الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نص القصة
فقصتنا في هذه الليلة من قصص القرآن الكريم قصة عظيمة لنبي عظيم صبور غاية الصبر، ابتلاه الله فوجده صابرًا، قال الله تعالى في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83-84].
وقال تعالى في سورة ص: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 41-44].
المعنى الإجمالي للقصة
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا [ص: 41]، اذكر عبدنا ورسولنا أيوب مثني عليه، ورافعًا لقدره حين ابتلاه الله بهذا البلاء الشديد فوجده صابرًا، وراضيًا ، وذلك أن الشيطان تسلط عليه، وتسبب في ابتلاء في جسد هذا النبي الشريف، وامتحن، فتقرح قروحًا عظيمة، واشتد بلاؤه مدة طويلة، والله لم يذكر لنا ابتلاؤه بالتفصيل، قال: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83].
الضر من جميع الجهات ضرر في بدنه وماله وأهله، اجتمعت على أيوب أصناف البلاء لم يكن في جهة واحدة، وإنما كان في جهات متعددة هذا الابتلاء، والبلاء إذا ركب على الإنسان أنواعًا فإنه سيكون شديدًا عليه، فدعا رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]، فتوسل إلى الله بالإخبار عن نفسه، انظر في هذه الآية وتمعن، فإن أيوب لم يطلب من الله كشف الضر، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء: 83-84]، استجبنا له، ماذا يعني؟ أن الطلب لم يذكر طلبًا هنا، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41]، تسلط عليه الشيطان ابتلاه الله بالشيطان الذي تسبب له بالابتلاءات هذه، فهذا أيوب لم يقل اكشف ما بي ارفع عني، ولكن توسل إلى الله بشكوى حاله، وشكوى الحال إلى الله كافية، والمعنى واضح أنه يسأل ربه أن يرفع عنه ما أصابه، وهذا الموضع فيه استجابة الله لنبيه والسياق سياق رحمة بالأنبياء، ورعاية لهم في الابتلاء، سواء كان الابتلاء بتكذيب أقوامهم لهم، كما في قصص إبراهيم، ولوط، ونوح، أو كان ابتلاء بالنعمة كما في قصة داود، وسليمان، أو بالضر كما في قصة أيوب.
قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على دعاء أيوب : "جمع هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملق، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه". [الفوائد لابن القيم، ص: 201].
قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ [الأنبياء: 84]، رددناهم إليه، ورفع الضر عنهم، فصار معافى في بدنه، وعاد إليه أهله، وجاء إليه رزقه، ووهبه الله من الأبناء ما وهبه، قال تعالى: وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84].
لأنه صبر ورضي فنالته رحمة الله، وأثابه الله ثوابًا عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة، رحمة ومنة من الله عليه، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 84]، جعلناه عبرة للعابدين الذين ينتفعون بالعبر، فإذا رأوا ما أصابهم من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا ما السبب، ووجدوا هذا الصبر، ووجدوا هذه الإجابة كان ذلك عبرة لهم، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 84] فهم يتعظون بما أصاب أيوب .
وفي سورة ص وَاذْكُرْ [ص: 41] للذكر، عَبْدَنَا [ص: 41] المتذلل المطيع لنا, أَيُّوبَ [ص: 41] بأحسن الذكر، وأثني عليه حين أصابه الضر فصبر، ولم يشتك لغير الله، ولا لجأ إلى غير الله، وأعقبه الله تعالى بالفرج نادى ربه بصوت ارتفع صوته بنداء ربه داعيًا إليه شاكيًا له، ولم يشتك لغيره، أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ [ص: 41-44]، أصابني شيطان الجن بأمر شاق مؤلم متعب، وَعَذَابٍ [ص: 41] أصابني التعب، والإعياء، والشر والبلاء، والوسوسة، والنصب ما أصيب به الإنسان في بدنه، والعذاب ما أصيب به في ماله، كما قال بعضهم.
وقيل: النصب في البدن، والعذاب في المال والولد، وكان الشيطان قد آذاه، لكن هل هو إيذاء نفسي؟ الآن هناك بعض الناس عندهم ابتلاءات نفسية نتيجة شياطين الجن، إنسان يبتلى في نفسه ابتلاء نفسيًا بتسلط شياطين الجن عليه، وأحيانًا يكون الابتلاء بدنيًا، وقد يضربونه، وقد يظهر أثرًا في جلده، وقد يوقعونه من مكان مرتفع، الجن يخيفون، والجن يضربون، ويخنقون، ويعشقون فيتسلطون، ويصرعون يصيبون بأنواع من الأذى، وهناك الوسوسة أيضاً التي تتسبب في مزيد من المعاناة لهذا المبتلى، وقد أخرج الطبري بسنده الحسن عند قتادة رحمه الله وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41].
