الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
بعض مناقب أبي بكر الصديق
حديثنا عن صاحبه، ورفيق هجرته، وأنيسه في دربه، ووزيره، ومواسيه في نفسه وماله، وأبي زوجته، وخليفته من بعده، وهو الصديق الذي آمن بالصدق، وآمن به في رحلته معه ﷺ من مكة إلى المدينة، وانتقاله، ونقلت الدعوة معه من مرحلة إلى مرحلة.
وصاحبه في ذلك الحدث الذي غيَّر وجه الأرض في ذلك الوقت، وهو الحدث الذي أرخ به المسلمون، إعلاماً للناس بأهمية هذا الحدث، وهو حدث الهجرة.
قصة الهجرة
روى البخاري -رحمه الله تعالى-: عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- ذكرت الحديث الطويل، وفيه: "فقال النبي ﷺ للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين، وهما الحرتان؛ فهاجر من هاجر قِبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبل المدينة، فقال له رسول الله ﷺ: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر".
قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر، في نحر الظهيرة، قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ، قالت: فجاء رسول الله ﷺ، فاستأذن فأذن له، فدخل، فقال النبي ﷺ لأبي بكرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أُذِنَ لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟! قال رسول الله ﷺ: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله ﷺ: بالثمن؟.
قالت عائشة-رضي الله عنها-: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جِرَابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الْجِرَابِ، فبذلك سميت: "ذات النطاقين".
قالت: ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكْتَادَانِ به، إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما، حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْلٍ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بهما عامر بن فُهَيْرَةَ، بِغَلَسٍ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله ﷺ، وأبو بكر رجلا من بني الدِّيلِ، وهو من بني عبد عدي هادياً خِرِّيتًا -وَالْخِرِّيتُ: الماهر بالهداية- قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السَّهْمِيِّ، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور، بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث.
وانطلق معهما عامر بن فُهَيْرَةَ والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل" [رواه البخاري: 3905].
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم: أن أباه أخبره: أنه سمع سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يقول: "جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله ﷺ وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله، أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل –أشخاص- أراها محمداً وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أَكَمَةٍ، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بِزُجِّهِ الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره -أي لا يمض ويرجع- فركبت فرسي، وعصيت الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ﷺ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثَانٌ ساطع في السماء مثل الدخان.
فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ﷺ.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يَرْزَآنِي –لم يأخذا مني شيئاً- ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أَدِيم، ثم مضى رسول الله ﷺ" [رواه البخاري: 3906].
وفي رواية عن البراء قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء، فليحمل إلي رحلي، فقال عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟
قال أبو بكر : "ارتحلنا من مكة، فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري، هل أرى من ظل فَآوِي إليه؟ فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي ﷺ، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحداً؟
فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فسألته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالب لبنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لنا كُثْبَةً من لبن، وقد جعلت لرسول الله إداوة على فمها خِرْقَةٌ، فصببت على اللبن حتى برد أسفله.
فانطلقت به إلى رسول الله إلى النبي ﷺ، فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم، غير سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: لا تحزن إن الله معنا [رواه البخاري: 3652].
ثم حصل بعد ذلك: أن النبي ﷺ التقى بالزبير بالطريق: "فَكَسَا النبي ﷺ وأبا بكر ثِيَابَ بَيَاضٍ".
حتى ينطبق الوصف الموجود عند اليهود في التوراة، كيف سيدخل النبي ﷺ المدينة مع الصديق؟
"وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله ﷺ من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الْحَرَّةِ، فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، رجعوا إلى بيوتهم، أَوْفَى رجل من اليهود على أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ" على حصن قلعة لليهود، أشرف عليها اليهودي، بعدما انصرف المسلمون الذين كانوا ينتظرونه.
"على أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ، لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون -أي حظكم الذي تنتظرون- فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله ﷺ بظهر الْحَرَّةِ" [رواه البخاري: 3906].
فاليهودي عرفه بصفاته المكتوبة عندهم في كتابهم، فلم يملك نفسه أن صاح من هول المفاجأة، والتطابق بين الواقع والوصف المكتوب، وإلا فإن اليهودي لا يدل على الخير، ولكن من هول المفاجأة لم يملك نفسه أن صاح: "يا معشر العرب هذا جدكم" أي حظكم، هذا شأنكم، هذا شرفكم "هذا جدكم الذين تنتظرون" [هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله- عن البراء: 3906، ورواه أيضاً البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- في هذه القصة المجموعة التي تبين قصة هجرة النبي ﷺ: 3905].
