الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: هاهو شهركم يشرف على الانتهاء، والليلة القادمة منه أعظم ليلة في العام، ترجى فيها إصابة ليلة القدر، ليلة السابع والعشرين، من أعطي خيرها فقد أعطي، ومن حرمه فهو المحروم.
الارتباط بين الدعاء وبين الصيام
تجتمع العبادات؛ صيام، وصلاة، وذكر، ودعاء، والناظر في آيات الصيام في سورة البقرة يجد أن هناك ثلاثة أمور من العبادات العظيمة تخلل ذكرها ذكر الصيام: القرآن، والدعاء، والاعتكاف، في ثنايا آيات الصيام، فدل ذلك على العلاقة الوثيقة بين هذه الثلاثة والصيام، القرآن، والدعاء، والاعتكاف، في ثنايا آيات الصيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186].
هؤلاء الصائمون وهم يعبدون ربهم: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ تعالوا بنا -يا عباد الله- نجول قليلاً في رياض هذ العبادة العظيمة، وهي: "عبادة الدعاء".
الدعاء يدل على الإيمان بالله
أولاً: الدعاء يدل على الإيمان بالله، فإنك تدعوه وأنت تؤمن أنه ربك يسمع دعاءك، إذًا هو موجود أنت توقن وتؤمن بذلك، وهو يسمعك أنت تؤمن وتوقن بذلك، وهو غني أنت تؤمن وتوقن بذلك.
الربوبية: رَبَّ، ورَبَّنَا فالرب هو المدبر المربي لعباده الذي يعلم ما يصلحهم، ويصلح لهم، ولذلك فإن الدعاء ب ورَبَّ، ورَبَّنَامن أعظم الأدعية، المصدر بهذا النداء، نداء الربوبية.
ثم أنت تدعوه لا تشرك به، ولذلك قال ذلك النبي ﷺ لقومه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي [سورة مريم:48].
وعندما يكون الدعاء دعاء موحد، فإن الإجابة قريبة.
أما دعاء المشرك، فشركه من أسباب المنع، والتوحيد من أسباب الإجابة، فأنت تدعوه لا تدعو غيره.
وأيضاً فإن الدعاء بجميع المحبوبات لأجل كل مطلوب، ودرء كل شر ومرهوب، وهذا معنى قول الله:وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [سورة الأنبياء:90]. في أحد المعاني لهذه الآية.
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وهم يرجون ما عندنا: وَرَهَبًا خائفين من عذابنا.
وأيضاً وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا في مطلوباتهم التي يرغبونها، ويدعوننا رهبًا في درء المفاسد والشرور التي يرهبونها.
الدعاء عبادة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح:الدعاء هو العبادة[1].
وفي كتاب الله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَجاءت بعد ماذا؟وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [سورة غافر:60] يعني دعائي، فسمى الدعاء: عبادة؛ لأن الدعاء فيه معان العبادة جميعًا: الخوف، والرجاء، والمحبة، بعد الإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، واللجوء إليه.
العبودية تعني الذل للمعبود، والدعاء يحقق هذا المعنى تمامًا؛ لأن الداعي يلجأ، ويدعو ذليلاً محتاجًا.
الافتقار عند الدعاء
ولذلك كانت أحوال الافتقار من أعظم أسباب الإجابة، يعني حال الإحرام -مثلاً- لماذا كانت حال الإحرام من أسباب الإجابة، استجابة دعاء الحاج والمعتمر؟
لأنه جاء بصفة ذل لله، فتجرد عن المخيط، والأناقة، وجمال اللباس، وجاء بإزار ورداء، بطمرين ليس فيهما تفصيل، ولا أنها على أعضاء الجسد مكيفة، وإنما إزار يلف به عورته، ورداء يغطي به أعلى جسده، بلا طيب، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، حاج يمشي وفي الشمس، هذا الحال من أسباب الإجابة.
