الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

12- ما جاء في مشية رسول الله ﷺ وجلسته وتُكأته واتكائه


عناصر المادة
باب ما جاء في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد تقدم في الدرس الماضي ذكر إزار النبي ﷺ، وكيف كان ﷺ كيف كانت إزرته إلى منتصف ساقيه، وأنها إزرة المؤمن، وأوصى النبي ﷺ برفع الثوب عن الأرض، وأخبر بأنه لا حظ للكعبين من الإزار، وقلنا: الكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق، ما بين الساق والقدم، فهذان عظمان من يمين وشمال لا حق للثوب فيهما، كما جاء في الحديث.

ونبدأ اليوم -إن شاء الله- بذكر مشية النبي ﷺ، وجِلسة رسول الله ﷺ، وهذه من الآداب العظيمة التي وردت في الشمائل المحمدية.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: "باب ما جاء في مشية رسول الله ﷺ"

عن أبي هريرة قال: "ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله ﷺ كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تُطوى له، إنا لنُجْهد أنفسنا؛ وإنه لغير مكترث" [رواه الترمذي: 3648 ، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 100].

وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد، لكن قد تقدم ما يغني عنه؛ وهو "أنه ﷺ كان رَبْعة ليس بالطويل ولا بالقصير، حسنُ الجسم، كان شعره ليس بجعد ولا سبطٍ، إذا مشى يتكفأ".

فقوله: "إذا مشى يتكفأ": يبين كيف كانت مشيتهﷺ، وفي رواية: "إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما انحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله" [رواه الترمذي: 3637، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 4].

ومعنى: "يتكفأ" يتمايل إلى قدام، وقيل معناه: يرفع القدم من الأرض ثم يضعها، فلا يسحبها على الأرض سحبًا كما يفعل الكسالى، وإنما يرفعها ويضعها، يرفعها ويضعها، مشية القوة والجلد والنشاط، ولا يمسح قدمه على الأرض كمشي المتبختر، وإنما يمشي كأنما ينحط من صبب، أي: يرفع رجله في قوة وجلادة.

وقال ابن القيم - رحمه الله -: "كان إذا مشى تكفأ تكفؤًا، وكان أسرع الناس مِشية وأحسنها وأسكنها"، وذكر حديث أبي هريرة وحديث علي، ثم قال: "وهي أعدلُ المشيات -يعني مشيته ﷺ، وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مَشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج وهي مشية مذمومة أيضًا، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حوله يمينًا وشمالًا حال مشيه" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/161].

إذا كان يمشي مشي الجمل الأهوج ويتلفت يمين وشمال وهو يمشي فإنها مشية قبيحة، قال: "وإما أن يمشي هونًا وهي مشية عباد الرحمن؛ كما وصفهم الله بها في كتابه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا  [الفرقان: 63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبُّر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله ﷺ فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحطُّ من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى أن الماشي يُجْهد نفسه خلفه، ورسول الله ﷺ غير مكترث، وهذا يدل على أن مشيته لم تكن مشية تماوت ولا مهانة؛ بل مشيته أعدل المشيات"؛ إذن، في الوقت الذي كانت مشيته على الأرض هونًا، فإنه كان يتكفأ مشية قوة وجلد ونشاط.

قال ابن القيم - رحمه الله - : "والمشيات عشرة أنواع: -هذه الثلاثة التي تقدمت مشية القطعة الواحدة كأنه خشبة محمولة، ومشية الجمل الأهوج، ومشية الهون مع الجلد والنشاط والقوة- والرابع: السعي، والخامس: الرمل؛ وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، ويسمى: الخبب أيضًا.