سبق الصحابة إلى المدينة وانتظار الصديق للنبي
وفيها: أن النبي ﷺ قد أوحي إليه بمكان الهجرة، وأخبر الصحابة، فبدأ الصحابة يتسربون إلى المدينة، وأراد الله -تعالى- للصديق أن يرافق نبي الله ﷺ في هجرته، وأن يكون معه، ولذلك كان يرجو ﷺ: أن يُؤذن له لينطلقا معاً، وهذا ما حصل.
وكان أبو بكر قد حبس نفسه، لعله يؤذن النبي ﷺ فينطلق معه، واستعد براحلتين يطعمهما ورق السَّمُرِ، وهو: ورق الطلح، يخبط بالعصا، فيسقط ورق الشجر، تعلف به الدواب.
المدة الزمنية للإعداد للهجرة
كم استغرقت فترة الإعداد هذه التي كان أبو بكر يعد بها هاتين الراحلتين؟
أربعة أشهر، وهذه التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة، وبين هجرته ﷺ، فأخبرهم بالهجرة، وبعد أربعة أشهر هاجر ﷺ، جاء النبي ﷺ في نحر الظهيرة.
التخطيط للهجرة والإجراءات والأسباب المتخذة لذلك
وفيها: أن التخطيط للهجرة كان دقيقاً.
وفيها: أن النبي ﷺ كان على قمة الأخذ بالأسباب، ولذلك فإنه من بداية الأمر: اختار الوقت الذي يأتي فيه لأبي بكر الصديق، جاء في شدة الحر في الظهيرة، في القيلولة، وقت ما يكون الناس نياماً، فاستغرب آل أبي بكر الصديق! قالوا: "هذا رسول الله ﷺ متقنعاً!" وهذا من الأسباب في إخفاء القضية.
أيضاً فإنه ﷺ جاء متقنعاً، مغطياً رأسه، في وقت يندر أن يوجد أحد يمشي في الشارع.
فعرف الصديق أن النبي ﷺ قد جاء لأمر مهم.
الإجراء الثالث قال: أَخرج مَن عندك؛ لأن النساء والصبيان يتكلمون، وكم أوتي من أوتي من جهة النساء والصبيان؟! فقد لا يؤبه بهم، فيتحدث أمامهم بسره، ثم يتسرب السر عن طريق طفل، أو امرأة.
ولذلك، فإنه ﷺ من اتخاذ الأسباب في هذا الأمر الخطير الذي يريد إخفاءه، قال: أخرج مَن عندك.
بعض مناقب أبي بكر
ولكن الصديق يعرف كيف ربى أولاده؟ قال: "إنما هم أهلك يا رسول الله" كل من في البيت: عائشة وأسماء، رباهن الصديق على عينه، يعرف من عنده، يثق، وهو على مستوى كلمته التي قالها وأكثر.
"الصحابة يا رسول الله؟" أي: الصحبة المصاحبة، قال: نعم .
في رواية: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح" [مسند إسحاق بن راهويه: 2/584].
وهذا من إخلاصه ؛ لأن صحبة النبي ﷺ في الهجرة شرف لا يعادله شرف، ولذلك بكى الصديق من الفرحة.
فالبكاء منه: بكاء حزن، وبكاء فرحة، وبكاء دهشة، وبكاء ألم، هذا كان بكاء فرحة.
رفض النبي ﷺ للبعير المهدى له من الصديق أثناء الهجرة
وعرض الصديق -من كرمه وبذله في سبيل الله- إحدى راحلتيه على النبي ﷺ، فرفض، قال ﷺ: لا أركب بعيراً ليس هو لي قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن.
قيل: لماذا لم يقبل النبي ﷺ عطية صاحبه؟
قالوا: لأنه أراد أن يهاجر من ماله، ويكسب أجر الإنفاق على الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم، كلما أنفق الإنسان فيها كلما كان أكثر أجراً.
أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي ﷺ من أبي بكر الصديق بالثمن، هي: القصوى، وقد عاشت بعد النبي ﷺ قليلاً، ثم ماتت في خلافة أبي بكر الصديق.
تجهيز راحلتي النبي -عليه الصلاة والسلام- وصاحبه
وجهزت عائشة وأسماء الفتاتان المؤمنتان، راحلتي النبي ﷺ وصاحبه -أبيهما- أحث الجهاز، وأفضل الجهاز، وهو كل ما يحتاج إليه في السفر، وصنعنا لهما سفرة في جراب.