قال: ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده. [جامع البيان: 18/250]. وقيل: إن الشيطان قد سلط عليه في جسده، فنفخ فيه حتى تقرح، ثم تقيح بعد التقرح، واشتد به الأمر.
واختلف العلماء كم سنة لبث أيوب في البلاء؟
فقيل: سبع، وقيل: عشر، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: ثماني عشرة سنة، وقيل: أربعين، رجح ابن حجر رحمه الله أن مدة بلاءه ثلاث عشرة سنة.
قصة أيوب من السنة
وهناك رواية صحيحة تدل على أنه لبث في البلاء ثماني عشرة سنة.
قال ابن حجر رحمه الله: وأصح ما ورد ما رواه ابن حبان وصححه الحاكم عن الزهري عن أنس: "أن أيوب ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد"، انفض الناس بسبب البلاء، خصوصًا إذا كان الواحد قد أصيب بتقرح، وجروح في بدنه، تقيحت الجراحات، وصار المنظر مقززًا، والرائحة كريهة، المهم الناس انفضوا عنه، ولم يعودوا يريدون الجلوس إليه، صار المنظر مؤلماً، لا يطيق أن يراه أحد، ولا يقترب منه أحد، قال: "فرفضه القريب والبعيد"، إذًا ابتلاء أيوب لم يكن فقط في الآلام الجسدية، آلام نفسية حتى تتمثل في انفضاض الناس عنه، وابتعادهم عنه، وعدم رغبتهم فيه من هذا البلاء الذي أصابه، قال: "فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان" يعني للخدمة والمساعدة والإعانة، فقال: "أحدهما للآخر يوم من الأيام لقد أذنب أيوب ذنبًا عظيمًا، وإلا لكشف عنه هذا البلاء" يعني: ما هذا الذي نزل به إلا أن يكون أذنب ذنبًا عظيمًا، فذكره الآخر لأيوب فازداد حزنًا، صار حتى هؤلاء الاثنين أقرب الناس واحد منهما يظن أيوب هذا عمل معصية شنيعة جدًا، ولولا ذلك ما جاءه هذا البلاء، فحزن ودعا الله حينئذ، فخرج لحاجته، وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، كانت تساعده إلى أن يقوم حتى لو أراد أن يقضي حاجته، لا بدّ أن يمسك به، فأبطأت عليه في الرجوع لتأخذه، فرغ فضرب برجله الأرض، فنبعت عين فاغتسل منها، فرجع صحيحًا، فجاءت امرأته، فلم تعرفه، فسألته عن أيوب، رأت أمامها شخصًا سويًا سليما صحيحًا، فسألته عن أيوب أين أيوب؟ قال: إني أنا هو، وكان له أندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض، وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض. [تفسير ابن أبي حاتم: 14562، وابن حبان: 2898، فتح الباري: 6/421].
وأورد العلامة الألباني رحمه الله في سلسلته الصحيحة قريبًا من هذا الحديث.
وفيه أن أيوب لبث في البلاء ثمانية عشرة سنة، ونص الرواية: أن نبي الله أيوب ﷺ لبث به بلاؤه ثمانية عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يومًا: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك قال منذ ثمانية عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راح إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، الذي سمع الكلام ما استطاع أن يمنع نفسه، ونقل الكلام الذي قاله له صاحبه إلى أيوب ، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله لأن في المنازعة الواحد يحلف والله والله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ.
يعني: يرجع إلى البيت، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، فاستبطأته فتلقته تنظر، وقد أقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ والله ما رأيت أشبه منك إذا كان صحيحًا، فقال: فإني أنا هو، وكان له أندران أي: بيدران، أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض، الفضة [رواه ابن حبان: 2898، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 17].
هذه القصة الصحيحة تبين ما عانى أيوب منه مدة ثمانية عشر عامًا، فلما نادى الله، وتضرع إليه، وعلم ألا ملجأ من الله إلا إليه.
وقيل له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] ما معنى اركض برجلك؟ يعني: ادفع برجلك، اضرب برجلك، فنبعت العين التي اغتسل منها، وشرب، وذهب عنه الضر، والأذى، وشفاه الله، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284].
وفي القرآن ضربات بسببها نبع الماء بأمر الله من ذلك ضربة أيوب هذه، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42]، نبع الماء.
الثانية: لما ضرب موسى الحجر فتفجر منه اثنتا عشرة عينًا.
