحبِ السِّرِّ فلا بأس أن أقول له؛ لأنَّه من المؤكَّد لا يغضب أو لا يرى بأساً في أن أقول لهذا الصَّاحب، فإنَّه لا يجوز لك أن تفعل ذلك ما دام قد استكتمك إيَّاه ولا تنشره لأحد إلَّا بإذنه، ولا يجوز كشف شيءٍ منه ولو بعد القطيعة؛ فإنَّ ذلك من لُؤم الطَّبع وخبث الباطن، هذا إذا التزمت بالكتمان -كما مرَّ معنا في الأحاديث السَّابقة- ووافقت على الكتمان أو أنَّك سكتَّ رضا منك بطلبه موافقة منك على طلبه لما قال اكتم أو التفت يميناً وشمالاً ثُمَّ أخبرك به، إذا سكتَّ أنت فمعناه أنَّك موافقٌ على أنَّ هذا سرٌّ، وأنَّه أمانةٌ عندك، لكن إذا لم تلتزم بالكتمان، كأن يقول: أريد أن أُخبرك بسرٍّ فلا تفشه، فقلت له: أنا لا أتعهَّد بذلك، فيجوز لك أن تخبر به لمصلحةٍ: استدل بعضهم على هذا المسألة بحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قالت: كنت في المسجد فرأيت النَّبيَّ ﷺ، فقال: تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سل رسول الله ﷺ أيجزي عنِّي أن أُنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصَّدقة؟ أي: هل يجوز أن أعطيك من الزَّكاة وأنت زوجي؟ فقال: سلي أنت رسول الله ﷺ، يعني: تحرج ابن مسعود أن يذهب ويقول للنَّبيِّ ﷺ يجوز أن تعطيني من زكاتها! فقال: سلي أنت، قالت: فانطلقت إلى النَّبيِّ ﷺ فوجدت امرأةً من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، فمرَّ علينا بلال فقلنا: سل النَّبيَّ ﷺ: أيجزي عنِّي أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلن لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال: من هما المفتي لا بُدَّ أن يعرف ظروف المستفتي حتى يجيب: هل هذه زوجها فقيرٌ أو لا؟ إنَّما جاء سؤالٌ عامٌ: هل يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من زكاتها؟ فالنَّبيُّ ﷺ قال: من هما السائلتانفقال بلال: زينب، قال النَّبيُّ ﷺ: أيُّ الزَّيانب لأنَّ زينب هذا ليس جواباً كافياً، قال: امرأة عبد الله، فقال النَّبيُّ ﷺ: نعم هذا جواب الفتيا، ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصَّدقة[رواه البخاري1397]. فالآن المرأتان قالتا لبلال: لا تخبره من نحن، وبلال أخبر عنهنَّ، فما وجه إخباره؟ قال ابن حجر ناقلاً عن القرطبي: "ليس إخبار باسم المرأتين بعد أن استكتمتاه بإذاعة سرٍّ ولا كشف أمانة لوجهين إحدهما: أنَّهما لم تلزماه بذلك، وإنَّما علم أنَّهما رأتا ألَّا ضرورة تحوج إلى كتمانها" فالاحتمال الأول: أن يكون بلالٌ فهم أنَّه ليس بإلزامٍ؛ يعني: لو كتمت فهو أحسن، لكن ليس بإلزام "ثانيهما: أنَّه أخبر بذلك جواباً لسؤال النَّبيِّ ﷺ لكون إجابته أوجب من التَّمسك بما أمرتاه به من الكتمان"[فتح الباري3/330-331].
إذاً: الجواب الثَّاني: نفترض أن الطَّلب كان كتمان وطلب واضح تعارض مع هذا أمر النَّبيِّ ﷺ: أيُّهما اوجب عند بلال: أن يكتم سرَّ المرأتين؟ أو يجيب النَّبيَّ ﷺ في سؤاله؟ فكانت إجابته ﷺأوجب، ولذلك فالمسألة فيها أولويات فلا شكَّ أن حفظ هذا السَّرِّ من الأولويات، لكن لمَّا صار سؤال النَّبيِّ ﷺ صار مقدَّماً، ولذلك قال ابن مفلح في الآداب الشَّرعية رحمه الله ناقلاً عن شرح مسلم: "أيضاً جوابه ﷺ واجب ولا يقدِّم عليه غيره وإذا تعارضت المصالح بُدئ بأهمِّها"[الآداب الشرعية2/258]. قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا كُلُّه بناءً على أنَّه التزمٌ لهما بذلك" هذا الكلام كُلُّه بناءً على أن بلال التزم لهما بعدم إفشاء الاسم "ويحتمل أن تكونا سألتاه" أي: ولم يلتزم لهما بالكتمان "ولا يجب إسعاف كُلِّ سائل"[فتح الباري3/331].
إذاً: إذا لم تلتزم له قبل أن يخبرك بالسِّرِّ وقال: أُريد أن أخبرك بالسِّرِّ فتكتمه عليَّ، قلت: لا ألتزم لك بذلك، فأخبرك به وأنت قد قلت له إنك تلتزم له بذلك، ومع ذلك أخبر به فمعناه أنَّه يجوز لك أن تخبر به؛ لأنَّه أخبرك به وأنت لم تلتزم له، وهو يعلم قبل الإخبار أنَّك لن تلتزم له.
متى يكون إفشاء السِّرِّ من الغيبة؟ متى يجتمع إفشاء السِّر والغيبة إذا كان السِّرُّ الذي تفشيه عنه في غيبته مكروهاً، كما قال ﷺ: الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره[رواه مسلم 2589]. فإذا كان السِّرُّ هذا إذا أفشيته كان في حدِّ ذاته أمراً مكروهاً في حقِّ هذا الشَّخص الذي استكتمك، فاجتمع في هذه الحالة: الغيبة وإفشاء السِّرِّ.
