الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نص القصة
فمن روائع قصص القرآن التي قصها الله علينا في كتابه العزيز ما جاء في قوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 101-113].
تفسير القصة
يخبر تعالى في هذه الآيات عن خليله إبراهيم أنه بعدما نصره الله على قومه، ولم يكن هناك أمل في استجابتهم بعدما شاهدوا الآيات العظيمة، ومنها النار التي ألقوا إبراهيم فيها، ولم يحدث له شيء بأمر الله، وقال الله لها: كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا [الأنبياء: 69]، ولو لم يقل: وَسَلَامًالربما تأذى من بردها، لكن قال: بَرْدًا وَسَلَامًا رأوا هذه الآيات ومع ذلك ما تأثروا، ولا آمنوا، ولا استجابوا، فقرر إبراهيم الخروج من بين أظهرهم بعدما يئس من هدايتهم، وكان قد مكث فيهم طويلاً فدعا ربه ولم يكن له ولد: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ[الصافات: 100].
أي ولدًا صالحًا، فاستجاب الله له فقال فبشرناه بغلام حليم والمقصود بالحليم يعني إذا كبر لأن الطفل الصغير قد لا يظهر حلمه وهو رضيع لكن- فبشرناه بغلام حليم، يكون حليمًا إذا كبر، وهذا معناه بقاء ذلك الولد، وأنه لا يموت رضيعًا، لأن الله قال: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101].
ومعروف أن هذه الصفة لا تظهر في الولد الرضيع بشكل واضح، وكلمة غلام كذلك، إذًا فيها بشارة إلى أن الولد سيعيش، وأنه لن يموت وهو رضيع، فكانت البشارة على ألسنة الملائكة، وطبعًا الحلم رأس الصلاح، وأصل الفضائل، والإنسان ّإذا كان حليمًا كان متأنيًا، وكان حكيمًا، وكان متعلمًا، وكان صبورًا، وكان خلوقًا، وكان جامعًا للفضائل، وكان آخذًا بألباب الناس، يجتمعون حوله، لأن الحليم محبوب، قال تعالى:فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102]، وهبنا له ذلك الغلام، ولما بلغ معه المبلغ الذي يسعى فيه الولد مع أبيه، يعني: أن هذا كبر، وترعرع، وشب، وصار يذهب، ويجيء مع أبيه، ويمشي، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ[الصافات: 102]، صار الآن يعين، يمكن الاعتماد عليه، صار ملازمًا لأبيه، فتعلقت النفس به غاية التعلق لأنه الآن زينة للأب، يمشي بجانبه، يذهب معه، يجيء معه، يكون معه في المحافل، في المجالس، يعتمد عليه، يمكن الاستعانة به، تعلقت النفس به من كل وجه، وفي هذا السن يكون الولد أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته في هذا السن، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102]، هذا السن يكون الولد فيه قد ذهبت مشقته كلفة ومؤونة تنظيفه وإطعامه، يصير يعتمد على نفسه ذهب مشقته، وأقبلت منفعته، بدأ الآن يعتمد عليه، يمكن إسناد المهام إليه، يمكن الاستعانة به هذا السن يُرجى الولد، ويحب غاية المحبة.
قال ابن كثير رحمه الله: وقد كان إبراهيم ﷺ يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده، يذهب من بلاد الشام إلى مكة حيث هاجر أم الولد وإسماعيل الولد، ينظر في أمرهما، وذكر أنه كان يركب البرق إلى هناك، لكن هذا يحتاج إثباته إلى دليل صحيح، فالله أعلم. [تفسير ابن كثير: 5/35].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخرساني وزيد بن أسلم وغيرهم: "فلما بلغ معه السعي شب، وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل".
قال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشر سنة، فالله أعلم.
وقال ابن عباس: "هو احتلام". هذا الولد الآن في سن الاحتلام.
وقال الحسن ومقاتل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، سعي العقل الذي تقوم به الحجة.
وقال ابن زيد: السَّعْيَ السعي: سعي العبادة". [الجامع لأحكام القرآن: 15/99].
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102]، أرى الله إبراهيم في المنام تلك الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى[الصافات: 102].
قال ابن عباس : "كانت رؤيا الأنبياء وحيًا" حديث حسن. [المستدرك: 3613، وحسنه الألباني ظلال الجنة في تخريج السنة: 463].