الثالثة: وردت في السنة في قصة هاجر وإسماعيل، عندما ضرب جبريل بعقبه، أو بجناحه مكان زمزم، فنبع الماء بضربة من جبريل ، النبي ﷺ معجزته أعظم من هذا لأن الماء نبع ليس من حجر، ولا من الأرض، نبع من بين عصب ودم ولحم وجلد، نبع من يده الشريفة، من بين أصابعه، الماء يخرج من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، وهذا أعجب لا شك، والمعجزة فيه أكبر.
ضرب أيوب برجله الأرض، فنبع الماء، وقال الله له: هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، يغتسل منه ويشرب منه، وهذا الماء النابع من الأرض في العادة يكون ساخنًا، لكن هذه المرة كان باردًا بأمر الله لأن المياه إذا كانت جوفية، وخرجت يكون فيها من حرارة الأرض، لكن هذه بأمر الله تعالى خرجت باردة، فاغتسل منه، وشرب منه، وذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره بقدرة الله وإرادته.
وجاء بسند حسن عن قتادة رحمه الله اضرب برجله الأرض فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الآخر، قال مقاتل: "نبعت عين حارة، فاغتسل فيها، فخرج صحيحًا، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبًا"، وقيل أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه الداء الذي في جسده". [تفسير القرطبي: 15/211]، والمغتسل الماء الذي يغتسل به.
قال ابن كثير رحمه الله: اضرب الأرض برجلك، فامتثل للأمر ، فأنبع الله عينًا باردة، أنبعها بالماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى، والسقم، والمرض الذي كان في جسده، وأبدله الله بدلا من ذلك صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تامًا، ومالا كثيرًا، حتى صب المال صبًا عليه ربه مطرًا عظيمًا جرادًا من ذهب. [تفسير ابن كثير: 7/74].
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه رجل جراد من ذهب رجل يعني: شيء كثير، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه، يا أيوب: ألم أكن أغنيتك عما ترى، قال: بلى يا رب، ولكن لا غني لي عن بركتك [رواه البخاري: 3391]، يعني: وهذه زيادة، وأنا زيادة لا غني لي عنها، وزيادة الخير خيرين.
ووقع من طريق بشير بن نهيك عن أبي هريرة: "لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب". [رواه الحاكم في المستدرك: 4116، وقال: على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي].
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ [ص: 43] قال بعض المفسرين: أحياهم الله له لأنهم ماتوا وهلكوا من قبل.
وقال الحسن وقتادة: أحياهم الله بأعيانهم، وزاده مثلهم. [تفسير النيسابوري: 6/385].
وقال القاسمي في تفسيره: "جمعهم الله إليه بعد تفرقهم" [تفسير القاسمي: 8/262]، وقضية الإحياء هذه فيها نظر، فإنه ليس عندنا دليل أنهم ماتوا، لكن ممكن أنهم تفرقوا عنه، انفضوا عنه فيمن انفض، ولم تبق إلا تلك الزوجة الوفية، فرد الله إليه أهله ومثلهم معهم، وآتاه الله مزيدًا من الأهل مضاعفًا، وأذهب الله تعالى مرضه النفسي، والجسدي، وفقره، وأذهب فقده لأهله، فرجعوا إليه، ومثلهم معهم، وأعطاهم المال العظيم، والأولاد، والصحة، وبارك له فيما آتاه رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84]، بأيوب حيث صبر فاستحق هذا الفرج.
قال بعضهم: إن اسم زوجته رحمة، ولكن هذا بعيد، يعني: كون الآية فيها، وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً [الأنبياء: 84]، ليس معناه أن اسم الزوجة رحمة؛ كما ادعى البعض؛ فهذا أبعد النجعة، وأغرق في النزع.
وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43]، أصحاب العقول.
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا[ص: 44] حزمة شماريخ، وقد أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا، قال: حزمة" [جامع البيان: 23039]، هذه الحزمة من نبات كان شمراخ فيه عذوق كثيرة مائة، الشمراخ الواحد مائة عود، وكل مجموع مقبوض عليه باليد يسمى ضغثًا، قال: فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص: 44] ما معنى هذا؟
يعني: أن أيوب كان قد غضب على زوجته لتصرف ما فحلف أن يضربها مائة ضربة، زعموا أسباب كثيرة لهذا، لكن ما ثبت شيء، فلعلها أبطأت عليه في طلبه، أو انتظرها أن تأتي لتأخذه مثلاً فأبطأت، فحلف أن يضربها مائة ضربة، والله يغفر لأنبيائه وأوليائه ما يكون من تعجلهم، أو غضبهم، ويغتفر منهم ما لا يغتفر من غيرهم، ممن هو أقل منهم لكثرة حسناتهم ومنزلتهم، ورفعتها عند الله ، فلكي لا يضرب زوجته مائة ضربة، وهي محسنة أيضاً، ما المخرج من اليمين وحتى لا يقع في الحنث، إذا ضربها مشكلة امرأة محسنة، وإذا حنث في يمينه مشكلة أخرى، فأوجد الله له مخرجًا، من تمام نعمته عليه أنه أوجد له مخرجًا من هذا اليمين.