فالتجهيز جيد، والأخذ في الأسباب -كذلك-، حتى نعرف: أن قضية الهجرة كان النبي ﷺ قد رتب لها ترتيباً عظيماً، واتخذ لها أسباباً مدهشة لتنجح؛ ليُعلم الأمة كيف يحكمون أمورهم، ولا يتركون مجالاً ولا منفذا واحدا للفشل.
"وصنعنا سفرة في جراب" وعاء للزاد، يوضع فيه الزاد من الماء والطعام.
قيل: إنه كان في السفرة شاةً مطبوخة.
وبقي ربط ذلك المتاع؛ فبحثتا عن شيء تربطان به، فلم تجدا شيئاً، فشقت أسماء نطاقها.
النطاق: حزام تلبسه المرأة على وسطها، شقته نصفين، وشدت بأحدهما الزاد، واقتصرت على الآخر، فسميت أسماء ب"ذات النطاقين" بهذا الفعل.
وفي رواية أخرى: "شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب، وشدت فم القربة بالباقي، فسميت ذات النطاقين" [فتح الباري: 6/236].
الطريق التي سلكها النبي ﷺ وصاحبه أثناء الهجرة
التخطيط: كان الاتجاه إلى غار في جبل ثور، عكس الجهة، ليس في الجهة التي يتبادر إلى الكفار أنه ذهب منها.
قيل: إن خروجهما كان من خوخة كانت في ظهر بيت أبي بكر.
وكان خروجه ﷺ يوم الاثنين.
ركبا حتى أتيا الغار، وهو ثور، فتواريا فيه.
أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب بالمبيت على فراشه
ومن إتمام الخطة: أنه أمر علياً أن يبيت على فراشه؛ جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن، كما قال الحافظ -رحمه الله- في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق" -نقيده ونربطه ونسجنه، يريدون النبي ﷺ.
وقال بعضهم: اقتلوه.
وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي ﷺ تلك الليلة، وخرج النبي ﷺ، حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي ﷺ، -يعني ينتظرونه، حتى يقوم، فيفعلون به ما اتفقوا عليه-.
فلما أصبحوا ورأوا علياً، رد الله مكرهم، وقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه -الغار- ثلاث ليال" [رواه أحمد: 3251، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف" وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح: 5934].
بعث قريش للقافة لتتبع آثار النبي ﷺ وصاحبه
وخرجت قريش في كل وجه، يعني في كل جهة تطلب النبي ﷺ، وبعثوا في أثرهما قائفين.
القافة: قصاصو الأثر، اشتركوا في التتبع، ورأى كرز بن علقمة أحد القائفين نسج العنكبوت، فقال: هاهنا انقطع الأثر.
وكمنا في الغار ثلاث ليالٍ. وهذا سبب آخر من الأخذ بالأسباب المؤدية للنجاح، وبلوغ المطلوب.
خوف الصديق على النبي ﷺ
الصديق بلغ من خشيته وخوفه على النبي ﷺ: أنه كان يمشي بين يديه ساعة، وخلفه ساعة، مرة أمامه، ومرة خلفه، فسأله ﷺ، فقال: يا رسول الله أذكر الناس الذين يطلبونك، فأمشي خلفك، حماية لظهرك، وأذكر الرصد الذين يترصدون، فأمشي أمامك.
فقال: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟، قال: "إيه والذي بعثك بالحق".
فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله، حتى استبرئ لك الغار، حتى لا يكون فيه دابة، أو شيء مؤذٍ، فاستبرأه ليطمئن إلى أنه مكان آمن، لكي يأوي إليه النبي ﷺ.
تتبع عبد الله بن أبي بكر الصديق لأخبار قريش وموافاة النبي ﷺ بذلك
ولم تنته الإجراءات والأسباب بعدُ، فلقد كان من الخطة: أن عبد الله بن أبي بكر الصديق ، وكان شاباً ثقفاً لقناً.
"ثقف" حاذق "لقن" سريع الفهم.
كان يبيت مع كفار قريش في مكة، في الصباح يستمع لكل الأخبار، ويلتقط الأخبار، ويحفظ كل شيء.
"يصبح مع قريش بـمكة كبائت" لماذا؟
لأنه يرجع قبل الفجر بغلس.
"ثم يأتيهما بعد ذلك بالأخبار لا يسمع خبراً يُكتادان به" أي: من الكيد، لا يسمع خبراً فيه كيدٌ للنبي ﷺ وأبي بكر الصديق إلا جاءهم به أولاً بأول.