وأخرج الطبري بسند حسن أيضاً عن قتادة: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102]، قال: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئًا فعلوه". [جامع البيان: 22608].
قال القرطبي: قال مقاتل: "رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات". [تفسير القرطبي: 15/101]، والله أعلم.
وقال محمد بن كعب: "كانت الرسل تأتيهم أي يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظًا رقودًا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم". [تفسير القرطبي: 15/101].
وهذا ثابت في الخبر المرفوع قال ﷺ: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا. [الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/171، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1705].
ولذلك إذا نام النبي ورأى رؤيا فإنها رؤيا حق لأن قلوب الأنبياء لا تنام بل هي حية، وما يرد عليها من الله -تعالى- فهو حجة يجب تنفيذه، فأمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده، والأمر لا بدّ من إنفاذه، وإنما أخبر الخليل ابنه بذلك، وقال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102].
ليكون أهون عليه بدلاً من أن يفاجأه بالذبح، وليختبر صبره وعزمه في صغره على طاعة الله وطاعة أبيه، وهنا تظهر أهمية التربية، ويظهر أثر التربية، ويظهر جودة المعدن، ويظهر هذا الأساس من طاعة الله في نفس إسماعيل ، لقد تلقى تربية نبوية من إبراهيم الخليل فذة، فليس عجيب أن يطيع في ذبح وقتل وإزهاق روح، ولذلك قال صابرًا محتسبًا مرضيًا لربه مطيعًا لوالده: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102].
امض إلى ما أمرك الله من ذبحي، افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، لم يقل لا مانع عندي، بل قال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُيعني هذا الأمر من الله أنت تؤمر، افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، نفذ ما أمرك به ربك، الكلمة الرد افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ يدل على أن الولد معتقد بهذا الوحي مؤمن بهذا الأمر، وأن الباقي التنفيذ عليه، وعلى أبيه، فهو لتشجيع أبيه يقول: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، نفذ يا أبي نفذ ما قال: أنا ما عندي مانع، بل رد أبلغ قال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ امض إلى ما أمرك الله من ذبحي، وعندما يذكر الابن أباه بأمر الله يكون هذا أيضاً أثبت للأب، وحتى لا تدرك إبراهيم شفقة ليست في محلها، إسماعيل قطع الطريق على أي شفقات ستمنع التنفيذ، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ لا تتردد، امض لما أمرك الله. وبعدما صار الابن رجلاً، والأب يؤمر بذبحه الآن بعدما صار القلب متعلقًا به من كل جانب، الآن بعدما صار يمكنك الاعتماد عليه بعدما تعلق القلب به أمر بذبحه، فهو لم يؤمر بذبحه وهو رضيع، لم يؤمر بذبحه بعدما كبر وخلف أولادًا، الآن أمر بذبحه هذه مسألة فعلًاإِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106]، هذا ابتلاء عظيم، هذا الوقت الذي أمر فيه بذبحه وقت عصيب جداً بلا شك.
قد يقول بعض الناس: لماذا رفع الله إبراهيم هذه الدرجة، وأفضل نبي من أولي العزم بعد نبينا ﷺ مباشرة إبراهيم الخليل؟
لأن الابتلاءات التي تعرض لها هذا الرجل العظيم ليست سهلة، يعني: يصبر على أذى أبيه، ويحاج قومه، ويصبر عليهم في الدعوة ويناقشهم ويحاجهم، ويكرر ويزيد ويعيد، ويصبر على إلقائه في النار و لا يتراجع، وكسر الأصنام، وأنكر المنكر بيده، وهاجر في سبيل الله من العراق إلى الشام، ثم ابتلاه الله بكلمات فأتمهن، وجاءته البشرى بالغلام وأمر بذبحه وصبر، وبنى البيت العتيق، وربى أبناءه على هذه الطاعة والدين، في وقت يقول لزوجته سارة: ليس فيها مؤمن غيري وغيرك [رواه البخاري: 3358، ومسلم: 2371].
وقت ما كان فيه مسلم في الأرض إلا إبراهيم وزوجته فقط، تصور إذًا رجل يعبد ربه في هذا الوقت من الغربة، والكربة، والوحدة، والوحشة من الناس، كيف ستكون منزلته عند رب العالمين؟ وزيادة في التأكيد، وتعهد من الابن بطاعة الأب، وإسماعيل تصور ما معنى مسألة الذبح هذه، يعني: قتل وإزهاق، وروح ومشقة، وألم الذبح، قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].
