الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

25- ما جاء في صفة شرب رسول الله ﷺ


ما جاء في صفة شرب رسول الله الشيخ/محمد صالح المنجد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: "باب ما جاء في شرب رسول الله ﷺ" : عن الشعبي عن ابن عباس: "أن النبي ﷺ شرب من زمزم وهو قائم" [رواه الترمذي: 1882، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة: 1882]. وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم أيضًا. [رواه البخاري: 1637، ومسلم: 2027].

وجاء عن الشعبي عن ابن عباس قال: "سقيتُ النبي ﷺ من زمزم فشرب وهو قائم" [رواه البخاري: 1637، ومسلم: 2027]. وفي لفظ البخاري: "سقيتُ رسول الله ﷺ من زمزم فشرب وهو قائم" قال عاصم: "فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير" [رواه البخاري: 1637]. وفي الحديث الأول: ذكر ابن عباس أن النبي ﷺ شرب من ماء زمزم وهو قائم. وفي الحديث الثاني: ذكر أنه سقاه من ماء زمزم فشرب وهو قائم؛ فيُفهم من هذا تعدد شربه من زمزم قائمًا، وإن إحداها كانت على يد ابن عباس، والله تعالى أعلم. وكان من عادة النبي ﷺ كما نعلم الشرب قاعدًا، إلا أنه جاء هنا أنه شرب من زمزم واقفًا، وقد تكلم العلماء في سبب شربه قائمًا ﷺ فقيل: إنه شرب قائمًا؛ لأنه لم يجد مكانًا للقعود لازدحام الناس على زمزم؛ فشربه قائمًا هنا لعذر وهو الزحام. وقيل: إنه شرب قائمًا لخصوصية ماء زمزم حتى يتمكن من التضلع منها والارتواء، لأنه يسن من زمزم الشرب إلى أقصى ما يمكن. وقيل: إنه لما شرب من ماء زمزم كان راكبًا على بعير، وهو قول عكرمة، وكان يحلف على ذلك. لكن روى أبو داود -رحمه الله- عن ابن عباس: "أن رسول الله ﷺ قدم من مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجن"، والمحجن هو العصا المعقوفة الرأس مثل العكاز، "فلما فرغ من طوافه أناخ فصلّى ركعتين"،

ويُفهم منه أنه طاف لكن على الراحلة، بعد الطواف نزل من الراحلة فصلّى ركعتين، قال الحافظ: "فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه؛ لأن عُمْدة عكرمة في إنكاره كونه شرب قائمًا إنما هو ما ثبت عنده أنه ﷺ طاف على بعيره، وخرج إلى الصفا على بعيره، وسعى كذلك، لكن لابد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك -يعني: بين الطواف والسعي في ركعتين وإذا كان طاف على بعيره وسعى على بعيره، فأين صلى الركعتين؟ على الأرض، يعني نزل عن البعير- وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض، فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائمًا كما حفظه الشعبي عن ابن عباس" [فتح الباري لابن حجر: 10/85]. ولذلك السنّة ترتيب الأعمال، إذا ذهبت للعمرة أولاً أن تطوف بالبيت سبعًا، ثم تذهب إلى المقام فتصلي خلفه ركعتين، ثم تأتي زمزم فتشرب منها وتتضلع وتدعو وتسكب على رأسك، ثم تمر بالحجر الأسود فتستلمه إن استطعت، ثم تتجه إلى الصفا وتصعد عليه، فهذه السنن التفصيلية هنا بين الطواف والسعي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول الله ﷺ يشرب قائمًا وقاعدًا" وهذا الحديث حسن. [رواه الترمذي: 1883، وحسّنه الألباني في مختصر الشمائل: 177].

وقوله: "رأيت رسول الله ﷺ قائمًا"، يعني: في بعض الأحيان، "وقاعدًا" يعني: في أغلب الأحوال، فالأصل أن النبي ﷺ كان يشرب قاعدًا، وحثّ على هذا. بدأ الترمذي -رحمه الله- بأحاديث الشرب قائمًا ولا بد لها من جمع، لا بد أن نجمع بينها وبين أحاديث الشرب قاعدًا والأمر بالشرب قاعدًا. فقال: عن النزال بن سبرة قال: أُتي علي -وكان علي في الكوفة لما بويع خليفة للمسلمين- أتي علي بكوز من ماء وهو في الرحبة، فأخذ منه كفًا فغسل يديه، ومضمضن واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، ثم شرب وهو قائم، ثم قال "هذا وضوء من لم يُحدث، هكذا رأيت رسول الله ﷺ فعل" الحديث رواه البخاري. [رواه البخاري: 5616].