إذاً، الأخبار تصل أولاً بأول، عبر المراسلات، ووكالة الأخبار.
طمس "عامر بن فهيرة" لآثار أقدام النبي ﷺ وصاحبه
وأيضا لم تنته الإجراءات والأسباب -المتخذة-؛ فهناك رجل من شخصيات القصة اسمه: "عامر بن فهيرة"، هذا الرجل كان معهما قام بأدوار، من هذه الأدوار، آثار الأقدام، بقاؤها خطير؛ لأن العرب كانوا مشهورين بقصّ الأثر، ويمكن عن طريق قص الأثر معرفة المكان الذي توجه إليه.
إذن، كان لا بد من إخفاء آثار الأقدام، ما هي الطريقة الطبيعية التي لا تلفت النظر في إخفاء أثر الأقدام؟
أن يؤتى بقطيع غنم، تمشي فوق آثار الأقدام؛ لتختلط الآثار وتنطمس، وهكذا كان، وهذا الذي فعله عامر بن فهيرة.
ثم إن الغنم هذه فيها فائدة أخرى، وهي: قضية السقاية من لبنها للنبي ﷺ والصديق، تطمس آثارهما، ويستقيان بلبنها، فكان اللبن يأتي طازجا أولاً بأول، من الغنم التي تطمس الآثار، إلى النبي ﷺ يروح إليها بالغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرة في الصباح، فيصبح عامر بن فهيرة وغنمه في رعيان الناس، فلا يُفطن له.
التوقيت كان سليما، للذهاب بالغنم وعودتها، حتى الغنم الدواب الذهاب، والإتيان بها، كان توقيتاً سليماً.
ويوضع لهما في رسلٍ اللبن الطري، وكذلك الرضيف، وهو اللبن المرضوف الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس، أو النار، لينعقد ويشتد، وتزول رخاوته، طعام وشراب، حتى ينعق عامر بغنمه، وهو صوت الراعي، إذا زجر الغنم، ثم يسرح بها في رعيان الناس، فيذهب في وقت صحيح، لا يُتفطن له، هذا كان من بني الدِيل، من بني عبد بن عدي.
إتخاذ النبي ﷺ ل "عبد الله بن أريقط" مرشدا في الطريق
ولم تنته القضية، بل هناك شخصية أخرى مهمة لها دور أيضاً: "وهو عبد الله بن أريقط"؛ هذا رجل مشرك، لكنه كان رجلاً مأموناً موثوقاً به.
ولماذا اختير عبد الله بن أريقط رغم أنه مشرك؟
لأنه كان هادياً خريتاً، خبيراً بالطرق والمسارات، ودروب الصحراء.
الخريت، هو: الماهر بالهداية، مثل خرت الإبرة، أي: ثقب الإبرة؛ لأنه يهتدي لأخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
وهذا الرجل كان قد غمس حِلفاً، تحالف، وكانوا في الجاهلية في الحلف يغمسون أيديهم في دم، أو عطر، أو في أي شيء، يكون فيه صبغ لليد، وتأكيداً للحلف الذي تحالفوا عليه.
هذا الرجل كان أميناً ثقةً، بالرغم من أنه مشرك.
كان هناك موعد مع عبد الله بن أريقط: أن يأتيهما بالراحلتين صباح اليوم الثالث، حتى إذا هدأت عنهما الأصوات، جاء صاحبهما ببعيرهما، فانطلقا معهما بعامر بن فهيرة، يخدمهما، ويعينهما، يردفه أبو بكر، ويعقبه عامر.
والله قادر على كل شيء، قادر على أن يجعل النبي ﷺ والصديق يمشيان أمام قريش، ولا يراهما أحد إلى المدينة، لكن الله يريد أن يعلم الأمة بهذا القدوة، وهذا النبي ﷺ: الأخذ بالأسباب، وكيفية مخادعة الكفار والمشركين.
وأيضاً تغيير الطريق المتوقع من الأسباب: "فأخذ بهما طريق الساحل" من أسفل مكة إلى الساحل، حتى رجعا مرة أخرى على طريق المدينة.
منح قريش جائزة ثمينة لمن يأتي بخبر بالنبي ﷺ وصاحبه وطمع "سراقة" في ذلك
وعلى طريق الساحل أبصرهم أحد الأشخاص يمشون، فجاء والله يقدر الأحداث حدثاً تلو الآخر: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ[يوسف:21]، فأخبر هذا الرجل شخصاً من قريش اسمه: "سراقة بن مالك بن جعشم" يقول له: إني شاهدت أشخاصاً على طريق الساحل، وأنا أظن أن هؤلاء الأشخاص محمد وصاحبه، ومعهم أيضاً الخادم.
