الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد نبي الأميين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد.
فإن نبينا ﷺ كانت له أحوال في سروره، وحزنه، وفي فرحه، ورضاه، وفي بغضه، وسخطه، وكذلك في ضحكه، وبكائه، وفي همه وفكره، وفي صمته، وكلامه، وقد تعرضنا لبعض مواقف النبي ﷺ في فرحه، وسروره، ونريد أن نتعرض لبعض المواقف التي مرت بالنبي ﷺ كان فيها حزينًا، ونعرف لماذا حزن؟ وما هو سبب ذلك الخزن؟
والإنسان السوي يعتريه السرور والحزن إذا وجدت الأسباب، وكذلك الغضب والرضا وسائر العوارض البشرية، وقد قال الله تعالى عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34]، وهذا يشمل كل حزن بسبب أي نقص وكدر وتنغيص، فأهل الجنة ليس في أشكالهم، ولا طعامهم، ولا شرابهم، ولا لذاتهم، ولا ملكهم أي تنغيص ولا نقص، بل هو في تزايد أبد الآباد.
كان النبي ﷺ يحزن كغيره من البشر، وقد قال الله : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33].
حزن النبي ﷺ حين فتر الوحي
ومن الأحوال التي حزن فيها ﷺ لما فتر الوحي، يعني انقطع انقطاعًا مؤقتًا، وتأخر نزوله، فعن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله ﷺ الرؤيا الصادقة في النوم، فكان من إعداد الله لنبيه للبعثة:
أولاً: أنه كانت تأتيه الرؤيا الصادقة في النوم، فلا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح في تحقق وقوعها، طيب هذه مرحلة.
ثانيًا: حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغراء حراء، فيتحنث فيه قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك.
ثالثًا: أنه كان هنالك حجر بمكة يسلم عليه قبل البعثة، يقول: السلام عليك يا رسول الله.
رابعًا: أن جبريل عليه السلام كانت له مواقف معه، ثم فجأه في غار حراء فقال ﷺ: ما أنا بقارئ، أنا لا أعرف القراءة، "اقرأ" وهكذا الثانية والثالثة حتى أخذه فضغطه ضغطة بلغ بها الجهد، ثم قرأ عليه مقدمة السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق : 1]، فرجع بها النبي ﷺ يرجف بها فؤاده إلى خديجة، فسكنت خديجة من روعه، وأخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرأ تنصر في الجاهلية كان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وهذا ترجمة لأن التوراة كانت بالعبرانية والإنجيل كان بالسريانية، والقرآن بالعربية فكان ورقة يترجم من الإنجيل بالعربية، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فجاءت خديجة بزوجها ﷺ فقالت: يا ابن عمي، اسمع من ابن أخيك.
قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ الآن ورقة ضرير، فأخبره النبي ﷺ خبر ما رأى.
فقال ورقة بخبرته وعلمه: هذا الناموس الذي أنزل على موسى -يعني هذا الوحي- ليتني فيها جذعًا -يعني شابًا صغيرًا- ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجي هم، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
وفي رواية: إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله ﷺ. [رواه البخاري: 6581].
فإذًا من أسباب حزن النبي ﷺ توقف الوحي.
طيب ما هي الحكمة من وراء هذا التوقف، وهذا الفتور في الوحي أن تتأسس النبوة في نفسه، وأن يمرن عليه، ويتدرج فيه، ولذلك جاءه ثم انقطع عنه، ثم عاوده مرة أخرى، وقد جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي -يعني فتور الوحي-: فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملوني، زملوني، فأنزل الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1 - 2] ، إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[المدثر: 5]، فحمي الوحي وتتابع بعد ذلك، حمي الوحي وتتابع". [رواه البخاري: 3238].
ومن الحكم التي أشار إليها ابن عبد الهادي رحمه الله في فترة الوحي وفتور الوحي قال: "ليذهب عنه ما كان يجده ﷺ من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود، يشتاق ليعود الوحي مرة أخرى". [عمدة القاري: 1/164].
إذًا الإعداد للمهام الشاقة يتطلب تدرجًا هذا واحد.
اثنين: أن الزوجة الوفية تخفف عن زوجها ما يجده.
ثلاثة: أن صاحب الخبرة والعلم يكون مرجعًا للناس عند الأزمات والملمات.