وقوله: "أُتي علي بكوز من ماء وهو في الرحبة"، الرحبة: هو المكان المتسع، ويعني أنه الفضاء أو المساحة في الكوفة التي كان يقعد فيها للحكم أو للوعظ، ويحتمل أن يكون المقصود بالرحبة: رحبة مسجد الكوفة، ورحبة المسجد: ساحة المسجد، رحبة المسجد ساحة المسجد. وجاء عند البخاري عن النزال بن سبرة يحدث عن علي أنه صلّى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، فقوله: "فأخذ منه كفًا فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه"، والمقصود بهذا المسح المقصود به: الغسل الخفيف، فهو بيده قليل من الماء، فهو يمسح على العضو في الوضوء، ومعلوم أن الفرض في الوضوء الغسل، والفرق بين الغسل والمسح بالماء، أن الغسل يسيل فيه الماء سيلانًا، ففيه سيلان للماء، أما المسح ما يشترط أن يكون فيه سيلان الماء،

فيكفي أن تأخذ الكف المبلولة وتمسح العضو، فالآن كيف نوفق بين قضية الوضوء الذي فيه غسل، لأن الله قال:  فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6]، وبين حديث علي أنه مسح، وليست القضية مسح على الخفين والجوربين؛ لأنه قال "ومسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه"، وهذه أشياء ليس فرضها، المسح للرأس والباقي لابد فيها من الغسل، فيُحمل المسح هنا على الغسل الخفيف، أو نقول: إن هذا وضوء من ليس بمحْدِث، وإنما هو وضوء من أراد التجديد أو التنظيف، فتحمل أحاديث الرش والمسح على التنظيف والتجديد أو هو على طهارة أصلاً، وأما إذا كان على غير طهارة فلا بد من الغسل الذي يسيل فيه الماء سيلانًا ويُعمم العضو بالماء، فهذا تجديد طهارة وليس طهارة من رفع حدث، هكذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في الجمع بين هذا، وبين فرض الغسل الوارد في الآية. فيؤخذ من هذا أنه يجوز لغير المحدِث أن يمسح في موضع الغسل، أما المحدِث لابد له من الغسل. وقوله: "ثم شرب وهو قائم"، وفي البخاري عن النزال أتى علي على باب الرحبة فشرب قائمًا، فقال: "إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي ﷺ فعل كما رأيتموني فعلت" [رواه البخاري: 5615].

وفي الرواية الأخرى عند البخاري بيان أن هذا المشروب كان فضلة الوضوء، يعني ما تبقى من ماء الوضوء، ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم" [رواه البخاري: 5616]. الذين ذهبوا إلى جواز الشرب قائمًا استدلوا بحديث علي، وحديث ابن عباس السابق، وحديث عمرو بن شعيب الذي مر معنا. لكن هناك أحاديث أخرى في المقابل؛ ومنها ما رواه مسلم عن أنس أن النبي ﷺ زجر عن الشرب قائمًا"، ولمسلم عن أبي هريرة: لا يشربن أحدكم قائمًا ، ولأحمد عن أبي هريرة أنه ﷺ رأى رجلاً يشرب قائمًا فقال: قِه ، قال: لم؟،  قِه  يعني تقيأ، قال: لم؟ قال: أيسرُّك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان . فماذا نفعل الآن في الجمع بين هذه الأحاديث؟ جمع العلماء بينها بأن أحاديث الشرب واقفًا للجواز،

وأحاديث الشرب قاعدًا للاستحباب، وادعى بعضهم النسخ من الطرفين، قال هؤلاء: أحاديثنا تنسخ أحاديثكم، وقال الآخرون: أحاديثنا تنسخ أحاديثكم، ولكننا نقول أيضًا من أوجه الجمع أن أحاديث الشرب قائمًا لبيان الجواز؛ وخصوصًا عند الحاجة مثل شدة الزحام، وأن لا يوجد مكان يجلس فيه الإنسان، ونأخذ مثالاً في زمننا هذا برادات الماء المعمولة على الواقف وليس فيها كاسات، وما لك حل إلا أنك تضغط الزر وتشرب، وليس هناك ما تملأ به الماء وتجلس، فماذا تفعل؟ ستشرب قائمًا؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وقد يكون هناك شيء معلق لابد أن تشرب منه وأنت قائم، في شدة الزحام حول زمزم ربما لا يجد مكانًا يجلس فيه من شدة الزحام، فهو يناول الدلو ويشرب منه وهو قائم. إذن، ممكن نحمل أحاديث الشرب قائمًا على الجواز وخصوصًا عند الحاجة، وأحاديث الشرب قاعدًا على الاستحباب والتأكيد على ذلك، وأنها هي الأولى، وهي الأصل أن يشرب الإنسان جالسًا. وحمل أحاديث النهي على الكراهة، وأحاديث القيام على الجواز، قال الحافظ: "هذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، والشرب قاعدًا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائمًا" [فتح الباري لابن حجر: 10/84].