ما اطَّلع عليه صاحبه بمقتضى المهنة والوظيفة والموقع
النَّوع الثَّالث من الأسرار: ما اطَّلع عليه صاحبه بمقتضى المهنة والوظيفة والموقع، وهذه قضية مهمَّة؛ لأنَّ هذه يقع فيها حالاتٌ وأشياءٌ كثيرةٌ دون أن ينتبه الشَّخص، أو أحياناً يتساهل، مثال: الطَّبيب، والمفتي، وأمين السِّرِّ في الشَّركة أو المؤسسة، فالطَّبيب يأتيه أشخاصٌ يتعالجون عنده وكثيراً ما يذكر المريض سِرَّاً من الأسرار، بل يكاد يكون هذا غالب علاقات الأطباء بالمرضى، فالعلاقات مبنيةٌ على إفشاء الأسرار، مثل: الأطباء النِّفسانيين وغيرهم، وقد يكون المرض ناشئاً عن معصية، وقد يكون طبيب نساء وولادة، أو يكون شيءٌ له علاقةٌ بأمور يخبر بها الرَّجلُ الطَّبيبَ عن علاقته بأهله فيما يتعلَّق بالفراش، وإطِّلاع الطَّبيب على عورات المرضى عند الكشف عليهم فهذا سِرٌّ بحدِّ ذاته، ورُبَّما يتساهل بعض الأطباء في الإخبار عن أوصاف لبعض المرضى الذين يطَّلعون عليهم، أو كذلك الذين يجرون عملياتٍ جراحية في مناطق حسَّاسة من الجسد، وقد يتساهل بعض الأطباء بذكر اشخاصٍ بأخبارهم أخبار معينة عن أشخاص أخبروهم بها، ويقع كذلك لبعض طلبة العلم رُبَّما يكون المفتي عنده نوعٌ من الصِّيانة، لكن الآن مع قلَّة المفتين والعلماء يتبوأ شيئاً من مكانتهم، بعض طلبة العلم ممن يكون في إمامة مسجدٍ أو إلقاء دروسٍ ونحو ذلك، هذا التَّصدِّي أو الظُّهور للعامَّة يدفع العامَّة إلى نشدان جواب مسألةٍ عند هذا الشَّخص، فإذا أرادوا معرفة جواب مسألة التَّفتوا حوله فيرونه، هذا هو الظَّاهر وهذا هو المقدَّم، وهذا هو الذي يخطب بهم أو يلقي الدُّروس، أو أنَّه يتصدَّى للإجابة عن الأسئلة، فماذا سيكون الواقع؟ أنَّهم سيبادرونه بالسُّؤال قد يدري عن الجواب وقد لا يدري، لكن في كُلِّ الحالات: أسئلة النَّاس تحوي معلوماتٍ وبعض السَّائلين قد يُصرِّح باسمه، وقد يأتي هو شخصيَّاً ويسأل، أو أنَّه يذكر أوصافاً أو يتبيَّن لطالب العلم أو للمسؤول من هذا الشَّخص أو من هو الطَّرف الآخر الذي يسأل عن حكمٍ متعلِّقٍ به، هذه أسرارٌ لا يجوز كشفها؛ لأنَّه لما جاءك مستفتياً وسائلاً إنَّما ألقى إليك بأسراره، وفتح لك ما في صدره، فلا يجوز نقل هذه الأشياء وفضح أسراره إلى غيره؛ لأنَّه بمجرَّد ما جاء وسأل صار سرَّاً، وبعض السَّائلين قد يقول: أرجو أن تعتبر هذا السُّؤال سرَّاً ولا تذكره، وبعضهم يقول: ولا تذكره في خطبةٍ ولا في درسٍ ولا في شيءٍ؛ لأنَّه يرى أنَّه يتضرَّر من معرفته، وكأنَّه يقول لك: وحتى لو وجدت مصلحةً في أن تخبر للعظة والعبرة وكذا؛ فليس من قصتي أنا، إنَّما أنا قصتي هذه سرٌّ، فيجب احترام ذلك وصيانة السِّرِّ وعدم إفشائه، وهذا مقامٌ يطول الكلام فيه؛ لأنَّه شيءٌ حسَّاسٌ ومتعلِّقٌ بأسرار النَّاس وواقعي يقع كثيراً، ولا بُدَّ من الانتباه له.
من أمثلة أسرار الوظائف
ننتقل إلى مثالٍ أخر: بعض الموظَّفين في بعض الشَّركات كالمحاسب يكون عنده أسرار الشَّركة: الأرباح، الخسائر، المصروفات إلى آخره، وتسريب بعض هذه الأرقام أو الأسرار الذَّاتية للشركة رُبَّما أضرُّ بالشَّركة أو بصاحبها؛ فلا يجوز للإنسان إذا كان قائماً على شيءٍ من أسرار الشَّركة أن يفشي ذلك، أو أن يخبر بأرقام أو معلومات قد يؤدِّي هذا إلى نقص في حقِّ صاحب الشَّركة أو سمعته أو انتاجية شركته ونحو ذلك، ولذلك هناك الآن في العالم شيءٌ اسمه: التَّجسُّس الصِّناعي لسرقة الأسرار الصِّناعية حيث يبذلون له أموالاً طائلةً، شركات تتجسَّس على شركاتٍ لاستكشاف ما عندها من المخترعات التي أنفقت عليها أموالاً طائلةً في مختبرات البحث لديها، ويدفعون لذلك الملايين ويرشون أشخاصاً داخل الشَّركات لسحب المعلومات منهم في الميزانيات، أو ما يتعلَّق بالأسرار: الإنتاج أو التَّصنيع ونحو ذلك، فكُلُّ موظَّفٍ موجودٌ في الشَّركة أو في المحلِّ فهو مؤتمنٌ تلقائياً على أسرار صاحب المحل أو صاحب الشَّركة، ولا يجوز له أن يفشيها ولا أن يخبر بها، إلَّا إذا كان في كتمها مضرَّة للمسلمين.