وفي الصحيح من حديث ابن عمر: "أن النبي ﷺ خبّ في طوافه ثلاثًا ومشى أربعًا"، والمشية السادسة: هي النَّسلان؛ وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ولا يكرثه -يعني لا يجهده- وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله ﷺ من المشي في حجّة الوداع، ما كان عندهم دواب تحملهم، فشكوا للنبي ﷺ ألم المشي الطويل، "فأوصاهم بالنسلان"، فهذا الجري الخفيف لا يتعب تعب المشي ولا يجعل النفس تنقطع كتعب الجري الشديد، فهذا النسلان الذي نصحهم به، "والسابع: مشية الخوزلى؛ وهي التمايل، وهي مشية يقال إن فيها تكسرًا وتؤنثًا، والثامن: مشية القهقرى؛ وهي المشية إلى الوراء، والتاسع: الجمزى؛ وهي مشية يثب فيها الماشي وثبًا، والعاشر: مشية التبختر؛ وهي مشية أولي العُجْب والكبر وهي التي خسف الله بصاحبها لما نظر في عطفيه، وأعجبته نفسه، وتكبر، وتبختر، فهو لا يزال يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".

وأعدل هذه المشيات هي مشية الهون والتكفؤ كما تقدم، وأما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه ﷺ وهو خلفهم، ويقول: دعوا ظهري للملائكة  وكان يمشي حافيًا ومنتعلًا وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة، ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه، وسال منها الدم؛ فقال:  هل أنت إلا إصبع دميتي، وفي سبيل الله ما لقيتي ، وكان في السفر ساقة لأصحابه، يعني يمشي خلف الجيش؛ يُردف الضعيف، ويلتقط ما وقع ليرده لصاحبه، ويزجي، ويُردف، ويدعو لهم. كما روى أبو داود - رحمه الله - في الحديث الصحيح. [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/162].

ثم قال - رحمه الله - في الباب العشرين: "باب ما جاء في جلسة رسول الله ﷺ"

عن قيلة بنت مخرمة أنها رأت النبي ﷺ وهو قاعد القُرفُصاء، "فلما رأيت رسول اللهﷺ المتخشِّع في الجلسة أُرعدت من الفَرَق". إسناده لا بأس به كما قال ابن حجر - رحمه الله - [فتح الباري لابن حجر: 11/65]، وحسَّنه المنذري، وقال الألباني: إسناده قريب من الحسن. [سلسلة الأحاديث الصحيحة:  5/157].

قولها: "قاعد القرفصاء" يعني: الاحتباء، وجلسة المحتبي: أن يدير ذراعيه ويديه على ساقيه، فإذن، ينصب الساقين ويدير عليهما الذراعين واليدين، هذه جلسة الاحتباء، وقيل: جلسة الرجل المستوفز، وقيل: جِلسة الرجل على إليتيه القرفصاء، وقولها: "المتخشِّع" يعني: الذي يظهر عليه تمام الخشوع وكماله، وقولها: "أُرعدت" يعني: أُرعبت دخلها الرعب، وقولها: "من الفَرَق" يعني: من الخوف والهيبة، والمراد أنها -رضي الله عنها- تعجّبت مما حل بها من الهيبة والخوف لما رأت النبي  ﷺ في تمام خشوعه لربه.

وفي سنن ابن ماجه عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي ﷺ رجل فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، جعلت قطع جسد الرجل ترتجف، فجعلت ترعد فرائصه، فقال له النبي ﷺ: هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد . رواه ابن ماجه وصححه الألباني. [رواه ابن ماجة: 3312، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1876] 

والفرائص: جمع فريصة؛ وهي لحمة ترتعد عند الفزع والكلام، تدل على خوف صاحبها واضطرابه، وقوله: هوِّن عليك  يعني: هوّن عليك أمري، وهوّن عليك كلامي، وهوّن عليك مصاحبتي،  لست بملك : لست من الملوك الذين يرتجف الناس عندهم، إنما أنا عبد ابن امرأة كانت تأكل القديد  وهو اللحم المجفف، اللحم المملح المجفف في الشمس، فيقول يعني أنا يتيم ابن امرأة كانت فقيرة تأكل لحمًا مجفف، أنا لست بملك.

وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان صفة النبي ﷺ في جلسته وتواضعه لربه وخشوعه له، وهو عمل قلبي لكنه ظهر على هيئته ﷺ، صار في هيئة المتخشِّع، وخشوع الإنسان لا يلزم منه التماوت ولا أن يظهر بمظهر الضعف، كما يظن بعض الناس، بل ممكن يكون مهيبًا ومتخشّعًا في ذات الوقت.

وفي هذا الحديث عناية المعلم بالمتعلِّم وتربيته، وأن على المعلِّم أن يهتم بتسكين جأش بتسكين ثائرة نفس المتعلِّم، وعلى المتعلِّم أن يراعي مواضع النظر من المعلِّم، وأن يكون اقتداؤه به حاضرًا.

قال: وعن عبّاد بن تميم عن عمه: "أنه رأى رسول الله ﷺ مُستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى" حديث صحيح.

عبّاد بن تميم يروي عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم المازني ، أنه رأى رسول الله ﷺ مستلقيًا، مضطجعًا على قفاه، وهذا يدل على جواز الاستلقاء، فماذا يكون إذن دلالة حديث مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: لا يستلقين أحدُكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى  [رواه مسلم: 2099].

الحديث الأول يدل على الجواز، الحديث الثاني فيه نهي، فكيف نجمع بينهما؟

الآن كيف نجمع بين الحديثين؟ كيف نجمع بين حديث عبد الله بن زيد ين عاصم المازني: "أنه رأى رسول الله ﷺ مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى"، وحديث: لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى والحديثان كلاهما صحيح. الأول متفق عليه، والثاني رواه مسلم.

قال النووي: "قال العلماء: أحاديث النهي عن الاستلقاء رافعًا إحدى رجليه على الأخرى محمولة على حالة تظهر فيها العورة أو شيء منها، وأما فعله ﷺ فكان على وجه لا يظهر منها شيء، وهذا لا بأس به ولا كراهة فيه على هذه الصفة" [شرح النووي على مسلم: 14/78].

مثال: واحد يلبس ثوبًا، يعني أخذ القميص الثوب وتحته سراويل طويلة، لو استلقى على ظهره، ووضع إحدى رجليه على الأخرى؛ لأنه يلبس السراويل لا تنكشف عورته، لكن واحد لا يلبس سراويل تحت الثوب، لو اضطجع ورفع إحدى الرجلين فوق الأخرى انكشفت عورته، إذن، نحمل أحاديث النهي على استلقاء فيه رفع لرجل على الأخرى بحيث تظهر العورة، ونحمل أحاديث الفعل والجواز على حالة لا تنكشف فيها العورة.

والواحد أحيانًا ممكن يضع إحدى رجليه على الأخرى ممدودة، وممكن ينصب واحدة ويجعل الأخرى فوقها، الحالة الأولى وضع قدم أو رجل فوق الأخرى ما تنكشف العورة غالبًا، الحالة الثانية: إذا ما كان لا يلبس سراويل مثلًا تحت الثوب تنكشف العورة.

والحديث فيه: جواز الاتكاء في المسجد والاستلقاء فيه، وهذا يصلح للمعتكفين إذا قال المعتكف يجوز استلقي، وحتى غير المعتكف، لو قال: ظهري يؤلمني يجوز استلقي في المسجد، نقول نعم، على أن القاضي عياض - رحمه الله - قال: "لعله ﷺ فعل هذا لضرورة أو حاجة من تعب، أو طلب راحة أو نحو ذلك، وإلا فقد عُلِم أن جلوسهﷺ في المجامع على خلاف هذا" يعني هذا لم يكن جلسة في درس، موعظة، مع أصحابه، لعله تعب مرة أو في الاعتكاف مثلًا فاستلقى، بل كان ﷺ يجلس متربعًا أو محتبيًا، وكان هذا أكثر جلوسه، وكان يجلس القرفصاء أو مقعيًا وشبهها من جلسات الوقار والتواضع، وقال النووي: "ويُحتمل أنهﷺ فعله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأن النهي الذي نهيتُكم عن الاستلقاء ليس هو على الإطلاق، بل المراد به من ينكشف شيء من عورته أو يقارب انكشافها والله أعلم" [شرح النووي على مسلم: 14/78].