قيل هذا خاص بأيوب يعني لو جاء واحد يفعله الآن في زماننا لا يقبل منه، لأن هذه فتوى لأيوب .
وقيل: يفعل في حالات معينة، مثلاً: لو أن مريضاً مرضًا خطيرًا ضعيفًا جدًا، وقع في الزنا والفاحشة، ولو جلد مائة مات، فيمكن أن يجلد بنفس هذه الطريقة على أية حال، كان قد حلف أن يضرب امرأته مائة ضربة لأنها ابطأت عليه يومًا من الأيام، ولكي لا يضربها المائة، ولا يحنث في يمينه أوحى الله إليه أن يأخذ مائة عود من الإذخر، أو غيره يجمعها ويعمل من حزمة، أو يأخذ شمراخ فيه مائة عود، فيضربها ضربة واحدة، وهذه فتوى من الله لأيوب خصيصًا، تسهيلاً عليه وعلى أهله، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص: 44]، وتكون بار بيمينك، وما عليك كفارة، ولا إثم الحنث، وأصل الحنث هو الإثم.
قال الله تعالى: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ [الواقعة: 46]، الإثم العظيم، والمراد هنا حتى يبر بيمينه ولا يكون حانثًا، وعدم الإبرار باليمين مكروه إلى الله، أن الله سماه حنثًا، وأصل الحنث هو الإثم، لكن من نعمة الله أنه رخص لعباده لفعله لكنهم إذا فعلوه كفروا كفارة عن الحنث.
قال تعالى: وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص: 44]، أيوب ابتليناه بالضر العظيم، فصبر لوجه الله صبر على ما مسه من الشيطان، وصبر عن معصية الله فلم يجزع، صبر على أقدار الله فلم يتسخط، ولم يشتك لغير الله، وصبر على طاعة الله، لأنه لا زال يعبد الله، وهو في البلاء، وهو يلجأ إلى الله، وهو يدعوه ، فاجتمع لأيوب أنواع الصبر كلها اجتمعت، نعم العبد أيوب الذي كملت مرتبته في العبودية، وصبر هذا الصبر العظيم إنه أواب رجاع إلى الله كثير الذكر له ، كثير التأله والمحبة في الشدة والرخاء.
قصة أيوب هذه من أعظم القصص وأروع القصص، وأيوب في الحقيقة من ذرية إبراهيم ، وما هو الدليل على ذلك، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام: 84] وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ، الهاء تعود على إبراهيم، والآية في سورة الأنعام. قال ابن كثير رحمه الله: والصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام طبعًا نوح أبو البشرية الثاني، لأن الله قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ[الصافات: 77]، فآدم أبو البشرية الأول، وكل واحد من البشر بعد نوح من سلالة نوح، مع أنه نجا في السفينة معه أشخاص أخرون، لكن ما كتب الله أن يبقى لهم نسل ولا ذرية، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ[الصافات: 77]، ذرية نوح ، أما إبراهيم فلم يبعث نبي بعده إلا وكان من ذريته، رفع الله قدر إبراهيم، ما بعث الله نبيًا بعد إبراهيم إلى محمد عليه الصلاة والسلام من أنبياء بني إسرائيل، والعرب، وغيرهم إلا وهم من ذرية إبراهيم ، من جملتهم أيوب ، وهو من الأنبياء المنصوص أن الله أوحى إليهم؛ كما في سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ [النساء: 163].
وقد ذكر أهل التواريخ والتفاسير: أن أيوب كان رجلاً كثير المال، وأنه كان عنده أنعام، وعبيد، ومواشي، وأراضي إلى آخره، وكان له أولاده وأهلون كثر حتى حل به البلاء، وفقد الأموال، وفقد الأهل، وابتعد عنه الناس، وانفضوا، وليس بسهل على الإنسان أن يكون عنده كل هذا ثم بعد ذلك يصبح وحيدًا فريدًا طريدًا، لا يأتيه أحد إلا في النادر، وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، بل قيل: إنه ألقي خارجًا في مكان موحش، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه إلا زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه، وتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته حتى ضعف حالها هي الأخرى، وقل مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجرة لتطعم زوجها، وهي صابرة معه على ما حل به من فراق المال والولد، والمصيبة، وضيق ذات اليد، والعمل عند الناس، والتعب، وترجع تتعب مع الزوج هذا، ومع ذلك لم يزدها إلا إشفاقًا وصبرًا، ولم يزد هذا أيوب إلا احتسابًا وحمدًا وشكرًا" [البداية والنهاية: 1/221]، حتى أن المثل يضرب به، يقال: صبر أيوب.