متى يجوز إفشاء الاسرار ومتى لا يجوز
وتكلَّم العلماء في موضوع الأسرار أو كتمان الأسرار في قضية من رأى شخصاً في حالٍ لو شهد عليه بها أُقيم عليه الحدُّ: هل الأفضل أن يبلِّغ أو يكتم هذا ويعتبره سرَّاً؟ ففرَّقوا بين المجاهر وغير المجاهر، وقالوا: غير المجاهر تكتم أمره ولا تبلِّغ به القاضي ولا تنقله ولا تخبر به، بل تنصح الرَّجل، وأمَّا إذا كان مجاهراً فـ كُلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين[رواه البخاري5721]. هذا رجلُ سوءٍ يشيع المنكر في النَّاس وفي المجتمع، فعند ذلك يبلِّغ عنه، كأن يكون شخصٌ يُروِّج مخدراتٍ، أو عصابة دعارة اتخذ من شقة له أو محلٍ مكاناً يؤوي الفسقة والفاسقات ويأخذ الأجور والدَّلالة على الشَّرِّ والمجون والحرام؛ فهذا لا يُقال صاحبُ سرٍ يجب كتمانه، بل هذا إنسانٌ فاجرٌ مفسدٌ، إذاً: المجاهر والمفسد في المجتمع لا بُدَّ من فضحهما، أمَّا العاصي العادي إذا اطَّلعنا على معصيته لا نهتك ستره.
ولو أتينا إلى قضية أخرى: وهي مسألة الذي يُلِّح عليك لتخبره بسرِّ شخصٍ معيَّنٍ: ماذا تفعل في هذه الحالة؟ ففي هذه الحالة أنت عليك أن تكتم ولا تخبر، وبعض النَّاس قيل لهم في هذا قال أكتم المخبر وأحلف للمستخبر، لكن نحن لا نريد أن يصل الحال بنا إلى أن يحلف بالكذب، ولذلك قال العلماء: "تستعمل المعاريض لتُجنِّب إفشاء السِّرِّ، والمعاريض: هي التَّورية، وقد قال ﷺ: إنَّ في المعاريض لمندوحةٌ عن الكذب[رواه البيهقي 20632، وصححه الألباني في الأدب المفرد موقوفاً على عمران بن الحصين662]. وقال الذَّهبي: "داود تركه أبو داود"[فيض القدير شرح الجامع الصغير2333]. يعني: أنَّ في إسناده رجلٌ يُقال له داود. المعاريض: فيها تفريجٌ وفرصةٌ لتجنُّب الكذب، وفي المعاريض ما يكفي الرَّجل عن الكذب، كما قال عمر ورُوي ذلك عن ابن عباس[إحياء علوم الدين3/139].
فإذاً لو استخبرك عن شيءٍ هو سرٌّ لصاحبك فأنت تكتم ذلك ولا تخبر به وتستخدم التَّورية؛ لعدم الإفشاء ولعدم الكذب، كما لو قلت مثلاً: لا أذكر، فهو يفهم أنَّك لا تتذَّكر وأنت تقصد لا تذكر الآن: نافيةٌ لا أذكر من أمره ولا أخبر ونحو ذلك، وهذا بابٌ واسعٌ ذكر العلماء فيه عدد من الأشياء، قال ابن حجر رحمه الله مبيناً بعض الحالات التي يكون فيها الإفشاء وعدم الإفشاء: "قال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أنَّ السِّرَّ لا يُباح به إذا كان على صاحبه منه مضرَّة" إذا كان الذي حدَّثك بالسِّرِّ واستكتمك إيَّاه عليه مضرَّةٌ لو حدَّثت بسِّرَّه قطعاً وبالتَّأكيد فلا يجوز أن تخبر به "وأكثرهم يقول: أنَّه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلَّا أن يكون عليه فيه غضاضة" فابن بطَّال يقول: أكثر أهل العلم يقولون إذا مات تصير المسألة أهون، لكن لو كان السِّرُّ الذي تقوله عليه فيه غضاضةٌ بحيث أنَّ النَّاس رُبَّما يسبُّونه أو يذكرونه بسوءٍ بعد موته فلا تخبره، قال ابن حجر رحمه الله مبيَّناً: "قلت الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يُباح وقد يستحبُّ ذكره، ولو كرهه صاحب السِّرِّ كأن يكون فيه تزكيةٌ له من كرامةٍ أو منقبةٍ أو نحو ذلك"[فتح الباري11/82].
