الجمعة 11 شوّال 1445 هـ :: 19 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

هادم اللذات


عناصر المادة
الخطبة  الأولى
أهمية تذكر الموت
التفكر في أحوال الموتى
الخطبة الثانية
وسائل الاتعاظ بالموت

الخطبة  الأولى

00:00:06
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران:102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًاسورة الأحزاب:70.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمداً ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أهمية تذكر الموت

00:01:47
أيها الإخوة المسلمون: حديثنا في هذا اليوم عن أمر يكرهه الكثيرون، ولا يحب كثير من الناس سماعه، بل ويشردون عن مجالسه شرود البعير الضال عن أهله، وهو موضوع  -أيها الإخوة- على جانب عظيم من الأهمية؛ ليقوى في نفس الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، وعامة الناس وعلمائهم، ودعاتهم ومدعويهم، بأن هذا الأمر -أيها الإخوة- جد خطير، وأمره على جانب عظيم من الأهمية، ونظراً لأن كثيراً من الناس ينفرون من سماعه، ويفرون من الحديث حوله، فإن الله -جل وعلا- قال لهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ سورة الجمعة:8.
الناس -أيها الإخوة- يفرون من ذكر الموت، ويفرون من الموت، ويحسب الإنسان أنه إذا خلص من الموت بوسيلة أنه قد فر منه، وأنه لن يقع فيه؛ ولذا فهو يفر من سماع مواعظ الموت؛ لأنها تقطع عليه لذات الدنيا، وتجعله يعيش في مخاوف عظيمة؛ لذلك ترى الناس لا يحبون سماع مثل هذه المواعظ، ولكن الله -جل وعلا- أيها الإخوة- قرر في قرآنه العظيم، وكتابه العزيز، حتى لا يظن ظان أنه بعيداً عن هذا الموضوع، فقال -جل وعلا-: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سورة آل عمران:185.

فالحياة -أيها الإخوة- متاع الغرور، وكل شيء إلى الله صائر، ولا يبقى إلا وجه الله العظيم، رسول الله أعظم البشر، وأحب خلق الله إلى الله، وعده الله بالموت فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ سورة الزمر:30، قال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ أنت يا محمد ﷺ لن تنجو من الموت، كما لن ينجو من الموت أحداً من الأنبياء من قبلك، وهذا الموت -أيها الإخوة- كتاب مؤجل، لا يستأخر عنه الميت لحظة، قال الله -جل وعلا-: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلا سورة آل عمران:145،  ومهما حاول الحريصون على الفرار من الموت، وعلى الدخول في الأخبية والمحصنات من المباني، فإن الله -جل وعلا- يخرج أرواحهم من داخل تلك المباني، قال أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ سورة النساء:78، لو كان في قلاع حصينة، فإن الله -جل وعلا- يدخل ملك الموت على الشخص الذي حال أجله فيقبضه، ولو كان في برج مشيد.

أيها الإخوة: إننا نحتاج حاجة عظيمة إلى السماع والتفكر في هذه المسألة؛ لأنها أساس التقوى، و لب العمل الصالح، وهي دافع مهم من الدوافع على القدوم على الله بأعمال صالحة إذا فكر الإنسان في الميت، يفكر كيف قد سالت العيون، وتفرقت الخدود، مساكين أهل القبور، على يمينهم التراب، وعلى يسارهم التراب، ومن أمامهم التراب، ومن خلفهم التراب، كانوا أهل الدرر والقصور، فصاروا أهل التراب والقبور، كانوا أهل نعمة، فصاروا أهل الوحشة والمحنة، قد سالت العيون، وصدأت الجفون، وتقطعت الأوصال، وبطلت الآمال، وصار الضحك بكاء، والصحة داء، والبقاء فناء، والشهوة حسرات، والتبعات زفرات، فما بيدهم إلا البكاء والحسرات، نفدت الأعمار، وبقيت الأوزار، لسان حالهم يقول: حسرتنا أن ندرك وقتاً نصلي فيه ركعتين، وأنتم تقدرون، وهم لا يقدرون، ما حال أزواجهم، ما حال أيتامهم، ما عاقبة أموالهم، الأعمال قد انقطعت، والحسرات قد بقيت، والأموال قد فنيت، والأزواج قد نكحت، والدور قد خربت، قال أحد السلف: كلنا قد أيقن بالموت وما يُرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا، فعلاما تفرحون؟ وما عسيتم تنتظرون؟ فيا إخوتاه: سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً، يا بن آدم لو رأيت قرب أجلك لكرهت في طول أملك، ولرغبت في زيادة عملك، ولقصرت عن حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك، لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، إن المنهمك في الدنيا، المكب على غرورها، والمحب لشهواتها، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت، فلا يذكره، وإذا ذكره كره منه ونفره، أولئك الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة الجمعة:8.