وفي الحديث أن الأجر الوارد للابث في المسجد لا يختص بالجالس.

فلو قال قائل: أجر اللُّبث في المسجد هو خاص بالجالس؟ يعني لو استلقى توقف الأجر؟ فيقال: لا، بل يحصل للمستلقي أيضًا. كما نقله ابن حجر عن الداودي.

وعن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله ﷺ إذا جلس في المسجد احتبى بيديه" [رواه الترمذي: 103، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4702].

وفي رواية: "ونصب ركبتيه"، ومعنى الاحتباء كما تقدم: جمع ساقيه إلى بطنه، كيف سيجمع الساقين إلى البطن؟ باستخدام اليدين والذراعين سيجمع ساقيه إلى بطنه، فهذا هو الاحتباء، وهو من الجلسات المعروفة عند الأعراب ولذلك قالوا: الاحتباء حيطان العرب؛ لأن الصحراء ما فيها حيطان، فالاحتباء حيطان العرب، فإذا أرادوا أن يستندوا احتبوا؛ لأن الثوب يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار، على أنه ينبغي الانتباه إلى أن الحديث بهذا اللفظ: "كان إذا جلس احتبى"، ضعيف جدًا إسناده، وإنما ثبت عن النبي ﷺ جلوسه على هذه الهيئة في وقائع كثيرة بعضها في الصحيحين وغيرهما من غير لفظ: "كان" الذي يشير إلى عادة دائمة أو غالبة.

باب ما جاء في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم

00:18:18

ثم قال - رحمه الله -: "باب ما جاء في تكأة رسول الله ﷺ"

والتكأة كما قال القاري: "ما يُتكأ عليه من وسادة وغيرها" [عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 2/200].

وقيل: ليس هذا هو المراد، وإنما المقصود بيان اتكاء النبي ﷺ، وقوله تكأة بمعنى اتكاء، وقد قال في الباب الذي يليه باب: ما جاء في اتكاء النبي ﷺ وغاير بينهما في مراده من كل واحدة، فقال: باب ما جاء في تكأة رسول الله ﷺ، وقال: باب ما جاء في اتكاء رسول الله ﷺ، فعقد هذه لاتكاء النبي ﷺ حال الجلوس، والتي تليها لتوكئه على غير حال المشي.

فإذن، التكأة اتكاؤه في الجلوس، والاتكاء الباب الذي يليه توكؤه على غيره حين المشي.

قال: وعن جابر بن سمرة ، قال: "رأيت النبي ﷺ متكئًا على وسادة على يساره" [رواه الترمذي: 2770، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 104].

الذين قالوا التكأة ما يتكأ عليه وأنه كان يستعمل الوسادة هذا في الحديث، و "متكئًا" قال ابن الأثير في النهاية: المتكئ في العربية كل من استوى قاعدًا على وطاء متمكنًا، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمدًا على أحد شقيه انتهى"" [النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/193].

فالعامة إذن يطلقون الاتكاء على واحد يتكئ على جنب، يتكئ على الجنب اليمين أو يتكئ على الجنب الشمال، يقول العامة لا يعرفون الاتكاء إلا في هذا، ولكن في العربية كل من استوى قاعدًا على وطاء متمكنًا يقال عنه: متكئ، وبناء عليه يكون التربُّع اتكاء، فالاتكاء يطلق على أكثر من حالة.