قال النووي -رحمه الله-: "هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة، وليس في هذه الأحاديث بحمد الله إشكال، ولا فيها ضعف؛ بل كلها صحيحة، والصواب فيها: أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه ﷺ قائمًا فبيان للجواز، فلا إشكال ولا تعارض" [شرح النووي على مسلم: 13/195]. فإن قيل: كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا، وقد فعله النبي ﷺ؟ فالجواب: أن فعله ﷺ إذا كان بيانًا للجواز لا يكون مكروهًا، بل البيان واجب عليه ﷺ، يعني حتى هو إذا أراد أن يبين الجواز ولو كان الفعل مكروهًا يصبح البيان في حقه غير مكروه في حقه، في حقنا المخالفة مكروهة، أما إذا أراد أن يبين هو بفعله أحيانًا الجواز فيكون فعله غير مكروه؛ لأنه نبي ولا بد أن يبين هنا ويقول وفعل هذا الفعل مثلاً لبيان الجواز. وقد ثبت أن النبي ﷺ توضأ مرة مرة، وطاف على بعير، مع الإجماع على أن الوضوء ثلاثًا ثلاثًا والطواف ماشيًا أكمل،

ونظائر هذا غير منحصرة، فكان ﷺ ينبه على جواز الشيء مرة أو مرات ويواظب على الأفضل، وهكذا كان أكثر وضوئه ثلاثًا ثلاثًا، وأكثر طوافه ماشيًا، وأكثر شربه جالسًا، وهذا واضح". قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان من هديه الشرب قاعدًا هذا كان هديه المعتاد، وصح عنه أنه نهى عن الشرب قائمًا، وصحّ عنه أنه شرب قائمًا" [زاد المعاد: 4/209]، ثم انتهى -رحمه الله- إلى أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث أصلاً، فإنه إنما شرب قائمًا للحاجة، فإنه جاء إلى زمزم وهم يستقون منها، فاستقى فناولوه الدلو فشرب وهو قائم، وهذا كان موضع حاجة. وللشرب قائمًا آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة، فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها، ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر الشارب، وأما إذا فعله نادرًا أو لحاجة لم يضره. وعن أنس بن مالك أن النبي ﷺ كان يتنفس في الإناء ثلاثًا إذا شرب ويقول: هو أمرأ، وأروى  [رواه الترمذي: 1884، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2119].

وهذا الحديث قد أخرجه مسلم بلفظ: "كان رسول اللهﷺ يتنفس في الشراب ثلاثًا؛ ويقول: إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ"، قال أنس: "فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا" [رواه مسلم: 2028]. ومعنى قوله: "كان يتنفس في الإناء أو في الشراب" ليس المقصود أن النفس يكون في هذا المشروب، وإنما أثناء عملية الشرب، فقوله: "كان يتنفس في الشراب"، يعني في أثناء عملية الشرب، وكذلك قوله: "كان يتنفس في الإناء"، يعني: إذا شرب من الإناء، وليس النفس داخلاً في الإناء؛ فإذن كيف كان يشرب؟ يشرب أول مرة، ثم يزيله عن فيه ويتنفس خارجه، ثم يشرب المرة الثانية، ثم يزيله عن فيه ويتنفس خارجه، ثم يشرب المرة الثالثة ويقول: أروى، وأمرأ، وأبرأ، وأروى: من الري، يعني أشد ريًا وأبلغه وأنفعه، وأمرأ: يعني أكثر انسياغًا وأقوى هضمًا. وقال ابن القيم: "من مرئ الطعام والشراب في بدنه، فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء: 4]، ومعنى "مريئًا" إذا دخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع، ومنه قوله تعالى: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ، هنيئًا: في عاقبته، مريئًا: في مذاقه، وقيل معناه: أنه أسرع انحدارًا إلى المريء لسهولته وخفته عليه بخلاف الكثير فإنه لا يسهل على المريء انحداره، يعني لو شرب ماء كثيرًا دفعة واحدة لا يسهل على المريء استيعابه، أما إذا شرب على ثلاث دفعات فإنه يكون أسهل على المريء استيعابه، فيكون أمرأ، وأما قوله: "أبرأ" من البُرء وهو الشفاء؛ يعني: يُبرئ من شدة العطش، وداء العطش؛ لتردده على المعدة الملتهبة على دفعات،