"سراقة بن مالك" يعلم بأن قريش قد جعلت على كل رأس مائة من الإبل الدية -الدية كاملة- لمن يأتي بمحمد -عليه الصلاة والسلام- وصاحبه، أمواتا، أو مأسورين.
"سراقة بن مالك" طمع في المائة، طمع في الدية، فكذَّب الرجل الذي شاهد الأشخاص، قال: ليس ذاك، ومستبعد أن يكونوا هم، هؤلاء فلان وفلان، أشخاص آخرين، قاموا من عندنا قبل قليل، وذهبوا في ذلك الاتجاه أمام أعيننا، فطمع أن يكون له كل المال، وهو مائة من الإبل للشخص.
استسقسام سراقة بن مالك بالأزلام قبل ملاحقته للنبي ﷺ وصاحبه
ثم استعد "سراقة بن مالك" للغنيمة، فأمر جاريته: أن تجهز له أمره، وعلى عادة المشركين: الاستقسام بالأزلام قبل المضي في الأمر الخطير، وهو نوع من الشرك، يضع الأزلام، وهي مثل السهام التي لا نصل لها ولا ريش، واحد مكتوب عليه: نعم، وواحد مكتوب عليه: لا، وواحد فارغ، يجعلها في مكان يسحب منه، ثم يسحب، فإذا طلع: نعم، مضى، وإذا طلع: لا، رجع، وإذا طلع الفارغ، أعاد السحب. "سراقة بن مالك" لما أراد أن يغادر استقسم بالأزلام، والاستقسام بالأزلام تشاؤم، أو هو شيء لا علاقة له بالواقع، ولذلك هذا من سخافة العقل؛ لأنه ما العلاقة بين سحب: "نعم" أو "لا" وبين قضية: أنه يسافر أو لا يسافر؟
لكن يظنون أن الصنم يختار لهما الخير!.
استقسم، فلما سحب، فإذا بالسهم المكتوب عليه: "لا" فكره هذا؛ لأنه يريد المائة من الإبل.
ولكنه بالرغم من ذلك، مضى لأمره، جهز سلاحه، ولبس لأمته -الدرع- وخفض رمحه، لئلا يضرب عليها بريق الشمس، فينعكس فيرى من بُعد، فيتبعه أحد يشترك معه في الغنيمة، ولذلك جعل رمحه على الأرض، ومضى.
ثم أسرع بفرسه، في تلك الجهة التي أخبره الرجل أنه رأى فيها الأشخاص.
وفي الطريق أعاد مرة أخرى الاستقسام بالأزلام، وأخرج الخريطة المستطيلة التي توضع فيها الأزلام، ويسحب منها، وسحب.
و-ذكرنا- أن الأزلام، هي الأقداح، وهي: السهام التي لا ريش لها ولا نصل، فخرج الذي يكره: "لا" أي لا يمضي، ولكنه استمر.
إدراك سراقة بن مالك للنبي ﷺ وصاحبه
حتى بلغ النبي ﷺ وصحابه من بعيد، فرآه أبو بكر ، قال للنبي ﷺ: أدركنا! قال النبي ﷺ: كلا.
فنذكر في هذا الموقف: يقين الأنبياء بالله ، وثقتهم بنصر الله ، وحفظ الله ، وتمام التوكل على الله.
هذا التوكل الصحيح: الأخذ بالأسباب، وتفويض الأمر إلى الله، في أن يكلأ ويأتي بالنجاح، ويحقق المطلوب، فقد أخذوا بكل الأسباب، ثم كون سراقة لحقهما بعد ذلك، بالرغم من كل هذه الأسباب، هذا شيء ليس بيده منعه، ولا عدم حصوله.
فما الذي بقي؟
التوكل على الله من قبل ومن بعد.
دعاء النبي ﷺ على "سراقة بن مالك"
فقال: اللهم اصرعه [رواه البخاري:3911].، وفي رواية: اللهم اكفناه بما شئت [رواه أحمد:3، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"].
وهذا العبارة التي قالها غلام أصحاب الأخدود، لما كان ذاهباً مع حرس الملك فوق الجبل، وفي القارب، فقال: "اللهم اكفنيهم بما شئت" [رواه مسلم:7703] فرجف الجبل، فسقطوا وصرعوا، وغرقوا، وبقي هو على قيد الحياة سليماً، حتى أتى الملك.