قوله في الحديث: "على وسادة" وهي المخدة، وعلى يساره أي أن الوسادة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متكئًا عليها كانت إلى جانبه الأيسر، وهذا معناه أنه كان متكئًا على شقه الأيسر، وصف دقيق، الصحابة وصفوا المشية والاتكاء وكل الأحوال التي كان فيها -عليه الصلاة والسلام-، يعرفون هذا نبي وقدوة وأسوة، ولذلك حُفظت كل الأوصاف، ولا يمكن يأتي جيل يدقق ويحفظ وينقل مثل الصحابة، وإذا تأملت في النصوص عرفتَ حرصهم على النقل الدقيق لكل أحواله؛ استلقاء، مشي، اتكاء، أكل، شرب، دخل الخلاء، كل وصف عدد الشّيب، ما تركوا شيئًا إلا نقلوه، والإحساس بالمسئولية تجاه الأجيال القادمة هذا كان في نفوس الصحابة، مسئولية تجاه أن هذا نبي للأمة كلها، ومن حق الأمة بجميع أجيالها أن تعرف شكله ووصفه ومشيه واتكاءه ونومه وقعوده وخطبته، وكل ما يتعلق بأحواله كأنهم يرونه أمامهم.

وقوله: "على يساره" لبيان الواقع فيجوز الاتكاء على الوسادة يمينًا ويسارًا، فإذن، هذا ليس للتقييد.

وفي المسند عن جابر بن سمرة قال: "دخلت على النبي ﷺ فرأيته متكئًا على مرفقه"، فبينت هذه الرواية أن النبي - صلى الله عليه - كان معتمدًا على مرفقه في اتكائه ذلك.

وفي الحديث بيان ما اتكأ عليه النبي ﷺ، وكيفية اتكائه، ومشروعية هذه الهيئة، وأنها لا تنافي الوقار ولا التواضع، قال المهلّب: "ويجوز للعالم والمفتي والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة الناس لألم يجده في بعض أعضائه أو لراحة يرتفق بذلك، ولا يكون ذلك في عامة جلوسه" [فتح الباري لابن حجر: 11/67].

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين  قال: وجلس رسول الله ﷺ وكان متكئًا، وقال:  وشهادة الزور، أو قول الزور فما زال يكررها ﷺ ويقولها حتى قلنا ليته سكت" [رواه الترمذي: 1901، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2628].

فمراده بالحديث: "وكان متكئًا فجلس" يعني اهتمامًا بالأمر الذي سيقوله الآن، الآن سيقوله تعليقًا وإضافة مهمة للغاية، ويؤكد على تحريم هذا الشيء، ويعظِّم قبحه، وسبب الاهتمام بهذا أن قول الزور وشهادة الزور يقع بها التهاون وتسهل على الناس؛ لأن الشرك قبيح، والعقوق الطبع السليم يصرف عنه، أما الزور فالحوامل عليه كثيرة عداوة، حسد، أكل مال، الهوى، النفس؛ بسرعة ممكن تقول الزور؛ لأنه حذّر من الشرك، وحذّر من العقوق، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين  وكان متكئًا فجلس، قال:  ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور  هل يعني قول الزور أنها أسوأ أو أقبح من الشرك؟ لا، لكن الشرك يعني قبحه واضح، وعقوق الوالدين بالطبع الناس العامة يكرهون العاق، حتى المقصّرين والذين عندهم فِسق إذا سمع قصة عاق، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يتحملونه، لكن اتكأ لأجل شهادة الزور لتساهل الناس فيها وسهولة الوقوع فيها، وكثرة الأشياء التي تحمل عليها، وموافقة هوى النفس والإرادات الفاسدة، فلذلك كان متكئًا فجلس، قال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور"، يريد أن يعظمها ويحذر منها.

وعن أبي جحيفة قال: قال رسول الله ﷺ: "أما أنا فلا آكل متكئًا"، يعني ليس من هديه الأكل متكئًا، وكان ذلك في قصة كما روى البخاري عن أبي جحيفة كنت عند رسول الله ﷺ فقال لرجل عنده: "لا آكل وأنا متكئ".

وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن بُسْر ، قال: "أُهديت للنبي ﷺ شاة، فجثى رسول الله ﷺ على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي ما هذه الجلسة؟ جثى على ركبتيه، جلسة متواضعة جدًا، ما هذه الجلسة الأعرابي قال: قال: إن الله جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا ، ولذلك جلسة التواضع عند نعمة الله إذا حضرت، وحديث: إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا [رواه ابن ماجة: 3264، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1740].

وكان من هديه ﷺ كما قال عبد الله بن عمرو: "ما رؤي رسول الله ﷺ يأكل متكئًا قط ولا يطأ عقبه رجلان" حديث صحيح [رواه أبو داود: 3770، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4212].

والظاهر أنه جلس جلوس المستعجل المتعلق قلبه بشغل، فيأكل قليلًا ليتفرغ للشغل، وهذه الهيئة في الجلوس يجلسها أهل العبودية ولا يجلسها الملوك، وأشار النبي ﷺ إلى هذا بقوله:  جعلني الله عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا ، ولما كان الأعراب ربما سبق إلى ذهنهم من كلمة العبد التحقير، ومن كلمة الملك التعظيم النبي ﷺ قال: إن الله جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا ، وهذا رده على الأعرابي عندما استغرب من جلسته، وقد فعلها النبي ﷺ هذا الجلوس تواضعًا لله، وترجم البخاري: "باب الأكل متكئًا"، وروى فيه حديث أبي جحيفة المذكور، فبقينا الآن ما حكم الأكل متكئًا؟ وقلنا التربع من الاتكاء، أي جلسة فيها تمكن على الأرض من الاتكاء، فما حكم ذلك؟

البخاري عنون بعنوان فيه علامة استفهام، يعني استفهامًا "باب الأكل متكئًا" [صحيح البخاري: 7/72]. يعني ما حكمه، لم يجزم به بشيء؛ لأنه لم يأت فيه نهي صريح، قال ابن حجر -رحمه الله-: "واختُلف في صفة الاتكاء، فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان، أي صفة فيها جلسة المتمكن، وقيل: أن يميل على أحد شقيه، الاتكاء أن يأكل وهو مائل على أحد الشقين" [فتح الباري لابن حجر: 9/541]، معنى هذا لا يناسب التواضع للنعمة، "وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى بالأرض"، يتكئ على اليسرى ويأكل، قال الخطابي: "تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك، بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، ومعنى الحديث:  إني لا أقعد متكئًا  على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغ من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزًا، جلسة المستعجل" [فتح الباري لابن حجر: 9/541].

إذن، كانت جلسته ﷺ عند الأكل جلسة المستعجل، وليست جلسة المتمكن الذي يريد الزيادة كما نفعل نحن إذا جلسنا في الغالب.

وعن مصعب بن سليم قال سمعت أنسًا يقول: "بعثني النبي ﷺ فرجعت إليه فوجدته يأكل تمرًا وهو مقع"، وعند مسلم عن أنس قال: "أُتي رسول الله ﷺ بتمر فجعل النبي ﷺ يقسمه وهو محتفز، يأكل منه أكلًا ذريعًا"، وفي رواية: "أكلًا حثيثًا"[رواه مسلم: 2044].

فالمقصود بالإقعاء والاستيفاز: الجلوس على وركيه غير متمكن كما ذكره ابن حجر - رحمه الله -.

جلسة المستعجل، إذن، جلسة المشغول جلسة الذي يريد أن يقوم وينطلق، وليس جلسة المتمكن المطمئن في المكان، وأشار الفيروزآبادي في القاموس إلى أن هذا الحديث يشمل كل أنواع الاتكاء؛ سواء كان متربعًا متمكنًا، أو كان متكئًا بأي طريقة كان مائلًا على الشق، والمقصود أنه كان يستوفز.

