الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فحديثنا في هذه الليلة عن خلقٍ آخرٍ من الأخلاق الحسنة، وهو خلقٌ مهمٌّ في العمل؛ لأنَّ من يحرم هذا الخلق فإنَّه لا يكاد يستطيع إتمام عملٍ من الأعمال، وهذا الخلق أيَّها الأخوة: هو خلق التَّفاؤل.
معنى التَّفاؤل
أمَّا التَّفاؤل فإنَّه مأخوذٌ من فألَ به تفئيلاً، أي: جعله يتفاءل به، وتفأل بالشَّيء تفؤلاً وتفاءل تفاؤلاً، ويستعمل غالباً في الخير، والجمع: فؤول، وكلمة فأل كلمةٌ مستخدمةٌ في الأحاديث الصَّحيحة وهي ضدُّ الطِّيرة التي تأتي بمعنى التَّشاؤم، وقال بعض الشُّعراء:
ولا أسألك الطَّير عمَّا تقول ولا تتخالجني الأفؤل
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى في كتاب النِّهاية: "تفاءلت بكذا وتفألت على التَّخفيف، وقد أولع النَّاس بترك همزهِ تخفيفاً"[النهاية في غريب الأثر3/ 766]. يقولون: فال ولا يقولون فأل، وذلك من باب التَّخفيف، والفأل كما قلنا ضدُّ الطَّيرة، ويستعمل غالباً في الخير وقد يستعمل نادراً في الشَّرِّ كما يقولون: لا فأل عليك، أي: لا ضير عليك، وأمَّا عن تعريف التَّفاؤل: فهو أن يسمع كلاماً حسناً فيتيمن به، وهذا التَّفاؤل له أمثلةٌ، مثل: أن يكون الرَّجل مريضاً فيسمع آخر يقول يا سالم، من السَّلامة، فيتفاءل بهذه الكلمة التي يسمعها على خروجه وقيامه سالماً من مرضه، أو يكون الإنسان قد أضاع أو فقد شيئاً -مثلاً- وهو يبحث عنه وقد أعياه البحث فيسمع شخصاً يقول: يا واجد، فما معنى واجد؟ اسم فاعل من وجد، فيتفاءل بسماعه لكلمة واجد في عثوره على الضَّالة التي فقدها، فيقول: تفاءلت بهذه الكلمة التي سمعتها، فالفأل يكون اصطلاحاً فيما يُستحبُّ، والطِّيرة لا تكون إلَّا فيما يسوء،
من أحاديث النَّبيِّ ﷺ في التَّفاؤل
وقد قال النَّبيُّ ﷺ: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصَّالح الكلمة الحسنة[رواه البخاري5424]. وفي رواية: لا عدوى ولا طيرة وأحبُّ الفأل الصَّالح[رواه مسلم 2223]. وفي رواية: أنَّه ﷺ كان يتفاءل ولا يتطيَّر، ويعجبه الاسم الحسن" وهذه الأحاديث قد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله تعالى أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: لا طيرة وخيرها الفأل قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصَّالحة يسمعها أحدكم [رواه البخاري5422]. هذه رواية في البخاري. وكذلك رواية: ويعجبني الفأل الصَّالح الكلمة الحسنة[رواه البخاري5424]. أيضاً في صحيح البخاري. وفي رواية: ويعجبني الفأل قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمةٌ طيبةٌ[رواه البخاري5440]. فصار عندنا: الكلمة الحسنة، والكلمة الصَّالحة، والكلمة الطَّيبة، ثلاث رواياتٍ كُلُّها في البخاري، وفي رواية مسلم: وأحب الفأل الصالح وذكرت الطِّيرة عند النَّبيِّ ﷺ فقال: أحسنها الفأل[رواه ابو داود3921، وضعفه الألباني في سنن أبي داود 3919]. رواه ابو داود في كتاب الطِّب من سننه. وفي رواية: لا طيرة وخيرها الفأل والنَّبيُّ ﷺ أحبَّ الفأل وكره الطَّيرة، وقال: لا طيرة وهذا بمعنى النَّهي كأنَّه يقول: لا تتطيروا، يعني: لا تتشاءموا، فأمَّا حديث البخاري: لا طيرة وخيرها الفأل قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الصَّالحة يسمعها أحدكم فإنَّ قوله في الحديث: لا طيرة قلنا: ينهى عن التَّطيُّر وخيرها الفأل فلو أنَّ إنساناً قال: كيف يقول وخيرها الفأل؟ فهل الطِّيرة مراتبٌ في الخيرية والفأل خيرها؟ فالجواب: لا، فإنَّ هذا الفهم وإن كان يمكن أن يحصل في الذَّهن: خيرها الفأل أن الطِّيرة فيها خيرٌ وأجودها الفأل، ولكن يدفع هذا الفهم الأحاديث الصَّحيحة التي فيها النَّهي عن التَّطيُّر فعندنا نصوصٌ، ثُمَّ أيضاً نعلم أنَّ هذا من باب سبق أن ذكرناه من أبواب البلاغة الطَّيرة لا خير فيها فيكون قوله: وخيرها الفأل من باب قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا[الفرقان:24]. فهل يعني أنَّ أصحاب النَّار مستقرُّهم ومقيلهم حسنٌ؟ ولكن أصحاب الجنَّة أحسن؟ لا، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا فبعضهم فسَّر إتيان النَّبيِّ ﷺ بهذا الأسلوب وهو: وخيرها الفأل على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أراد إقناع من كان عنده اعتقاد بالطِّيرة والتَّشاؤم من العرب، وكانت العرب عندهم قضية التَّطيُّر من القضايا التي تحتل حيزاً كبيراً من معتقداتهم، وكانت قضية التَّشاؤم والتَّطيُّر عندهم مسألة أساسية في حياتهم، كانوا يطلقون الطَّير فإذا ذهبت يميناً تفاءل وسافر ونكح وتاجر وباع واشترى، وإذا ذهبت الطَّير شمالاً تشاءم فترك الزَّواج أو السَّفر أو البيع أو الشِّراء، وترك كُلَّ شيءٍ كان يريد أن يفعله، ويسمُّونها بالسَّوانح والبوارح، ويسمُّون الطِّيور التي تذهب يمنياً باسم والتي شمالاً باسم، فجاء الإسلام بإبطال ذلك كُلَّه، فيقولون إنَّه ﷺ أراد إرخاء العنان للسَّامع خصوصاً الآن الأحاديث هذه تقرع مسامع العرب بأن يجري الكلام على سمع الخصم حتى لا يشمئز عن التَّفكر فيه، فإذا تفكَّر فأنصف من نفسه قَبِل الحقَّ، فقوله: خيرها الفأل اطماعٌ للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطِّيرة خيراً حقيقة، فهو من باب الصَّيف أحرُّ من الشتاء؛ هل يعني أنَّ الشِّتاء فيه حرٌّ؟ كذلك الفأل خيرٌ من الطِّيرة لا يعني أنَّ الطِّيرة فيها خيرٌ، فإذاً أفعل التَّفضيل للقدر المشترك بين الشَّيئين.