هذه العبارة يقولها كل إنسان وقع في ورطة، أو أراد أحد أن يعمل به شراً، يقول: "اللهم اكفنيه بما شئت".
تعثر فرس "سراقة بن مالك" وعدم تمكنه من المشي
لما قال: اللهم اكفناه بما شئت، اللهم اصرعه فصرعه فرسه، وساخت يدا الفرس، ووقعت على منخريها، دخلت يدا الفرس في الأرض، وساخت حتى بلغت بطنها في الأرض، فارتطمت فرسه إلى بطنها، ودخلت يدا الفرس، أي: مقدمة الفرس.
وهذا يدل على أن ركبتي البعير أو الفرس في يديه، وليس في رجله، فساخت يدا الفرس حتى بلغتا الركبتين، والفرس صارت بطنها ملتصقة بالأرض.
فوثب عنها سراقة، فقلت: ما هذا؟
ثم زجرتها، فنهضت، قامت تحمحم.
والحمحمة: صوت الفرس، ما كادت ترتفع الفرس إلا وثار عثان -دخان- دخان من غير نار، أو غبار، ثار الغبار، فعلمت أنه منع مني.
يعني علمت أن المسألة مسألة إلهية، وأن النبي ﷺ لا يمكن الوصول إليه، ولا إيذاءه، ولا القبض عليه.
طلب سراقة بن مالك من النبي ﷺ الأمان
عند ذلك أسقط في يدي سراقة، ونادى بالأمان.
الآن هذا ذاهب، مطارد، مسلح، تكون النهاية أنه يطلب الأمان! لبس الدرع، ومعه الرمح، ومعه الجهاز، يَطلب الأمان، مستسلماً! قائلاً: قد علمت يا محمد أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأعمين عليك من ورائي.
أي واحد يطلبك، ويطاردك، أنا سأكفيك هو، ورجع سراقة، وقد تعهد بأن يحافظ عليهما، ويقول: وأنا لكم نافع غير ضار، وأنا راجع ورادهم عنكم.
يقول سراقة في تلك اللحظة: "ووقع في نفسي حينما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ﷺ، عرف أنه منصور، وأنه ظاهر، وأنه سيستعلي على من حوله.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سراقة أتى ببقية الأخبار، كانت الأخبار إلى حد مغادرة الغار، بقية الأخبار، أتى بها سراقة الآن، فأخبر بما أخبر، بما حصل غيابهما في هذه الفترة.
قال: إن قريش جعلت جائزة لمن يأتي بكما، كذا .. وكذا .. وكذا.
عرض "سراقة بن مالك" الزاد والمتاع على النبي ﷺ وصاحبه ورفضهما لذلك
سراقة، بالإضافة إلى ذلك، عرض عليها الزاد والمتاع، وقال لهما: "إن إبلي على طريقكم، فاحتلبوا من اللبن، وخذوا سهماً من كنانتي" أمارة إلى الراعي، حتى يصدق الراعي أنكما من طرفي، هذه علامة، سهم من كنانتي له علامة خاصة الراعي يعرفها.
فالنبي ﷺ رفض ما أخذ منه شيئاً، قال: لم ينقصان مما معي شيئاً.
قال: فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال: لا حاجة لنا في إبلك ودعا له [دلائل النبوة:2/484، وابن حبان في صحيحه:6281].
طلب النبي ﷺ من "سراقة بن مالك" إخفاء إدراكه له ولصاحبه
وطلب منه شيئاً واحداً فقط، قال: أخف عنا [رواه البخاري:3906] فجعل سراقة بعدما رجع لا يرى أحدا من كفار قريش، ذاهبا في نفس الاتجاه إلا قال: "قد كفيتم ما هاهنا" أنا فتشت من هذه الجهة، ما يحتاج أنكم تبحثوا، لا يلقى أحداً إلا رده، ووفى لهما.
وفي رواية أنه قال: "يا نبي الله مرني بما شئت؟ قال: فقف مكانك، لا تتركن أحداً يلحق بنا فكان أول النهار جاهداً على رسول الله ﷺ، وكان آخر النهار مَسْلَحَةً له [رواه البخاري:3911] يعني: حارساً له بسلاح، والله على كل شيء قدير.
وهذا يثبت قدرة الله على كل شيء، فالرجل هذا ذاهب للقبض عليهما، مسلح في أول النهار، وفي آخره يرجع حارسا عليهما، عكس الذي كان ذاهباً من أجله تماماً، فكان يضلل الباحثين، ويحرس الجهات: هذه الطريق ما أحد يأتي منه "لا يجد أحداً إلا رده" يقول: قد فتشت قبلك، ارجع ما في أحد.