وقال ابن القيم: "صحّ عنه ﷺ أنه قال: "لا آكل متكئًا"، وقال: إنما أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد [زاد المعاد في هدي خير العباد:  4/202].

وقد فُسّر الاتكاء بالتربُّع وفُسّر بالاتكاء على الشيء وهو الاعتماد عليه وفُسِّر بالاتكاء على الجنب، والأنواع الثلاثة من الاتكاء، فنوع منها يضر بالآكل وهو الاتكاء على جنب، لو واحد اتكأ على جنب يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة، ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء، وتميل ولا تبقى منتصبة فلا يصل الغذاء إليها بسهولة، وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية، ولهذا قال:  آكل كما يأكل العبد وكان يأكل وهو مقعٍ.

ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل متوركًا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعًا لربه وأدبًا بين يديه، يضع بطن قدمه اليسرى، بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى، وهذه الجلسة جلسة تواضع وأدب بين يدي الطعام واحترامًا للنعمة، وهي أنفع هيئات الأكل وأفضلها؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقه الله سبحانه عليه، مع ما فيها من الهيئة الأدبية، وأجود ما اقتدى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي، ولا يكون كذلك إلا إذا كان منتصبًا الانتصاب الطبيعي، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاء على الجنب لما تقدم من أن المريء وأعضاء الازدراد تضيق عند هذه الهيئة، والمعدة لا تبقى على وضعها الطبيعي؛ لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس، فإذا صار يميل انعصرت المعدة بين آلات الغذاء وآلات التنفس.

وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس، فيكون المعنى: إني إذا أكلت لم أقعد متكئًا على الأوطية والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام،  لكني آكل بُلغة كما يأكل العبد .

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "واختلف السلف في حكم الأكل متكئًا، فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية"، وتعقّبه البيهقي فقال: "قد يكره لغيره أيضًا؛ لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة" [فتح الباري لابن حجر: 9/541].

مثل واحد مثلًا في رجله شيء؛ كسر جِبس، ما يمكن إلا أن يمد رجله ويتكئ ويأكل فلا مانع، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة، وفي الحمل نظر، وممن صرّح بالكراهة الإمام النووي وترجم على ذلك في رياض الصالحين: "باب كراهية الأكل متكئًا".

إذن، الاتكاء يُحمل على التربُّع، الاتكاء يُحمل على التمكُّن من المكان والجلوس على وطاء، مثلًا فرشة تحتك وأنت تأكل، الاتكاء يُحمل على الاتكاء على وسادة، الاتكاء يُحمل على الميل على أحد الشقين، كل ذلك اتكاء، إني لا آكل متكئًا  إذن، ليست هذه من جلسات المستحبة عند الأكل، جلسة المتوفز جلسة المنتصب المعتدل الذي ينزل الطعام إلى معدته بشكل مستقيم سلس سهل، هذا هو الوضع الصحي للطعام، إذا نصبت اليمنى وجلست على اليسرى كذلك.

وأيضًا قال الحافظ: وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيد السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقًا، وإذا ثبت كونه مكروهًا أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه وظهور قدميه، إذن، الركبتين على الأرض وظهور القدمين من وراء منصوبة، هذه طريقة أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، هذه طريقة أخرى، أي جلسة فيها هيئة المستوفز المستعجل ليست جلسة المطمئن فهذه طيبة.

واختلف في علة الكراهة في قضية الاتكاء، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم"، وإلى ذلك تشير بقية ما ورد فيه من الأخبار فهو المعتمد، ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب وقضية عصر المعدة وعدم نزول الطعام بشكل سهل، وأخيرًا فإن الباب التالي لهذا الباب ما جاء في اتكاء رسول الله ﷺ لم يذكر فيه المؤلّف إلا حديثًا واحدًا ضعيفًا كما بيّنه الشيخ الألباني، وسبقت الإشارة إلى أن مراده بذلك اتكاؤه ﷺ على غيره عند المشي، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.