وذكر بعضهم أسبابًا لهذا الابتلاء، لكنها من الإسرائيليات أن حاكمًا كافرًا تسلط عليه، أو أنه دخل على ملك فرأى منكرًا فلم يغيره، ولكن هذا لا يليق بنبي الله ، وكثير من الذين ذكروا هذه صدروها فقد روي المفيد للتضعيف، والوارد مرويات وقصص إسرائيلية لا يمكن الوثوق به، والذي نعرفه من الآيات نقف عند ما أخبرنا الله به، أن الله ابتلاه هذا الابتلاء الشديد فصبر .
قال ابن العربي: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين:
الأولى قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83].
والثانية: في ص: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] وإذا لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره على أية لسان سمعه، والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، واصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا" هذا كلام ابن العربي رحمه الله في رفض الإسرائيليات. [تفسير القرطبي: 15/210].
والأخبار التي لا يوثق بها، وهذا مقام نبي من الأنبياء أيليق أن يقال عليه: أنه عوقب بسبب منكر ما أنكره، أو كذا أو كذا، ولم يثبت هذا، والأصل أن الأنبياء يقومون لله بالحجة، وينكرون المنكر، ومن العجائب والطوام أن بعض الصوفية يحتجون بقوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ على جواز الضرب والرقص الصوفي، يعملون حلق رقص صوفي يضرب بالأرض، والصوفية عندهم ضرب في الأرض، وأصوات منكرة عظيمة، وعندهم طبل، وعندهم دف، وعندهم أكثر من هذا، لكن عندهم أنهم يقومون يرقصون ويضربون في الأرض، ويدور الواحد يدور يدور حتى يدوخ، ثم بعد ذلك التجلي، ودخل في عالم الفناء، وصار يرى الله، وصار يرى الملائكة، والملأ الأعلى، ويقرأ من عند العرش، وكلام في الموضوع، وهكذا يقولون: كلما درت ودخت، وضربت، وكلما حمي الضرب كلما وصلت التحمت بالملأ الأعلى، والله يستر على الالتحام، هذا ماذا سيكون فيه من المصائب؟ لأنهم يأتونك بالأباطيل والترهات، والكلام المستبشع، الكلام الباطل، وأي دليل في قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ على رقص الصوفية، أو ضربهم في الأرض، أو أن الضرب من الدين؟ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ضرب برجله الأرض نبع الماء، وهم يضربون بأرجلهم فينبع الباطل.
قال ابن عقيل: "أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء أن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازًا من الرب، ولئن جاز قوله لموسى: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة: 60] دلالة على ضرب المحاد بالقضبان، نتعوذ بالله من التلاعب بالشرع". [تفسير القرطبي: 15/215]، خلاص نقول أيضاً: لما قيل لموسى: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، هذا دليل على جواز الطبل، أو أي شيء يضرب ليخرج أصواتًا.
الفوائد والدروس المستفادة من القصة
فوائد هذه القصة متعددة وكثيرة:
ومن ذلك أولاً: ثناء الله على أيوب؛ هذا النبي الكريم العظيم الذي يجب أن نعرف قصته وسيرته التي ذكرها الله لنا؛ لكي نقتدي بها.
ثانيًا: الإشادة بمناقب الأشخاص العظام فيها قدوة لمن بعدهم.
ثالثًا: الثناء على صبر أيوب، وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص: 44]، وأهمية الصبر في البلاء، وكلما ابتلي أحد المؤمنين ذكر بصبر أيوب، وكلما نزل بلاء، الآن الناس عندهم سرطانات، وعندهم غسيل كلى، وعندهم أنواع من الأمراض، وعندهم هشاشة عظام، وعندهم شقيقة وصداع نصفي رهيب، وناس عندهم أنواع من الصرع، وأنواع من الوسوسة، وناس عندهم عين وسحر، وناس عندهم غرغرينة وجروح، وأشياء كثيرة قد يبتلى بها الناس، مهم جداً أن يقص عليهم قصة أيوب الذي صار مضرب المثل في الابتلاء، والتضرع، والدعاء، والفرج بعد الشدة، وحصول النعمة، والرخاء بعد هذا البلاء، والحقيقة أن أيوب لا يكاد يذكر أحد من أهل البلاء إلا ويقال: صبر أيوب.