القدر المشترك بين الطِّيرة والفأل
ما هو القدر المشترك بين الطِّيرة والفأل؟ هناك قدرٌ مشترك بين الطِّيرة والفأل، فتأثير الفأل ولا شك أبلغ؛ وذلك لأنَّ الفأل يأتي من نُطقٍ وبيانٍ، والفألُ مصدره ومنشؤه من الكلمة الحسنة، والطِّيرة منشأها من حركة الطَّائر أو صوته؛ لأنَّهم كانوا يتشاءمون بصوت البوم، فحركة الطَّائر وصوته ليس فيها بيانٌ، بخلاف كلمة يا راشد يا واجد يا سالم، ففيها كلمة ومعنى فيتفاءلون بهذه الكلمة، وهو في ظرفٍ يترقب فيه شفاءً، أو وجدان ضالة مثلاً ونحو ذلك، إذاً: أيُّهما من ناحية المنشأ له اعتبار وله أساس التَّشاؤم أو التَّطير؟ التَّطير منشؤه من حركة الطَّير أو صوت الطَّائر وهذا ليس فيه بيانٌ ولا شيءٌ مفهومٌ، وإنَّما هو تكلُّفٌ وتعسُّفٌ، إذا قال شخصٌ: إذا ذهب هذا الطَّائر شمالٌ فمعناه أنَّها لن تنجح فهذا تعسُّفٌ ليس له علاقةٌ بذهابه شمالاً، وحتى لو قال: إذا ذهب الطَّائر يميناً فهذا خيرٌ؛ فما علاقة ذهابه يميناً بحصول الخير؟ لا شيء، فالقضية تكلُّفٌ وتعسُّفٌ وليس لها ارتباط بالواقع، بخلاف التَّفاؤل الذي ينطلق من كلمةٍ طيبةٍ يتفاءل بها الإنسان ويتأمَّل حصول الخير ويرجو أن يحصل، ولذلك يقول عكرمة: "كنت عند ابن عباس فمرَّ طائرٌ فصاح فقال رجلٌ: خيرٌ خيرٌ، فقال ابن عباس: لا خيرٌ ولا شرٌّ"[المجالسة وجواهر العلم937]. ما عند الطَّائر سواءٌ نعيق البوم أو الغراب أو صوت غراب أو صوت بلبل أو عصفور فما عند هذا لا خيرٌ ولا شرٌّ، ولا يُؤخذ من أصوات الطِّيور لا خيرٌ ولا شرٌّ، والفرق بين الفأل والطِّيرة أيضاً وهي من الفروق المهمة: أنَّ الفأل ناتجٌ من حسن الظَّنِّ بالله، والطِّيرة ناشئةٌ من سوء الظَّنِّ بالله، فهو يتشاءم ومبنى تشاؤمه على أنَّ الله لن ينجحه ولن يشفيه ولن يجعله يجد ضالته، ولن يجعله يحقِّق أمله ويصل إلى مبتغاه، وهذا كُلُّه سوء ظنٍّ بالله: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ[الحج:15]. فبعض النَّاس عندهم تشاؤمٌ.
التَّفاؤل والتَّشاؤم عند الدُّعاة إلى الله
وحتى أنَّ المسألة هذه مهمَّةٌ للدُّعاة إلى الله جداً، فالأن هناك تشاؤمٌ على السَّاحة عند عددٍ من الأخيار من أنَّه لن يأتي نصرٌ للإسلام، ولن يأتي عزَّة للدِّين، وأنَّها كُلُّها كوارثٌ على الدِّين، ولا يوجد أمل في أي شيءٍ، فهذا سوءُ ظنٍّ بالله؛ فالله قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]. إذًا فالله ينصر الذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، والله ينصر جنوده وأولياءه ، يظهرهم باللِّسان والحجَّة والبيان، وينصرهم بالسَّيف والسِّنان أيضاً، فالطَّائفة المنصورة دائماً منصورةٌ، إذا كانت ليست منصورة بالسَّيف والسِّنان والسِّلاح على الأعداء؛ فهي منصورةٌ بالحجَّة والبيان، هات أيَّ واحدٍ سواءً يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو بوذيٌّ أو سيخيٌّ من الأرض وأوقفه أمام عالمٍ مسلمٍ يفهم الإسلام، فلا يمكن أن يهزمه، لا يُقاوم هذا الدِّين أحدٌ مطلقاً ولا يستطيع أن يتغلَّب عليه، فالطَّائفة المنصورة إلى قيام السَّاعة ظاهرين على الحقِّ، ولكن يكون فترات ضعفٍ في التَّاريخ في المسلمين، وأمَّا أن يُقال: لا نصر ولا أمل فهذا من سوء الظَّنِّ بالله وهذا هو التَّشاؤم، فإذاً التَّشاؤم ليس موجوداً عند عامَّة النَّاس فقط، بل موجود حتى عند بعض الذين يشتغلون بالدَّعوة إلى الله، ويقول: لا يوجد بارقة أمل في نصرٍ يأتي، فهذا من سوء ظنِّهم بربِّهم ، ولأجل ذلك حُرِّمت الطِّيرة لأسباب منها: أنَّ فيها سوء ظنٍّ بالله، والشَّرع خصَّ الطِّيرة فيما يسوء، وخصَّ الفأل فيما يسرُّ، قد جعل الله في فطر النَّاس محبَّة الكلمة الطَّيبة والأنس بها، فأنت الآن إذا سمعت مثلاً كلمةَ: سليم، أو سالم، فإنَّها في نفسك أوقع وأحسن وأجود أثراً من أن تسمع كلمةً أخرى فيها مثلاً مريض أو نحو ذلك من الكلمات، فإذاً الكلمة الطَّيبة وهذا ينعكس على الأسماء بطبيعة الحال، وسنأتي إلى بحثٍ صغيرٍ في هذا الموضوع، فالله جعل في فطر النَّاس محبَّة الكلمة الطَّيبة والأنس بها، كما جعل فيهم الارتياح للمنظر الأنيق والماء الصَّافي وإن كان الإنسان لا يملكه ولا يشربه، فإذا رآه فالنَّفس تُسرَّ بالخضرة وبالمنظر الحسن، مثلاً: شلَّال ماءٍ ينزل من جبل على ساحة خضراء فالنَّفس تنشرح لهذا وتسر، كما أنَّ النَّفس تنقبض من رؤية منظرٍ سيئٍ أو أرض موحلة جدباء يابسة متشقَّقة تربتها سوداء، فتتألم ويحصل فيها نوع من الألم من المنظر السَّيئ وهذا شيءٌ طبيعيٌّ حتى الألوان يعني لها تأثيرٌ، وقبل ما يثبت النَّفسانيون علاقة الألوان بمشاعر الإنسان؛ فإنَّ الله تعالى قد قال قبلهم: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ[البقرة:69]. فاللُّون الأصفر الفاقع ممَّا يجلب السُّرور إلى النَّفس، ولذلك لمَّا تكلَّم العلماء في أحكامٍ عدَّةٍ المرأة في الوفاة أنَّها لا تلبس الثِّياب الجميلة، مثل: الثِّياب الحمراء والصَّفراء؛ لأنَّها ملابس الزِّينة، فإذاً النَّفس تُسرُّ من الكلمة الحسنة مثلما تُسرُّ من المنظر الحسن وترتاح لذلك، وإن كانت لا تملك ذلك، وقد أخرج الترمذي رحمه الله وصحَّحه من حديث أنس أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح يا راشد[رواه الترمذي 1616، وصححه الألباني في سنن الترمذي 1616]. نجيح: من النَّجاح، وراشد من الرُّشد، أنَّ الأمر رشد، يعني: أنَّ الأمر طيبٌ فكان يعجبه ﷺ إذا خرج من المدينة إلى سفرٍ أو غزوةٍ مثلاً يسرُّه أن يسمع: يا نجيح، يعني: يتفاءل أنَّه سيكون في خروجه النَّجاح، وكذلك إذا سمع شخصاً ينادي الآخر: يا راشد يسرُّه ذلك ﷺ، ويتفاءل بأن الرُّشد سيكون معه في سفره، وكذلك أخرج أبو داود كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: بسندٍ حسنٍ عن بريدة: "أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان لا يتطيَّر من شيءٍ" لا يتشاءم مهما كان المنظر الذي يراه سيئاً أو الاسم الذي سمعه سيئاً لا يتطيَّر ولا يتشاءم منه "وكان إذا بعث عاملاً يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به" إذا كان الاسم طيباً فرح به "وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه"[رواه أبو داود3922]. رؤية الكراهية ليس تشاؤماً ولكنَّه ﷺ يظهر عليه شعوره من جرَّاء سماعه الاسم الحسن او الاسم السَّيئ لا يعجبه، هذا كأنَّه يقول: لا تُسمُّوا بأسماءٍ سيئةٍ يرى في وجهه إنكار التَّسمي بهذا الاسم، فجاءت هذه الأحاديث وفعل النَّبيِّ ﷺ لمحاربة عقيدةٍ جاهليةٍ كانت منتشرة عند العرب في القديم، حيث كان التَّطيُّر من فعلهم فيزجرون الطَّير إذا أرادوا الخروج للحاجة وينظرون إلى أين تتَّجه، وكذلك كانوا يتطَّيرون بصوت الغراب وبمرور الظِّبي فإذا مرَّ فله عندهم معنى.