طلب "سراقة بن مالك" الأمان من النبي ﷺ وإسلامه بعد ذلك
طلب سراقة قبل أن يرجع حاجة، طلب كتاب أمن بينه وبين النبي ﷺ، فأمر النبي ﷺ عامر بن فهيرة أن يكتب له ذلك، فكتب له في رقعة من أدم -جلد- أو في ورقة، أو في خرقة، فجعله سراقة في كنانته.
كتب له كتاب أمان! سبحان الله! يعني متوقع أن الخوف مع المطاردين، وإذا بالمطارد المسلح، يطلب كتاب أمان؟!
فلما كانت معركة حنين بعد فتح مكة، خرج سراقة ليلقى النبي ﷺ ومعه الكتاب، بعد ثمان سنوات، لقيه بالجعرانة، ودنا منه، فرفع يده بالكتاب، قال: "يا رسول الله هذا كتابك، قال: يوم وفاء وبر، ادن فأسلمت [رواه الطبراني في الكبير: 6472] هكذا حصل لسراقة.
وكان ﷺ قد أراد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قوم سراقة، فبعث جيشا يغير عليهم -يغزوهم-، وكانوا مشركين، فأتاه سراقة، وقال: "أحب أن توادع قومي" ففيهم نزلت: إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]. [فتح الباري: 242].
انكشاف أمر سراقة بن مالك لقريش بعد فترة
قيل: لما انكشف أمر سراقة لقريش، أتى أبو جهل إلى سراقة ولامه: كيف ترك النبيﷺ وأبا بكر؟
فقال:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا | لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه |
عجبت ولم تشكك بأن محمدا | نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه |
[فتح الباري: 7/242 – 243، ودلائل النبوة: 2/489].
يقول: لو كنت أنت مقامي، ورأيت الفرس تسيخ في الأرض، ما قلت هذا الكلام.
التقاء النبي -عليه الصلاة والسلام- والصديق بالزبير
وحصل بعد ذلك: أن النبي ﷺ لقي الزبير في الطريق، مصادفة عجيبة جدا، من قدر الله ، في هذه الصحراء المترامية: التقاء النبي ﷺ والصديق، بالزبير؛ كان راجعاً بثياب من الشام، فأعطى النبي ﷺ وأبا بكر ثوبين أبيضين، كساهما ثوبين أبيضين.
حرص الصديق على راحة النبي ﷺ وصحته
فلما مشى أبو بكر الصديق مع النبي ﷺ، حتى قام قائم الظهيرة -نصف النهار- رفعت لنا صخرة، يقول أبو بكر: أي: ظهرت، ولها ظل.
وهنا يظهر حرص الصديق على النبي ﷺ، وسعيه في راحته، بسط فروة في الظل؛ لأجل النبي ﷺ، ونفض ما حولها من الغبار، حتى لا تثير الريح، فتؤذي النائم، جهز المكان، ثم ذهب حولها، وينظر الطلب، في أحد جاء، حراسة.
وبعد ذلك شاهد راعيا، قال: أفي غنمك لبن؟" قال: "نعم" قال: "أفتحلب؟" قال: "نعم".
وهذا الراعي كان لرجلٍ من قريش، فسأل أبو بكر الصديق الراعي عن اسم صاحب الغنم، فعرفه أبو بكر الصديق؛ وكان أبو بكر نسابة، يعرف العرب وأنسابها وبطونها، فعرف الرجل صاحب الغنم، وطلب من الراعي أن يحلب، فلعل الصديق قد علم أن صاحب الغنم لا يمانع، ولذلك طلب من الراعي أن يحلب، فقد يكون بينهما صداقة، والصديق يعرف أن صاحب اللبن يرضى، أو على عادة العرب كانوا يوصون الرعيان، بأن يحلبوا للمسافرين، من الكرم.
فإما أن يكون هناك إذن عام، أو أن أبا بكر الصديق يعرف الرجل هذا، فلذلك طلب اللبن، وهذا أحسن من أن يقال: إنه مال حربي يجوز أخذه؛ لأنه مال مشرك محارب؛ لأنه لم يكن قد فُرض الجهاد، ولا شُرعت الغنائم في ذلك الوقت، فمرده إلى هذا السبب.