السين هذه تفيد التوكيد وقرب الوقوع، سَتَجِدُنِيوهي: للتنفيس، وقال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لأنه أمر مستقبلي، والإنسان لا يستطيع أن يجزم ماذا سيقع، لكن يؤكد أنه سيجده صابرًا، سأصبر واحتسب عند الله ، وقرنه بالمشيئة لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله ، وأيضاً فإن عدم الاستثناء هنا يمكن أن يوحي بشيء من الادعاء والزعم، ولا يكون الإنسان على مستوى هذا الزعم، وقد مر معنا أن هناك من لم يقل إن شاء الله فلم يثبت، وإن من قال: إن شاء الله ثبت، هذا سليمان لما قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة تلد فارس يقاتل في سبيل الله، قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فنسي، فجاءت واحدة من النساء بشق إنسان [رواه البخاري: 2819].
فقط، نصف شخص، وكل الباقيات ما ولدت منهن امرأة أحد، لو قال: إن شاء الله لكان أبلغ في الأمر، وأثبت للحاجة، وأعون على المقصود، وحصل ما يتمنى لكن نسي، إسماعيل لما قال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ماذا حصل ثبته الله هنا.
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102]، لأن المسألة تحتاج إلى صبر وصدق في وعده، ولذلك قال الله تعالى في إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا[مريم: 54-55].
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا اختبار من الله لخليله في أن يذبح هذا الوزير العزيز الذي جاءه على كبر". [تفسير ابن كثير: 7/30].
وقد طعن في السن، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد بها حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركها هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان، إذًا إبراهيم كان محتاج للولد لأنه جاءه على كبر، ثم الآن الولد هذا أمه تحتاجه لأن إبراهيم سيعود للشام، وستبقى هاجر وحدها إذا ذبح الولد، وهذه مشقة إضافية، وضغط آخر نفسي، ولكن مع ذلك صبر الولد، وصبر إبراهيم -عليهما السلام- على أمر الله، ثم لما أمر بعد ذلك كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته.
ولا ندري والله بأيهما أكثر أعجابًا نحن بالوالد الذي يكلفه ربه بأمر لا تكاد تطيقه نفس بشرية بأن يذبح ولده، أم الإعجاب بهذا الولد النجيب الذي لم يبد تذمرًا، ولا اعتراضًا، ولا تلكؤًا، ولا تباطؤا، ولا عقوقًا، بل شجع والده على التنفيذ، وتعهد بالصبر، واستثنى بمشيئة الله لتحصل البركة، ولم يغتر بذلك، ولم يزعم، ولم يدع ادعاء بل صدق حتى شهد الله له بالصدق؟
ثم عرض إبراهيم ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا فيذبحه، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات: 102]، إن اختبار الولد من الأهمية بمكان، وتحسس مدى صبر وثبات الولد في مواطن الشدة مهم في توجيه الولد وتربيته، فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل إبراهيم، فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[الصافات: 102]، غاية في السداد، والطاعة للوالد، ولرب العباد.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[الصافات: 103]، لما تشهدا وذكرا الله ماذا حدث؟ ولماذا ذكر الله هنا فَلَمَّا أَسْلَمَاإبراهيم يسمي على الذبح، والولد يتشهد لأنه قبل الموت لا بدّ من النطق بالشهادة، فَلَمَّا أَسْلَمَا ذكر الله إبراهيم ذكر على الذبح، وإسماعيل على وداع الدنيا.
وقيل: أَسْلَمَا، يعني: استسلما، وانقادا، وامتثلا للأمر رغبة، فيما عند الله، خوفًا من عقاب الله، ووطن الولد نفسه على أنه مذبوح، والأب احتسب الأجر في ذهاب فلذة كبده بيده، ولم يقل له: سأرسل ملكًا يذبحه، أو هو سيموت سآخذه يموت حتم أنفه، لا، أنت تذبحه بيدك.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي فَلَمَّا أَسْلَمَا، يعني: فوضا أمرهما إلى الله.
وقال ابن عباس: استسلما.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أسلما هذا نفسه لله، وأسلم هذا ابنه لله. [جامع البيان: 21/76].
