الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ضوابط في موضوع الإيمان بالقضاء والقدر
فإن من موضوعات العقيدة العظيمة الإيمان بالقضاء والقدر، وهو ركن من أركان الإيمان، وهذه بعض الضوابط في هذا الموضوع المهم:
القضاء والقدر لفظان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا
00:00:34
أولاً: القضاء والقدر لفظان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أن لفظة القضاء ولفظة القدر إذا اجتمعتا في سياق واحد في مكان واحد في جملة واحدة فإنه لا بدّ أن يكون بينهما فرق، وأما إذا افترقتا فجاءت هذه في موضع وهذه في موضع فإنه يمكن أن يعبر بالقضاء عن القدر، وبالقدر عن القضاء.
إذا اجتمعتا فماذا يمكن أن يكون الفرق بين القضاء والقدر؟
قيل أمور: من أوضحها أنه إذا اجتمعتا فالمقصود بالقدر علم الله وكتبه السابق الأزلي للأمر الذي سيحدث في المستقبل، يعني ما سبق به العلم هو القدر، ما جرى به القلم هو القدر؛ لأن معنى القدر هو التقدير، أما القضاء في هذه الحالة فيكون معناه وقوع القدر على وفق ما سبق في علم الله؛ لأن معنى القضاء أيضاً الخلق، كما قال : فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ[فصلت: 12]، فإذاً إذا جاء القضاء والقدر في عبارة واحدة، فالقدر علم الله السابق وكتبه، والقضاء خلقه وإيجاده لما قدره سابقًا.
وأما إذا ذكر القدر وحده فيمكن أن يكون معناه القضاء، وإذا ذكر القضاء وحده فيمكن أن يكون معناه القدر، فمثلاً لو قلت في عبارة: قدر الله وقوع كذا، فقدر تأتي هنا بمعنى قضى، وإذا قلت: قضى الله بكذا فيمكن أن يكون المعنى قدر.
أركان الإيمان بالقضاء والقدر
والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان، لا يتم إيمان العبد بقدر الله إلا بالإيمان بها: وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فمن أقر بها جميعًا كان إيمانه بالقدر كاملاً، ومن انتقص واحدًا منها فقد اختل إيمانه بالقدر.
أما الأول فهو الإيمان بعلم الله الأزلي السابق، وأنه أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً، وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم، وأعمارهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وعلم شقيهم وسعيدهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم، وقبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال سبحانه: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ [سبأ: 3]، وقال: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
إذاً ما هو الأمر الأول من الأمور الأربعة الإيمان بعلم الله السابق.
الثاني: الإيمان بكتبه للمقادير، وأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، كما قال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج: 70]، وقال: أوَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ[فاطر: 11]، فنؤمن أن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وأن هذا الكتاب لم يفرط فيه شيء، يعني: كتب فيه كل شيء، وهذا يسمى أم الكتاب، ويسمى الذكر، ويسمى الإمام، ويسمى الكتاب المبين، كله اللوح المحفوظ، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12].
وقال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4]، وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء: 105]، وقال عليه الصلاة والسلام: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة[مسلم: 2653]، وقال أيضاً: أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد [أبو داود: 4702، وصححه الألباني صحيح الجامع: 2018].
فإذاً اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، وهو الإمام، وهو الكتاب المبين له، وهو الذكر، الدليل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ[الأنبياء: 105].
الثالث: الإيمان بالإرادة والمشيئة، فنؤمن بأن الله لا يجري في السماوات والأرض والكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حركة ولا سكون في السماوات والأرض إلا بمشيئته، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا يخرج عن إرادته شيء، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[الإنسان: 30].
وقال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، كل واحدة من هذه لها معنى لأننا لما نقول: لا يكون في ملكه إلا ما يريد، لأن بعض المبتدعة قالوا: إنه تقع أشياء بغير إرادة الله، هؤلاء الضلال الذين قالوا: هذه الشرور كيف يريدها، فهي تقع بغير مشيئته، فأرادوا أن يتلافوا شيئًا، فوقعوا فيما هو أدهى وأمر، لأنهم اتهموا الله بالجهل، قالوا: يقع ما لا يعلمه، واتهموه بالعجز.
فقالوا: يقع ما لا يريده، وأهل السنة يقولون: كل ما يقع علمه، وكل ما يقع كتبه، وكل ما يقع شاءه وأراده، ولم يحدث إلا بإرادته ومشيئته، وله وراء كل شيء حكمة، ولا يشاء شيئًا حتى لو كان هزيمة أحد إلا وله من ورائه حكم عظيمة، وإن كانت في ظاهرها شرًا لكن من ورائها حكم عظيمة؛ حتى خلق إبليس له من ورائه حكم عظيمة، فلا يقع في العالم شيء إلا ولله فيه حكمة.