التَّشاؤم عند الأعاجم
والأعاجم كذلك عندهم هذا التَّشاؤم فلو جئت إلى كُلِّ قبيلةٍ وإلى كُلِّ شعبٍ من الشُّعوب تجد أنَّ عندهم شيءٌ من هذا التَّشاؤم، فالعجم إذا رأى الصَّبي ذاهباً إلى المعلِّم تشاءم، وإذا رآه راجع من المعلِّم تفاءل، وكذلك إذا رأى الجمل موقَّراً بالأحمال تشاءم فإذا رآه واضعاً حمله تيمَّن وتفاءل، فجاء الشَّرع بردِّ ذلك كُلِّه، وفي عصرنا معروف التَّشاؤم برقم 13 عند الكفَّار، وبعض اليهود عملوا نوعاً من البرامج التي يسمُّونها بالفيروسات في الكمبيوتر الذي يخرِّب المعلومات أو يخرِّب الذَّاكرة أو القرص الصُّلب في الحاسب فيعمل عملاً تخريبيَّاً، إذا وافق يوم الجمعة الثَّالث عشر من الشَّهر شغَّل يهود هذا الفايروس فيعمل عمله ويبدأ بالتَّخريب أو يعطي رسائل مثلاً على الشَّاشة فيتشاءمون من يوم الثَّالث عشر، واليهود إذا صار جمعة بعد هذا يعتبر قمَّة التَّشاؤم، ومن قلِّة عقول هؤلاء وحماقتهم أنَّهم في بعض شركات الطَّيران ترقيم المقاعد لا يوجد13، فيعدُّون: 12-14-15، فأربعة عشر هو ثلاثة عشر، وهذا قلِّةُ عقلٍ بل إنَّه حتى في بعض الفنادق في الغرب فالمصاعد لايوجد الدُّور رقم 13، فيكون العدُّ: 12-14 مباشرةً وهؤلاء أصحاب التُّكنولوجيا والتَّقدم والحضارة والمخترعات وعندهم هذا، فإذاً قضية التَّشاؤم عند الشُّعوب هذه مسألةٌ مطَّردةٌ معروفةٌ في التَّاريخ وفي الحاضر، فجاءت الشَّريعة بردِّ ذلك كُلِّه، وقالﷺ: من تكَّهن أو ردَّه عن سفرٍ تطيُّر فليس منا[فتح الباري10/215]. فليس منَّا من تطيَّر، والتَّطير ليس من هذه الملَّة في شيءٍ.
وعندنا مسألةٌ مهمَّةٌ: وهي قضية ربط الشَّيء بأسباب لا علاقة بها بهذا الشَّيء، فهذه تُوقع في الشِّرك فمن جعل شيئاً سبباً لم تجعله الشَّريعة سبباً؛ فقد وقع في نوعٍ من أنواع الشِّرك، وينبغي كذلك أن يُعلم أنَّ المؤمن مطالَبٌ بحسن الظَّنِّ بالله ، فحسن ظنِّه بالله يدفعه إلى التَّفاؤل وتحريم سوء الظَّن بالله يدفعه إلى ترك التَّشاؤم.
حكم التَّفائل
أمَّا بالنُّسبة لحكم التَّفاؤل: فإنَّ التَّفاؤل مباحٌ بل مستحبٌّ، ولا خلافٌ بين الفقهاء في جواز التَّفاؤل بالكلمة الحسنة من غير قصدٍ، كأن يسمع المريض يا سالم فيتفاءل بهذه الكلمة، أو يسمع طالبُ الضَّالة يا واجد فتستريح نفسه لذلك، وكان ﷺ إذا دخل قريةً سأل عن اسمها فإن أعجبه اسمها فرح ورئي ذلك في وجهه، وقد تقدَّم مثل ذلك في مسألة أسماء الأشخاص، والسَّبب وراء استحباب التَّفاؤل: أنَّ النَّفس تنشرح لذلك، وتستبشر بقضاء الحاجة، ويحصل حسنُ الظَّنِّ بالله وهو القائل في الحديث القدسي: أنا عند ظنِّ عبدي بي [رواه البخاري6970]. يعني: كما يظنُّ بي عبدي فأنا كذلك، وممكن الإنسان يصل إلى التَّفاؤل بتقصُّد سماع الكلمة الحسنة، فيحدث عنده في نفسه شعورٌ بالانطلاق أو الاندفاع نحو الشَّيء والتَّفاؤل بحصول المقصود، كما أنَّه يمكن لتحصيل التَّفاؤل: تسمية الأشياء تسميةً حسنةً مثل: تسمية الأولاد تسمية حسنة على أنَّ هناك أنواعٌ من التَّفاؤل موجودةٌ عند بعض العامَّة هي من البدع وليست من التَّفاؤل في شيءٍ، مثل: التَّفاؤل بفتح المصحف فيفتح المصحف فإذا وقعت عينه أول ما يفتح المصحف على كلمةٍ تعني أو فيها اذهبا أو اذهب ونحو ذلك؛ مضى، وإذا فتح المصحف ووقعت عينه على ذكر جهنَّم وما فيها من العذاب؛ تشاءم ورجع وانقبض، وإذا فيها ذكر الجنَّة فهذا نوعٌ من التَّفاؤل، فهذا أخذ الفأل من المصحف بدعةٌ من البدع، وكذلك التَّفاؤل بالضَّرب بالرَّمل هو يشبه ما عليه أهل الجاهلية من ذهاب الطَّير يميناً، يقول ابن القيم رحمه الله: "ليس في الإعجاب بالفأل ومحبَّته شيءٌ من الشِّرك" لأنَّ المسألة قد يحدث فيها اختلاطٌ عند بعض النَّاس رُبَّما قد يقول: وما الفرق بين التَّطيُّر والتَّفاؤل وهو نفس الشَّيء؟ فالكلمة الحسنة نأخذ منها التَّفاؤل، والكلمة السَّيئة يُؤخذ منها التَّشاؤم فإذا كان هذا من الشِّرك فماذا يكون الآخر؟ يقول ابن القيم رحمه الله: "ليس في الإعجاب بالفأل ومحبَّته شيءٌ من الشِّرك، بل ذلك إبانةٌ عن مقتضى الطَّبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم ﷺ أنَّه حُبِّب إليَّ من الدُّنيا النِّساء والطِّيب، وكان يحبُّ الحلوى والعسل، ويحبُّ حسن الصُّوت بالقرآن والأذان، ويستمع إليه ويحبُّ معالي الأخلاق ومكارم الشِّيم، وبالجملة يحبُّ كُلَّ كمالٍ وخيرٍ وما يفضي إليهما، والله قد جعل في غرائز النَّاس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبَّته وميل نفوسهم إليهم" فأنت الآن إذا قرأت أسماء طُلابٍ في ورقةٍ في الفصل فجاءك مثلاً أنَّ واحداً اسمه حسن وآخر اسمه اسم سيئٌ، فإنَّك لا شعورياً أو تلقائيًا تجد أن شعورك بالانفتاح والارتياح لصاحب الاسم الحسن قبل أن ترى وجهه ولا تعرفه عنه شيئاً، وكذلك هذا الذي اسمه سيئٌ تنقبض نفسك منه، قال: "وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسُّرور باسم الفلاح والسَّلام والنَّجاح والتَّهنئة والبشرى والفوز والظَّفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماءُ الأسماعَ استبشرت بها النَّفس، وانشرح لها الصَّدر، وقوي بها القلب" إذا سمع مثلاً: فالح، فلاح، سالم سليم، ناجح، نجيح، فائز، مظفر، ظافر، فهذه أسماءٌ جميلةٌ وجيَّدة فهي تفتح النَّفس كما يقولون، ثُمَّ قال رحمه الله: "وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضدُّ هذه الحال فأحزنها ذلك وأثار لها خوفاً وطيرةً وانكماشاً وانقباضاً قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدُّنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة للشِّرك" ولذلك نُهينا عن الأسماء السَّيئة وأُمرنا بتغيير الأسماء السَّيئة وغيَّر النَّبي ﷺ الأسماء السَّيئة كُلُّ ذلك حتى لا تُوقِع في الطِّيرة ولا في الشِّرك ولا تردُّ الإنسان عن حاجته، ولا تجعله يقف دون المضي إلى ما يريد، وقال ابن القيم رحمه الله أيضاً: "أخبر ﷺ أنَّ الفأل من الطِّيرة وهو خيرُها، فأبطل الطِّيرة وأخبر أنَّ الفأل منها ولكنَّه خيرٌ منها ففصل بين الفأل والطِّيرة لما بينهما من الامتياز والتَّضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير ذلك منعه من الرُّقى بالشِّرك وإذنه في الرُّقية إذا لم يكن فيها شركٌ لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة"[مفتاح دار السعادة2/244-245].