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] قلبه، قلب إبراهيم إسماعيل على جبينه ليضجعه فيذبحه منكبًا على وجهه لئلا ينظر إليه وقت الذبح، فلعله يرى من ألم الولد وتغير وجهه عند الذبح ما يجعله يتراجع، أو يتلكأ، أو لا يكمل الذبح، فقلبه على وجهه ليكون هذا أهون على تنفيذ المقصود.
قال قتادة: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أي وكبه لفيه، يعني: قلبه على فمه، وأخذ الشفرة.
وجاء في بعض الروايات -والله أعلم بصحتها- أن الابن قال: "يا أبت اشتد رباطي حتى لا اضطرب، واكفف ثيابك لئلا يتنضح عليها شيء من الدم فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون الموت أهون، واقذفني للوجه لئلا تنظر إلى وجهي فترجمني، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع، وإذا أتيت أمي فأقرئها مني السلام". [الجامع لأحكام القرآن: 15/104].
فلما جر إبراهيم السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس فيما قال، ولكن الذي عرفنا من الآية أن الذبح لم يتم مع أن الشروع فيه حصل، لكن عطل الله خاصية القطع في السكين كما عطل خاصية الإحراق في النار، فلما لم تحرق إبراهيم النار ومن خواصها الإحراق عندما ألقي فيها كذلك لم تقطع سكينه مع أن من خواص السكين القطع، وقد اختار شفرة قوية حادة لسرعة إنجاز المهمة، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وكبه، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104-105]، فالتفت التفت فإذا هو كبش.
وقد يقال: إنه ما دام أنه لم تثبت صحة تعطل السكين عند القطع فيكفي في الامتثال أنه تهيأ، وأنه استعد، وقلب الولد على جبينه، وما عنده أي تردد في الذبح والتنفيذ.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات: 104].
قال ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي ﷺ: لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه وسلامه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون"، رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال صحيح على شرطهما، وفي صحيح الترغيب والترهيب للألباني. [المستدرك: 1713، وصحيح الترغيب: 1156].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أمر إبراهيم ﷺ بالمناسك عرض عليه الشيطان عند السعي فسابقه، فسبقه إبراهيم ﷺ، ثم ذهب به جبريل ﷺ إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع، وثم وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[الصافات:103]، وعلى إسماعيل ﷺ قميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكففني فيه غيره فأخلع حتى تكففني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 103] فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، عيون كبيرة، كبش جميل، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش". [رواه أحمد: 2707]، يعني: في الأضاحي وغيرها نبحث عن مثل هذه الصفات.
ونَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104-105]، ناديناه في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 105] حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، ويكفي هذا يكفي في تنفيذك لما في الرؤيا، ما حصل إلى الآن حققت ما أوحينا به إليك، وفعلت ما أمكنك، وبالتالي فإن الابتلاء قد تم، والطاعة ظهرت.
وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، واستدل على هذا بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم: لا تنظر إليّ فترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض، ونعرف أن الذبيح هو إسماعيل، وليس إسحاق، ولذلك هذه الرواية تفتقر إلى النقل الصحيح، وأي رواية أخرى أيضاً فيها قضية جعل السكين نحاسًا أيضاً تفتقر إلى طريق صحيح، ولا يمكننا إثبات شيء بدون طريق صحيح، لكن ما علمنا من الآيات أن إبراهيم استعد، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103]، وبالتالي ما كان عنده أي شك ولا تردد ولا امتناع عن التنفيذ، وهذا يكفي إلى هذه المرحلة يكفي في التدليل على طاعة إبراهيم .
قال القرطبي: "قال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء" [الجامع لأحكام القرآن:15/ 102].
