الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
الباطل لا يقف أمام الحق
فيقول ربنا في كتابه العزيز: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاًالإسراء:81، جاء الحق الذي لا يقوم له شيء، وزهق الباطل وتلاشى واضمحل، الحق الثابت الذي لا يعتريه زوال، والباطل الذي لا يثبت، وهكذا، فالإسلام حق وكل الأديان الأخرى باطلة.
جاء الإسلام، فلا يرضى الله ديناً غيره، لا يهودية، ولا نصرانية، ولا بوذية، ولا سيخية، ولا هندوسية.
جاء التوحيد فبطل الشرك، جاءت السنة فبطلت البدعة، جاءت الطاعة فبطلت المعصية، ونلاحظ التلازم بين الأمرين، جاء الحق وزهق الباطل، فلابد أن يأتي الحق ليزهق الباطل.
الزهوق هو التلاشي، تخرج أنفاسه مرة بعد مرة، وهذا من طبيعة الباطل أن يهلك ويضمحل مهما عظم وانتفش، وساد حيناً من الزمن، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يخبر المشركين بأن الحق -وهو ما كان لله فيه رضا وطاعة- قد جاء، وذهب الباطل -وهو ما كان للشيطان وطاعة إبليس-، وهذا على العموم جاء التوحيد بأدلته وحججه، جاء الإسلام بقوته وسلطانه؛ فذهب الكفر، والشك، والشبهة، واضمحلت دولة الباطل، فأصبح الحق غالباً، والباطل مغلوباً.
أصبح الإسلام عالياً، وملل الكفر إلى زوال، خلق الله السموات والأرض بالحق.
لا يزول الباطل إلا بمجيء الحق
عباد الله: لا يزول الشرك إلا بمجيء التوحيد، وحينما احتدمت المعركة بين النبي ﷺ والكفار دخل النبي ﷺ في نهاية الأمر مكة بالفتح العظيم، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُالإسراء: من الآية81، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُسـبأ: من الآية49)[رواه البخاري برقم (4287) بلفظه، ومسلم برقم (1781)].
لو قد رأيت محمداً وقبيله | لرأيت دين الله أضحى بيناً |
بالفتح يوم تكسر الأصنام | والشرك يغشى وجهه الإظلام |
وهكذا التهديد والوعيد لأهل الكفر، واستقر الحق، وانتقض الباطل.
ظهر أمر الله وهم كارهون، يريد الله أن يمحى الباطل، وأهل الحق وظيفتهم إعلاء الحق، ومحو الباطل، إظهار التوحيد لمحو الشرك، اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَالنحل: من الآية36، النور يمحق الظلام.
ولما قام السحرة بإلقاء باطلهم من السحر ألقى موسى آية من الله: أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَالأعراف: من الآية117، فلم يُلق موسى عصاه فقط لتكون آية تتحرك، وإنما تلتهم تلك العُصي، تلقف وتبتلع ما يأفكون، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَالأعراف:118، ولما ظهر الدليل والبرهان زهق باطل فرعون وأعوانه، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَالأعراف:119.
إذا جاء موسى وألقى العصا | فقد بطل السحر والساحر |
وهكذا لما رأى السحرة البرهان القاطع، وباطلهم قد التهم، وأُكل، وابتلع، وزال، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىطـه:70، وإذا أحل الله الهداية في قلب عبد انزاح عنه الضلال والباطل، ولذلك ثبتوا برغم التخويف الشديد، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىطـه:72-73.
الدعوة الصادقة سبب لزوال الباطل
دعوات المصلحين سبب لزوال الباطل والبدعة، وهكذا قام المصلحون في كل حين بتبيين الحق ليزهق الباطل، يأتي التوحيد إلى مكان ليذهب عسكر الكنيسة، وينكسر الصليب، يأتي الإسلام إلى مكان لتزول اليهودية بباطلها، يأتي هذا الدين بسنته إلى مكان ليزول الشرك وتنتهي البدعة، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِالأنفال: من الآية36، وليرفعوا لواء الباطل، فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَالأنفال: من الآية36؛ ولذلك لما تعجب أحد أهل الصليب من جهد الدعاة على قلته، ومحدودية إمكانات أهل الإسلام، والنتائج الكبيرة التي تكون لهم، مع كثرة إنفاق أهل الباطل والصليب، وقلة النتائج التي تكون لهم، قال: "لقد قضينا أكثر من عشر سنوات في هذا المكان من أفريقيا، ودفعنا الأموال والأدوية، وبنينا المستوصفات، وحفرنا الآبار، وأنشأنا المدارس، ووزعنا الطعام، والمواشي والهدايا، ولم يتنصر إلا القليل، وأنتم في أشهر معدودة دخل في دينكم الآلاف"، فأجابه صاحب التوحيد: "إن دينكم المحرف ميت كالجنازة يحتاج إلى أربعة مثلكم ليحملوه، وأما ديننا فهو حي يمشي وحده ليدخل القلوب".