الرابع: الإيجاد والخلق، فنؤمن بأن الله خالق كل شيء، لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأن كل ما سواه مخلوق، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ما يجري في العالم من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية قد شاءه، وقدره، وخلقه، وأوجده، قال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، وقال : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[الزمر: 62].
فهذه هي المراتب الأربع الشاملة لما يدخل في مسمى القضاء والقدر، ما هي الأربعة؟
أولاً: العلم السابق. ثانيًا: الكتب في اللوح المحفوظ. ثالثًا: المشيئة والإرادة. رابعًا: الخلق والإيجاد.
أنواع التقدير
من الضوابط في موضوع القضاء والقدر أن التقدير هذا القدر والتقدير منه ما هو أزلي، ومنه ما هو عمري، ومنه ما هو حولي، ومنه ما هو يومي:
فأما التقدير الأزلي: فهو كتابة المقادير في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، خلق الله القلم، وقال له: اكتب [رواه أبو داود: 4702، وصححه الألباني صحيح الجامع: 2018]، والله يعلم قبل خلق القلم ماذا سيكون؟
التقدير العمري: تقدير كل ما يجري للعبد في حياته إلى مماته، وشقائه وسعادته، وأجله، ورزقه، وعمله، ويكون هذا التقدير عند نفخ الروح في بطن أمه، قال عليه الصلاة والسلام: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح [رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643]، هذا أي تقدير العمري.
الثالث: التقدير الحولي: يكون في ليلة القدر، وهو التقدير السنوي؛ الذي يكتب فيه في كل سنة ماذا يحدث فيها من موت وحياة، ومرض وعافية، ورزق ومطر وقحط، وحتى الحج يكتب فلان يحج، وفلان يحج، هذا التقدير الحولي، وقد قال : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4].
في تلك الليلة من السنة، ومعنى يفرق: يفصل، ويبين، ويكتب في هذه الليلة المباركة ليلة القدر، كل أمر فيه حكمة، لأن كل ما يفعله ربنا سبحانه مشتمل على أنواع الحكم الباهرة، ففي كل ليلة قدر من السنة يبين الله للملائكة، ويكتب لهم بالتفصيل ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر التي بعدها من السنة الجديد، فيكتب في صحف الملائكة الآجال، والأرزاق، والفقر، والغنى، والخصب، والجدب، والصحة، والمرض، والحروب، والزلازل، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنًا ما كان.
أما التقدير اليومي الذي ذكره ربنا بقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[الرحمن: 29]، فإنه في كل يوم يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويعز ويذل، ويمرض ويشفي، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبًا، وهكذا من الأفعال الكثيرة التي تحدث كل يوم في العالم، فهذا التقدير اليومي تفصيل التقدير الحولي، والتقدير الحولي تفصيل التقدير العمري، والتقدير العمري تفصيل التقدير الأزلي الذي خطه القلم في الإمام المبين.
الاحتجاج بالقدر
مسألة الاحتجاج بالقدر ما هي مسألة الاحتجاج بالقدر؟ من الذي احتج بالقدر؟ وعلى ماذا احتج آدم؟ ومن يحتج به العصاة؟
القدر السابق لا يمنع العمل
فالجواب عن هذا نقول القاعدة الرابعة: القدر السابق لا يمنع العمل، فاتفقت كل الكتب السماوية التي أنزلها الله، والسنن النبوية على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يوجب الاجتهاد، والجد، والحرص على العمل الصالح، ولذلك لما أخبر النبي ﷺ أصحابه بسبق المقادير، وجريانه، وأنه ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟" يعني: ما دام كل شيء مكتوب ومقدر لماذا نعمل فالمقدر سيقع وانتهينا، قال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل الجنة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[الليل: 5-7] هذا عمل أعطى، واتقى، وصدق، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5-10] الحديث. [رواه البخاري: 4949].
