الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
ماذا يدور في مجالس الصحابة
فإن الله قد اختار لنبيه ﷺ أفضل الأصحاب، ونظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فاختار لنبيه ﷺ هؤلاء الذين كانوا معه، فهم أفضل الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، والجهاد في سبيله؛ لنشر الإسلام، ظهرت منهم علامات الخير في السمت، والهدي والصدق، ممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم بالحلال، وخضوعهم بالطاعة لله –تعالى-، فيما أحبوا وكرهوا، ظمئت هواجرهم بالصيام، ونحلت أجسامهم بالقيام، شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا دمائهم حين استنصرهم ربهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم.
هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وإذا كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقة رأيه، فإن رأيه صادر من قلب ممتلئ نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً.
أولئك أتباع النبي وحزبه | ولولاهم لما كان في الأرض مسلم |
ولولاهم كادت تميد بأهلها | ولكن رواسيها وأوتادها هم |
ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها | ولكنهم فيها بدور وأنجم |
أصحاب النبي ﷺ كانت لهم مجالس، ففي أي شيء كانوا يتذاكرون فيها، وماذا كان يدور في تلك المجالس؟ كانت عامرة بذكر الله وطاعته.
عن أبي نضر قال: كنا عند عمران بن حصين، فكنا نتذاكر العلم، قال فضيل بن غزوان: كنا نجلس أنا ومغيرة نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر، وكانوا يجتمعون فيأمرون أحدهم أن يقرأ عليهم القرآن، يجتمعون فيقول عمر : يا أبا موسى ذكّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون.
وكان الواحد منهم يقول للآخر ولمن معه: اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبي ﷺ بأصحابه التطوع في جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع.
فعن جابر قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقرأ القرآن، وفينا العربي والأعجمي، فقال: اقرءوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونرواه أبو داود(830)، وهو حديث صحيح صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (1/2)، فأثنى على أصحابه، وأخبر عن نشوٍ يخرجون يقرؤون القرآن كالمزامير، فيقيمونه على ألحان أهل الفسق، كهؤلاء الذين يقرؤونه بالمقامات اليوم.
وكان أصحاب النبي ﷺ إذا جلسوا يتذاكرون، فإنهم يذكرون ما بعد الموت، والآخرة، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، ثم ذكر لهم علاماتهارواه مسلم(7467).
فإذاً: كانوا يتذاكرون الخير وأحكام الآخرة، وأمور الدين والإيمان، وكانوا يستعدون بما يتذاكرون للفتن، فعن أبي سعيد قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قلنا: بلى، فقال:الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجلرواه ابن ماجه(4204)، وهو حديث حسنحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3/156).
كان جلوسهم للفقه في الأعمال، ومعرفة ما هو الأقرب إلى الله، فعن عبد الله بن سلام قال: "قعدنا نفر من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه"حديث صحيح( المستدرك:2384).
وهكذا كانوا يجلسون فيتذاكرون: من هؤلاء أهل الجنة؟ ما هي صفاتهم؟ كانت أحاديثهم أحاديث أصحاب الهمم العالية، والعزائم الصادقة.
"عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لأصحابه يوماً: تمنوا؟ فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقه في سبيل الله ، وقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهباً فأنفقه في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جواهر ونحوه فأنفقه في سبيل الله، فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله تعالى".
يعني أؤمرهم على الأمصار؛ كي يهدوا الناس، ويفقهوهم، ويأموا بهم، ويحكموا بينهم، ويقضوا بالعدل، ويكونوا أمراء بالحق.
كان أصحاب النبي ﷺ إذا تمنوا في مجالسهم لله وفي الله، ولا يمنع أن يكون في بعض مجالسهم شيء من الشعر، وأيام العرب، وأمور الجاهلية، والذكريات القديمة، لكنه ليس حديثاً محرماً ولا مسفّاً، فروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله ﷺ متحزقين (أي: متقبضين) ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، (فليسوا أصحاب كآبة، وإنما كانت فيهم حيوية، وكان فيهم نشاط)، قال: وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله (أي معصية) دارت حماليق عينيه كأنه مجنون"الأدب المفرد(555)حديث حسن حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1 / 219).