أمثلة لجواز إفشاء السِّرِّ
ولنأخذ مثالاً: عن مطرِّف بن عبد الله قال: "بعث إلىَّ عمران بن حصين في مرضه" كأن عمران خشي أن يموت في هذا المرض "فأتيته فقال لي: إنِّي كنت أحدِّثك بأحاديث لعلَّ الله تبارك وتعالى ينفعك بها بعدي، واعلم أنَّه كان يسلِّم عليَّ" يعني: تُسلِّم عليه الملائكة، وهذا منقبةٌ واضحةٌ لكن الصَّحابةلم يكونوا بالذين يريدون الفخر، وأن يخبروا بكراماتهم عند النَّاس، بل كانوا أقرب إلى الإخلاص من أيِّ جيلٍ آخر من النَّاس، ولذلك عمران كتم هذا فلما مرض خشي أن يموت في هذا المرض، فقال لمطرِّف وهو من أخصِّ أصحابه: أنا حدَّثتك بأحاديث واعلم أنَّه كان يُسلِّم عليّ، أي: أسمع سلام الملائكة وهي تسلِّم عليَّ، "فإن عشتُ فاكتم عليَّ ولا تخبر، وإن متُّ فحدِّث إن شئت" لأنَّ الإنسان إذا مات فالذِّكر الحسن ينفعه، فقد قال إبراهيم: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ[الشعراء:84]. لأنَّ الإنسان إذا صارت له مناقبٌ حمده النَّاس عليهها ودعوا له بالخير واقتدوا به، أليس كذلك؟ فالكرامات والمناقب كان السَّلف يخفونها، ولكنَّهم رُبَّما قالوا لبعض تلامذتهم أو اللصيقين بهم وأقرب النَّاس: إليهم اكتم هذا، وبعضهم كعبد الله بن المبارك حصلت له كراماتٌ في الجهاد، وقد حصل أنَّه غطَّى نفسه لكي لا يُعرف واستحلف من عرف شيئاً كشجاعته أو إقدامه ألَّا يذكره إلَّا بعد موته لما خشية على إخلاصه، فيقول عمران: "وإن متُّ فحدِّث إن شئت"[رواه أحمد19854]. وفي رواية: وذكر له حديثين قال: "لا تحدث بهما حتى أموت"[رواه أحمد19842]. إذاً يقول ابن حجر رحمه الله: "الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السِّرِّ" مثل الكرامات والمناقب الكرامات، والمناقب لو صاحب السِّرِّ استكتمك إيَّاها وقال لاتخبر بها لأجل الإخلاص فإذا مات انتفى المحظور، فلن يأتي إليه النَّاس ويقولون ما شاء الله عليك وانت يحدث لك كذا وكذا، فيلقى العجب في نفسه، لكن لما مات فأنت الآن بإفادة الرَّجل في قبره تخبر بها عنه لأجل أن يقتدي به النَّاس ويدعو له ويحمدوه، فهذا ينفعه وينتفع به النَّاس أيضاً، وهذه فيها قصص لو جُمعت لاجتمع شيءٌ كثيرٌ عن السَّلف في أنَّهم أمروا من اطَّلع على شيءٍ من أحوالهم الخاصَّة مما فيه مناقب أو كرامات أن يكتموه إلى بعد الوفاة، واستحلفوهم على ذلك وأخذوا عليها العهود المؤكَّدة والمواثيق المغلَّظة؛ حرصاً على الإخلاص، قال ابن حجر: "كأن يكون في تزكية له من كرامة أو منقبة ونحو ذلك" وإلى قسمٍ آخر ممَّا هل يُقال بعد الموت أو لا إلى ما يكره مطلقاً وقد يحرم؟ وهو الذي أشار إليه ابن بطال، مثل: إذا أخبر به يكون فيه إزراءٌ على الميت ومنقصةٌ في حقِّه وغضاضة حتى لو مات، إذاً: لا نخبر؛ لأنَّ النَّاس قد يلعنونه في قبره وقد يسبُّونه ويشتمونه، فنضرُّه أو نضرُّ النَّاس، وقد يجب وقد يكون السِّرُّ الذي استكتمك في حياته يجب أن تخبر به بعد موته؛ كأن يكون فيه ما يجب ذكره: كحقٍّ عليه كان يعذر بترك القيام به، فلو قيل لحقٍّ لماذا ما أخبر به في حياته؟ يقول: وضع شرطاً قال كان يعذر بترك القيام به عليه حقٌّ لكن كان معذور، فطلب منك أن تكتم الحقَّ الذي عليه؛ لأنَّه معذورٌ، فإذا مات الرَّجل تُخبر به بعده وجوباً، قال ابن حجر معللاً ذلك: "فيرجى بعده إذا ذكر من يقوم به عنه أن يفعل ذلك" تذهب إلى ولده أو إلى صديقه وتقول: إنَّ فلاناً هذا الذي مات عليه حقٌّ معيَّنٌ، أو فعل شيئاً معيناً، مثلاً: هو سرق من شخصٍ وبحث عنه فما وجده لكن قيل له: إنَّه في بلد كذا لكن ما استطاع الوصول إليه، وأنت ستسافر إلى تلك البلد مثلاً: اقض فلاناً حقَّ صاحبه الذي مات، إذاً قد يكون هناك أحوالٌ يجب الإخبار بها بعد الموت ولو استكتمك صاحبها في حياته، إذاً هذا بعض التَّفاصيل المتعلِّقة بمتى يفشي ومتى لا يفشي.
تفاوت درجات الإثم في إفشاء الأسرار تتفاوت
فلا بُدَّ أن نعلم أيضاً أيُّها الإخوة أنَّ الأسرار تتفاوت، وأن إفشاءها ليس في درجةٍ واحدةٍ في الإثم، فكُلَّما كان إفشاء السِّرُّ أكثر مضرَّةً كان الإثم بإفشائه أعظم، فبعض الأسرار رُبَّما يكون في إفشائها مضرَّةٌ عامَّة المسلمين، مثل: المغازي التي غزاها النَّبيُّ ﷺ، وكان يكتم أمره فيها، ورُبَّما لم تخل غزوة من غزواته ﷺ إلا وفيها درسٌ رائعٌ في كتمان السِّرِّ، خذ مثالاً على ذلك: لما هاجر النَّبيُّ ﷺ وأبو بكر، وجاء من يسأل عنهما ومن يسأل عن أبي بكر أين ذهب؟ فكانت عائشةٌ وأسماء تقولان والله لا ندري، كذلك في قصَّة حاطب لما حصل منه تفريط في سرِّ المسلمين من شدَّة الموقف، يقول عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإنَّ الرَّجل قد نافق، لو وصل انكشفت القضية ووصل الخبر إلى أهل المكة؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ يستعدُّ لغزوهم فكم من الأرواح كانت ستزهق ما كانت لتزهق لو أنَّه أخذهم على حين غرَّة؛ لأنَّهم سيستعدون، وهذا يعني أرواح من المسلمين تذهب بسبب إفشاء سرِّ تحرك النَّبيِّ ﷺ في عشرة آلاف مسلم، فما وصل الخبر إلى أهل مكة؛ لأنَّ خبر حاطب قد جاء به الوحي، وهذا يدلُّ على كتمان المجتمع -مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم- للأسرار، عشرة آلاف يتحرَّكون وما يصل خبرٌ إلى أهل مكة مطلقاً، ويدل على شيءٍ عظيم ودرجةٍ عظيمةٍ من الكتمان كان عليها ذلك المجتمع، وكذلك فإنَّ حادثة أبي لبابة لو صحَّت فيها أيضاً مزيدٌ من التَّأكيد على هذه القضية بكتم السِّرِّ، وأبو ذرٍّ لما جاء إلى مكة كتم الأمر، وما سأل عن النَّبيِّ ﷺ جهراً وإلَّا كان أخذ من قبل دون أن يصل إلى مقصده، ولا أخبره عليٌّ بموقع النَّبيِّ ﷺ من أول وهلة، وكان غلاماً عمره اثنتي عشرة سنةً، وكان يفهم قضية كتمان السِّرِّ فهماً واضحاً رضي الله تعالى عنه لم يخبر بها.