فإن الله قدر المقادير، وهيأ الأسباب، ويسر كلاً لما خلقه، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادًا في فعلها، وكيف لا يترك أهل الدنيا العمل لمصالح دنياهم مع أن الرزق مكتوب في الدنيا، ثم يتركون العمل لمصالح أخراهم، وتلك الدار الباقية، وهذه فانية، واعجباً لمن يستدل بالقدر على ترك العمل، نقول: أنت الآن لا تكسب رزقًا أبداً، لا تبع، ولا تشتر، ولا تشتغل بأي وظيفة، ولا تعمل أي عمل، والرزق المكتوب سيأتيك لا تتزوج أبدًا، وإذا في لك ولد سيأتيك، فيقول: كيف الواحد يأتي له مال وهو جالس في البيت ما يفعل شيء؟ كيف يأتي له ولد وما بذل السبب وتزوج؟
فهؤلاء في أمور الدنيا لا يقولون: سنتكل على القدر، ولن نعمل، والدنيا فانية، وإذا جاءوا على أمور الآخرة التي فيها النجاة والهلاك، والجنة والنار قالوا: والله نحن لن نعمل، لا نصلي، ولا نصوم، وإذا كان الله كاتب لنا الجنة سندخل، فهم لا يقبلون الكلام هذا في الدنيا الفانية، وإذا جئنا إلى أمور الآخرة وقلنا: أيها الناس ابذلوا الأسباب، اتركوا المعاصي حتى لا تدخلوا النار، وافعلوا الواجبات حتى تدخلوا الجنة، قال: هذه تعب هذه فيها مخالفة الهوى، ومتعبة، إن كان الله كاتب لنا الجنة سندخل، وإن كان كاتب لنا النار مهما عملنا، فهم في أمور الآخرة متواكلون، وفي أمور الدنيا يسعون ويبذلون ويكدحون، والنبي ﷺ قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان[رواه مسلم: 2664].
فقوله: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز كله يدل على العمل.
وعن كعب بن مالك قال: يا رسول الله أرأيت دواء نتداوى به، ورقى نسترقي بها، وأشياء نفعلها هل ترد من قدر الله؟ قال: يا كعب بل هي من قدر الله رواه ابن حبان [صحيح ابن حبان:6100].
ولما عزم عمر على الرجوع من دخول الشام عام الطاعون؛ بعد استشارة أصحابه، قبل أن يدخل الشام سمع أن الطاعون وقع فيها، فعزم على الرجوع، وعدم الدخول لأن معه جيش وناس، فلما استشار من معه قال أبو عبيدة: يعني: ترجع وما تدخل الشام، يعني: فرارًا من قدر الله، "أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان -جانبان- إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله"، يعني أنت لك اختيار، أنت تفعل ما فيه المصلحة، أنت تورد الإبل المكان الخصب، وبقدر من الله، ولو واحد ارتكب الحماقة، وذهب إلى الجدب أيضاً سيكون قد حصل هذا بقدر من الله، لكن هذا اختياره السيئ، وهذا عمله الفاشل، "قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف". [رواه البخاري: 5729، ومسلم: 2219].
الاحتجاج الصحيح بالقدر هو الاحتجاج عند المصائب لا عند المعائب
خامسًا: الاحتجاج الصحيح بالقدر هو الاحتجاج عند المصائب لا عند المعائب، فقد يتعلل بعض المذنبين المقصرين، إذا ليموا لماذا لم تفعل هذا الواجب؟ ولماذا تغشى هذا المحرم؟ قال: قدر الله عليّ، فيحتجون بالقدر على المعصية، وهذا باطل، فلا شك أن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ترك واجب أو فعل محرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين"، يدافع عن نفسه بأن هذا مكتوب ومقدر في مجال المعصية، أن الاحتجاج بالقدر في الدفاع عن النفس في حال ارتكابها معصية باطلة، قال: "باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر، ونفس المحتج إذا اعتدي عليه واحتج المعتدي عليه بالقدر لم يقبل منه"، يعني: نفس المحتج هذا لو جاءه أحد وضربه وأخذ ماله فقال له: لماذا ضربتني؟ فقال: قدر الله، الله قدر لي أضربك، وآخذ مالك، لا يقبل منه.
قال: "فالاحتجاج بالقدر -يعني على المعاصي- معلوم الفساد في بدائه العقول" انتهى [مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8/179].
وقد احتج المشركون على شركهم بهذا، فقال الله:سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[الأنعام: 148].
فسماه الله تكذيبًا، سمى الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية وعلى الشرك سماه تكذيبًا، قال: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام: 148]، عندك دليل على صحة الاحتجاج بالقدر على الوقوع في الشرك؟ عندك دليل على صحة الاحتجاج بالقدر على الوقوع في المعصية؟ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148]، تكذبون، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم صحيحًا ما أذاقهم الله بأسه، لكن قال في الآية: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام: 148].