وفي هذا الوقت الذي نرى فيه أهل الكفر قد تمالؤوا على أهل الإسلام بمؤامراتهم وكيدهم، وباطلهم وتواصيهم، وتوالي جهودهم، وإنفاق أموالهم، وكثرة ما يستعملونه من الأدوات، والآلات، والتقنيات، صاحب الحق بجهده الذي يقدر عليه مع محدوديته يكتب الله على يديه من الحق، والنتيجة أكثر مما يكون لأولئك.
لا تنقمع البدعة -عباد الله- إلا بظهور السنة، وهكذا لا يذهب الشرك إلا بظهور التوحيد، وقد أحيا الله السنة بالأئمة المصلحين المجددين على ما كان من قلتهم، وضعف من معهم، وعلى ما كان من كثرة العسكر المقابل من أهل الباطل، ولكن لا خيار لنا إلا بإعلان التوحيد والإسلام؛ لأنه لا يزهق الباطل إلا بمجيء الحق: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُالإسراء:81، وفتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، وبهذين الأمرين تنال الإمامة في الدين.
لابد من التضحية والبذل في مواجهة الباطل
عباد الله: ولما كان أهل الباطل قد بذلوا ما بذلوا فلابد لأهل الحق من الصدع به: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىالبقرة: من الآية256، ولابد من التخلية قبل التحلية، الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، ولا يزول الظلم إلا بمجيء العدل، ولا يزول المنكر إلا بمجيء المعروف، وهكذا نعالج المعاصي بالتوبة والعمل الصالح، ونطفئ نار الشهوات المحرمة بفتح أبواب العفاف، وهكذا تحارب أنواع الربا بمجيء ما أحل الله من أنواع البيوع، والمشاركة، والمضاربة، والتمويل الشرعي، وليس الحيل، وهكذا يضرب الأمثال للحق والباطل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِالرعد: من الآية17.
هناك معركة قائمة، حق وباطل يجتمعان في مكان، وإن انتفش الباطل وكان كالزبد ظاهراً على السطح، فإن الحق لابد أن يعلو ويذهب الباطل، لا ينقضي إعلام الباطل إلا بمجيء قنوات تعرض الحق حتى يتبين زيف الباطل: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَيونس: من الآية81.
وهكذا ما يكون في أنواع تقنيات الجوال، ورسائله، ووسائطه، لابد أن يأتي الحق عبرها ليزول الباطل.
عباد الله: وقد لا يذهب الباطل، ولا يحق الحق إلا ببذل النفوس والمُهَج؛ ولذلك قال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه؛ فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام[رواه مسلم برقم (3005)]، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌالأنبياء: من الآية18.
لابد من بدائل مباحة
عباد الله: لابد من تأمين البدائل الإسلامية لهذه الأباطيل المنتشرة، وعندما يأتي الشرع بصلاة الاستخارة لإبطال الاستقسام بالأزلام، فكانوا يأتون إلى أصنامهم يضع أحدهم يده في الكيس ليُخرج أحد الثلاثة الأزلام مكتوب عليها: افعل، والثاني: لا تفعل، والثالث فارغ، عند زواج، عند سفر، عند تجارة، عند أصنامهم يستقسمون بالأزلام.
لما حرم الله الزنا أباح الزواج، وأمر الصيام، وهكذا لما "جاء بلال بتمر بُرْني، فقال له النبي ﷺ: من أين هذا؟ قال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع" لماذا؟ قال: "لنطعم النبي ﷺ "نأتي له بتمر جيد، القصد طيب لكن الوسيلة كانت محرمة، ولم يكن يدري بهذا، "فقال النبي ﷺ: أوَّه، أوَّه" كلمة تقال للتوجع، "عين الربا، عين الربا"؛ صاع تمر بصاعين تمر، ولو اختلف النوع هذا لا يجوز، ربا، في المطعومات، هذه التي تُكال وتدخر كالقمح، والتمر، والملح ربا، فماذا نفعل إذا أردنا تمراً جيداً، وعندنا تمر رديء؟ قال: ولكن إذا أردت أن تشتري؛ فبع التمر إذاً يبيع التمر الآخر الأدنى بدنانير، دراهم، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره[رواه البخاري برقم (2312) بلفظه، ومسلم برقم (1594)]، فإذاً إذا باع الرديء بالدراهم والدنانير، فيشتري بها بعد ذلك من التمر الجيد.
لما أبطل النبي ﷺ عيدي الأنصار اللذين كانا في الجاهلية قال لهم: كان لكم يومان تعلبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خير منهما يوم الفطر، ويوم الأضحى[رواه النسائي برقم (1556)]، ولذلك إذا تعلقت حاجة الناس بشيء، وانتشر الحرام فيه، وكان يوجد بديل، فيبين لهم، وهذه البدائل المنضبطة الشرعية تقوم مقام هذه الظالمة، فيأتي الحق، ويزهق الباطل.
نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا للإيمان.
اللهم اجعلنا من أتباع الحق يا رب العالمين، عرفنا به، واجعلنا به مستمسكين، اللهم اجعلنا ممن أظهرت الحق على أيديهم، واجعلنا ممن نصر الحق يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.