ولذلك لو واحد وجد إنسانًا في معطشة، ويكاد يهلك، وعنده ماء ما يسقيه دفعة واحدة، ربما يموت، وإنما يسقيه على دفعات، يسقيه قليلاً قليلاً، مع أن ذاك يكون متعطش يريد أن ينقض على الماء دفعة واحدة، ولكن يسقيه قليلاً قليلاً ليسهل استيعابه وتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت عنه الثانية. قال ابن القيم: "وأيضًا فإنه أسلم عاقبة، وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة، فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية بشدة برده وكثرة كميته أو يضعفها؛ فيؤدي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد، وإلى أمراض رديئة خصوصًا في سكان البلاد الحارة كالحجاز واليمن ونحوهما، أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف، فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدًا. ووقع في رواية أبي داود: أهنأ  من الهنأ؛ والمعنى: أنه يصير هنيًا مريًا بريًا يعني سالما بريئًا من البراءة يعني سالما من المرض والعلة. ويؤخذ كذلك منه أنه أقمع للعطش؛ يعني الشرب على ثلاث دفعات والتنفس بينها أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقل أثرًا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة. قال ابن القيم: "وأما بالنسبة للتنفس: ومن آفات الشرب نهلة واحدة -يعني بدون تنفُّس، يشرب إلى أن ينقطع النفس- يخاف منه الشرق بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه فيغص به" [زاد المعاد: 4/212]. فإن قال قائل: هل الإنسان يغص بالماء؟ فنقول نعم، هذا مجرب معروف، بعض الناس إذا شرب دفعة واحدة يغص بالماء، يغص بالماء، وإذا غص بالطعام فإنه يبلعه بالماء، فإذا غص بالماء فبأي شيء يبلعه؟

فلذلك يخاف الشرق على من شرب نهلة واحدة بأن ينسد المجرى لكثرة الوارد عليه فيغص به، فإذا تنفس رويدًا ثم شرب أمن ذلك، ولذلك بعض الناس الذين يشربون دفعة واحدة يحس أحيانًا بألم ألم في البلع، وما يستطيع أن يبلع. ومن فوائده: أن الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخار الدخاني الحار الذي على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه فأخرجته الطبيعة عنها، فإذا شرب مرة واحدة اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار فيتدافعان ويتعالجان ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ولا يتهنا الشارب بالماء ولا يمرئه ولا يتم ريه، وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها؛ وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته، ولو ورد بالتدريج شيئًا فشيئًا لم يضاد حرارتها ولم يضعفها، وهذا مثال صب الماء البارد على القدر وهي تفور لا يضرها صبه قليلاً قليلاً"، هذا الكلام قاله في الطب النبوي في المجلد الرابع من زاد المعاد المطبوع. [زاد المعاد: 4/211]. فهنا إذن، مناسبة بين قضية الماء البارد والحرارة التي في الجوف، وواضح من كلام علمائنا أنهم يراعون التناسب بين حرارة الجسم الداخلية والماء البارد النازل أن لا يكون نازلاً على ذلك دفعة واحدة. وقد ورد في بعض الأحاديث النهي عن التنفس في الإناء، وهذا يعزز قضية الفهم بأن المقصود إبعاد الإناء والتنفس خارجه وليس التنفس داخل الإناء، فقد ورد في البخاري، قال رسول الله ﷺ: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه . وعند الترمذي عن ابن عباس: "أن النبيﷺ نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه"، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. [رواه الترمذي: 1888، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6820]. إذن، عندنا حديث صريح في النهي عن التنفس في الإناء، والتنفُّس يكون خارج الإناء، وهذا ما كان يفعله ﷺ، ونُهي عن التنفس داخل الإناء مخافة تقذيره ونتنه؛ لأن النّفَس له رائحة، فإذا تنفس هذا في الإناء فامتص الماء النفس الذي يشرب بعده سيشم رائحة نفس الآخر من الماء فيتقذره ويتضايق منه،