فمن احتج بالقدر على الذنوب والمعايب فيلزمه أن يصحح مذهب الكفار؛ لأن الكفار فعلوا ذلك، وينسب الظلم إلى الله لأنه سيقول لربه لماذا تعذبهم بالنار وأنت قدرت عليهم، هم كل ما فعلوه مقدر، فهم معذورون، فيؤدي هذا إلى إبطال دخول أهل النار النار، وإلى اتهام الله بالظلم إذا أدخلهم، ويؤدي هذا إلى عذر أي معتدي في العالم، وإلى إعطاء الحجة لأي ظالم في العالم أن يظلم، وإذا احتج عليه، وإذا اعترض عليه، يقول: قدر يا شعبي أن أظلمكم، قدر يا شعبي أن أقتلكم، قدر يا شعبي أن أدخلكم السجون، وأنهب أموالكم، وأعتدي على أعراضكم، فلماذا تلومونني يا شعبي العزيز على هذا، وأنا لم أفعل فيكم إلا ما قدر الله وكتب، فيكون فرعون معذورًا فيما فعله في بني إسرائيل من ذبح أولادهم، واستحياء نسائهم؛ لأن هذا هو محض القدر.
ولو كان القدر حجة صحيحة على فعل المعاصي والذنوب لتعطلت مصالح الناس، وعمت الفوضى، ولما كان هناك داعي لإقامة الحدود، والتعزيرات، والجزاءات؛ لأن كل مسيء، ومعتدي، ومذنب، ومجرم، وظالم، وسفاح إذا وقف بين يدي القاضي، وقال له: أنت فعلت كذا وكذا، وقتلت، يقول: القدر فعلى ما إذاً يحكم قضاة العالم على المجرمين، ويدخلونهم السجون، ويعاقبونهم، أو بالغرامات المالية، أو بالقتل.
وإذا جئنا إلى نقض الحجة، فإننا نقول له عندما نوبخكم ونحاسبكم فإننا لا نؤاخذكم على كتابة الله، وعلم الله السابق؛ لأننا نقول: أن الله علم، وكتب، وقدر، وشاء، وخلق، وأراد، لكننا نحاسبكم على أفعالكم أنتم، لا على أفعال ربكم، نحن الآن لا نحاسبكم على ما كتب الله، وعلم الله، وقدر الله، وفعل الله، وشاء الله، لكن نحاسبكم على أعمالكم التي اقترفتموها أنتم بأيديكم، وما كسبتموها أنتم، فنحاسبكم على كسبكم لا على مشيئة الله وقدره، فإننا نؤمن أن الله قدر، وكتب، وشاء، لكننا نؤمن أيضاً أن الله أعطاكم إرادة بموجبها فعلتم ما فعلتم، فنحاسبكم على إرادتكم وأفعالكم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نحن لسنا مأمورين بما كتبه الله علينا، لكن نحن مأمورين بالقيام بما أمرنا أن نقوم بها، فهناك فرق بين ما أريد بنا، وما أريد منا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فنقول: علم الله السابق قبل أن يقع في الواقع هل تعلمونه؟ لا، فنحن لا نحاسبكم على علم الله، ما نقول: لماذا كتب الله عليكم هذا؟ لا، نحن نقول: لماذا فعلتم هذا؟ نحن نحاسب أنفسنا على ما أراده الله منا، لا ما أراده الله بنا، ما أراده الله بنا الذي هو القدر، ولذلك فإن هناك حسابًا وجزاء في الدنيا، وفي الآخرة على ما أراده الله منا، ولا يحاسبنا الله حتى يوم القيامة على ما كتبه علينا، وما أراده بنا، لكن يحاسبنا على ما أراده منا، لما قال: افعلوا، ولا تفعلوا هذا الذي يحاسبنا عليه، وهذا الذي عليه مناط الحساب، والجزاء، والثواب، والعقاب في الدنيا والآخرة، فلماذا خالفت ما أمرك الله به وما نهاك عنه؟ لماذا أعطاك إرادة، وأمرك، ونهاك، لماذا خالفت؟ على هذا ستحاسب، لا على ما كان في اللوح المحفوظ, وعلى الكتب، وعلى التقدير.
ومن جهة ثالثة: فإنه يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان، لا التكليف والآثام والذنوب التي يقترفها ويكتسبها، فمثلاً الفقر، المرض، فقد القريب، خسارة المال، هنا يكون الاحتجاج بالقدر صحيحًا، "فالسعيد يستغفر من المعايب، ويصبر على المصائب، والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر عند المعايب.