أربعة: أن أصحاب التوحيد على مر التاريخ والوحي طريقهم واحد، فعرف ورقة أن هذا وحي لمعرقته بما سبق.
سادسًا: أن الإنسان يحتاج إلى من يثبته، ولذلك ثبت ورقة نبينا ﷺ.
سابعًا: أن اضطهاد أصحاب الحق تاريخي، قال: "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
ثامنًا: أن الشباب عليهم مسؤولية في حماية الحق ونصرته؛ لأن ورقة قال: "وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا"، وقد قال قبلها: "ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك"، معنى ذلك أن ورقة كان يتوقع أن يموت قبل، وهذا ما حصل، "ثم لم ينشب ورقة أن توفي".
حزن النبي ﷺ على عدم استجابة قومه له
ومن الأشياء والمناسبات التي حزن فيها النبي ﷺ ما حصل من عدم استجابة قومه له، فقد سألت عائشة رضي الله عنها نبينا ﷺ فقالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، وهذا ابن عبد ياليل كان من أكابر أهل الطائف من ثقيف، فعرض النبي ﷺ نفسه عليه لينصره، ويعينه على إقامة الدين فرفض ذلك، قال ﷺ: فانطلقت وأنا مهموم على وجهي يعني: حيران لا أدري أين أتوجه من شدة الغم والهم، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب يعني: لم أفطن لنفسي وأنتبه إلا وأنا بقرن الثعالب.
والقرن: في اللغة هو كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير يسمى قرنًا، وقرن الثعالب هو قرن المنازل، سمي بذلك لكثرة الثعالب فيه، وهو ميقات أهل نجد على بعد مرحلتين من مكة، يعني: لما أخرجوه من الطائفة خرج مهمومًا، وما انتبه إلا وهو بقرن الثعالب، يعني كم مشى؟ يعني ذهب إلى الميقات صار في ميقات أهل نجد، طبعًا هذه معروف أنها قريبة من الطائف، لكن مشى مدة.
قال: فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أضلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني القصة معروفة، وفيها: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة: أبو قبيس، والذي يقابله حتى يصيران طبقًا واحدًا، فتهلك هذه العصابة، ويموتوا فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا [رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795].
والنبي ﷺ قطع هذه المسافة كلها مشيًا، وكان في حال الاستغراق مع غمه وهمه وحزنه.
وأفاد ابن سعد أن مدة إقامة النبي ﷺ بالطائف كانت عشرة أيام. [الطبقات: 1/212].
وذكر موسى بن عقبة أن النبي ﷺ ذهب إلى الطائف لما مات عمه أبو طالب رجاء أن يؤوه، فعمد إلى ثلاثة نفر من ثقيف: وهم إخوة عبد ياليل، وحبيب، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم ما انتهى أمره إليه من قومه، فردوا عليه أقبح رد، وهذا الذي حصل له من الأذى الجسدي، والأذى المعنوي نتيجة الرد. [حياة الصحابة: 1 /291].
وفي هذا الحديث: البحث عن بدائل للدعوة، وأنه إذا أغلق باب فلا بدّ من طرق بقية الأبواب، وأن الإنسان يرتاد للدعوة الأماكن المتنوعة المختلفة، ويخاطب كبار القوم في الأماكن التي يريد أن يفتح للدعوة فيها بابا، وفيها أن النبي ﷺ مؤيد بملك الجبال بالإضافة إلى جبريل.
ولكن شفقته على قومه منعته من أن يجيب طلب ملك الجبال في الإطباق عليهم، وفيها أن رجاء خروج من يعبد الله منهم كان هو الأمل عند النبي ﷺ ولذلك رفض إهلاكهم، وهذا الرجاء حق، ولذلك حصل فعلاً وخرج من أصلابهم من عبد الله لا يشرك به شيئًا، وكذلك فإن ألفاظ الترجي في كلام الله وكلام رسوله ﷺ واقعة، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، وكذلك كل عسى في القرآن واجبة، عَسَى رَبُّكُمْ [الأعراف: 129].
يعني: سيفعل ذلك، وفيها بيان شفقة النبي ﷺ على قومه، وبيان شدة حزنه لما ردوه، وقد قال الله تعالى له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] ، ولعل هنا للإشفاق عليه ﷺ يعني لا يبخع نفسه لعدم إيمانهم، وقد قال تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8].