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 105] نجزي من أطاعنا، وقدم أمرنا على هواه، نصرف عنه المكاره والشدائد، ونجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 2-3]، فهكذا جزاه الله جزاء المحسنين لأنه أحسن في عبادة الله، وفي تنفيذ أمر الله.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] الذبح الأمر به اختبار واضح جلي فسارع مستسلمًا، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37]، وفى بما أمر الله به، الواحد منا قد لا يطيق الصبر على مرض الولد، فكيف يصبر على ذبح ولده، ولكن هذا البلاء المبين الذي جعله الله لخليل الرحمن رفع منزلة ودرجة، وهذا البلاء المبين الذي كان لخليل الرحمن زيادة أجر وطاعة وقربة، وبسببه شرعت هذه الشريعة العظيمة في ذبح الأضاحي.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ[الصافات: 107]: كبش كبير الجسم من الضأن، عَظِيمٍ[الصافات: 107]، وهذا الكبش الذي جعله الله فداء بدلاً من الولد، وينوب منابه، فانتقل الأمر من ذبح المولود إلى ذبح الكبش، فصار الكبش فداء للولد.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ[الصافات: 108]، الهاء تعود على إبراهيم فِي الْآخِرِينَ[الصافات: 108] يعني: ثناء جميلاً، وذكرى عطرة، وسيرة حسنة، وأخبار جميلة تتناقلها الأمم عن إبراهيم ، ولذلك كل الأمم تحب إبراهيم سبحان الله اليهود يحبونه، والنصارى يحبونه، والمسلمون يحبونه، كلهم يحبون إبراهيم ، يعني: هذه الطاعة المطلقة لله أعقبه الله ثناء عليه من الجميع، كل يدعي إبراهيم، كل يقول: إبراهيم منا، اليهود يقولون: إبراهيم يهودي، النصارى يقولون: إبراهيم نصراني، الله قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران: 67].
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109]، من الله سلام من الآفات.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 110]، ولأنه صبر على هذا أعطاه الله ولدًا إضافيًا، شيء لم يكن بالحسبان، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ[الصافات: 112]، ونبي، ويكبر، ولا يموت في الصغر، ويكون نبيًا، بشارات، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ[هود: 71]، بشر بالحفيد أيضاً وراء بعض، متوالية البشارات، توالت الابتلاءات، ثم توالت البشارات، صبر طويلاً ونال كثيرًا، ونال شيئًا عظيمًا نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] إسحاق القائمين بحق الله .
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ [الصافات: 113]، يعني: على إبراهيم، وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات: 113]، وعلى أولادهما، وجعل الله في ذريتهما النبوة والكتاب، وكل أنبياء بني إسرائيل من نسل إسحاق بن إبراهيم، إسماعيل جاء منه أعظم الأنبياء محمد ﷺ، ما جاء من نسل إسماعيل أي نبي آخر إلا محمد ﷺ، ويكفي وزيادة لكن إسحاق جاء كل أنبياء بني إسرائيل من نسل إسحاق بن إبراهيم، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا [الصافات: 113]، من ذرية إبراهيم وإسحاق مُحْسِنٌ[الصافات: 113] قائم بأمر الله، وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ[الصافات: 113] بارتكاب المعاصي والعدوان على الحق والخلق، مُبِينٌ[الصافات: 113]، بين الظلم، والواقع أن ذرية إسماعيل وإسحاق يتصفون بهذا الوصف، ولهذا قال عن إبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، إشارة إلى أنه سيكون من ذريته أناس من الظلمة.
أين الموضع الذي أمر فيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل؟
قالوا: بمكة في المقام.
قالوا: في المنحر عند الجمار. قالوا في مواضع متعددة على صخرة، لكن الله أعلم بالمكان.
وقال ابن عباس: "فو الذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقد يبس" [تاريخ الطبري: 1/194].
يعني: أن الأجيال بعد إسماعيل ظلت محتفظة بقرون الكبش في الكعبة حتى صار الآمر إلى حفظه في الكعبة، ثم احترق لما احترقت الكعبة، احترق قرني الكبش بحريقها.
المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحاق
لقد حاول بنو إسرائيل ادعاء الفضل في هذه القصة لنبيهم إسحاق وقالوا: إن الذبيح هو إسحاق، وجاء عن بعض أهل العلم ذلك، لكن الراجح أن الذبيح هو إسماعيل وممن قال ذلك من الصحابة أبو هريرة وأبو الطفيل وابن عمر وابن عباس، وقال ابن كثير: وهو صحيح مقطوع به. [تاريخ الطبري: 1/188].
وقال ابن عباس: المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود. [تاريخ الطبري: 1/188].
وعن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم هو إسماعيل . [تاريخ الطبري: 1/188].
قال محمد بن كعب القرظي: أنه ذكر لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة لما كان معه في الشام سأله أي ايني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال محمد بن كعب القرظي: مع أنه أصلا من اليهود، فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى لصبره والمتعين". [تاريخ الطبري: 1/189].