خامسًا: الثناء على أيوب بهذا الوصف نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 44]، ورفعة مقام العبودية عند رب العالمين، وأن العبودية هذه مدح، وأن العبودية هذه ليست إذا قيلت عن شخص أو نبي الله أو عبد ليست تنزيلاً من مرتبته، هذه رفعة له الله وصف نبيه ﷺ في أربع مواضع في كتابه أنه عبد الله، عبده، عبدنا.
سادسًا: الثناء على أيوب بكونه رجاع إلى الله، وأنه يفعل الطاعات ويترك المعاصي أواب.
وسابعًا: أن الأنبياء لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، وأن أيوب قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ [ص: 41] إذًا لو كان الأنبياء يدفعون عن أنفسهم الضرر كان دفع أيوب عن نفسه، لكن لا يملكون ذلك، الذي يملك الضر والنفع هو الله ، ومع ذلك يأتي بعض الناس يقول: نذهب إلى قبر النبي، ونطلب منه، ونقول: يا رسول الله المدد، يا رسول الله اشف مريضي، يا رسول الله أذهب الأذية، يا رسول الله هب لي ولدًا، يا رسول الله ثقل ميزاني، ويطلبون ويزعمون، واحد قال: يا رسول الله خلصت الإقامة وترحيل أنظر لي حل، يعني: تصل القضية ببعض الناس أنهم يصرون على الوقوع في الشرك مع أنهم جاءهم البيان.
وثامنًا: صدق اللجوء إلى الله، والفزع إليه عند الشدائد، أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]، وأهمية التضرع.
وتاسعًا: إضافة الأشياء إلى أسبابها، لأن أيوب أضاف الضر إلى الشيطان، أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ [ص: 41]، لأنه هو سبب البلاء.
عاشرًا: جواز التوسل إلى الله بحال العبد؛ لأن ايوب توسل إلى الله بحاله وبمصيبته، وشكا الضر الذي نزل به، والعذاب الذي حل به، وهذا نظير قول موسى : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24].
يعني: أنا محتاج إليك يا رب، أنا فقير مفتقر إلى كرمك يا رب، وإلى أن تغنيني من فضلك، وهذا أحد أنواع التوسل الجائزة، لأن من أنواع التوسل: التوسل إلى الله بأسمائه، يا غفور اغفر لي.
أو التوسل إلى الله بصفاته، برحمتك أستغيث [رواه الترمذي: 3524، وصححه الألباني السلسلة: 227].
أو التوسل إلى الله بأفعاله، اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم.
أو التوسل إلى الله بذكر حال الداعي، مثل ما فعل أيوب .
أو التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الذي ترجا إجابته، كتوسل عمر بالعباس.
أو التوسل إلى الله بالإيمان، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا[آل عمران:16].
التوسل إلى الله بالعمل الصالح، مثل قصة الثلاثة في الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة.
أما التوسل إلى الله بالأموات هذا توسل شركي، التوسل إلى الله يجب أن يكون مشروعًا وإلا يترك، وما أكثر البدع في التوسل، ويتوسلون بالنبي الذي مات، وبالملك الغائب، يتوسلون بالرجل الصالح البعيد، وينادونه من بعيد، وهذا نوع من الشرك، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر:14].
والحادي عشر: بيان إجابة الله للدعاء، وأنه أجاب، وأن الله يرجئ الإجابة لحكمة، ثمانية عشرة عامًا لبث أيوب في البلاء والله أجل لحكمة ، وازداد أيوب رفعة عند ربه، لو أنه أجابه من ثاني يوم، أو في نفس اليوم ما صار أيوب في نفس المرتبة، ولا صار مضرب مثل للأولين والآخرين، لكن الله أرجأ الإجابة ليصبح عبده أيوب مثلاً، ومضرب مثل في الصبر للأولين والآخرين.
والثاني عشر قدرة الله العظيمة، لما أنبع الماء بضرب رجل، مع أن ضرب الرجل في العادة ما يخرج ماء، إخراج الماء لا بدّ له من حفر ومجهود.