فلا يرضى الواحد منهم بالمنكر، ولا يمكن أن يشترك فيه، وإذا رأى أمامه منكرا، أو دُعي إلى منكر فهكذا يكون حاله، ما كانت لهم داخل بيوتهم أماكن للجلوس، فكانوا يجلسون في أفنيتها وعلى حافة الطريق.
قال أبو طلحة: كنا قعوداً بالأفنية نتحدث، فجاء رسول الله ﷺ فقام علينا، فقال: ما لكم ولمجالس الصعدات؟ (أي: الطرقات، اجتنبوا مجالس الصعدات (وذلك لأن الجلوس فيها قد يضيق الطريق، ويكون فيه من إطلاق البصر ما فيه، إلى غير ذلك من الآفات)، فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، (أي: في أمر القرآن والوحي، وأمر الفقه والأحكام، وأمر الآخرة وتذكر ما فيها)، قال: إما لا، فأدوا حقها، (أما إذا أبيتم إلا هذا ولم يكن عندكم غيره فأدوا حق الطريق)، قال: غض البصر ورد السلام وحسن الكلام . رواه مسلم (5773).
فكانوا يضطرون للجلوس فيها، لكن لأي شيء؟ لأجل أن يتذاكروا؛ ولأجل أن يتفقهوا ويتدارسوا، وهكذا كانوا.
وإذا حصل منهم في مجلس شيء من الخوض في قضية لا يصلح الخوض فيها، أو لا بد لها من ضوابط، كان التذكير النبوي يأتي.
فعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في القدر، (أي: نتباحث في شأنه، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجهه الرمان، (من شدة الغضب)، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه . رواه الترمذي(2133)، وهو حديث حسنحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5 / 133).
الدخول في القدر إذا كان بعلم وفقه فلا بأس به، وإذا كان جدالاً ونقاشاً بلا حجة، ولا بيان، فيُنهى الإنسان عنه، فالدخول في القدر إذا كان بعلم وفقه فلا بأس به، وإذا كان جدالاً ونقاشاً بلا حجة، ولا بيان، فيُنهى الإنسان عنه؛ لأنه مزلة مُضلة، وكذلك فإن بعض مجالس أصحاب النبي ﷺ كان فيها شيء من شكوى الحال بين بعضهم البعض، قال أبو الدرداء: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، وفي رواية كنا نتذاكر الدنيا وهمومها ونخشى الفقر، فقال ﷺ لهم: ألفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغةً إلا هي وأيم الله لقد تركتم على مثل البيضاء ليلة ونهارها سواء. رواه ابن ماجة(5)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(688)،وفي هذا بشارة من النبي ﷺ للأمة بأن الله سيغنيها من فقرها، ولكنه حذرهم من فتنة الغنى؛ لأن حب الدنيا يزيغ القلوب بعد استقامتها، ويضلها بعد هداها، وتكون الفتنة، ولذلك لم يكن يخشى عليهم الفقر وإنما كان يخشى عليهم فتنة الغنى، هذا بعض ما كان في مجالس أصحاب النبي ﷺ.
نسأل الله أن يرضى عنهم، وأن يرزقنا اتباع هديهم، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين-، و إلى يوم الدين.
مجالس اليوم
عباد الله: هذه كانت حال مجالس أصحاب محمد ابن عبد الله ﷺ، فما هي حال مجالسنا نحن اليوم؟، كم فيها من الدين، وكم فيها من الدنيا؟، كم في مجالسنا من الطاعة، وكم فيها من العصيان؟، كم يطغى عليها من أخبار الدنيا، وتجارة الدنيا، وأمور البيع والشراء، والبضائع والأسعار، والمحلات، والخدمات؟، وهكذا يدور أصحاب كل همٍ إذا اجتمعوا في همهم الدنيوي، فمجالس الموظفين، ومجالس الطلاب، ومجالس التجار، ومجالس الأطباء، ومجالس النساء، إذا ارتقت تكلموا فيما يعملونه بالنهار، وأما مجالس نسائنا فكثيرا ما تكون مشغولة بالأزياء، والموضات، والأكلات، والحفلات، وحال الأسواق والمحلات، هل مجالسنا عامرة بذكر الله؟ هل تُطرح فيها قضايا العلم والفقه؟ هل يحصل فيها التذاكر لأمور الآخرة؟ هل يكون فيها شيء من معاني القرآن والسنة؟ أم أن فيها أمور من الغيبة، والنميمة، ونهش الأعراض، والتفكه بلحوم الخلق، مهاترات، مماراة، جدال، مجاملات، ومداهنات باطلة، بل قد لا تسلم من شيء من الانتقاص، أو الاستهزاء ببعض أمور الدين، وذلك أمرٌ خطيرُ جداً، اعتداء على الخلق، وانتقاص، وازدراء، واحتقار، واستهزاء، أين تلك المجالس التي كان يجلس فيها أولئك الصحابة، فيعمرونها بالعلم والإيمان؟ ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ، ويصلوا على النبي ﷺ، إلا كان مجلسهم ترةً عليهم يوم القيامة (أي: حسرة)حديث صحيح مسند أحمد(9764)،وما اجتمع قومٌُ على ذكر فتفرقوا إلا قيل لهم: قوموا مغفور لكممسند أحمد(12453)،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/98)، وقال: صحيح لغيره.