إذًا أن إسماعيل هو الذبيح، والأوصاف التي ذكرت للذبيح لا تنطبق على إسحاق ، ويتعين أن يكون هو إسماعيل، وإذا قارنا الصفات التي ذكرها الله لإسحاق والصفات التي ذكرها الله لإسماعيل فإن صفات الذبيح تنطبق على إسماعيل وقد بشر الله إبراهيم بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ولو كان إسحاق هو الذي أمر بذبحه لكان هناك تناقض عند إبراهيم، كيف يؤمر بذبحه وسيولد له حفيد منه.
الله بشر إبراهيم بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، بشره بولد وحفيد، فلو كان إسحاق هو الذبيح كيف سيكون هذا حاصلاً عند إبراهيم الخليل أنه سيذبح ولده إسحاق والحفيد الذي بشر به أين هو، وهذا يدل على أن إسماعيل هو الذبيح، والله وصف إسماعيل بأنه صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54]، وإذا قارنا هذا بكلمة سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] وجدنا أن سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] وعد، وأن مدح إسماعيل ينطبق عليها، فلم يأت في وصف إسحاق مثل ما جاء في وصف إسماعيل ، هذا إشارة أخرى إلى أن الذبيح هو إسماعيل ، والله وصف إسماعيل بأنه حليم، ووصف إسحاق بأنه عليم، بالحاء وبالعين، أيهما يناسب الصبر على الذبح؟ الحليم، وهذا إشارة أخرى إلى أن إسماعيل هو الذبيح.
وإذا صح أن النبي ﷺ قال: أنا ابن الذبيحين[السيرة الحلبية: 6/81]، لأننا نعلم أن عبد الله في قصة مشهورة في السيرة أن عبد الله والد النبي ﷺ قد نذر بذبحه، ثم فدي طبعًا حصل هذا لجده عبد المطلب ليس مثلما حصل لإسماعيل، لكن الذبيح الآخر سيكون بالتالي هو إسماعيل، والحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة [331].
والحديث الذي ينص على أن الذبيح هو إسحاق ضعيف أيضاً، لكننا نجد في القرآن الكريم أن الله وصف إسماعيل بالصبر، فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85]، لا نجد أنه قد جاء هذا الوصف لإسحاق فإذا طابقنا الصفات وجدنا أن إسماعيل أنسب أن يكون هو الذبيح من إسحاق بحسب الصفات المذكورة له، يعني: لإسماعيل في القرآن الكريم، وتعليق قرني الكبش في الكعبة، وبقاء هذا الوقت الطويل يشير إلى أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه يسكن عند البيت، والقصة في مكة، لكن إسحاق في الشام، فما الذي سيأتي بقرن الكبش إلى مكة؟ الأقرب أن هذه القصة حصلت لإسماعيل لأن قرن الكبش معلق في الكعبة, وإسماعيل كان في مكة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده"، يعني: موجود في الكتب عندهم كتب اليهود والنصارى أن الله أمر إبراهيم بذبح بكره وحيده، ومعلوم أن إسماعيل مولود قبل إسحاق، فلو كان المأمور بذبحه إسحاق ما كان بكرًا ولا وحيدًا، لكن إسماعيل كان بكرًا وحيدًا، وبعدما صبر على ذبح إسماعيل رزقه الله بإسحاق ولد آخر، قال: "ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق، وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى، لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 70-71]، فمحال أن يبشرها بأن يكون له ولد ثم يأمره بذبحه، ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه". [زاد المعاد: 1/70].
قال ابن كثير: "لما أسلم كعب الأحبار في عهد عمر جعل يحدث عمر عن كتبه قديمًا، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده عنه غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف وواحد مما عنده". [تفسير ابن كثير: 5/42].
يعني: أن كون الذبيح إسحاق منقول عن كعب الأحبار، فلا نصدق بهذا هذه القصة.
فوائد المستفادة من القصة
وبقي أن نقف وقفة بسيطة مع فوائدها:
من فوائد هذه القصة أن كل واحد وإن علا قدره من البشر يفتقر إلى الله وإلى من يعينه، وذلك عندما قال إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، اللجوء إلى الله في طلب ما يريد الإنسان ولو كان من أمور الدنيا.