ومعنى باخع من البخع، والبخع أصله: أن تبلغ بالذبح البخاع، والبخاع: عرق يجري في الرقبة، وذلك أقصى حد الذبح وبخع فلان نفسه بخعًا يعني قتلها حزنًا وغيظًا، ومعنى الآية لا تهلك نفسك -يا أيها الرسول الكريم- غمًا وحزنًا على هؤلاء بسبب إعراضهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وقد قال سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان : 23]، وهذه تسلية للنبي ﷺ.
حزن النبي ﷺ لما لقي من الأذى
وقد حزن النبي ﷺ مرة أخرى لما لقي من أذى أهل مكة، وهذا حديث عجيب رواه أحمد [12133]، وابن ماجه [4028]، وقال ابن كثير: "إسناده على شرط مسلم" [البداية والنهاية: 6/123]، وصححه الألباني [صحيح السيرة: 1/139].
عن أنس ، قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله ﷺ، وهو جالس حزين قد خضب بالدماء قد ضربه بعض أهل مكة، كذا مر عليه النبي ﷺ أيام شدة منها أنه قد خضب بالدماء لما ضربه بعض أهل مكة جلس وهو حزين.
فجاءه جبريل، فقال: مالك؟
قال: فعل بي هؤلاء وفعلوا.
أتحب أن أريك آية؟" يعني: علامة تتسلى بها وتكون في محنتك تصبيرًا لك.
قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي.
فقال جبريل للنبي ﷺ: ادع تلك الشجرة نادها، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه ﷺ.
قال جبريل للنبي ﷺ: قل لها فلترجع.
فقال لها فرجعت حتى عادت إلى مكانها.
فقال رسول الله ﷺ لجبريل: حسبي، خلاص يكفيني هذا تسلية وتصبير، فالآيات التي يريها الله لنبيه تصبره.
وقال في مرقاة المفاتيح في شرح الحديث حسبي: كفاني في تسليتي عما لقيته من الحزن بهذه الكرامة من ربي". [مرقاة المفاتيح: 17/196].
حزن النبي ﷺ على قتل أصحابه
وحزن النبي ﷺ مرة أخرى لما قتل السبعون من أصحابه غدرًا، وهذا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة الذي قدم على النبي ﷺ، فعرض عليه الإسلام، فلم يرفض ولم يسلم، فقال: "يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله ﷺ إني أخشى عليهم أهل نجد؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت من المشركين الكفار، فقال الرجل: أنا لهم جار" -شوف الغدر- أنا أجيرهم، وأنا سيد قومي، وأنا أدافع عنهم وأمنعهم، وما أحد يقترب منهم بأذى، فبعث ﷺ المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة".
وحصل الغدر وأحاط بهم القوم حتى قتلوهم، وجاء في حديث أنس بن مالك أن رعلا، وذكوان، وعصية، وبني لحيان استمدوا رسول الله ﷺ على عدو، فقالوا ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فأمدهم بسبعين رجلاً من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، فيهم خالي حرام من المتكلم أنس يقرؤون القرآن، يعني: يحفظونه، ويتدارسون بالليل -يتعلمون- وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، يعني: سقيا للمصلين، ويحتطبون فيبيعونه، هم فقراء كيف يتصدقون يحتطبون ويبيعون الحطب ويتصدقون بهذه القيمة، ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء، فبعثهم النبي ﷺ إليهم، إلى رعل، وذكوان، وعصية وبني لحيان، فعرضوا لهم ببئر معونة فقتلوهم غدرًا، وغدروا بهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: لما قتلوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، يعني بعدما قتلوا ولقوا الله، فرضينا عنك ورضيت عنا وأتى رجل حرامًا خال أنس من خلفه.
واحد من المشركين جاء إلى حرام خال أنس من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام وهو يطعن: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة"، فالذي طعنه قال: كيف فاز وقد طعنته؟ فسأل بعد ذلك، فقالوا: هذه الشهادة، فكان سبب إسلام الرجل، قال أنس فقرأنا فيهم قرآنًا في هؤلاء المقتولين من الصحابة، ثم إن ذلك رفع يعني نزلت آيات ونسخت، فمن القرآن المنسوخ لفظًا، بلغوا عنا قومنا، أن لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا.
هذه كانت من القرآن فنسخت، المنسوخ طبعًا أقسام: منه ما نسخ لفظًا وحكمًا، ومنه ما نسخ لفظًا وبقي حكمًا، مثل: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله[سنن النسائي الكبرى:7150، وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة:2913] .