كلام شيخ الإسلام يقول: "السعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر عند المعائب". [القصيدة التائية في القدر:1/150].
لو أخذنا مثلاً لو أن رجلا أسرع سرعة مفرطة بسيارة وتسبب في وقوع حادث، فوبخ على ذلك، وجيء به للمحاسبة، فاحتج بالقدر السرعة هذه قدر الله، والحادث قدر الله، لم يكن مقبولاً، فسيقال تسببت، وأسرعت، واخترت التهور الذي أفضى إلى الحادث، بينما لو أن شخصًا صدمت سيارة وهو في مكانه لم يتحرك بها، فجاء شخص قال: لماذا انصدمت السيارة؟ فسيقول: هذا قدر الله، ليس منه فعل مصيبة محضة، فإذاً محاسبة العباد على ما كان من أفعالهم واختيارهم ولا يحتج بالقدر في هذا، لكن ما كان خارجًا عن اختيارهم، وليس لهم فعل فيه فهنا يكون الاحتجاج بالقدر صحيحًا، فإذا قيل لشخص: لماذا مات أبوك؟ قدر الله، لماذا مرضت زوجتك؟ ولذلك هنا يأتي الاحتجاج صحيحًا مائة بالمائة، يقول هذا قضاء الله وقدره، ونحن نرضى ونسلم، لكن في المعصية المفترض أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، وأعترف، وأنا نادم، وأتحمل مسؤولية ما فعلت، وأعيد المسروق، وأتحلل، وأتحمل النتائج، لو كان محقًا سيتجه بهذه الطريقة.
احتجاج آدم وموسى في الحديث: احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه؟ ثم تلوموني على أمر قد قدر عليّ قبل أن أخلق، فحج آدم موسى [رواه البخاري: 3409، ومسلم: 2652].
الخلاصة: أن آدم وموسى التقيا بعد الموت، فقال موسى لآدم: أخرجتا ونفسك من الجنة، فقال آدم: تلوموني على أمر قد قدر عليّ قبل أن أخلق، بعض الناس يتصور أن آدم احتج بالقدر على الذنب، ولكن الذي يتأمل الحديث يجد غير ذلك، فإن موسى ما لام آدم على الذنب؛ لأن موسى يعلم أن آدم استغفر وتاب، وأن الله قبل توبته، ومحا ذنبه، فإذاً موسى يعلم أن آدم غفر له، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[البقرة: 37]، فإذاً موسى لم يلم آدم على الذنب، وإنما احتج بالقدر على المصيبة.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث". [شرح الطحاوية: 1/105].
ولذلك متى يصح الاحتجاج بالقدر من الذنب إذا تاب، وأقلع وانتهى، فجاء واحد وقال: أنت فعلت كذا، فهنا يقول: قدر الله وما شاء فعل، وأنا أصلاً الحمد لله فارقت ذنبي، وتبت منه، وأستغفر الله منه، وأتبرأ منه، فيباح الاحتجاج بالقدر للمذنب إذا تاب من ذنبه، فيكون الذنب عندئذ في حقه مصيبة، لكن المذنب إذا لم يتب لا يكون ذنبه مصيبة عنده، الزاني لا يرى الزنا مصيبة إذا كان هو مستمر في الزنا، شارب الخمر إذا شرب الكأس والآن يهيئ الكأس الثانية لا يرى أن الكأس هذه التي شربها مصيبة، فهو سادر في غيه، لكن لو تاب، وأقلع، وانتهى، واستقام، وجاء شخص يلومه على ذنب قديم، فالذنب القديم بالنسبة للتائب الذي ندم يعتبر مصيبة، فيقول: هذا قدره الله عليّ، وأنا تبت، فإذاً يصح الاحتجاج بالقدر من المذنب إذا تاب، وأقلع، واستقام، وندم لأنه فعلاً يراه بعد الندم مصيبة، وقد قال النبي ﷺ: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا [رواه الترمذي: 3502]، وأما المذنب حال ذنبه، واتباعه للشهوات لا يرى ذنبه مصيبة، بل يستحليه ويستمر فيه، فلا يمكن أن يحتج بالقدر هنا، ويقول هذه مصيبة، لكن آدم بعد الذنب، وبعد التوبة، وبعد الاستقامة يرى ذنبه الذي فعله في الجنة من الأكل من الشجرة مصيبة، ويؤمن أنه مصيبة، فلذلك يسوغ لآدم أن يقول: تلوموني على أمر قدره الله عليّ -كتبه- قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيستقيم الكلام حينئذ، ولا إشكال في ذلك.