ثانيًا: أن الصالحين يعينون الإنسان، وأن الإنسان يطلب من الله أن يهب له من الصالحين أولاد وإخوان؛ لأن الصالحين في غاية الأهمية في الحياة الإنسان، فهم وزراؤه، وأعوانه، وأصحابه، وإخوانه، وسندته، وعضده، والذين يتعاون معهم على البر والتقوى، ولذلك قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، قيض لي، والقرين الصالح نعم العون على طاعة الله.
وثالثًا: نجد إجابة الله تعالى سريعة رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ [الصافات: 100-101] الفاء تفيد السببية من جهة بسبب الدعاء كانت الإجابة، والله صادق الوعد، وإذا وعد لا يخلف.
وعرفنا من الآيات أهمية صفة الحلم.
وعرفنا أهمية البشارة. وأن الإنسان إذا كان يشتهي أمرًا ويتمناه، فتأتي وتبشره به أن هذا من الدين والإيمان، وبالذات ولادة الولد، فنفهم من فعل الملائكة أن الإنسان يسن له أن يبشر أخاه المسلم إذا ولد له ولد، ولاسيما إذا كان ذكرًا يحمل اسم أبيه، وتكون ذرية الأب أساسًا من طريق الولد.
قد يبتلى في أعز ما يملك في أصعب الأوقات فيجب أن يصبر، وأنه ينبغي لمن أمر بتنفيذ شيء قد يتلكأ فيه أن يستعين بالأسباب التي تحسم الموضوع، وتمنع التباطؤ والتلكؤ.
وفي القصة استجلاء موقف الابن عند اتخاذ القرارات الصعبة والمهمة، بل إذا أراد القائد أيضاً أن يقدم على شيء خطير فإنه يستشير الجند ليستجلي ما في نفوسهم، وكذا فعل النبي ﷺ قبل الإقدام على الالتحام بالكفار في غزوة بدر، فإنه استشف ما عند أصحابه أشيروا عليّ أيها الناس، المهاجرون تكلموا، كان يريد الأنصار لأنهم وعدوه بالدفاع عنه في المدينة، الآن المعركة خارج المدينة، هل هذا يشمل الحلف الأول؟ هل البيعة الأولى ستمدد آثارها إلى خارج المدينة؟ كان يريد أن يستجلي هذا قبل الأقدام على المعركة.
وأيضاً فعرفنا أن رؤيا الأنبياء حق، وأنه يجوز اختبار الإنسان لإظهار مدى استعداده، وقبوله للأمر، وهذا ما فعله إبراهيم بولده، ورأينا حسن أدب الولد وبره بأبيه، يَا أَبَتِ.
ورأينا الانقياد لأمر الله، والمبادرة للتنفيذ برضا وقبول وتسليم. كما قال: فَلَمَّا أَسْلَمَا يعني ما كان ممتعضًا كارهًا، فَلَمَّا أَسْلَمَا ما كان عنده تلكؤ إطلاقًا.
وأيضاً فإن الغلام قد تظهر منه مواقف عظيمة في الثبات واليقين والدين وهو غلام، إسماعيل مثل، وغلام أصحاب الأخدود مثل، والأمثلة متعددة في غلمان، فنريد أن نكلف الآن بعض الإخوان الموجودين بكتابة أسماء قصص لمواقف جليلة حدثت من غلمان المسلمين.
الصبر يكون بامتثال الأوامر، ويكون بالصبر على المصائب، وليس فقط بالصبر على المصائب، لأن هنا أمر مأمور بتنفيذه.
وأهمية الاستسلام لأمر الله، وألا يكون تنفيذ الأمر عن كراهية وامتعاض، بل يكون عن رضا وطواعية.
وأنه ينبغي للإنسان أن يزيل أي شيء يحول بينه وبين تنفيذ أمر الله، ويعمل أي شيء يعينه على تنفيذ أمر الله ويشجعه عليه.
من أين نأخذ إثبات صفة الكلام لله تعالى؟ وَنَادَيْنَاهُ[الصافات: 104]، لأن النداء لا يكون إلا بكلام.
عرفنا أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، وأن المسألة إذا بلغت شدتها جاء الفرج، يعني: ما جاء الفرج لما رأى في المنام مباشرة، ولا جاء لما كلم ابنه، أو قبل أن يجهز الأدوات، جاء وقد بلغت القضية منتهاها وذروتها، الصعوبة وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ واستعد للتنفيذ.