ولما كان الصديق حريصاً على صحة النبي ﷺ قال للراعي: "انفض يديك، انفض الضرع، اعتقل الشاة" فاعتقل الشاة، أي: وضع رجلها بين فخذيه أو ساقيه، يمنعها من الحركة، من أجل الحلب "فأخذت قدحاً فحلبته" أو أمر الراعي فحلب كثبةً -قدر قدح- حلبة خفيفة من اللبن، وشرب النبي ﷺ.
في هذه الرواية -رواية البراء-: أن سراقة جاء بعد هذه القصة، وأبو بكر الصديق يقول للنبي ﷺ: "اشرب، قال: فشرب، حتى رضيت" يعني شرب النبي ﷺ، حتى رضي أبو بكر الصديق.
يقول: "فشربت حتى رضيت" يعني: أمعن في الشرب ﷺ على غير عادته المألوفة، حتى رضي الصديق، واطمأنت نفسه بأنه ﷺ قد شبع وروي، وأنه قد استراح.
والنبي ﷺ نام، وأبو بكر يحرسه، ثم لما استيقظ ﷺ، قال: "قد آن الرحيل يا رسول الله؟" وافق ﷺ، وانطلقا.
هذا ما حصل حتى وصل المدينة.
وصول النبي ﷺ وصاحبه إلى المدينة واستقبال أهل المدينة لهما
وخرج ذلك اليهودي لينظر، فرآهما مبيضين، جاءا مبيضين عليهما الثياب البيض التي كساهما إياها الزبير.
"يزول بهما السراب" يعني: يزول السراب عن النظر، بسبب عروضهم له، أو ظهرت حركتهم للعين، فطابق الوصف المذكور في الكتاب عند اليهودي؛ ما يراه بعينه الآن، فدهش، فصرخ: يا معاشر العرب! يا بني قيلة! وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج اسمها: قيلة.
يا بني قيلة! هذا جدكم، هذا حظكم، وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه قد جاء، فاستقبلوا النبي ﷺ إلى آخر القصة التي حدثت بعد ذلك من المجيء إلى مكان المسجد وبقية التفاصيل.
تلك كانت قصة الهجرة التي سافر فيها النبي ﷺ مع صاحبه.
بعض الدروس المستفادة من قصة الهجرة
ومن أعظم الدروس التي فيها: قضية الأخذ في الأسباب، كانت أمراً واضحاً جداً.
وكذلك يؤخذ من الحديث: تطلب النظافة في الشرب، كما هو واضح من فعل أبي بكر ، وحرصه على صحة النبي ﷺ، وعلى سلامة النبي ﷺ.
وكذلك: جواز التعامل مع المشرك إذا كان مأموناً، وهذه مسألة قد ينخدع فيها الكثيرون، ولكن أصحاب الدين، والقلوب الحية، يعرفون ويميزون الخائن من غيره.
كذلك فيها: ثبات قلب النبي ﷺ، وثقته بالله، لما قال: لا تحزن إن الله معانا.
وفيها: عجائب أقدار الله ، كيف تتم الأشياء بكل هذه الدقة، ثم بعد ذلك يكتشف سراقة المكان، ثم بعد ذلك يتخلص النبي ﷺ وصاحبه من سراقة، ثم بعد ذلك يجدان الراعي، وكذلك يجدان الزبير في الطريق -رضي الله عنهما-، فيكرمهما حتى وصلا إلى المدينة.
وكذلك في هذه القصة: استعمال ما كان مأذوناً فيه، من مال الآخرين، مثل الشراب، أو الحلب، إذا كان مأذوناً به.
وخدمة الصاحب لصاحبه، وشدة محبة الصديق للنبي ﷺ، وإيثاره إياه على نفسه.
وكذلك: تنظيف المأكل والمشرب.
لو قيل: الإسلام دين النظافة فكيف ذلك؟
نقول: خذ هذا ما حصل، انظر كيف أمره أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمره أن ينفض كفيه، ثم حلب؛ حتى لا يقع شيءٌ مزعج في هذا الإناء.
وكذلك فيه: استصحاب ما يحتاج إليه المسافر في السفر وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافاً لبعض الصوفية الذين، يقولون: لا نتجهز ونتوكل، ولا نأخذ معنا شيئاً، ونتوكل، فهذا ليس بتوكل مطلقاً.
وكذلك فيه: كيف نصر الله الدين بهذه الهجرة، وكيف أخرج النبي ﷺ من بين ظهراني المشركين: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وفي القصة فوائد أخرى، نكتفي بما ذكرناه.
ونسأل الله أن يجعلنا من المحبين لنبيه ﷺ، والمتبعين لسنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.