التربية على حفظ الإسرار
ونتعلَّم كذلك درساً في كتمان السِّرِّ من قصة الغلام في أصحاب الأخدود، لما قال له الرَّاهب المسلم: فإنَّ ابتليت فلا تدلُّ عليَّ، لكن الغلام تحت التَّعذيب ما استطاع أن يُقاوم وذكر اسم الرَّاهب ومكانه، فأُتي به فقُتل، بعض الأسرار يُكلِّف إفشاؤها حياة أشخاصٍ فما هو الواجب فيها؟ أنَّه يجب على الإنسان أن يكتم ذلك ما استطاع، لكن إذا خرج الأمر عن استطاعته إذا عُذِّب تعذيباً شديداً جدَّاً حتى أنَّه لم يتحمَّل مطلقاً، حيث أنَّهم قد بلغوا النِّهاية في تعذيبه، فهنا لو تكلَّم مكرهاً يختلف عندما يتكلَّم من أول سؤالٍ أو يتكلَّم بإرادته واختياره كما يفعل كثيرٌ من الذين يخونون، وهذه المسألة لا شكَّ أنَّها مؤثِّرةٌ جداً في طريق الدَّعوة إلى الله ، فلو أنَّه لم يتربَّ عليها النَّاس لحصل من ذلك ضررٌ عظيمٌ، وكم أُوتي المؤمنون من هؤلاء الذين يفشون أسرارهم ولأجل ذلك، وكانت التَّربية على هذا في العهد الأول -عهد النُّبوَّة- أمراً عظيماً تشهد له الحوادث والآثار والقصص، التي جاءت حتى أن المجتمع كُلَّه كان منضبطاً في هذه القضية، ومن الأسرار ما يطِّلع عليه النَّاس الذين لا يأبه لهم، وهذه مسألةٌ ينبغي أن ينتبه إليها أصحاب السِّرِّ، مثل: الخدم، فبعض النَّاس لا ينتبهون من الصَّغار أو الخدم، فيحدث لهذا الإهمال نتائجٌ شنيعةٌ، يقول هذا صغيرٌ لا يفهم، فإذا به يسجِّل كُلَّ شيءٍ ثُمَّ يذيعه في المدرسة أو في الخارج وكذلك الخدم، كأن يقول هذا هندي أو هذه فلبينية أو هذا كذا، ثُمَّ هو يعرف كُلَّ شيءٍ! ولذلك ماذا جاء في حديث أبي زرع؟ قالت الثَّانية: زوجي لا أبثُّ خبره إنِّي أخاف ألَّا أذره، قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ ثُمَّ قالت: جاريةُ أبي زرع فما جاريةُ أبي زرع: لا تبثُّ حديثنا تبثيثاً"[رواه البخاري5189، ومسلم2448]. إلى آخره، فميزة جارية أبي زرع: أنَّها لا تنقل أخبار البيت، ولا تبثُّ الحديث، ولا تفشي الأسرار.
أهمية إنتقاء الأشخاص لحفظ الاسرار
إذاً: هذا ينقلنا إلى قضية انتقاء الأشخاص في صفاتهم في عملية كتمان الأسرار، يقول الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدُّنيا والدِّين؛ وهو كتابٌ عظيمٌ: "اعلم أن كتمان الأسرار من أقوى أسباب النَّجاح وأدوم لأحوال الصَّلاح، وروي عن النَّبيِّ ﷺأنَّه قال: استعينوا على الحاجات بالكتمان فإنَّ كُلَّ ذي نعمةٍ محسودٌ[رواه الطبراني16609، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة1453]. وقال علي بن أبي طالب : سرُّك أسيرك فإن تكلَّمت به صرت أسيره، وقال بعض الأدباء: من كتم سرَّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وقال بعض الفصحاء: ما لم تغيِّبه الأضالع فهو مكشوفٌ ضائعٌ، وكم من إظهار سرٍّ أراق دم صاحبه، ومنع من نيل مطالبه، ولو كتمه كان من سطوته آمناً، وفي عواقبه سالماً ولنجاح حوائجه راجياً" قال: "وإظهار الرَّجل سرَّ غيره أقبح من إظهار سرَّ نفسه" فإذا كان عندك سرٌّ خاصٌّ بك لو أفشيته لغيرك أهون من أن تفشي سرَّ غيرك الذي استودعك إيَّاه "لأنَّه يبوء بإحدى وصمتين: الخيانةُ إن كان مؤتمناً، أو النَّميمة إن كان مستودعاً، فأمَّا الضَّرر فرُبَّما استويا فيه وتفاضلا، وكلاهما مذموم وفيهما ملام، وفي الاسترسال بإبداء السِّرِّ دلائلٌ على ثلاث أحوال مذمومة" لو شخص عنده سرٌّ في قضيةٍ خاصَّة وما استطاع أن يكتمها فأفشاها فهذا يدلُّ على أمور: "أولاً: ضيق الصَّدر وقلة الصَّبر حتى إنَّه لم يتسع لسِّرٍّ ولم يقدر على صبر" وقلنا: إن ارتباط كتمان السِّرِّ بالصَّبر ارتباطٌ وثيق؛ فإنَّ كتمان السِّرِّ هو نوعٌ من أنواع الصَّبر فبعض الناس إذا كان عنده سرٌّ فلا يرتاح حتى يفشيه، فلا بُدَّ أن يقول لأحدهم، فلمَّا قالها صار أسيراً لهذا الشَّخص الذي قالها له، فإذا أفشى سرَّ نفسه لغيره؛ دلَّ ذلك على ضيق صدره وقلة صبره "كما قال الشَّاعر:
إذا المرء أفشى سرَّه بلسانه | ولام عليه غيره فهو أحمق |