هذه آية كانت منسوخة لفظًا لكن حكمًا باقية أن المحصن والمحصنة إذا زنيا يرجمان، وفي آيات نسخت حكمًا وبقيت لفظًا، مثل: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ[النساء: 16] ، يعني يأتيان الفاحشة يعني الرجل والمرأة فَآذُوهُمَا [النساء: 16]، في آية فيها أنه قال عن هذه المرأة أو النساء إذا أتين الفاحشة: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا[النساء: 15]، فكانت عقوبتها تحبس في البيت حتى الموت، ثم نسخت، بس الآية بقيت في المصحف تقرأ في الصلاة لكن الحكم نسخ بالجلد مائة لغير المحصن، والرجم للمحصن، وقيل الرجم مع جلد مائة للمحصن، يعني يجلد أولاً ثم يرجم.
وقال أكثر أهل العلم إنه يرجم فقط المحصن.
إذًا في آيات نسخت لفظًا وحكمًا في سورة الأحزاب بقدر سورة البقرة في الطول، ثم نسخ الله منها ما نسخ في أشياء الصحابة ناموا واستيقظوا ما حصلوها في صدورهم نسخها الله من صدورهم، فالنبي ﷺ في هذه القصة قال لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا [رواه البخاري: 2814، ومسلم: 677].
الشاهد في هذا جاء في قصة أنس ، فقنت رسول الله ﷺ شهرًا، حين قتل القراء، فما رأيت رسول الله ﷺ حزن حزنًا قط أشد منه". [رواه البخاري: 1300].
ما مر موقف حزن مثلما حزن في قصة مقتل السبعين من أصحابه حفاظ القرآن الذين كانوا يقومون بالليل، ويصومون النهار، هذه كانت هي وأحد أشد مصابتان.
والعجيب أنه كان بينهما ستة أشهر، يعني توالى على النبي ﷺ مصيبتان عظيمتان كان بينهما ستة أشهر، ثم يعد ذلك جاء الفرج من الله، وصارت معركة الخندق، وصارت بعدها خيبر، وصارت أشياء لكن مر المسلمون بأزمة عصيبة في أحد، وبئر معونة، متوالتان مصيبتان عظيمتان ذهب فيهما من خيار الصحابة مائة وأربعون رجلاً، سبعون في أحد، وسبعون في بئر معونة، فلا شك أن هذا أحزن النبي ﷺ جداً.
ولذلك فإن النبي ﷺ كما تقول الرواية التي في مسلم: ما رأيت رسول الله ﷺ وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يدعون القراء، فمكث شهرًا يدعو على قتلتهم [رواه مسلم: 677].
وفي لفظ: فقنت رسول الله ﷺ شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان [رواه البخاري: 3862].
من شدة حزنه أقام شهرًا كاملاً على القتلة.
وحزن ﷺ مرة أخرى على مقتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في معركة مؤتة، فقالت عائشة رضي الله عنها لما جاء النبي ﷺ قتل ابن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب -يعني من شق الباب أنظر إليه- فأتاه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن، يعني امرأة جعفر أسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها، ومن حضر عندها من أقاربها، وأقارب جعفر، فالنبي ﷺ قال للرجل أن ينهاهن -يعني هذا جاء يشتكي يقول: يا رسول الله نساء جعفر، الحق نساء جعفر- وذكر بكاءهن، فأمره ﷺ أن ينهاهن، فذهب الرجل، ثم أتى فقال: قد نهيتهن، وذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا -يا رسول الله- فزعمت أنه قال: فاحثو في أفواههن التراب، فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله ﷺ ولم تترك رسول الله ﷺ من العناء". [رواه البخاري: 1299].
يعني: أنت جاي تقول: الحق الحق، ولما أعطيك توجيه ما سويت شيء، طيب ما معنى اذهب فاحثو في أفواههن من التراب، مبالغة في الإنكار عليهن في البكاء.
فقال بعضهم: هذا لا بد يكون فيه نياحة؛ لأنه لو كان بكاء عاديًا ما أنكر عليهم، ولو كان مجرد دمع العين ما نهاهن.
وقال بعضهم: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن أن هذا من النبي ﷺ فظنن أنه رأي شخصي لهذا الشخص.