القدر سر من أسرار الله، لا مدخل للعقل فيه
سادسًا: من الضوابط في القضاء والقدر: أن القدر سر من أسرار الله، لا مدخل للعقل فيه، الإيمان بما جاءت به المقادير واجب، والاقتصار في باب القدر على ما ورد في القرآن والسنة، والتسليم وعدم التنقير، وإثارة الشبهات لا بدّ منه، لازم وإلا ضاع الإنسان؛ لأن هناك قضايا ما يستوعبها الإنسان، ولا يحيط بها، والله عليم خبير، وكثير من الذين خاضوا في القدر، وتكلموا فيه بغير علم، ونبشوا فيه، ونقروا، ونقبوا، وتعمقوا، بعضهم انتهى إلى الضلال المبين، ومنهم من انتهى إلى أن الإنسان يخلق فعله بنفسه، وأن الله لا يخلق أفعال العباد.
ومنهم من انتهى إلى أن الإنسان مجبور على عمله، وأنه لا مشيئة له.
وكلاهما -القدرية والجبرية- طرفا ضلال، وبعض الناس يقولون: أنتم تحجرون على عقولنا، نقول: لا، لصحة العقل لا يدخل فيما لا يحسنه، ولا يستطيع أن يبحر فيه، مثل كيفيات الغيب مثلاً.
هل يجوز للعقل أن يدخل في كيفية صفات الله؟
لا يجوز، هل هذا حجر على العقل؟ لا، لصحة العقل لا يرد المجال الذي لا يحيط به، ولا يطيقه لأنه فوق طاقة العقل، أن يتصور كيفية صفات الله، فالجنة وهي مخلوقة قال النبي ﷺ في شأنها: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر [رواه مسلم: 2825].
فمهما حاولت تتخيل الجنة، مثلاً: قال الله: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن: 64] يعني اسودتا من شدة الخضرة، مهما تخيلت اللون لن يكون كما تخيلت، مهما تخيلت الفاكهة، والنخل، والرمان، وغرف من فوقها، وغرف مبنية، وقصور، وحور عين، وجنات تجري من تحتها الأنهار، مهما تخيلت الحلل، والأسورة من ذهب ما يمكن تدرك كنهها، ولا صفتها، وكيفيتها بشكلها أن تدركه بعقلك ما يمكن، فإذاً هناك أمور لا يخوض فيها العقل لعجزه، وصحيًا للعقل ألا يدخل فيه، خاض بعضهم في كيفية علم الله بما العباد عاملون، وخاضوا في قضية المصائر بلا علم، وضرب بعضهم كتاب الله بعضه ببعض، وتاهوا وحاروا.
قال السمعاني رحمه الله: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف" -يعني عدل عن الدليل- "فمن عدل عن التوقيف فيه ضل، وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به نفسه، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق، ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب". [أصول الإيمان: 1/91].
فالقدر فيه علم الله بالغيب بما سيكون، ومهما تبحرنا هل سنخرج بما سيكون لا نطيق، توقعات ممكن تخطئ، وممكن تصيب، وممكن يصير شيء ما هو بالبال أبداً، يعني: تقع مفاجأة بطريقة لم تخطر ببال أحد من الناس.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه:لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء: 23] انتهى. من شرح الطحاوية [1/249].
وقال ابن عبد البر: "وجملة القدر أنه سر الله لا يدرك بجدال، ولا نظر، ولا تشفي منه خصومة، ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يكون شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54].
لا شريك له، نظام ذلك قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[التكوير:29] وقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍالقمر: 49]، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، وقد تظاهرت الآثار في التسليم بالقدر، والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره، والعلم بعدل مقدره وحكمته" التمهيد [3/140].
الإرادة نوعان: كونية وشرعية
سابعًا: الإرادة نوعان: كونية وشرعية، وعدم التمييز بينهما سبب للضلال، فظن بعضهم أن إرادة الله للشيء تقتضي محبته له، وهذا يقود إلى القول: بأن الله يحب القتل، والزنا، وشرب الخمر، وإلى آخره.
هل هذه الأشياء وقعت من الفساق بقدر من الله أم لا؟
أرادها الله يحبها الله؟ لا.
إذاً أراد الله منا تركها؟ نعم.
إذاً هنا لا بدّ أن ننتهي إلى وجود إرادتين:
إرادة لله شرعية، وهي ما أراده منا.
الثانية إرادة كونية، وهي ما أراده بنا، أو ما أراده في هذا العالم مما يقع فيه.