ولذلك من الأدب أن الإنسان ما يتنفس في الإناء فسيشرب بعده غيره منه، والنفس له رائحة، وقد يكون نفس فيه رائحة بصل ثوم كراث أشياء أخرى بخر الفم، الفم بعض الناس له رائحة في الفم بخر الفم رائحة منتنة؛ وممكن أن يكون لعلة في الأسنان أحيانًا، فإذا جرى تنظيف الأسنان زال بخر الفم ورائحة الفم الكريهة، وهذا مهم حتى كتبوه في قضية العلة أو العلل في جواز طلب المرأة الخلع من زوجها لا تتحمل بخر فمه، فالمقصود أن هناك أدوية وعلاجات لإزالة بخر الفم. لكن مسألتنا الأساسية هي أن الإنسان ما يتنفس في الإناء حتى لا يقذر الشراب فيتضايق الذي بعده، وهذا فيه كمال الشريعة، وأنها تحرص على أدق الأشياء، فهل رأيتم في كتب هؤلاء القوم من الأديان الأخرى مثل هذا؟ حديث في البخاري النهي عن التنفس في الإناء، كل ذلك مراعاة لحفظ الصحة، يعني حتى لو قال: أنا لا أشرب إلا أنا، نقول حتى أنت، حتى أنت، النفس هذا إذا دخل في الماء، إذا شربته مرة أخرى ربما يكون في ضرر عليك، وحتى لا تتقذر أنت من رائحة نفسك، فإذن من الأدب أنه يتنفس خارج الإناء، فقد يكون النفس صاعدًا من بخار المعدة أو متغير رائحة الفم. قال ابن العربي -رحمه الله-: "قال علماؤنا هذا من مكارم الأخلاق؛ لئلا يقع فيه من ريق النافخ فيتقذره غيره"، ثم قال ابن العربي: "بل هو حرام، فإن الإضرار بالغير حرام، فإن فعله في خاصة نفسه، ثم ناوله لغيره فليعلمه به؛ لأنه إن كتمه كان من باب الغش وهو حرام" [فتح الباري لابن حجر: 10/94].

لهذا الحد، يقول: حتى لو فعله وجاء واحد يقول: هذا أنا تنفست فيه، يقول: أنه يعلمه. وقد أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبيﷺ نهى عن النفخ في الشرب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء، هناك وسخة في الإناء؟ قال: أهرقها ، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال:  فأبن القدح إذن عن فيك ، يعني: أبعده عن فيك، وهو حديث حسن. [رواه الترمذي: 1887، وحسّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 1887]. وفي الحديث دليل على إباحة الشرب من نفس واحد؛ لأنه لم ينه الرجل، بل قال إن كنت ما معناه، إن كنت لا تروى من نفس واحد، فأبِن القدح  أي: أبعده عن فيك، ثم تنفس، فلو قال واحد: أنا أريد أن أشرب من نفس واحد، نقول: إذن إذا أردت التنفس بعدها أبعد القدح، وتنفس خارج القدح. ولابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينحِّ الإناء ثم ليعد إن كان يريد  [رواه ابن ماجة: 3427، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 624]. ثم ساق حديث رشدين بن بريد وهو ضعيف، ثم ساق حديث كبشة قالت: "دخل علي رسول الله ﷺ فشرب من في قربة معلقة قائمًا"، إذن هذه قربة معلقة، والقربة المعلقة لابد أن يكون الإنسان قائمًا عند الشرب منها، قالت: فقمت إلى فيها فقطعته، تبركًا بالموضع الذي شرب منه النبيﷺ تحتفظ به عندها، قالت: "فقطعت فم القربة" تبتغي بركة موضع في رسول اللهﷺ، ولأنه لو بقي في القربة يمكن يضيع المكان يضيع المكان ما يتميز، مباشرة أول ما شرب بعد ما انتهى من الشراب، طبعًا هذا فيه جواز التبرك بأثر النبي ﷺ إذا علم وبقي، الآن ما بقي من آثاره شيء، الآن لا شيء؛ لا سيف في تركيا ولا شعرة في مصر ولا نعل في اسطنبول في آخر الدنيا لا يوجد، هذا كله هراء وما عليه أي إثبات،