وقيل: إن غلبة المصيبة، وشدة الحزن، وحرارة الحدث، وقولها يعرف فيه الحزن هذا يدل على أن النبي ﷺ بشر، وأنه يعتري ما يعتري البشر، ولكنه كان صابرًا مطمئنًا، يعرف فيه الحزن يدل على اعتدال حاله ﷺ، وأن من أصيب بمصيبة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور مثل النياحة، واللطم، وشق الثياب، ولا يفرط في التجلد، ولا كأنه صارت مصيبة حتى لا يؤدي ذلك إلى القسوة، والاستخفاف بالمصاب.
فكيف كان النبي ﷺ لما جاءت المصيبة جلس يعرف فيه الحزن، فجلسته كانت فيها يعني من الوقار والسكينة، وهذا السكون الذي هو سكون حزن مخايل الحزن بادية عليه، علامات الحزن بادية عليه.
وعن أسماء بنت عميس قالت: "لما أصيت جعفر وأصحابه دخل على رسول الله ﷺ" أسماء ما كانت تدري أن زوجها قتل، فدخلت على النبي ﷺ قالت: "وقد دبغت أربعين منيئة جلد -أربعين قطعة جلد، شوف جلد المرأة، وقوتها في العمل- "وعجنت عجيني، وغسلت بني" أولاد جعفر الصغار، ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله ﷺ: ائتيني ببني جعفرقالت: فأتيته بهم فشمهم، وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ فقال ﷺ: نعم أصيبوا هذا اليوم قالت: فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء" -هذه أسماء بنت عميس- وخرج رسول الله ﷺ إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم والحديث [رواه أحمد: 27131] .
وقال في مجمع الزوائد: "رواه أحمد، وفيه امرأتان لم أجد من وثقهما ولا جرحهما، وبقية رجاله ثقات" [مجمع الزوائد:6 / 236].
وفي معناه ما رواه ابن ماجه عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر رجع رسول الله ﷺ إلى أهله فقال: إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعامًا [رواه ابن ماجه: 1611، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة: 1307].
كذلك حزن النبي ﷺ قبلها حزنًا شديدًا لما أصيب عمه حمزة، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلاكن يوم أحد، فقال رسول الله ﷺ: لكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، يعني نساء الأنصار بكين عليه، فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: ويحهن ما انقلبن بعد ما انصرفن بعد مروهن فلينقلبن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم [رواه ابن ماجه: 1591، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة: 1293].
فقوله ﷺ: لكن حمزة لا بواكي له يدل على جواز مجرد البكاء.
أما قوله: لا يبكين على هالك بعد اليوم، يعني بكاء فيه محظور كالنياحة، أو اللطم، أو الدعاء بالويل، والثبور والخراب، فقوله: وايلاه، ويلي، يا خرابي، هذا حرام.
طيب: وتقطيع الثياب حرام، وشد الشعر، وتقطيع الشعر، وحلق الشعر في المصيبة حرام، أما مجرد البكاء ودمع العين حلال، والمسلم بشر ينفعل مع الأحداث، ويحزن للمصائب، والشريعة سمحت له بالتنفيس بالبكاء ودمع العين.
حزن النبي ﷺ خوفًا أن يشق على أمته
وحزن النبي ﷺ لما دخل الكعبة خوفًا أن يكون قد شق على أمته كيف يعني تقول عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ خرج من عندها وهو مسرور، ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: إني دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي [رواه أبو داود: 2031، والترمذي: 873]، قال الحافظ: "صححه الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم" [فتح الباري: 8/246]، [ضعفه الألباني سلسلة الأحاديث الضعيفة: 3346].
طيب لماذا رجع كئيبًا مغمومًا يقول: لو استقبلت من أمري يعني لو أنني علمت في أول الأمر ما علمت في آخره ما دخلت الكعبةحتى لا يشق على الناس، ربما يظنوا أنه لا بد من الدخول، ولا يستطيعون الدخول، فيقعدون في حسرة، وفي غم، وقد وصف الله تعالى نبيه ﷺ بقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ[التوبة : 128].
يقول السؤال: كيف الجمع بين قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ[المدثر : 2] ، وقوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ[الحجر : 94] ، والنبي ﷺ بقي يدعو سرًا ؟
يعني قبل قوله فاصدع بما تؤمر كان يدعو سرًا فلما قيل: فاصدع بما تؤمر جهر بالدعوة.