ولا بدّ من التفريق بين الإرادتين:
فالإرادة الكونية القدرية تقع تحتها الطاعات والمعاصي، وكل شيء يقع في العالم، قال تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11]، وكذلك قال: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا[الأنعام: 125]، وقال: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود: 34]، فهل الله يحب الغواية؟ لا.
هل يحب أن يضل أحدًا؟ لا.
هل يحب أن يعصى؟ لا.
هذه المعصية والغواية إذا حصلت أرادها أم لا؟ نعم.
إذاً ما هو المخرج؟ وكيف نفهم الأمور بشكل صحيح؟
نقول: إن لله إرادة كونية يقع تحتها كل ما يقع في العالم مما يحبه ومما لا يحبه سبحانه، ولكن لا يقع شيء إلا لحكمة حتى الأشياء التي لا يحبها، إذا وقعت فهي لحكمة.
هل الله يحب إبليس؟ لا، لكن خلقه بإرادته، لكن ما خلقه إلا لحكم عظيمة، وهناك أشياء يحبها الله، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، الإرادة الشرعية هذه الدينية يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6]، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26]، يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6].
وبعض الناس ما اطهروا، هذه الإرادة الشرعية التي يحبها الله، وقعت أو ما وقعت يحبها الله، فإذا أراد الله شيئًا وقع ولا بد، إحياء إماتة، ضلال هداية، طاعة معصية، لكن الإرادة الشرعية -وهي ما يحبه- ليس بالضرورة فقد تقع وقد لا تقع، لكن الإرادة الكونية واقعة ولا بد.
تجتمع الإرادتان في إسلام عمر ، هل الله يحبه؟ نعم، هذه إرادة شرعية، هل وقع؟ نعم، هذه إرادة كونية، هنا وقعت الإرادتان.
موت أبي جهل على الكفر هل الله يحبه؟ لا. هل وقع؟ نعم، إذاً الإرادة الكونية وقعت هنا، والإرادة الشرعية لم تقع، الإرادة الكونية هذه نافذة لأن الله أراد أن تقع،إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
الذي يخلط بينهما بين الإرادتين يضل مثل المعتزلة.
روي أن أعرابيًا وقف على حلقة فيها عمرو بن عبيد المعتزلي، الضال، المنحرف في أشياء منها القضاء والقدر، فقال الأعرابي: للمجموعة هذه التي فيها عمرو بن عبيد: يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادع الله أن يردها عليّ، طبيعي من أعربي.
فقال عمرو بن عبيد المبتدع: "اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه"، لأن المعتزلة يقولون أن المعاصي التي تقع أن الله لا يريدها، يعني: لا يريدها شرعًا لا يريدها كونًا، فهذا الضال المضل قال: "اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه.
فقال الأعرابي: "لا حاجة لي في دعائك".
قال: ولم.
قال: أخاف كما أراد ألا تسرق فسرقت أن يريد ردها فلا ترد" [شرح العقيدة الطحاوية: 1/249].
فإذاً من علم الفرق بين الإرادتين استقام إيمانه بالقضاء والقدر، ولم تختلط عليه الأمور.
للعبد قدرة واختيار لا يخرجان عما قدره الله تعالى
الثامن: أن للعبد قدرة واختيار لا يخرجان عما قدره الله تعالى فالله له مشيئة ونحن لنا مشيئة، الله له إرادة ونحن لنا إرادة، لكن كل شيء نريده ونفعله لا يخرج عن إرادة الله ومشيئته، وإذا أردنا شيئًا والله ما أراد أن يقع، فلا يمكن أن يقع لكن لا تعارض بين إرادتنا ومشيئتنا، وبين إرادة الله ومشيئته، ليش لأن الله قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[التكوير:29]، فإذاً لا يجوز ضرب هذا بهذا، ولا نفي هذا ولا هذا، فإن الله أثبتهما جميعًا، فأثبت للعبد قدرة، واختيارًا، وإرادة، ومشيئة، وأثبت لنفسه إرادة، ومشيئة، فللعبد مشيئة يمكنه من خلالها أن يختار الزنا أو الزواج، شرب الخمر أو شرب اللبن، العبد يختار يسرق أو يتوظف في عمل مباح، العبد يختار يرابي أو يبيع ويشتري، العبد يختار، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[الإنسان: 3]، فإذاً إرادة العبد ومشيئته لا تخرج عن إرادة الله ومشيئته، فإذا أراد الله فإن ما يريد بالإنسان سيقع، وإذا ما أراد الله لو الإنسان حاول طيلة عمره لن يقع.