التفكر في أحوال الموتى

00:09:41
لا بد -أيها الإخوة- أن نذكر أشكال الموت وأقرانه، الأموات الذين مروا من قبلنا، نتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، ونتذكر صورهم في مناصبهم، تذكر فلان الفلاني، وفلان الذي كان يشغل منصب كذا، ومكان كذا، وله من الأموال كذا وكذا، أين هو الآن؟ إن هذا دار، يقولون: دار المرحوم فلان، وهؤلاء أولاد فلان، هكذا يعبرون عنهم، لابد أن نفكر من الآن -أيها الإخوة- في مستحال حسن صورهم تحت التراب، وكيف تبدلت أجزاؤهم في قبورهم؟ وخلت منهم مجالسهم، وبيوتهم، وانقطعت آثارهم، وستكون عاقبتنا مثل عاقبتهم، لما سئل أحد السلف ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى الأموات، اعلم أن الموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع، والكأس الذي طعمها أكره وأبشع؛ لأنه هادم اللذات، وقاطع الراحات، وجانب الكريهات، فإنه أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر الأفظع، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، جاء جبريل لرسولنا ﷺ فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس حديث صحيح .
هل تفكرت -يا ابن آدم- في يوم مصرعك وانتقالك عن موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطاءك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك -والله- إلا الأكفان، بل للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين المال الذي جمعته؟ هل أنقذك من هذه الأهوال؟
يا أيها الناس: ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم، من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟ الكلام لنا جميعاً أيها الإخوة، مثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني انظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، فخيل لنفسك -يا بن آدم- إذا أصبت لفراشك إلى لوح مغسلك، فغسلك الناس، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والإخوان، أين الذي جمعته من الأموال وأعددته للشدائد والأهوان؟ لقد أصبح كفك عند الموت منه خالية صفرا، وبدلت بعد غناءك وعزك ذلاً وفخرا، فكيف أصبحت يا رهين أوزارك؟ و يا من سلب من أهله وجيرانه، ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد، إلى سفرك البعيد وموقفك الصعب الشديد، تزعم أن الخطب يسيرا، وأن هذا الأمر أمراً صغيراً، وتظن أن سينفعك حالك إذا كان ارتحالك، أو ينقذك مالك حين تهلكك أعمالك، أو يغني عنك إذا زلت بك قدمك، فلا والله ساء ما تتوهم، ولا بد أن تعلم لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، يعجبك التكاثر بما لديك.
تزود من معاشك للمعاد وقم لله واعمـل خيـر زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيرا فإن المـال يجمـع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغيـر زاد
مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متـفـرقـات فمن لم تأتـه منهـا أتـاها
ومن كتـبـت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
الموت في كل يوم ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:16:20
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين.

وسائل الاتعاظ بالموت

00:16:31
أيها الإخوة: كلنا نعلم، وكلنا على يقين بأننا نكره ذكر هذه المواعظ؛ لأنها إذا ذكرت حالت بيننا وبين لذائذ الدنيا، فتقسو القلوب، وينفر الناس عن مجالس الوعظ والتذكير، فما هو العلاج يا ترى لمثل هذه الحال؟ يقول رسول الله ﷺ في الحديث الحسن الذي رواه ابن حبان عن أنس بن مالك ، يقول: أكثروا ذكر هادم اللذات-الموت- فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقه، وهذا هو الحال فعلاً.
فلابد -أيها الإخوة- أن نحيي في أنفسنا موعظة الموت حتى يوقن الإنسان لإقباله على الله كيف يكون؟
أولاً: بحضور مجالس العلم، والوعظ والتذكير، والتخويف والترغيب، وأخبار الصالحين، فإنه مما يليِّن القلوب.

ثانياً: ذكر الموت الذي أوصى به رسول الله ﷺ، إذا كنت في كربة، وضائقة وذكرت الموت علمت بأن هذه الدنيا زائلة فزالت عنك ضائقتك، وإذا كنت في بحبوحة ونعمة وانصراف إلى الدنيا وانتهاء بها فذكرت الموت ضاقت عليك الدنيا ورجعت إلى طريقك المستقيم.

والأمر الثالث -أيها الإخوة-: مشاهدة المحتظرين، مشاهدة المحتظرين، وزيارة القبور التي أوصى بها رسول الله ﷺ، وأخبر بأنها تذكر الآخرة.
دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، والله رأيت مصرعاً لا أزل أعمل له حتى ألقاه.
ذكر الموت أيها الإخوة، يجعل النفس تصد عن لذائذ الحياة الدنيا، وهذا من الأمور المطلوبة، تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويليِّن القلب القاسي، ويُذهب الفرح بالدنيا، ويهوِّن المصائب، قال أحد السلف: إن فارقني ذكر الموت ساعة فسد قلبي.
ولذلك -أيها الإخوة- لابد أن نعمل، ونعمل ونعمل حتى يكون موت كل واحد منا على عمل صالح؛ لأن الموت على عمل صالح هو من علامات حسن الخاتمة، ولذلك يقول الله -جل وعلا-: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ آل عمران:157، القتل في سبيل الله أو الموت، الآية تقول: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ آل عمران:157، يعني: أو متم في سبيل الله، فدين الله -أيها الإخوة- واسع، الجهاد على رأسه، والدعوة إلى الله جل وعلا، وتعلم العلم وتعليمه هي وظيفة الأنبياء من قبلنا، إذا مات الإنسان على عمل صالح فإنه يرجى أن يكون قد وقع أجره على الله؛ لأن الله يقول عن الهجرة: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ النساء:100، فالذي يموت وهو مهاجر في سبيل الله، خارج من أهله وبيته ووطنه، هذا من أعظم الأعمال الصالحة، ثم يموت فقد وقع أجره على الله.
وكذلك -أيها الإخوة- الذي يذهب، ويخرج من بيته مجاهداً، أو حاجاً.