هذا من كلام الناس، وترى شعرة في البلد وشعرة في تلك البلد، وسيف هنا وسيف هناك، وخاتمه ﷺ كان مع أبي بكر ثم مع عمر ثم مع عثمان، ثم وقع في بئر أريس فبحثوا عنه فلم يجدوه. إذن، بعد موت النبي ﷺ لم يبق من آثاره شيء يجوز التمسح عليه والتبرُّك به، أما وهو حي فالتبرك بريقه ونفسه وعرقه ولباسه وموضع شربه، كل أثر من آثاره وشعره جائز، لأن الله جعل فيه بركة، فكان التماس أو مسحه والتمسح به بركة، وليس ذلك لأحد غير النبي ﷺ، فلو قال قائل الآن هذا رجل صالح، لماذا لا نتمسح به؟ أعطنا بركة منك يا سيدنا الشيخ! نقول هذا كان للنبي ﷺ، وإلا انفتح باب الآن باب الشرك ممكن يتبرك بالمشرك الآن، الآن أهل الشرك يتبركون بسادتهم المشركين ويقول حتى قالوا رئي في بعض بلاد الأعاجم رجل ربما ما اغتسل من خمس سنوات وشعره طويل وقذر ومنتن وشبه عاري أمام كهف مستلقي على سرير مادًا رجله حافية، وطابور طويل من الناس، كل واحد يأخذ مسحة ويمشي، يأخذ مسحة ويمضي، اعتقدوا أن هذا يُتبرك به، فصار المسألة الآن حقيقة عبارة عن التماس البركة من الذين لا بركة فيهم أصلاً. وعن أنس بن مالك: "أن النبي ﷺ دخل على أُمِّ سليم وقربة معلقة فشرب من فم القربة وهو قائم، فقامت أُمِّ سليم إلى رأس القربة فقطعتها" [رواه الترمذي في الشمائل: 215، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 183]. فهذان الحديثان فيهما جواز الشرب قائمًا، وخصوصًا للحاجة. وقد ورد النهي عن الشرب من فم القربة أو السقاء كما في البخاري ومسلم: "أن النبي ﷺ نهى عن الشرب من فم القربة أو السقاء" [رواه البخاري: 5627]. وفي رواية: "نهى رسول الله ﷺ عن اختناث الأسقية" وهو الشرب من أفواهها.[رواه البخاري: 5625، ومسلم: 2023]؛ لأن الاختناث من الخنث، والخنث هو الانطواء والتكسُّر والانثناء،

ولذلك يقال: مخنث معناها يتشبه بالنساء في انثنائه وتكسُّره أثناء المشي والكلام، هذا هو تعريفه في اللغة، فاختناث الأسقية، اختناث أنك تكسرها أنك تثنيها وتشرب منها؛ لأن من الأسقية ما كان من الجلد ممكن يثنيه ويشرب منه، وهذا السقاء الكبير إذا شرب من فمه هذا ربما يضر الشارب من عدة وجوه، ويضر من بعده، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك؛ لأنه قد يكون في شيء من الهوام داخل قد تتسلل حية، حشرة، فالإنسان إذا شرب من ذلك تلك القربة الكبيرة أو السقاء الكبير لا يأمن ما يتسلل داخله بخلاف ما لو سكب في إناء وشاهد الماء. وكذلك فإنه قد ورد علة للنهي في حديث عائشة بسند قوي عند الحاكم:  نهى أن يُشرب من في السقاء؛ لأن ذلك ينتنه ، يعني ينتن فم السقاء، وسيشرب منه آخرون. وكذلك من العلل: أنه قد يغلبه الماء فينصب أكثر من حاجته فيشرق، واحد يشرب من قربة كبيرة فيشرق، أو تبتلّ ثيابه وينسكب عليه، ولذلك ورد النهي. وفعلهﷺ يُحمل أنه إذا لم يكن هناك بد إلا منه فعند ذلك يفعله، أو كان السقاء صغيرًا، أو كان لا يمس فم السقاء بشفتيه، يعني يبعد ويسكب ولا يتنفس فيه، فإذن، إذا كان السقاء صغيرًا مثل الآن بعض الجوالين جالون صغير مثلاً ويبعده عن فيه فلا يشرب من فيه مباشرة، ما يضع شفتيه عليه مباشرة ولا يتنفّس فيه وللحاجة لا بأس، لكن الأصل يسكب ولا يشرب منه مباشرة، أم سلمة قطعت ذلك أيضًا لتحفظه للتبرك والاستشفاء من موضع شرب النبي ﷺ، والله تعالى أعلم.