والثالث عشر: إثبات الأسباب، يعني ما يستطيع يحفر في حالته، لكن يضرب برجله، مع أن ضرب الرجل سبب ضعيف جداً، لكن الله يريد من عباده أن يتعلموا اتخاذ الأسباب مهما كانت ضعيفة، وقيل لمريم: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25]، مع أنها امرأة ضعيفة في حال الوضع، والنخلة قوية جدا، وجذع النخلة قوي أقوى شيء فيها، ومع ذلك قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25]، ليعلم عباده اتخاذ أدنى سبب، المقدور عليه اتخذه، وتوكل على الله.
والرابع عشر: أن الله قد يجعل السبب الضعيف يعمل ويؤثر.
والخامس عشر: كيف أن هذا الماء النابع من جوف الأرض كان باردًا صالحًا للشرب.
والسادس عشر: أنه طهر الباطن، وطهر الظاهر أيضاً.
والسابع عشر: أن الله يمن على العبد بأكثر مما فقد، الآن لو واحد ابتلي مثلاً ببلاء في صحته في ماله، فدعا ربه الله يقدر ليس فقط أن يعيده مثلما كان، يعيده أحسن مما كان، ورد إليه ضعفي، أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ومن صبر ظفر.
والثامن عشر: أن ما حصل للإنسان من نعمة فبرحمة الله؛ لأن الله قال لما عوض أيوب: رَحْمَةً مِنَّا.
والتاسع عشر: أن القصة هذه فيها عبرة لأولي الألباب، ويجب على أصحاب العقول التمعن فيها، وأن يتذكروا بلاء أيوب، وأن الله رحمه، وأن في بلائه مثلاً، وأن فيه عبرة للبشرية، وأن فيه حسن عاقبة لمن صبر، والإشارة للعابدين إلى مغزى هذه القصة، وأن العباد متعرضون للابتلاء، وأن الله لا يبتلي فقط الفساق والفجار، ممكن يبتلي العباد، أيوب كان عابدًا كان صالحًا، ما كان عاصيًا لما ابتلاه الله ، بل إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه.
وكذلك أن المسلم عليه أن يتحمل في سبيل الله.
وأن المصائب تأتي على الرسل.
وأن الشيطان ممكن يسلط على الأنبياء، والشيطان سلط على سليمان في قصة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- سُحر واستعان اليهود بالشياطين.
والإنسان إذا التجأ إلى ربه، ودعا فإن الله يجيبه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62].
وأن الله يأتي بالفرج بعد الشدة، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، وأن زوال كرب النبي ﷺ، هذه فائدة زوال كرب أيوب، فالله من رحمته بأيوب أنه ما أحوجه إلى خلق آخر، ما قال: اذهب إلى فلان يعمل لك، يزول بلاؤك، لا جعل الله زوال بلاء أيوب على يد أيوب نفسه، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ونبع الماء، واغتسل وشرب، وهذه فيها نعمة عظيمة أن الواحد ما يحتاج إلى الآخرين، لكي يعالج نفسه، أو يعمل لكي يزيل ما به، وفيه أن الله يعلم عباده أن الشفاء له سبب، يعني هذا الماء كان سبب لشفاء أيوب، اغتسل به، وشرب منه، وعالج نفسه، ممكن كان يزول المرض بدون سبب فجأة، لكن الله يريد أن يعلم عباده الأسباب، والبحث عن الشفاء والعلاج لكي يزول المرض، إن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله [رواه الحاكم في المستدرك: 7423، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 451].
وأن الابتلاء بالشدائد لا يعني هوان المبتلى على الله، ممكن يكون المبتلى بمنزلة عند الله، يبتلى زيادة، أو يكون في عافية فيبتلى.
وأن الله يمتحن بالضراء كما يمتحن بالسراء، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]، والحكم عظيمة زيادة الحسنات، تكفير السيئات، ورفعة الدرجات.
واستعمال الحيلة المباحة: قوله: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ [ص: 44]، لكن يجب أن توافق الدليل الشرعي، والآن في فتوى من الله لأيوب، أيوب ما فعلها حيلة والتفافًا على النص.
وكذلك فإن المخالفة في اليمين في الأصل حرام، لا تحنث لكن الله يسر على عباده، فأجاز لهم الحنث مع الكفارة، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ [المائدة: 89] الآية.
قال العلماء: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، لا تكثروا اليمين، احفظوها من الحنث لا تحنثوا فيها، والإنسان ينبغي له أن يحفظ يمينه، فلا يحنث لكن إذا كان الحنث خيرًا حنث.