إذا ضاق صدر المرء عن سرِّ نفسه | فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق |
من محاذير إفشاء أسرار الآخرين
ثانياً: من محاذير إفشاء أسرار الآخرين: الغفلة عن تحذر العقلاء والسَّهو عن يقظة الأذكياء" لأنَّك لو استودعت شخصاً سرَّاً فإنَّه لا يأمن من أن يغلط ويفشيه، فرُبَّما يكون حازما فيزل أو جاهل فيخون، وثالثاً: إذا أفشيت سرَّك فقد ارتكبت من الغرر واستعملت الخطر، حتى قال بعض الحكماء: سرُّك من دمك فإذا تكلَّمت به فقد أرقته" فهنا قد يقول قائل: بعضنا عنده أسرار لكن لابُدَّ أن يحدث بها شخصاً آخر، مثل: شيءٌ خطيرٌ حدث له، لا بُدَّ أن يأخذ فيه رأيه حتى وهو سرٌّ، لكن لابُدَّ أن يفشيه لشخص ليعطيه فيه حلَّاً أو شيئًا، فإذاً: لا بُدَّ أن يكون الشَّخص الذي تفشي إليه على صفاتٍ مهمَّة، قال رحمه الله: "واعلم أنَّ من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديقٍ مساهمٍ، واستشارة نصيحٍ مسالمٍ، فليختر العاقل لسرِّه أميناً إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً" إذا كان ولا بُدَّ أن تفشي أولاً تختار الأمين "وليتحرَّ في اختيار من يأتمنه عليه ويستودعه إيَّاه" يعني" حتى الأمناء الذين عندهم أمانةٌ فليس كُلُّهم يحفظون الأسرار؛ فانتق من هم أهل للأمانة، قال: "فليس كُلُّ من كان على الأموال أميناً كان على الأسرار مؤتمناً، والعفَّة عن الأموال أيسر من العفَّة عن إذاعة الأسرار" يعني" بعض النَّاس تعطيه المال فيحفظه وتعطيه السِّرَّ فلا يحفظه "لأنَّ الإنسان قد يذيع سرَّ نفسه ببادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشحُّ باليسير من ماله حفظًا له وضناً به، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار اشدُّ تعذُّراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأنَّ إحراز الأموال منيعةٌ" أي: أنَّ إحراز الأموال خزائنٌ وأقفالٌ منيعةٌ "وأحراز الأسرار بارزةٌ يذيعها لسانٌ ناطقٌ ويشيعها كلامٌ سابقٌ، وقال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية الأسرار، والشِّفاه أقفالها والألسن مفاتيحها؛ فليحفظ كُلُّ امرئٍ مفتاح سرِّه، ومن صفات أمين السِّرِّ أن يكون ذا عقلٍ صادٍّ، ودينٍ حاجز" وعقلٍ صادٍّ: أي يصدُّ عن الشَّرِّ، ودينٍ حاجزٍ: يحجزه عن الإفشاء "ونصحٍ مبذولٍ، وودٍّ موفورٍ" فلو كان شخصاً بينك وبينه بغضاء ولا يوجد بينمكا ودٌّ فلا يحفظ السِّرَّ "وكتوماً بالطَّبع" لا بُدَّ أن يكون شخصاً طبعه الكتمان "فإنَّ هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة، فمن كملت فيه؛ فهو عنقاءُ مُغربٍ" هذا اسمُ طائرٍ عظيمٍ مجهولٍ، أو قيل: إنَّه كان موجوداً ثُمَّ انقرض ويُضرب به المثل للندرة، قال: "وليحذر صاحب السِّرِّ أن يودع سرَّه من يتطَّلع إليه" هذه نقطةٌ مهمَّة: لو جاءك وقال لك: أنت تخبرني وأنا أحفظه لك، أعطني سرَّاً من أسرارك، فهذا طالبٌ والطَّالب لا يُعطى "فإنَّ طالب الوديعة خائنٌ، وقيل في منثور الحكم" فهذه حكمةٌ مكونةٌ من ثلاث كلماتٍ بليغة: "لا تُنكح خاطبَ سرِّك" الخاطب: الذي يطلب أليس كذلك؟ الذي يأتي ويقول: أعطني السِّرَّ؛ فلا تُنكحه لا تعطه سرَّك "وليحذر" هذه وصيةٌ أيضاً "كثرة المستودعين لسرِّه؛ فإن كثرتهم سببُ للإذاعة لأمرين" إذا لزم الأمر فأطلِع واحداً لكن لا تُطلِع أكثر من ذلك حتى لو كانوا كُلُّهم أمناء "أولاً: اجتماع الشُّروط -هذه التي ذكرناها- في عددٍ كبير من النَّاس أمرٌ شبه مستحيل، ولا بُدَّ إذا كثر النَّاس الذين يعلمون بسرِّك من أن يكون فيهم من يخل ببعضها، ثانياً: أنَّ كُلَّ واحدٍ منهم يجد سبيلاً إلى نفي الإذاعة عن نفسه، وإحالة ذلك إلى غيره" لكي يتلافى العتب والغضب، لو استودعت ثلاثة أشخاص سرَّك ثُمَّ فشا السِّرُّ فإذا عاتبت أحدهم سيقول لست أنا، وممكن يكون من الثَّاني، والثاني يقول لست أنا، فتضيع القضية، فإذاً: إذا صار عند أكثر من أمينٍ للسِّرِّ كان ذلك سبيلاً إلى إذاعته، ونفي العتب والغضب، "ثُمَّ لو سلمت من إذاعتهم لم تسلم من إدلالهم واستطالتهم" فكُلُّ واحدٍ ممكن يُذلُّك