كذلك حال المسكنة والفقر، موسى خرج من بلده إلى مدين، فتقطعت نعاله، فوصل حافيًا، متعبًا منهكًا، طريدًا خائفًا، جائعًا محتاجًا، ولما عمل ذلك المعروف العظيم للمرأتين: آوى إِلَى الظِّلِّ، فقال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24] أنا محتاج إلى خيرك يا رب! أنا فقير إليك يا رب! أنا مضطر إليك يا رب! مالي غيرك يا رب! ولذلك كانت دعوة موسى لفظًا وحالاً دعاء عظيم جداً، والداعي ليس بشرط أن يذكر حاجته مباشرة: أريد كذا! يا رب طعاما! يا رب مأوى! يكفي أحيانًا أن يذكر حاله فقط، والعليم بالحال يعلم ماذا يريد السائل، ولذلك اكتفى موسى بذكر حاله: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، خَيْرٍ هذه نكرة تفيد العموم، طعام مأوى مأمن، عمل، زوجة، فجاءه ذلك كله، نتيجة هذا الدعاء رزق زوجة، وعمل، مصدر كسب، ومأمن، وطعام، ولباس، مأوى.
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87] من أعظم الدعوات، لكن ما فيها طلب معين، إذًا كيف صارت دعاءً؟
لأنه ذكر حاله: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [سورة الأنبياء:87، 88] ذكر الحال، الشكوى لله عبادة عظيمة، والشكوى تتضمن وصف الحال.
وعندما يقول العبد المعنى والفحوى: "أسألك بغناك عني وفقري إليك! أسألك بعزك وذلي! وقوتك وضعفي! هذا المعنى في الدعاء مهم جداً في تحصيل الإجابة، لاحظ دعاء الاستخارة: فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم[2] لاحظ هذا المعنى -يا عبد الله-.
الدعاء فيه أسرار، والذي يلمس هذه الأسرار، ويفتح له أبواب معانيها، يحصل على نتائج باهرة، رفع اليدين فيه ذل وطلب، إنه يجمع كفيه، ويمد يديه، كمن يسأل شيئًا ليوضع في كفيه، يجمع كفيه، ويمد يديه، يبسطهما، لتملآ، وعندما يكون في أنزل مستوى في السجود والجبهة تحت في أسفل، يكون أعلى ما يمكن وأعظم مقامًا عند الله، هذا حال ذل، فيكون من أسباب الاستجابة العظيمة.
محبة الله للملحين في الدعاء
الناس يتبرمون من الإلحاح، ولو طلبت منه مرة واثنتين وثلاث سيطردك، ويقول: أخر عني! أزعجتني! الله يحب الإلحاح: إن يحب الملحين بالدعاء، كلما ألححت عليه؛ ولذلك كان النبي ﷺ إذا دعا دعا ثلاثًا، وأحيانًا يدعو أكثر، ودعا قبل معركة البدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه وهو يناشد ربه، والصديق يشفق عليه، ويقول: "كفاك مناشدتك ربك"، الله سيعطيك، وهو يلح ويزيد[3].
نحن قادمون على ليلة سبع وعشرين، الدعاء في هذه الليال الفاضلة عبادة عظيمة جداً، ومهم للغاية، معرفة المعاني والأشياء التي ندخل بها عليه سبحانه، لا إله إلا هو، الغني، عندما تسأله حاجات الدنيا والآخرة، فإنك تعتقد أنه غني، وأن بيده خزائن كل شيء، واسأل ما شئت، من قضاء دين، رفعة في الدنيا والآخرة، زوجة، ولد صالح، مأوى، اسأل طعامًا، اسأل عملًا، ووظيفة، اسأل سعادة، اسأل زوال هم، تفريج كرب، نجاة من ظالم، نصرة على باغٍ: انصرني على من بغى علي[4] اسأل ما شئت في الدنيا، واسأل ما شئت في الآخرة، واجعل سؤال مطلوبات الآخرة أكثر عناية؛ لأنها باقية، والدنيا فانية، فأكثر من سؤال ما ينفعك في الباقي، من جنة، وعتق من نار، وتثقيل ميزان، ورزق شفاعة محمد بن عبد الله ﷺ، وشرب من حوضه، وبياض وجهٍ، وإيتاء صحيفةٍ بيمين، وأمنٍ من فزع، وظل من شمسٍ، اسأل، ورفع الدرجات في الجنة.
دعاء الله باسمه الأعظم وأسمائه وصفاته
عباد الله: لما ندخل عليه ننادي: "يا" والميم في قوله: اللهم هي أداء النداء المؤخرة، أصلها: يا الله! فأوخر النداء إلى آخر الكلمة في لفظ الجلالة: اللهم الميم هذه هي ياء النداء: يا الله!