الهداية نوعان: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وامتنان
تاسعًا من الضوابط: الهداية نوعان: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وامتنان.
هداية الدلالة والبيان: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] يعني بينا له طريق الخير والشر، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت: 17] بينا لهم طريق الحق، وطريق الضلال، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7] يدلهم ويرشدهم.
لماذا أرسل الله الرسل؟ لهداية الدلالة والإرشاد.
لكن هل الرسل هؤلاء يهدون الهداية التي فيها صلاح القلب، ونور الإيمان يدخل فيه؟ لا.
فإذاً الرسل يهدون يبينون طريق الهداية، يبينون سبيل الرشاد.
أما هداية التوفيق والإلهام التي فيها دخول نور الإيمان إلى القلب، وانشراح الصدر، فإنها لله فقط، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ[الأنعام: 125]، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص: 56].
فما هي الهداية المثبتة للأنبياء والدعاة والعلماء؟ هداية الدلالة والإرشاد.
هل الله عليه أيضاً هداية الدلالة والإرشاد والبيان؟ نعم، ولذلك بين، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10]، يعني: بينا طريق الخير وطريق الشر، لكن هداية التوفيق والإلهام، وشرح الصدر هذه لله فقط.
عاشرًا: أفعال الله معللة بالحكم والغايات، فلا يقع شيء في العالم إلا لحكمة، فلا يوجد شيء عبثًا، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[المؤمنون: 115]، ما خلق الله السماوات والأرض إلا بالحق وما خلقهما باطلاً.
فلو قال قائل: هل يوجد حكم من تسليط هؤلاء المجرمين على المسلمين يقتلونهم في الشام؟
نقول: نعم بلا ريب، حكم عظيمة، الآية يعرفها من يهديه الله أو يعرف بعضها، يعرف مثلاً أن الله يمحص الذين آمنوا، أن الله يتخذ شهداء، أن الله يميز الخبيث من الطيب، أن الله يبلوهم لينظر كيف يعملون؟ ويبلو إخوانهم لينظر هل يعينون أو لا يعينون؟ ثم يأخذ الكافرين بعدما وصلوا في الإجرام إلى حد الأخذ؛ ولذلك قال: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].
فإذاً لله حكم عظيمة فيما يحدث، ونحن قد لا ندرك، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، لكن أن نقول: أن هناك أفعال لله ليس وراءها حكمة ولا فائدة، تعالى الله هذا اتهام لله بالبعث.
فإذاً من قال من العلماء إن أفعال الله ليس لها حكمة وليس لها غاية، فهذا كلام باطل، وضلال مبين.
وأخيرًا الضابط الحادي عشر: الشر في مفعولات الله تعالى لا في أفعاله، فأفعاله تعالى خير كلها، وعدل، وفضل، ورحمة، وحكمة، ومصلحة، والشر يدخل في المفعولات، يعني: المخلوقات، فالله خالق الخير وخالق الشر، وفعل الرب كله خير، والخير كله بيديك والشر ليس إليك [رواه مسلم: 771].
والله لا يخلق شرًا محضًا لا خير فيه، أو ليس فيه حكمة، وقد بين العلماء أشياء في خلق إبليس، والحشرات، والكواسر، والسباع، فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيرًا وباعتبار شرًا، فنحن نقول: إن خلق الله لإبليس فعل الله نفسه ليس شرًا؛ لأن له حكمة في خلق إبليس، ولولا خلق إبليس ما تميز أهل الجنة من أهل النار، كل الناس دخلوا الجنة، لكن إبليس نفسه الذي هو المخلوق المفعول هو شر، فإذاً الشر في مفعولاته لا في أفعاله؛ لأن أفعاله ليست هي شر أبداً، لكن ما يخلقه -نفس الشيء المخلوق- قد يكون شرًا، وقد يكون خيرًا، وما ظاهره بالنسبة لنا شر، قد يكون فيه خير من وجوه أخرى، ووظيفة أهل العلم والحكمة تلمس حكم الله في الأفعال، وبيان ذلك للناس، والأدب مع الله، ولذلك الجن قالوا: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10]، فإذاً كل ما خلق الله مما يظهر لنا فيه شر لا بدّ يكون فيه خير بوجه من الوجوه، أو لله فيه حكمة أدركناها أو ما أدركناها، هذا نؤمن به قطعاً.
هذه بعض الضوابط والقواعد في موضوع القضاء والقدر، وصلى الله على نبينا محمد.