كيف يتغلَّب المسلم على التَّشائم
والإنسان إذا أحسَّ بشيءٍ من التَّشاؤم فعليه ألَّا يلتفت إليه ويمضي لما يريد، ولا يستجيب لداعي الشَّيطان بالتَّوقُّف أو التَّراجع لسماع اسمٍ سيِّئٍ أو رؤية منظرٍ سيءٍ، فبعض النَّاس إذا ذهب يفتح الدُّكان فرأى أعوراً في الطَّريق تشاءم ورجع، فما علاقة الأعور برزق هذا اليوم؟ ولكن بعض النَّاس فيهم طبيعةٌ تشاؤميَّةٌ، وعلاقة القضية بالأخلاق أنَّ التَّفاؤل والتَّشاؤم كلاهما خلق، فهناك ناسٌ عندهم خُلقُ التَّفاؤل طاغٍ وناسٌ عندهم خُلقُ التَّشاؤم طاغٍ، حتى قالوا لو أريت كوباً نصفه ملآن فقلت له ما الذي ترى؟ فقال: هذا كوبٌ نصفه ملآن، وآخر يقول: عن نفس هذا الكوب: هذا كوبٌ نصفُه فارغٌ، فالذي يصفه بأنَّ نصفه ملآن هذا عنده طبيعةٌ تفاؤلية، والذي يصفه بأنَّ نصفه فارغٌ أول ما فكَّر في الفراغ وما فكَّر بالنُّصف المليء سبقت نفسه إليه، فهذا إنسانٌ قد يكون عنده مؤشر طبيعة تشاؤمية، فلو قال إنسانٌ مثلاً: تفاءلت بالاسم الحسن ولا صار فما هو التَّعقيب على هذا؟ في هذه الحالة يقول ابن الأثير صاحب جامع الأصول رحمه الله تعالى: "وإنَّما أحبَّ النَّبيُّ ﷺ الفأل؛ لأنَّ النَّاس إذا أمَّلوا فائدةً من الله ورجوا عائدته عند كُلِّ سببٍ ضعيفٍ أو قويٍّ" فالآن وأنت ذاهبٌ إلى معركة وسمعت أحدهم يقول: يا نجيح –مثلاً- أو يا راشد، فالعلاقة بين الاسم وبين الفوز في المعركة علاقةٌ قويةٌ أو ضعيفة؟ ضعيفة، يعني: ليست سلاحاً ولا مدداً، نعم ففي مبدأ الأمر علاقةٌ ضعيفة فيقول رحمه الله تعالى: "لأنَّ النَّاس إذا أمَّلوا فائدةً من الله ورجوا عائدته عند كُلِّ سببٍ ضعيفٍ أو قويٍّ فهم على خير" يعني: ارج من الله الفائدة مهما كان السَّبب ضعيفاً، ولو كان نطق اسماً سمعته وأنت ماشي فارج الخير فيه، قال: "لأنَّ النَّاس إذا أمَّلوا فائدةً من الله ورجوا عائدته عند كُلِّ سببٍ ضعيفٍ أو قويٍّ فهم على خيرٍ، وإن لم يدركوا ما أمَّلوا" كلمةً مهمَّةً "فقد أصابوا في الرَّجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرَّجاء لهم خير معجل، ألا ترى أنَّهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشَّرِّ" فإذاً: ارج الخير بهذه الكلمة التي تسمعها تفاءل إن نجحت واحمد لله، وإن ما نجحت فيكفيك أنَّك رجوت الخير من الله وأعربت عن حسن ظنِّك بالله، فإذاً: التَّفاؤل حسنٌ ولو كانت العاقبة ليست كما يُرجى فيكفيك أنَّك طبَّقت السُّنَّة وتفاءلت، وأنَّك رجوت الخير من الله، قال: "فأمَّا الطِّيرة فإنَّ فيها سوءُ الظَّنِّ وقطع الرَّجاء وتُوقِع البلاء"[تفسير غريب ما فى الصحيحين البخارى ومسلم1/ 140]. وقنوط النَّفس من الخير وذلك مذمومٌ بين العقلاء منهيٌّ عنه من جهة الشَّرع، يعني: هناك شيءٌ يا إخوان أهمُّ من النَّتيجة وهو المبدأ والعقيدة، فإذا كان الإنسان تفاءل بالخير فأنَّه يحسن الظَّنَّ بربِّه ولو لم تحصل كما يتمنَّى، وإذا كان تشاءم معناه أنَّه يسيئ الظَّنَّ بربِّه، وقضية حسن الظَّنِّ وسوء الظَّنِّ من قضايا التَّوحيد المهمَّة، فلو ما جاءت النَّتيجة كما ترجو فيكفيك أن عقيدتك سلمية وأنَّك حسَن الظَّنِّ بربِّك، وهذا المكسب أهمُّ من النَّتيجة.