وعندما تريد أن يستجيب لك المخاطب، فإنك تدعوه بأحب الألقاب والصفات والأسماء إليه، وتفخم وتعظم، ويا صاحب، ربنا تعالى قال: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180] ما قال: الأسماء الحسنة الْحُسْنَى جمع أحسن، وليس جمع حسن فقط، ولذلك لا يعرف أسماءه إلا هو، نحن ممكن نتخيل اسم حسن، ونطلقه، لكن لا، هو يعلم ما هي الأسماء الحسنى، فعلمنا إياها: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180].
ومن الفقه في الدعاء: أن تبحث وتجتهد عن الاسم الأعظم، هل هو يا الله؟! فتقول: اللهم هل هو أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير؟! هل هو أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد؟![5] هل هو أسألك بأنك أنت الحي القيوم يا ذا الجلال والإكرام؟!
جاءت أحاديث بصيغ متعددة وأنت -يا مسلم- تستعمل هذه العبارات تارة هذا، وتارة هذا، وتارة هذا، رجاء أن تصيب الاسم الأعظم؛ لأنك إذا دعوت بالاسم الأعظم تحصل الأعاجيب؛ ولذلك ولي الله في مجلس سليمان دعا ربه أن يأتيه، قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [سورة النمل:40]، قال الآخر صاحب العلم: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ العفريت من الجن قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ [سورة النمل:39] صاحب العلم أسرع الذي عنده علم من الكتاب، كتاب الله الذي أنزله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، وحصل.
ابحث عن الاسم الأعظم، ثم ناسب بين الاسم والمطلوب، فإذا أردت رزقًا قل: يا رزاق! وإذا أردت رحمة قل: يا رحمن! يا رحيم! وإذا أردت مغفرة قل: يا غفار! وإذا أردت توبة قل: يا تواب! وهكذا..
ثم أفقه -عباد الله- بالله الأنبياء، فخذ من دعائهم، فمن كان عقيمًا يقول: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [سورة الأنبياء:89].
ومن كان يريد توبة تذكر توبة أبيه آدم: وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23].
وتوبة يونس في بطن الحوت، ودعاء: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87].
اللهم وفقنا لمرضاتك، واجعلنا ممن يدعونك رغبًا ورهبًا يا رب العالمين، استجب دعاءنا، وآتنا سؤلنا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أشهد أن لا إله إلا هو وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين، وأزواجه وذريته وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: أشهد أن لا إله إلا الله، يجيب الدعاء، وأشهد أن محمدًا عبد الله، علمنا كيف ندعو الله.
ثمرات الدعاء وفوائده
هذا الدعاء سلاح المؤمن؛ لأنه يفتقد في كثير من المعارك إلى السلاح، يكون أحيانًا ضعيفًا ليس له منصب ولا سند، فما هو سلاحه؟ هذا، وكذلك الدعاء من أسباب السعادة: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا [سورة مريم:48].
الدعاء سبب لعناية الله بالعبد والعباد: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [سورة الفرقان:77].
الدعاء يحصل به خير لنا أحيانًا من حيث لا نعلم: إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم، فدعوة الضعيف لها شأن عظيم عند لله.
من أعظم الدعوات: دعوة المضطر: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [سورة النمل:62]، ولذلك لو وقعت في حال اضطرار، فرضنا مطبات جوية خطيرة، انتهز الفرصة، وادع بالجنة، والوقاية من النار، والرزق، وحسنة الدنيا، وحسنة الآخرة؛ لأن الحال هذا حال اضطرار.
دعاء الذي يوشك على الغرق دعاء عظيم، ولذلك يستجيب الله فيه أحيانًا حتى للمشرك: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ لسبب مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة العنكبوت:65]،ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:67] في هذه الحال، واضطراب الأمواج، والرياح العاتية، والمركب المقلوب: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [سورة النمل:62].
استجابة الله للدعاء
الله كريم، والكريم لا بدّ أن يعطي، لا يمكن أن يسأل الكريم ولا يعطي، فإذا سألت فاعلم أنك قد أعطيت ولا بدّ، إذا كنت صادقًا في سؤالك لا بدّ أن تكون قد أعطيت، فماذا أعطيت؟ هل هو عجل لك ما تطلبه أو ما تسأل دفعه؟
قد يحصل.
أخره إلى حين؛ لأنه يحب أن يسمع دعاءك زيادة، وإلحاحك زيادة، فأخره لهذه الحكمة؟ ممكن.
هل هو أعطاك خيراً أعظم مما سألته، أو دفع عنك شرًا أعظم مما طلبت دفعه؟ أيضاً.