ولذلك فإن العلماء لما ذكروا أحكام الحنث في اليمين، قالوا: إنه إذا حلف ألا يصلي مع الجماعة ما حكم الحنث في اليمين؟ واجب، وإذا حلف أن يشرب الخمر ما حكم الحنث في اليمين؟ واجب، وإذا حلف ألا يشرب الخمر ما حكم الحنث في اليمين؟ حرام، وإذا حلف ألا يصلي الظهر ما حكم الحنث؟ واجب، وكذلك فإنه إذا حلف على شيء مستحب، فلا يحنث، وإذا حلف على شيء مكروه فإنه يكفر، ولا يفعله.
وإثبات الأسباب ونسبة الشيء إلى سببه.
وتضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبًا، وامرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها، فالله أوحى إليه أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل، وهذا للتأديب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: واضربوهن ضربًا غير مبرح [رواه مسلم: 1218]، قال الله: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34]، والسنة فسرتها أنه غير مبرح، وليس للعبد أن يعترض على الله بما امتحنه.
وأن الله يحب من عبده إذا ابتلاه بمصيبة أن يصبر، وعلى عباد الله أن يتواصوا بالصبر.
ونأخذ فائدة عظيمة من بقاء الرجلين الصالحين مع أيوب يزورانه، وأن على الإنسان المسلم أن يساعد أخاه إذا ابتلي، وأن يقف بجانبه، والمساندة المعنوية، والمساندة المادية للمبتلى مهم جداً لكي لا يجد نفسه وحيدًا.
ونرى كذلك أهمية موقف الزوجة الوفية لزوجها، كيف أنها وفت له، ولم تتركه، وقليل ما هن، ولكننا نجد أن الوفاء في الزوجات إذا ابتلي الزوج أكثر من وفاء الأزواج إذا ابتليت الزوجة، هذه لا بدّ أن نعترف فيها، وأظن الواقع يشهد بهذا، ولو علينا معشر الرجال، قل الحق ولو على نفسك، المرأة إذا ابتليت زوجها قد لا يصبر عليها، ويطلقها، يقول: ما فيها وآخذ واحدة أخرى، وأنا الآن أتكلف مصاريفها وعلاجها، لكن إذا ابتلي الرجل ومرض، وصار في أمر صعب تجد أن زوجته قابلة أن تصبر معه أكثر مما هو يصبر معها إذا مرضت، فعلى أية حال إشادة بموقف الزوجة الوفية في قصة أيوب وكيف كانت تأخذ زوجها، وترجع بزوجها، ويعتمد عليها، حتى قيل: إنه كان أحيانًا يتعلق بقرونها ليقوم.
وأيضاً نجد في هذه القصة أنه يجوز للمصاب العمل على رفع المصيبة، وتقليل الضرر، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا ابتلي بمصيبة، يقول: أبقى في المصيبة، ولا أفعل شيئًا لإزالتها ورفعها، بل إن من الحكم أن يسعى في إزالته، وأيوب دعا ربه، وفي الآيات أن الشكوى إلى الله مشروعة، أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء: 83]، هذه الشكوى، لكن الشكوى لله عبادة، والشكوى للمخلوق مذلة.
وأن الشكوى لله لا تتنافى مع الصبر، إذا واحد شكا لله ما هو شكا الله، لأن في ناس يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، ربما يقول للناس انظروا ربي ماذا قدر عليّ، هذا يشكو ربه إلى الناس، لكن هنا أيوب يشكو حاله إلى ربه، ماذا قال يعقوب: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86].
فإذًا الشكوى إلى الله عبادة، بعض المرضى يشكو إلى الطبيب، وماذا سيفعل لك هو؟ يعطيك علاج، ولكن ليس بيده الشفاء، الشفاء بيد الله، لا شفاء إلا شفاؤك [رواه البخاري: 5675]، لا شافي إلا أنت، الدكتور هذا سبب يمكن يأثر، ويمكن ما يأثر.
وأخيرًا: فإنه ينبغي لأهل الخير أن يثنوا على الله ، وأن يثنوا على عباده الصالحين، الحقيقة أنه ينبغي إحياء سيرة الصابرين، وذكر سيرة أهل البلاء؛ لكي يحدث الاقتداء والتأسي بهم.
ونسأل الله أن نكون ممن أحيا الله بهم سير أنبيائه وأوليائه، ونحن نحتاج أيضاً إلى أن ننشر هذه السيرة، وأن نأتي نذكر سيرة هذا النبي الكريم لأولادنا، وأهلينا، وإخواننا، وأصدقائنا، وأقاربنا، لأن مثل هذا الموقف يمر به الناس، ما يخلو أحد إلا أن يمر بابتلاء أو محنة، ويكون ذكر القصة هذه فيها غاية التصبير والتواصي بالحق والصبر.
نسأل الله أن يجعلنا من الصابرين، وأن يعافينا في الدنيا والآخرة إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.