الإسلام يحث على التَّفائل
لماذا شجَّع الإسلام على التَّفاؤل ومنع من التَّشاؤم؟ لأن التَّفاؤل يشحذ الهمم للعمل، ويغذِّي القلب بالطَّمأنينة والأمل، ولا شكَّ أنَّ هذا من أكبر عوامل النَّجاح، فالآن إذا تفكِّر في حال إنسانٍ عاملٍ ذهب ليعمل شيئاً أو ينجز مهمَّةً، ونفسه منشرحةٌ وهو راج للخير، وعنده أملٌ بإنجازها فكيف حال همَّته وانطلاقه؟ قويةٌ أليس كذلك؟ فهذه القوَّة النَّاتجة من التَّفاؤل ستكون أحدُ أكبر أسباب النَّجاح وإنجاز المهمَّة، وإذا ذهب بشعورٍ متشائمٍ وهو لا يرجو أن يُفلح ولا أن ينجح ولا أن ينجز الأمر؛ فكيف تكون همَّته؟ فاترةٌ ضعيفةٌ وهذا الفتور والضَّعف في الهمَّة سيكون من أكبر أسباب الفشل، إذاً: التَّفاؤل خُلُقٌ مهمٌّ أن يكون في النَّفس لأجل إنجاز العمل المطلوب، فهذا من أسرار الشَّريعة التي يتبين للإنسان إذا تأمَّل فيها عظمة هذه الشَّريعة، وكيف أنَّ هذه الشَّريعة تؤدِّي بمن يتَّبعها إلى النَّجاح وتوفِّر أسبابها، فالشَّريعة توفِّر للمسلم أسباب النَّجاح، تأمَّل مثلاً في طالبٍ وهو داخلٌ إلى امتحانٍ شفويٍّ أو مناقشة رسالة وهو متفائلٌ وحسن الظَّن بالله، فحتى لو ما سمع شيئاً فهو متفائل، فكيف سيدخل قاعة الامتحان؟ أو يدخل إلى اللجنة التي ستناقشه؟ يدخل وفيه همَّةٌ ورجاء وأمل ويغلب على ظنِّه النَّجاح، وهذا سينعكس على طريقة نقاشه وإجابته وإقناعه بأعضاء اللجنة في الاختبار، وعلى تثمينهم لإجابته وتأويلهم لوضعه وحالته، لكن إذا الإنسان دخل إلى قاعة الامتحان وهو يقول أكيد أنَّهم سيسألوني أسئلةً لا أعرفها، فأنا متأكدٌ أنني سأفشل، فهذا واضح من وجوه أعضاء اللجنة الكالحة، فمستقبلي أسودٌ في هذا النِّقاش، فإذا كان هو ذاهبٌ بنفسيةٍ متشائمةٍ إلى قاعة الاختبار، فهذا لو كان يعرف الجواب الصَّحيح فسينساه بسبب تأثير نفسيته، فليست قضية الاختبارات والامتحانات هي قضية معلومات فقط؛ لأنَّ الطَّالب في قاعة الاختبار يمكن يضيِّع معلوماتٍ هي عنده بأسباب أخرى، فالمسألة إذاً فيها عاملٌ كبيرٌ من عوامل النَّجاح، وهو التَّفاؤل والأمل، ولو أنَّك نظرت في غالب التُّجَّار والنَّاس النَّاجحين؛ غالبهم عنده أملٌ وتفاؤلٌ، يعني: من أسباب نجاح كبار رجال الأعمال وكبار النَّاس النَّاجحين في أعمالهم تجد أنَّ عندهم جانب الأمل في نفوسهم قويٌّ، وحتى الدُّعاة النَّاجحين الذين تنفتح لهم القلوب يكتب الله لهم التَّأثير على النَّاس، يسلمون مقاليدهم إليهم ويتبعونهم ويتأثرون بهم، ويسمعون منهم ويلتزمون بما يقولون، ويجتمع إليهم العدد من النَّاس دائماً ما شاء الله، فهؤلاء لا بُدَّ أن يكون عندهم جانبُ التَّفاؤل والأمل قويٌّ، فهذا من أسباب وصوله للنَّتيجة هذه، ولو كانوا شخصيات متشائمة سيقول: سأذهب إليه الآن وأجده نائماً وأطرق عليه ويفيق من نومه مكفهرُّ الوجه ويصك الباب في وجهي، يا أخي تفاءل أنَّه سيكون الآن ضائقٌ صدره ينتظر فقط من يأتي إليه ويطرق الباب ويتحدَّث إليه، تفاءل أنَّ الرَّجل الآن ينتظر من ينتشله ويأخذ بيده، فحتى في مجال الدَّعوة إلى الله فعملية التَّفاؤل والتَّشاؤم هذه من أكبر أسباب النَّجاح أو الفشل، وكثيراً ما يكون التَّشاؤم مبعثه عدم الثِّقة بالله ، يعني: من عدم حسن الظَّنِّ بالله يقول: هذا سيردُّني كما ردَّني الآخر، هذا يسكن في نفس البيت الذي يسكن فيه الذي ردَّني من أول مرَّة، وما علاقة هذا بهذا نفس البيت؟ ورُبَّما تشاءم بالأرقام الفردية، وإلَّا بعض الأشياء التي تحصل عند بعض المشركين والجهلة.
عواقب التَّفائل وعواقب التَّشائم
فالإسلام ينفِّر من التَّشاؤم ويريد أن ينصرف المسلمون عنه؛ لأنَّه عنصرٌ نفسيٌّ سيئٌ، يبطِّئ الهمم عن العمل، ويشتِّت القلب بالقلق، ويميت فيه روح الأمل، فيدبُّ اليأسُ، وتضعف الإرادة، إنَّ التَّفاؤل من أسباب إشراق الوجه، ولا تجد أحداً دائمَ البشر والابتسامة وهو متشائمٌ، فدائمُ البشر والابتسامة هو الإنسان الذي يكون عنده تفاؤل، وتجد الشَّخص المتشائم مكفهرَّ الوجه عابساً، ولا تلقى عنده ابتسامةً ولا بِشراً في المحيَّا ولا نضارةً؛ بسبب تشاؤمه، فتأمل في موقفين لمتفائل وآخر متشائم، خرجا في سفرٍ وغابا عن أولادهما، فتجد المتفائل يقول: أرجو من الله أن أولادي بخير، وأن الله لن يضيعني وأنني قد قلت في الدُّعاء أنَّني استودعتهم ربِّي، وأنَّ الله لا يضيع من استودعه فإذا استودع شيئاً حفظه ، وتجد الآخر المتشائم يقول: يا تُرى من الذي انكسرت يده؟ يا ترى ما حالهم؟ أكيد أحدهم الآن مريضٌ، ويا ترى هل أحدهم يعاني في مشكلة، وهكذا دائماً مع أنَّ كلاهما لا يدري عن أهله ولا عن أولاده، لكن أحدهما متشائمٌ فهو يعيش عيشةً ضنكا، كلمَّا غاب عن شيءٍ دخل الشَّيطان ولعب به، وحسب الإنسان التفاؤل أن يعيش سعيداً بالأمل، والأمل لا شك هو جزءٌ من السَّعادة، أمَّا التَّشاؤم فيكفيه ذمَّاً وقبحاً أنَّه يشقي صاحبه ويقلقه ويعذبِّه قبل أن يأتي المكروه، فيعجل لصاحبه الألم، والتَّفاؤل لا شكً أنَّ فيه رجاءً من الله ، والفأل والطِّيرة قد صارت عند النَّاس في أشياء كما سبق أن قلنا لا علاقة لها بالشِّيء، لكن بعضها مأخوذةٌ من الجاهلية ومن بعض المعتقدات أو الخرافات الموجودة عند النَّاس، فتجد أنَّ بعضهم يتشاءمون كما حال أهل الجاهلية بالأيام والأشهر، مثل: شهر صفر وشوال فيتشاءمون به، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تدخل نسائها في شوال مضادَّةً لأهل الجاهلية، ويستحبُّ النِّكاح في شوال مضادَّةً لأهل الجاهلية.
من أنواع التشائم في هذا العصر
وبعض المجلَّات اليوم التي فيها عالم الفلك أو النُّجوم أو الأبراج والحظُّ مكتوبٌ فيها أيَّام السعد محدَّدةً وذلك حسب البرج، فيقولون: أنت في أيِّ برج ولدت؟ هل ولدت في برج الجوزاء أو في برج الجدي أو في برج التَّيس أو في برج الثَّور، ويكتب البرج أيَّام السعد كذا وكذا وكذا، وأيَّام النَّحس كذا وكذا وكذا، حتى لا تعمل الأعمال التي تريدها -مثلاً- في أيَّام السعد وتتلافى أيَّام النَّحس، والذي كتبها هو النَّحس؛ لأنَّ هذا دجَّالٌ وكذَّابٌ أشرٌ أفَّاكٌ، وأيَّام السعد تختلف في برجٍ الجوزاء عن برج العقرب وهكذا يختلف برج لآخر، ولا يكون من أيَّام السعد في هذا البرج يكون من أيَّام النَّحس في ذلك البرج، فتجد أنَّ المسألة ضالعةٌ ومنتشرةٌ وداخلة حتى في المجلات التي تدخل البيوت يقرأها النَّاس، فبعض النَّاس مثلاً: يتشاءمون بالقطِّ الأسود والقرد والبوم، وبعض النَّاس يتشاءمون بالأشخاص الذين عندهم عيوبٌ: كالأعور، والأحدب، والقبيح، والأسود، والمجذوم، بعض النَّاس مثلاً: يتشاءمون -كما قلنا- بالأرقام في المستشفيات، فالنَّصارى يمكن ليس عندهم جناح أوغرفة برقم ثلاثة عشر، وبعض أهل الجاهلية من البادية يتشاءمون بالرَّقم 7،كما أنَّ أهل الرَّفض يتشاءمون بالرَّقم 10 عليهم لعنة الله؛ لأنَّهم يبغضون العشرة المبشرين بالجنَّة، حتى إذا أرادوا أن يقولوا عشرةً قالوا: تسعةٌ وواحدٌ، فأغبى من كذا لا تجد، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وبعض النَّاس يتشاءمون من أصوات المطافي وسيارات الإسعاف، فإذا سمع الونَّان تشاءم فوراً، وكذلك بالألوان فرُبَّما يكون هناك لوناً كلون الدَّم –مثلاً- فيعتبرون هذا اللُّون لونٌ أحمرٌ غامقٌ هذا موت، والمقص إذا كان مفتوحاً صار عند بعضهم شرَّاً، وإذا قلَّمت أظافرك بالليل فمصيبة عند البعض، وبعضهم إذا رفَّت العين الشَّمال أو طنَّت الأذن الشَّمال فهذا عندهم تشاؤمٌ، وإذا طنَّت الأذن اليمين ورفَّت العين اليمين وحكَّت اليد اليمين فستقبض قريباً مالاً، وهذا التَّفاؤل مأخوذٌ من الفقر الذي يعانونه، فبعض النَّاس أيضاً لا يسمِّي المولود حديثاً على اسم ولدٍ ميِّت، ويقول إذا سمَّيناه فيمكن أن يلحق بأخيه، فلا علاقة في ذلك، وإطلاق لفظة –مثلاً- هذا منحوس أو نحيس أو نحس، وهذا كذا أيضاً فيه إنباءٌ عن التَّشاؤم الذي في قلوبهم، وبعضهم إذا شاهد أمَّ زوجته في الصَّباح فهذا عنده قمَّة النَّحس.