الدعاء والقضاء يعتلجان بين السماء والأرض يكون أحيانًا القضاء نازل، قضاء أليم، ولذلك قال: أعوذ بك من سوء القضاء، والدعاء صاعد فيعتلجان بين السماء والأرض، فقد يكون الدعاء قويًا فيدفع القضاء النازل، وقد يكون من قلب غافلٍ لاهٍ، فينزل القضاء، والدعاء لا قيمة له، ما حصل من قلب موقن، ولا مقبل على الله.
هل كان دعاء وسطًا فخفف القضاء ولم يمنع نزوله بالكلية؟ ممكن.
الدعاء عبادة بحد ذاته
لكن هنا سر عظيم، ومسألة مهمة للغاية، وهي: أن الدعاء ذاته أعظم من الحاجة التي تسألها، الدعاء ذاته، عملية الدعاء، مناشدة الله، وسؤال الله، هذه العملية نفسها توحيد وعبادة أعظم من أن تسأل قضاء دين وزوجة وولدًا وبيتًا، وإلخ... لأنها عبادة، والعبادة هي المقصود من الخلق أصلاً، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] ولذلك في فائدة مهمة جداً في الدعاء، وهي: أن أجر الدعاء حاصل في جميع الحالات إذا كان دعاء صادقًا، بغض النظر عن وقوع المطلوب، وعدم وقوعه، ولذلك لما قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ، أُجِيبُ [سورة البقرة:186]، هذه فيها عطاء ولا بدّ، أجرك الذي ستجده في صحيفتك يوم القيامة على الأدعية، على عملية الدعاء نفسها التي قمت بها، هذا ما سوف تفرح به فرحًا عظيمًا، أشد من تحقق المطلوب نفسه، إلا أن يكون أشياء من تبع الآخرة؛ كدخول الجنة، والوقاية من النار، ومرضات الله، ونحو ذلك.
فإذًا، مجرد أن تدعو قد أعطيت، في أجر كتب في الصحف، وهذا سر عظيم من أسرار الدعاء.
فإذا سألته بأسمائه الحسنى، وتحريت أوقات الإجابة، وكنت في حال فقر واضطرار، وألححت عليه، واخترت أدعية أنبيائه، وما ثبت عن نبينا ﷺ، وكررت، مع أوقات الإجابة، وهذه الليلة الشريفة القادمة، والثلث الأخير من الليل، واستغفار السحر، وصلاةٍ على محمد بن عبد الله ﷺ، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد.
أيها الإخوة: من تفقه في هذا الباب من أبواب الدين، وعمل به، ومارسه، ستتغير حياته قطعًا، ولما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] ما يحتاج أن تصيح بالدعاء؛ لأنه قريب، وهو سميع، ولذلك قال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55]، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا [سورة مريم:3].
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم أدخلنا الجنة بلا حساب ولا عذاب يا وهاب، أعتق رقابنا من النار يا غفار، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه في مقامنا هذا في بيتك هذا، في جمعتك هذه، أن تهب لنا من رضوانك، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم أسعدنا في الدنيا والآخرة، نجنا في الدنيا والآخرة، أغننا في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، نسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، نسألك الرضا بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، اللهم إنا نسألك الفرج لإخواننا المستضعفين يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، عجل الفرج لأمة محمد ﷺ، اللهم تقبل صيامنا، وقيامنا، ودعاءنا، اللهم لا تحرمنا ليلة القدر، اجعلنا ممن أصابها يا كريم، توكلنا عليك فاغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واجمع على الحق كلمتنا، واهد ضالنا يا ربنا، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اعمر قلوبنا بالإيمان يا رحمن، افتح قلوبنا للحق يا فتاح، اللهم إنا نسألك أن تعمرها بالقرآن يا كريم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180- 182].
- ^ رواه أبو داود: (1481)، والترمذي: (2969)، وابن ماجه: (3828)، وأحمد: (18415)، وقال الألباني: "إسناده صحيح" كما في صحيح أبي داود: (1329).
- ^ رواه البخاري: (1166).
- ^ انظر الحديث رواه الترمذي: (3081)، وأحمد: (208)، وهو في إرواء الغليل للألباني: (45).
- ^ رواه أبو داود: (1512)، والترمذي: (3551)، وابن ماجه: (3830)، وأحمد: (1997)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (1353).
- ^ رواه ابن ماجه: (3847)، وأحمد: (23091)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: (3111).