فالقرآن ذكرٌ، والسنة ذكرٌ، والفقه ذكرٌ، وأمور الآخرة ذكرٌ، وهكذا، أمور الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور تقويم المجتمع والمحافظة على الأسرة إسلامية، أمور تربية النفس وتربية الأولاد ، أمور التفقه في الحلال والحرام، أمور القيام بتبليغ الإسلام، وهكذا يُذَكّر الناس بأبواب الصدقات، وأيضاً يُجالس المسلم قوماً يلتقطون له طيب الكلام كما يُلتقط طيب الثمر، فإذا كان أصحابك من الأخيار كان مجلسك كذلك.
المجالس الالكترونية
يا عبد الله، يا مسلم: هذه مجالسنا الالكترونية اليوم التي طغت على المجالس الوجاهية الحضورية الاجتماعية، فصار الناس يجالس بعضهم بعضاً عبر الشاشات: محادثات، مجموعات، منتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، فماذا يحدث فيها؟ ما هي موضوعات المجالس الإلكترونية؟ يقولون: دردشات، ثم تنظر فيها، فإذا فيها من أمور الجنس ما لا يمكن أن يتحمله من عنده حياء، ثم فيها أمور من إشاعة الفاحشة، وربما تذكر بعض أذكار الخلاء إذا اطلعت على بعض ما فيها، وهذه المجالسة للطرف الآخر، سواء كان أمامك مباشرة، أو خلف شاشته، فإنها تؤثر في النفس بل هي مجلس ولو كان على البعد.
حذار من مجالس الأوغاد | فإنها صخر على الفؤاد |
مجالسُ جمعها الفساد | وعمها الشقاق والعناد |
وفر من مجالس الفسّاق | فإنها مفسدة الأخلاق |
إذاً: هذه المجالس الإلكترونية لها اليوم آثار كبيرة، وخطيرة، كان السلف يلتمسون مجالس العلم، مجالس الحديث، وللمجالس آداب، فهاهنا التماس مجلس الرجل الصالح وصاحب العلم، عن علقمة قال: قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت اللهم يسر لي جليساً صالحا، فأتيت قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء علقمة تابعي فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحا، فيسرك لي.رواه البخاري(3532).
وقال حريث بن قبيصة: "قدمت المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليس صالحاً، قال: فجلست إلى أبي هريرة". صحيح الترمذي(413).
إذاً: كان هناك دعاء يلتمس فيه هذا من ربه أن ييسر له جليس صالحاً: صاحب علم، صاحب دين، يُذكّر، ينصح، وهكذا الجلساء والأخيار، يوقَّر الكبير في المجلس، ويُرحم الصغير، ويُغض من الصوت، ويقال فيه الكلمة الطيبة، والمجالس بالأمانة، ولا تفشى فيها الأسرار، ولا يتناجى اثنان فيها دون الثالث، وفيها تلك الكفارة العظيمة إذا قام: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فيها سؤال وجواب، وحسن طرح السؤال، حسن المسألة نصف العلم، والتفسح فيها للداخل، وتكون التزكية، والتهذيب، والتربية من موضوعات وفوائد مجالس أهل الإيمان.
اللهم اجعل مجالسنا عامرة بذكرك، اللهم ارزقنا الأخيار، وباعد بيننا وبين الأشرار، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم نجنا من غضبك، نعوذ بك من عذابك، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، أصلح لنا نياتنا وذرياتنا يا رب العالمين، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا،وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.