كيف يصنع المسلم لنفسه التَّفائل أو التَّشائم
فعلى أيِّة حال: هذا الموضوع يكثر كثيراً في النَّاس أنَّهم يفعلونه ويعتقدون به، ولكن المسلم يعرف أين الحقُّ في هذه الأشياء؟ وحدثت قصصٌ حتى في القديم، كما جاء في بعض كتب الأدب، وهنا إشارةٌ قبل أن نذكر بعض القصص أنَّ قدر الله تعالى قد يُوافق كلمةً حسنةً أو كلمةَ سوءٍ، قد يتفاءل الإنسان بالخير فيجده، فيكون وافق قدر الله تعالى هذه الكلمة، وقد يتشاءم ويجد ما تشاءم به فعلاً، فيكون قدر الله قد وافق هذه الكلمة، والبلاء موكلٌ بالنُّطق، فالإنسان أحياناً يتكلَّم بالكلمة على نفسه، فتكون كذلك فيوافق قدر الله هذه الكلمة، وكان بعض العرب مشهورين جداً بالتَّشاؤم حتى يقرءون الوجه، يقول: أنت وجهُك يقرأ فيه كذا وكذا، وقد يخبرونه بتوقُّعٍ ويوافق قدر الله هذا التَّوقُّع، فلا نقول هم يعلمون الغيب؛ لكنَّه هكذا سوء ظنِّه بربِّه، وهكذا قسم الله له، وهكذا هذا حسن ظن بربِّه فأعطاه الله على ظنِّه بربِّه، فأحياناً يأتي القدر موافقاً لحسن الظنِّ وسوءه، فهذا حسن ظنٍّ بربِّه، وقد سبق الكلام وقلنا: بأنَّ بعضهم قد يتشاءمون على أنفسهم بأشياء فيجدونها في الواقع هكذا، فيكون هذا من عقوبة التَّشاؤم، فذكر ابن قتيبة رحمه الله تعالى في عيون الأخبار[عيون الأخبار1/ 63] قال: "خرج كُثيِّر عزَّة إلى مصر يريد عزَّة، فلقيه أعرابيٌّ من نهد، فقال: يا أبا صخر أين تريد؟ قال أُريد عزَّة بمصر، قال فهل رأيت في وجهك شيئاً قال: لا، إلَّا أنَّي رأيتُ غراباً ساقطاً فوق بانةٍ ينتف ريشه، هذا أخبره عن المشهد وذاك تشاءم له به، فقال: رأيت غراباً ساقطاً فوق بانةٍ ينتف ريشه، قال: توافي مصر وقد ماتت عزَّة! فانتهره كثيِّر ثُمَّ مضى، فوافى مصر والنَّاس ينصرفون عن جنازة عزَّة، فقال:
فما أعيف النّهديُّ لا درّ درّه | وأزجره للطير لا عزَّ ناصره |
رأيت غراباً ساقطاً فوق بانة | ينتِّف أعلى ريشه ويطايره |
فأمَّا غرابٌ فاغترابٌ ووحشةٌ | وبانٌ فبين من حبيب تعاشره |
وتشاءم له ذلك الرَّجل بهذا وكان كما قال. قال: وهوي بعد عزَّة امرأةً من قومه يقال لها أُمُّ الحويرث، فخطبها فأبت وقالت: لا مالك ولكن اخرج فاطلب فإنِّي حابسةٌ نفسي عليك، فخرج يريد بعض بني مخزوم فبينما هو يسير عنَّ له ظبيٌّ فكره ذلك ومضى، فإذا هو بغراب يحثو التُّراب على وجهه، فكره وتتطيِّر منه، فانتهى إلى بطن من الأزد يقال لهم بني لهب، قال: أفيكم زاجرٌ؟ قالوا: نعم، فأرشدوه إلى شيخٍ منهم فأتوه فقصَّ عليه القصَّة، هذا الزَّاجر هو الذي يعمل بالزَّجر، فقال: قد ماتت أو خلف عليها رجلٌ من بني عمها، فلمَّا انصرف وجدها قد تزوَّجت وأنشد شعراً يقول:
تيممت لهباً أطلب العلم عندهم | وقد ردَّ علم العائفين إلى لهب |
فقال جرى الطَّير السّنيح ببينهم | فدونك فاهمل جدّ منهمر سكب |
فإلَّا تكن ماتت فقد حال دونهم | سواك خليلٌ باطن من بني كعب |
كما قلنا من أنَّه قد يكون ما يحدث لبعض النَّاس من المصيبة بسبب سوء ظنِّهم، ويوافق القدر كلمةً قالها إنسانٌ لآخر، أو قال الإنسان عن نفسه، وكما قال لنا بعضهم: بعض العرب ذهبوا إلى موقعةٍ فرأى أحدهم أعوراً في الطَّرق، فقال: إنٍ صدقت العيافة يقتل نصفنا وهذا أعور، قال: فقُتل نصفهم في تلك الموقعة، فإذاً: الإنسان قد يتشاءم على نفسه بأمرٍ ويوافق قدر الله هذا الشَّيء الذي تشاءم به، فالبلاء موكل بالنُّطق.