بالسِّرِّ الذي عنده، فيقول: أنا لا زلت أكتمه وأنا لم أفشه ونحوه، فإذاً "إذا سلمت من إفشائه لا تسلم من إدلاله واستطالته عليك، قال بعض الحكماء: من أفشى سرَّه كثر عليه المتأمِّرون" صار عليه كثير أمراء يأمرونه، فإذا اختار وأرجو أن يوفَّق للاختيار واضطرَّ إلى استيداع سرَّه وليته كُفِي الاضطرار؛ وجب على المستودع له أداء الأمانة فيه بالتَّحفُّظ والتَّناسي له، حتى لا يخطر له على بالٍ، ثُمَّ يرى ذلك حرمةً يرعاها ولا يدلُّ إدلال اللِّئام" يعني: لو صار عندك سرٌّ لشخص فلا تقول: أنا حافظ سرِّك، كأنَّك تري نفسك صاحب معروفٍ عليه، انس هذا "وحُكي أنَّ رجلاً أسرَّ إلى صديقٍ له حديثاً ثُمَّ قال: أفهِمْت؟ قال: بل جهلت، قال: أحفِظت؟ قال: بل نسيت"[أدب الدنيا والدين1/387-390].
تعويد النَّفس على حفظ الاسرار
فهكذا ينبغي أن تكون صفة الذين يستودعون الأسرار، يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: "رأيت أكثر النَّاس لا يتمالكون من إفشاء سرِّهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به، فواعجباً: كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثُمَّ لاموا من أفشاه" فأنت الذي أخبرت أولاً فلُمْ نفسك، قال: "ولعمري إنَّ النَّفس يصعب عليها كتمُ الشَّيء" يعني: فالآن هذا التَّحليل النَّفسي لماذا يخبر النَّاس بأسرارهم؟ قال: "ولعمري إنَّ النَّفس يصعب عليها كتمُ الشَّيء، وترى بإفشائه راحةً" سبحان الله: فالواحد إذا أفشى سرَّه يرتاح، ثُمَّ قال: فإنَّ من مخاطر الإفشاء: إفشاء الشَّيء قبل استوائه ونضجه، قال: "فإنَّ من سوء التَّدبير: إفشاء ذلك قبل تمامه، فإنَّه إذا ظهر بطل ما يريد أن يفعل" كم من المشاريع أُجهضت بسبب تسريب أخبارها، لما فشت ضاعت وذهبت؛ لأنَّها لو أفشيت قبل أن تستوي وتنضج تضيع، هكذا طبيعة بعض الأشياء "وقد كان النَّبيُّ ﷺ إذا أراد غزوةً ورى بغيرها" إذا أراد أن يذهب شمالاً قال للنَّاس أنَّه سيذهب جنوباً وهكذا "فإن قال قائلٌ: إنَّما أُحدِّث من أثق به، قيل له: وكُلُّ حديثٍ جاوز الاثنين شائعٌ، ورُبَّما لم يكتم صديقك" قال: "ومن العجز: إفشاء السِّرِّ إلى الولد والزَّوجة والمال من جملة السِّرِّ فإطِّلاعهم عليه يجرُّ المتاعب إن كان كثيراً فرُبَّما تمنُّوا هلاك الموروث، وإن كان قليلاً تبرَّموا بوجوده" قالوا: أبونا ليس عنده إلَّا كذا، وكأن تقول الزَّوجة: زوجي ما عنده إلَّا كذا "ورُبَّما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النَّفقات، وستر المصائب من جملة كتمان السِّرِّ؛ لأنَّ إظهارها يسرُّ الشَّاتم ويُؤلم المحبَّ، وكذلك ينبغي أن يكتم مقدار السِّنِّ؛ لأنَّه إن كان كبيراً استهرموه وإن كان صغيراً احتقروه" ولذلك كان بعضهم يرى أنَّه ليس من المروءة أنَّ الإنسان يخبر بسنِّه "ومما قد انهال فيه كثيرٌ من المفرطين: أنَّهم يذكرون بين أصدقائهم عظيماً أو سلطاناً فيقعون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك، ورُبَّما رأى الرَّجل من صديقه إخلاصاً وافياً فأشاع سرَّه، وقد قيل:
احذر عدوَّك مرَّةً | واحذر صديقك ألف مرَّة |
فلرُبَّما انقلب الصَّديق | فكان أدرى بالمضرَّة |
وربُّ مفش سرَّه إلى زوجةٍ أو صديقٍ فيصير بذلك رهيناً عنده، فلا يتجاسر أن يطلِّق الزَّوجة ولا أن يهجر الصَّديق؛ مخافة أن يظهر سرَّه القبيح، فالحازم من عامل النَّاس بالظَّاهر فلا يضيق سرَّه في صدره، فإن فارقته امرأةٌ أو صديقٌ أو خادمٌ لم يقدر أحد منهم أن يقول فيه ما يكره"[صيد الخاطر1/86-87]. إذاً يجب أن نبيِّن أن النِّساء ليسوا سواءَ، فتعقيباً على كلام ابن الجوزي رحمه الله: فإنَّ بعض النِّساء وفيةٌ، ومثل: خديجة للنَّبيِّ ﷺ، لا شكَّ أنَّها تعين، وأنَّ الإنسان يجد مستراحاً وانفراجاً بالإفشاء لمن مثل هذه حالها، لكن إذا كان يعلم أنَّ اللِّسان يفلت وأنَّ الكلام ينقل؛ فلأيِّ شيءٍ يتكلَّم؟ ولذلك قولة بعضهم: كان يقال: لا تطلعوا النِّساء على سرِّكم يصلح لكم أمركم، فالكلام ليس على إطلاقه: فهذا بحسب حال المرأة.