هنا ملاحظة مهمة جدًا: وهي أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يأخذ الواحد من هذه القصة قتل الولد، فإن هذا كان عبادة خاصة بإبراهيم في الرؤيا الخاصة بإسماعيل، لأن قتل الولد من أكبر الكبائر من أكبر الكبائر أن تقتل ولدك [رواه البخاري: 4477]، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ [الأنعام: 151].
وقد حدثوا عن قصة أليمة وقعت لبعضهم في الهند، ووقعت لبعض الناس أيضاً في مكان من بلاد العرب، أن واحد رأى في المنام أنه يذبح، ولده ففي الصباح اجتمع مع أصحابه فكل واحد منهم رأى نفس الرؤيا فذبحوا أولادهم جميعًا، قالوا: هذه مثل رؤيا إبراهيم، فيقال: هذا إبليس قطعًا؛ لأن الله أعطانا وحي واضح، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ [الأنعام: 151]، واضح جداً، فكيف ينسف هذا برؤيا ما هي من رؤيا الأنبياء؟ والرائي ليس نبيًا؟ فكيف ينطبق هذا على هذا؟ ولذلك فإن قتل الولد من أعظم الكبائر، والمسألة محسومة، ولا يمكن حصول مشابه لحال إبراهيم الخليل أبدًا، يعني: الإنسان لا يقتل ولده إلا إذا رآه في عسكر المشركين أمامه هنا يقتل الولد، إذا خرج محادًا لله ورسوله مع جيش الكفار يقتله.
وقد يختبر الله أولياءه بمصائب على أيديهم، أو بأمور يقومون بها بأيديهم، وقد يختبرهم ويبتليهم بمصائب يقدرها عليهم هو قد يختبر عباده بأشياء يفعلونها هم بأنفسهم، وقد يختبرهم بأشياء بدون فعل منهم يقدرها عليه تقديرًا بدون فعل منهم.
نجد أن إسماعيل قدوة حسنة للشاب المسلم، ومثال من المثل العظيمة التي يجب على الشباب الاقتداء بها في مخالفة هوى النفس، واتباع طاعة الرحمن، وعصيان الشيطان.
وقد أبقى الله تعالى ثناء حسنًا وسلامًا لإبراهيم لهذه القصة، وكان هذا جزاء الإحسان، وفضيلة العبودية إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ[الصافات: 111].
ثم رأينا كيف أن الله سن لنا سنة الأضحية.
ونتذكر ببعض العبادات أشياء مما كان يفعله إبراهيم الخليل:
فالسعي هاجر لما كنت تسعى بين الجبلين.
والكعبة بناها إبراهيم الخليل، والنداء بالحج أول من نادى به إبراهيم الخليل، والأضحية، ورمي الجمار نتذكر به إبراهيم الخليل، استدل بعض العلماء أن التضحية بالكبش أفضل من غيره، قالوا: لأن الله فداه بكبش، ولو كان البقر أفضل أو الإبل أفضل لفداه بناقة أو فداه ببقرة، وفي المسألة خلاف بين أهل العلم:
فإن بعضهم قالوا: البعير أفضل؛ لأنه أكثر لحمًا، وأنفع للناس، والبقرة تليه.
وقال بعضهم: إن الكبش أفضل لأن النبي ﷺ ضحى بكبشين أقرنين، وورد أنه ضحى بالبقر عن زوجاته، وأهدى في الحج، ونحر ﷺ البدن بيده الشريفة، نحر ثلاثًا وستين، وكانت تتسابق إليه البدن، تتسابق كل واحدة تضع عنقها عند يده لينحرها، هذه من المعجزات لأن العادة أنها تنفر من الذابح أشد النفور، وأكمل الباقي علي فالذي رأى أن الكبش أفضل احتج بقوله: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107]، وهذا الكبش الفحل، ضخم الجثة ليس هزيلًا، ولذلك قالوا أفضل الضحايا الفحول من الضأن، وهذا مذهب مالك وأصحابه رحمهم الله.
نسأل الله أن يرفع درجة إبراهيم ، وأن يجعلنا من المنتفعين بسيرته وسيرة نبينا ﷺ والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.