قصص من عواقب التَّفائل لصحابه
وقد يحيق بالإنسان السُّوء الذي ظنَّه وقد حدثت في المقابل أشياء أو بعض الأحداث في السِّيرة، رُبَّما نذكر منها حادثتين فيها تفاؤلٌ جيِّدٌ: الحديث الأول: حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، قال: حدَّثنا يعقوب وهو ثقةٌ قال حدَّثنا أبي وهو ثقةٌ حجَّةٌ عن ابن إسحاق، وهو إذا عنعن علَّة يقول ابن إسحاق: فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين أخو بني سلمة وهو ثقة أن أخاه عبيد الله بن كعب وكان من أعلم الأنصار حدثه أنَّ أباه كعب بن مالك، وكان كعب ممن شهد العقبة وبايع رسول الله ﷺ وهي قصَّةٌ طويلةٌ نسردها للفائدة وفي آخرها التَّفاؤل- قال: "خرجنا في حجَّاج قومنا من المشركين، حيث أنَّ الأنصار تأثَّر بعض أهل المدينة بمصعب بن عمير من الدُّعاة الأوائل الذين أوفدهم النَّبيُّ ﷺ إلى المدينة، وجاء بعضهم مسلمين سرَّاً متخفين مع قومهم المشركين إلى مكة من المدينة، يقول كعب بن مالك: "خرجنا في حجَّاج قومنا من المشركين وقد صلَّينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فلمَّا توجَّهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء لنا: يا هؤلاء إنَّي قد رأيت والله رأياً، وإنِّي والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ قلنا له: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألَّا أدع هذه البنية مني بظهرٍ -يعني الكعبة- وأن أصلِّي إليها، فقلنا: والله ما بلغنا أنَّ نبيَّنا يصلِّي إلَّا إلى الشَّام وما نريد أن نخالفه، وهذا قبل تحويل القبلة، فقال: إنِّي أصلِّي إليها، فقلنا له لكنَّا لا نفعل" أنت تصلِّي إلى مكة ونحن نصلِّي إلى الشَّام "فكنَّا إذا حضرت الصَّلاة صلَّينا إلى الشَّام وصلَّى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة، قال أخي: وقد كنَّا عبنا عليه ما صنع وأبى إلَّا الإقامة عليه، فلمَّا قدمنا مكة قال: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله ﷺ فاسأله عمَّا صنعت في سفري هذا، فإنَّه والله قد وقع في نفسي منه شيءٌ لما رأيت من خلافكم إيَّاي فيه، قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ وكنَّا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلٌ من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ فقال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمَّه؟ قلنا: نعم، وكنَّا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً يمرُّ بالمدينة فيعرفون شكل العباس، قال: فإذا دخلتم المسجد فهو الرَّجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالسٌ ورسول الله ﷺ معه جالس فسلَّمنا، ثُمَّ جلسنا إليه فقال رسول الله ﷺ للعباس: هل تعرف هذين الرَّجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيِّد قومه، وهذا كعب بن مالك، قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ: الشاعر قال: نعم، فقال البراء بن معرور: يا نبي الله إنِّي خرجت في سفري هذا وهداني الله للإسلام، فرأيت ألَّا أجعل هذه البنية مني بظهرٍ فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيءٌ، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: لقد كنت على قبلةٍ لو صبرت عليها قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ فصلَّى معنا إلى الشَّام، قال وخرجنا إلى الحج فواعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيَّام التَّشريق" يعني: يوم الثَّاني عشر فأخذوا موعداً مع النَّبيِّ ﷺهؤلاء المسلمون أوسط أيَّام التَّشريق عند العقبة، فلمَّا فرغنا من الحجِّ وكانت الليلة التي وعدنا رسول الله ﷺ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيِّد من ساداتنا، وكنَّا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلَّمناه وقلنا له: يا جابر إنَّك سيِّد من سادتنا وشريفٌ من أشرافنا، وإنَّا نرغب بك عمَّا أنت فيه أن تكون حطباً للنَّار غداً، ثُمَّ دعوته إلى الإسلام وأخبرته بميعاد رسول الله ﷺ فأسلم وشهد معنا العقبة، إذاً خرجوا مستخفين والموعد مع النَّبيِّ ﷺ كان سرياً، وكعب بن مالك آنس في والد جابر خيراً وعرض عليه الدَّعوة وأسلم، ودخلوا في المجموعة وذهبوا لملاقاة النَّبيِّ ﷺ، وكان نقيباً قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في راحلنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من راحلنا لميعاد رسول الله ﷺنتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النَّجار،
وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع، قال: فاجتمعنا بالشِّعب ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا ومعه يومئذٍ عمُّه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه العباس كان مشركاً، لكن كان ثقةٌ مأمونٌ، إلَّا أنَّه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلمَّا جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلِّمٍ، فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب ممَّا يسمُّون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها، إنَّ محمداً منَّا حيث قد علمتم، يقول هذا العباس ، وكان له دورٌ في نصر الدَّعوة قبل أن يسلم، مثل أبي طالب كان له دور في حماية النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، فيقول العباس لهؤلاء الأنصار: إنَّ محمداً منَّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممَّن هو على مثل رأينا فيه وهو في عزٍّ من قومه ومنعةٍ في بلده، قال فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربِّك ما أحببت، فتكلَّم رسول الله ﷺ فتلا ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام، قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثُمَّ قال: نعم والذي بعثك بالحقِّ لنمعنَّك مما نمنع منه أُزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول والبراء يكلِّم رسول الله ﷺ، من الذي اعترض؟ أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله إنَّ بيننا وبين الرِّجال حبالاً في علاقاتٍ وتكلفة ثمن الدُّخول في الدِّين الجديد، وما يترتب عليه من الجهاد وإنَّا قاطعوها، يعني: العهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثُمَّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسَّم رسول الله ﷺ، ثُمَّ قال: بل الدَّم الدَّم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقد قال رسول اللهﷺ: أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وأمَّا معبد بن كعب فحدَّثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك قال: كان أول من ضرب على رسول الله ﷺ البراء بن معرور، ثُمَّ تتابع القوم، فلمَّا بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشَّيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قطَّ: يا أهل الجباجب هل فيكم في ذمم والصِّباة معه قد أجمعوا على حربكم؟ اشترك الشَّيطان علانية في القضية وصرخ: يا أهل الجباجب والجباجب يعني المنازل ينبَّه كفَّار قريش: هل لكم في ذمم، الشيطان لعنه الله يقول مذمَّم عكس محمد، فهي سبة والصباة معه قد أجمعوا على حربكم، قال علي يعني ابن إسحاق: ما يقوله عدوُّ الله، فقال رسول الله ﷺ: هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب اسمع أيَّ عدو الله: أمَّا والله لأفرغنَّ لك، ثُمَّ قال رسول الله ﷺ: ارفعوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحقِّ لئن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا" يعني: أنت أعطنا أمرك ونحن مستعدين وجاهزين، قال فقال رسول الله ﷺ: لم أؤمر بذلك فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلمَّا أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤوا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج هذا صباح اليوم التَّالي إنَّه قد بلغنا أنَّكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا! والله إنَّه ما من العرب أحدٌ أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فالآن كفَّار قريش خاطبوا الخزرج هؤلاء ما حالهم في الإيمان والكفر مختلطين كثرة من المشركين، وبينهم هؤلاء أصحاب العقبة ققريش قالوا: بلغنا أنَّكم عاقدتم محمداً ﷺ، يقول كعب: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذ شيئاً وما علمنا، وقد صدقوا هؤلاء المشركون ما شهدوها ولا خرجوا للقاء النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم يعلموا ما كان منَّا، قال: فبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المحزومي من كفَّار قريش وعليه نعلان جديدان، قال فقلت كلمةً كأنِّي أريد أن أُشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر وأنت سيِّد من ساداتنا أن تتَّخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ فسمعها الحارث فخلعهما ثُمَّ رمى بهما إليَّ فقال: والله لتنتعلهما، قال يقول أبو جابر: أحفظت والله الفتى أحفظته، يعني استفززته فاردد عليه نعليه، قال فقلت: والله لا أردُّهما، قال: والله صلح والله لئن صدق الفأل لأسلبنَّه السَّلب هذا وسيكون لي، فهذا حديث كعب بن مالك عن العقبة وما حضر منها انتهت الرِّواية في مسند الإمام أحمد رحمه الله[رواه أحمد 15836]. فتفاءل بأخذ النِّعال وسلب هذا المشرك وحصلت قصَّةٌ وفي قصة أخرى عند أحمد رحمه الله.
أيضاً تفاؤل بكلمةٍ سمعت من المشركين لكن القصَّة في إسنادها ضعفٌ: حدَّثنا يعقوب ثقةٌ حدَّثنا أبي وهو ثقة حجَّة عن عبد الله بن جعفر ليس به بأس، عن عبد الواحد بن أبي عونٍ صدوق يخطئ، عن جدَّته مجهولة، عن ابن أبي حدرد الأسلمي وهو صحابي أنَّه ذكر أنَّه تزوَّج امرأةً فأتى رسول الله ﷺ يستعينه في صداقها، فقال: كم أصدقت؟ فهذا قرَّر مهراً وجاء يستعين على المهر، قال: قلت مائتي درهم، قال النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: لو كنتم تغرفون الدَّراهم من واديكم هذا ما زدتم ما عندي ما أعطيكم، وهذا فيه التَّرغيب في تقليل المهر، فالرَّسول قال: هل عندكم وادي تغرفون منه؟ تضع مهراً بهذا الحجم وبهذه الكمية؟ قال: فمكثت ثُمَّ دعاني رسول الله ﷺ فبعثني بسريةٍ بعثها نحو نجد، فقال: اخرج في هذه السَّرية لعلك أن تصيب شيئاً فأنفلكه فتنفَّك الأزمة، كا من قبل لا توجد مشكلة في المهور فالجهاد يحلُّ المشاكل، قال: فخرجنا حتى جئنا الحاضرة ممسين، فلما ذهبت فحمة العشاء بعثنا أميرنا رجلين رجلين، فأحطنا بالعسكر بالمشركين، وقال: إذا كبَّرت وحملت فكبِّروا واحملوا، وقال حين بعثنا رجلين: لا تفترقا، ولأسألنَّ واحداً منكما عن خبر صاحبه فلا أجده عنده، ولا تمعنوا في الطَّلب، يعني: لا تتطارد مشركاً وتبتعد كونوا قريبين من بعضكم، فلمَّا أردنا أن نحمل سمعت رجلاً من الحاضر صرخ: يا خضرة، هذا اسم امرأةٌ، قال: فتفاءلت بأنَّا نُصيب منهم خُضرةً -وهذا هو موضع الشَّاهد- قال فلمَّا أعتمنا كبَّر أميرنا وحمل وكبَّرنا وحملنا، فمرَّ بي رجلٌ في يده السَّيف فاتبعته -رجلٌ من المشركين- مرَّ بيده سيفٌ فاتَّبعه ابن أبي حدرد فقال لي: صاحبي هم اثنين اثنين إنَّ أميرنا قد عهد إلينا ألَّا نمعن في الطَّلب فارجع، فلمَّا رأيت إلَّا أن أتبعه قال: والله لترجعنَّ أو لأرجعنَّ إليه -يعني إلى الأمير- ولأخبرنَّه أنَّك أبيت، فقلت: والله لأتبعنَّه، قال: فاتبعته حتى إذا دنوت منه رميته بسهمٍ على جريداء متنه فوقع، فقال: ادن يا مسلم إلى الجنَّة، وهذه كلمةٌ استخدمها بعض النَّصارى العرب مع الصِّرب في البوسنة في المعارك مع المسلمين، كان بعضهم يقول: إذا تريد الجنَّة فتعال، يعني: من الاستهزاء، يقول: ادن يا مسلم من الجنَّة فلمَّا رآني لا أدن إليه ورميته بسهم آخر فأثخنته رماني بالسَّيف فأخطأني، وأخذت السَّيف فقتله واحتززت رأسه، وشددنا نعماً كثيرةً وغنماً ثُمَّ انصرفنا فأصبحت فإذا بعيري مقطورٌ به بعيرٌ عليه امرأةٌ جميلةٌ شابَّةٌ، فجعلت تلتفت خلفها فتكبِّر، فقلت لها: إلى أين تلتفتين؟ قالت إلى رجلٍ والله إن كان حيَّاً خالطكم، قال: قلت: وظننت أنَّه صاحبي يعني هذا المقتول الذي قتلته: قد والله قتلته وهذا سيفه وهو معلَّقٌ بقتب البعير الذي أنا عليه، قال: وغمد السَّيف ليس فيه شيءٌ معلَّق بقتب بعيرها، فهذا الصَّحابي معه سيفٌ من غير غمدٍ وبعير المرأة فيه غمدٌ من غير سيف، فلمَّا قلت ذلك لها قالت: فدونك هذا الغمد فشمه فيه أدخل السَّيف في الغمد إن كنت صادقاً أنَّك قتلته، وأنَّ هذا سيف المقتول الذي أعنيه، قال فأخذته فشمته فيه فطبقه طبقه يعني على المقاس، فلمَّا رأت ذلك بكت، قال: فقدمنا على رسول الله ﷺ فأعطاني من ذلك النَّعم الذي قدمنا به[رواه أحمد23882]. فالشَّاهد أنَّه لما سمع يا خضرة تفاءل أنَّهم سيغنمون منهم خضرةً، فإذاً نرجع مرَّة أُخرى ونقول: أنَّ التَّفاؤل بكلمةٍ يسمعها الإنسان وأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أكثر ما كان يتفاءل بالأسماء الحسنة.
التَّفائل بتحسين الاسماء
ولذلك جاءت الشَّريعة بتحسين الأسماء؛ لأنَّ الاسم أيُّها الإخوة يكون مع الإنسان من ولادته إلى وفاته، ويكتب في الشَّهادة والحفيظة والبطاقة والرُّخصة وجميع الوثائق، فكُلُّ أبٍ عليه مسئوليةُ تسميةِ ولده، والمسئولية كبيرةٌ لماذا؟ لأنَّ هذا الاسم سيرافق المولود منذ تسميته إلى وفاته، وسيكون سمةً على المولود فإذا أساء الأبُ تسمية الاسم يكون قد ارتكب جُرماً بحقِّ ولده، وهذا الجرم سيكون مُلصقاً بالولد إلى أن يموت، وبعد أن يموت لا يزال يُقال فلان، ولذلك فإنَّ الأسماء سمةُ كُلِّ اسم على المسمَّى، وكُلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلَّا ومعناه إنَّ فكَّرت في لقبه، فالاسم: أول ما يُواجه المولود إذا خرج من ظلمات الرَّحم، وأولُ شيءٍ يميِّزه عن الآخرين، وأول وسيلةٍ يدخل بها المولود في ديوان الأمة، فلذلك ينبغي أن يحسنه الأبُّ ولكُلِّ مسمَّى من اسمه نصيب، وغالباً ما تجد أنَّ الاسم له علاقةٌ بالمسمَّى في كثيرٍ من الأحيان حتى قال ابن القيم رحمه الله: "أكثر السُّفل أسماؤهم تناسبهم وأكثر الشُّرفاء والعلية أسماؤهم تناسبهم"[تحفة المولود1/147]. ولهذا كان بعض النَّاس إذا رأى شخصاً تخيَّل اسمه فكان كما تصوَّر، يعني: من شدَّة فراسته بمجرَّد ما يراه يتخيَّل اسم هذا الشَّخص، فإذاً الأسماء لها تأثير في المسمِّيات في الحسن والقبح والخفَّة والثِّقل واللَّطافة والكثافة، والاسم أيضاً إذا كان حسناً فإنَّ ذلك معينٌ على التَّفاؤل به، فإذا سمَّاه اسماً حسناً صار مدعاةً لتفاؤل من حوله ممَّن يحيط به وهو أيضاً يتفاءل ولكن إذا كان الاسم سيِّئاً كان ذلك مدعاةً للتَّشاؤم بهذا الشَّخص حتى يكرهه النَّاس؛ لأنَّ من أسباب كُره بعض النَّاس للأشخاص: الاسم، يكرهون اسمه فيؤدِّي ذلك إلى كراهته هو، فلو كان الاسم حسناً لأدَّى ذلك إلى التَّفاؤل، وكذلك الاسم إذا كان سيِّئاً لأدَّى ذلك إلى التَّشاؤم، تأمَّل في أسماء الشَّياطين مثلاً: خنزب، اجتماع: الخاء والنُّون والزَّاي بحد ذاتها، فهذا اسمُ شيءٍ مقززٍ تنفر منه الأسماع، كانت العرب يسمُّون أبناءهم بأسماء شديدةٍ، وغلمانهم وعبيدهم بأسماء رخوة، ويقولون أبناؤنا لأعدائنا وغلماننا لنا، فيُسمُّون: فيروز ومرجان وعنبر لغلمانهم، ويسمُّون أبناءهم خنجر وحرب ومرَّة وصخر ونحو ذلك، فالإسلام جاء بالأسماء الحسنة، يعني: عبد الله وعبد الرحمن وسمَّى النَّبيُّ ﷺ يوسف، وغيَّر النَّبيُّ ﷺ عفراء إلى خضرة، وكان من هديه تغيير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن، ما علاقة ذلك بالقضية؟ مسألة التَّشاؤم والتَّفاؤل، فإذاً: لا بُدَّ من إحسان اسم الولد ليكون ذلك معيناً على التَّفاؤل، هذا ما تيَّسر ذكره في هذا الموضوع وهو موضوع: التَّفاؤل الذي له علاقة كما قلنا بكُلِّ نشاطٍ من أنشطة الإنسان، حتى ينعكس ذلك على قراراته في التَّجارة وفي الزَّواج وفي الوظيفة وفي الامتحانات، والاسم أو التَّفاؤل له علاقةٌ بالمجهود.