صفات الصَّديق الخيِّر لصديقه: أن يكتم سرَّه
ومن صفات الصَّديق الخيِّر لصديقه: أن يكتم سرَّه، فقلوب الأحرار قبور الأسرار،:
ليس الكريم الذي إن زلَّ صاحبُه | بثَّ الذي كان من أسراره علما |
إنَّ الكريم الذي تبقى مودته | ويحفظ السِّرَّ إن صاف وإن صرم |
سواء هجرك أو بقيت مودته؛ فهو لا زال يحفظ عليك سرَّك، وإذا أراد الإنسان أن يكسب محبَّة من يعمل عنده -إذا أردت يا أيُّها الموظَّف أن تكسب احترام ومحبة المدير أو صاحب العمل- فاحفظ سرَّه، ولذلك قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله بن العباس لما رأى ولده عبد الله له مكانة عند عمر قال له موصياً: "يا بني إنَّ أمير المؤمنين يدنيك فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشين له سرًا ولا تغتابن عنده أحدًا ولا يطلعن منك على كذبة"[فضائل الصحابة1919]. وكان بعض العرب يتفاخر بأنَّه يحفظ السِّرَّ، ولو أسرار الرِّجال ولو تناثروا في أقطار الأرض، فيقول:
أواخي رجالاً لست أطلع بعضهم | على سرِّ بعضٍ غير أنِّي جماعها |
يظلون شتى في البلاد وسرُّهم | إلى صخرةٍ أعيا الرِّجال انصداعها |
قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسِّرِّ؟ قال: ما قلبي له إلَّا قبر، وعلَّم أحدهم درساً، اسمه مزيد فقيل له: أيُّ شيءٍ تحت حضنك؟ فقال للسائل: يا أحمق لم خبَّأته إذا كنت تريدني أن أخبرك"[عيون الأخبار1/98].
وكانت تربية بعض الآباء لأولادهم على كتمان السِّرِ شيءٌ يُضرب به المثال، قال الوليد بن عتبة لأبيه: إنَّ أمير المؤمنين أسرَّ إليَّ حديثاً ولا أراه يطوي عنك ما يبسطه لغيرك" يعني: الشَّيء الذي أخبرني به أمير المؤمنين أظنُّك لو حضرت المجلس كان أخبرك به أيضاً، فأنت أبي أفلا أحدِّثك به؟ قال: لا يا بُني إنَّه من كتم سرَّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكونن مملوكاً بعد أن كانت مالكاً، قال: قبلت، وإنَّ هذا ليجري بين الرَّجل وأبيه؟ يعني: حتى بين الأب وابنه، فأنا ابنك اطلعت على سرٍّ أيضاً فما أقوله لك، قال: لا ولكني أكره أن تُذلِّل لسانك بأحاديث السِّرِّ"[عيون الأخبار1/17]. يعني: أن تصبح متعوِّداً على إفشاء أسرار النَّاس، والإنسان قد يأتيه سرٌّ في كتابٍ مكتوب، فإذا كان ذلك كذلك فإنَّه ينبغي عليه أن يمزِّقه إذا قرأه، ولذلك قال مسلم بن الوليد في الكتاب الذي يأتيه في السِّرِّ:
الحزم تخريقه إن كنت ذا حذرٍ | وإنَّما الحزم سوء الظَّنِّ بالنَّاس |
إذا أتاك وقد أدَّى أمانته | فاجعل صيانته في بطن أرماس |
يعني: القبر، الحزم سوء الظَّنِّ بالنَّاس: هذا خطأٌ ليس على الإطلاق، بعض النَّاس يجب أن يُساء بهم الظَّنُّ، ولكن بعض النَّاس لا، ولكن الاحتياط لا يمنع، يعني: أنا رأيت شخصًا لا أعرفه فأنا أحتاط ولا أسيئ به الظَّنَّ ولا أقول هذا مفشيٌ وهذا خائن، لكن أنا أحتاط، فلا أدري ماذا يكون هذا الرَّجل، ففرق بين الاحتياط وبين سوء الظَّنِّ بالنَّاس، هذه طائفةٌ من الأشياء المتعلِّقة بكتمان السِّرِّ في حكمه شرعاً، والحالات التي يجوز فيها الإفشاء من عدمه والحث على حفظ السِّرِّ سواءً للشَّخص أو لغيره، وصفات الشَّخص الذي يستودع السِّرَّ، ونوصي أخيراً بعدم التَّوسُّع في المصلحة؛ فإنَّ بعض النَّاس يقول: هذا إفشاؤه فيه مصلحةٌ يتوسَّعون في المصلحة فيفشون أسرار الخلق، وقلنا: الأسرار التي عند الأطباء والتي عند المفتين والتي عند الموظَّفين في الشَّركات، فالنَّاس كُلَّما كان الشَّخص في مكان ائتمان؛ فإنَّه إذا لم يؤدِّ الأمانة فهو خائنٌ.
نسأل الله أن يجعلنا ممَّن يؤدُّون أمانة الأسرار، وممَّن يكتمون أسرار المسلمين، وممَّن يفقهون ما يكتم ممَّا لا يكتم، والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ.