الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سبحان الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وها هو الليل والنهار في رمضان قد مضى سريعًا، وصدق الله: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184]، سرعان ما تنقضي، وبالرغم من صيام المسلمين في هذا الصيف، في أطول أوقات النهار على مدار السنة، ولكنها قد مضت بسرعة في الحر وطول النهار مرت مسرعة، إذًا ربنا رحيم فيما فرض علينا، فلم يفرض على عباده ما لا يطيقون، فهذا هو الواقع يثبت أنهم يطيقون بل يمر شهرهم سريعًا.
رمضان شهر العبادات
رمضان يا عباد الله، ذكريات جميلة، تجتمع فيه عبادات من توحيد، وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، فها هم يصومون توحيدًا لله، واستحضر المعاني يا أخي المسلم إلى آخر رمق من رمضان، استحضر معنى العبادة وأنت تجوع له وتعطش، وتترك الشهوة من أجله، وهو يباهي بك: يترك طعامه من أجلي وشرابه من أجلي وشهوته من أجلي[1]، وفي رواية: وزوجته من أجلي، هذا معنى عظيم في العبادة، وهو الترك لله، فليست العبادة فقط الفعل لله، وإنما أيضًا الترك لله، وكذلك فإن إشعار الغني بالفقير ليس بمجرد الكلام، بل إنه يقرصه الجوع مثله، ولذلك تجد في رمضان من إطعام الطعام ما لا تجده في غيره، ومن الإحسان إلى الفقراء ما لا تجده في غيره، والناس تلتمس أوقاتًا مضاعفة للإخراج، فيكون في رمضان زكاة كثيرين، وصلاة التراويح هذه التي فيها أعاجيب، فمثلًا: في الليلة الماضية أثبت الكثيرون لأنفسهم أن طول القيام في الليل ليس شيئًا خاصًا عن السلف، وإنما قام الآلاف في بعض المساجد أكثر الليل، وانطبق قول الله تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [سورة الذاريات:17]، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة المزمل:2]، والعمرة في رمضان، حديثه ﷺ: عمرة في رمضان تعدل حجة[2]، وكثيرون، وهنيئًا للقريب من الحرم الذين ذهبوا لبيت الله، نعمة فيجتمع في رمضان من العبادات ما لا يجتمع في غيره.
عباد الله:
ومن حكمة الله في الاجتماع على قيام الليل في رمضان أن يشجع بعضهم بعضًا، ولذلك لا يشرع الاجتماع على قيام الليل إلا في رمضان.
فعلى مدار العام، يقوم كل إنسان بمفرده، أما في رمضان في هذا الوقت العظيم يجتمعون، والنبي ﷺ في ليلة السابع والعشرين قام أكثر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح، يعني: السحور، وقد فعل هذا آلاف من الناس في الليلة الماضية.
لذة مناجاة الله -تبارك وتعالى
ولذة العبادة شيء عظيم، عندما قام الأنصاري يحرس المسلمين، واضطجع صاحبه ومرافقه المهاجري، جاء كافر فرأى الأنصاري يصلي بالليل يحرس المسلمين، فرماه بسهم فانتزعه وأكمل الصلاة، ثم رماه بسهم ثان، فانتزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثالث، فاستيقظ المهاجري، وعاتب صاحبه: هلا أخبرتني؟ قال: كنت في سورة، فأردت أن أتمها كرهت أن أقطعها، إنها لذة العبادة، فإن وقع السهم في الجسد، والجراح وتدفق الدماء ليس أمرًا سهلًا، فما الذي أشغله عنه ياترى؟ ذلك الذي أشغل الآخر الذي قام في الليل فنشب حريق فجعل الناس يقولون: حريق، حريق، وهو في صلاته، فلما أتمها عاتبوه، وقالوا له: ألم تسمع، النار؟ قال: أشغلتني عنها النار الأخرى، عندما يقول سفيان بن عيينة: لا تكن كعبد السوء إذا دعي أجاب، تعال يعني: قبل النداء، فكانوا يستعدون للصلاة مبكرين، وقال عدي بن حاتم: ما أتى وقت صلاة إلا وقد أعددت لها عدتها وأكون لها بالأشواق، هذا معنى الاشتياق للعبادة، والمعنى الآخر التلذذ بالعبادة الذي يطغى على الأمور الأخرى، وهو المعنى الموجود في حديث: أرحنا بالصلاة يا بلال[3]، والمعنى الموجود في حديث: وجعلت قرة عيني في الصلاة فعندما تحصل اللذة بالصلاة وقرة العين بالصلاة، والراحة النفسية بالصلاة، ويدخل الإنسان جو الصلاة حقيقة، ويعيش مع الآيات ومعاني أذكار الصلاة ويتدبر في كتاب الله، فإنه فعلًا ينتقل إلى عيش آخر، ولذلك قال بعض السلف: "إننا في نعيم لو علم عنه الملوك لجالدونا عليه بالسيوف"، لماذا؟ لأن اللذة مطلب الكثيرين فالعبادة فيها لذة لا توجد في الفنادق خمسة نجوم، وأنواع المنتجعات، والزراعات، ولذات الشهوة المتنوعة، لذة العبادة أعلى من ذلك ما الذي صبر الكثيرين في الليلة الماضية على طول القيام؟ وأشياء لم يعهدوها من أنفسهم من قبل الطاعة لله الرغبة في الأجر، اللذة والنعيم في العبادة ولذلك قال بعض أهل العلم: ولا تظنن أن النعيم المذكور في كتاب الله مقتصرًا على الجنة فقط، فإن النعيم منه معجل في الدنيا للمؤمنين، في صلاتهم في عباداتهم، ولذلك يطول القيام ولا يحدث الفتور والملل ؛ لأنه دخل جو اللذة والنعيم.
التأمل في الآيات معين على التلذذ بالعبادة
ثم إن المسألة ليست مجرد شعور نفسي لا، هو وعي قلبي وعقلي أيضًا لهذه الآيات التي تتلى، وهو يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]، وإياك نستعين، فيقدم المفعول به إياك على الفعل نستعين، والأصل في الجملة العربية الفعل أولًا، نستعين بك أما إياك نستعين هذا التقديم والتأخير معناه: الحصر يعني: حصر الاستعانة والعبادة في الله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أبلغ من نعبدك ونعبد إياك، إياك نعبدك للحصر، ولما قال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، قدم الفعل ولم يقل: إيانا اهدي، قال اهدنا؛ لأن الهداية ليست خاصة بنا أو بك يا أيها المصلي، فإنه يهديك ويهدي غيرك، لكن العبادة خاصة به، فلا يعبد غيره ولا يستعان بغيره.
وعندما يتأمل المصلي تلك المعاني في كتاب الله ، وهو يقرأ البشارتين والأمرين والنهيين، في كلمات وجيزة وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:7]، أَنْ أَرْضِعِيهِ الأمر الأول، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ، الأمر الثاني، وَلَا تَخَافِي، النهي الأول، وَلَا تَحْزَنِي النهي الثاني، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ البشارة الأولى، وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ البشارة الثانية.
عندما يتأمل المصلي البلاغات في القرآن، وكيف تلخص الأحداث الكثيرة بالكلمات القليلة؟ نهاية قوم نوح وكيف نجى الله المؤمنين؟ ماذا قال الله للسموات والأرض؟ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وختمت الآية بالدعاء على الكفرة وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
لما تتأمل حتى هذا الترتيب أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال أعلى بيوتًا، ومن الشجر أنزل، ومما يعرشون، تحت في الأرض، مما يجعلونه لها من المناحل، لما تتأمل المعاني التي فيها إعجاز الله في خلقه، يخرج من بين فرث ودم، مستقذرين مستخبثين، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ [سورة النحل:66]، فهو يخاطبك أني أفعل هذا في خلقي، أفلا نظرت فيه؟! وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [سورة الذاريات:21، 20]، وهكذا في هذه الدواب، وهكذا في قصص القرآن عندما تمر عليك وأنت تسمع في القيام، أنت لا تسمع كلامًا لا تفهم معناه، لكنك تعتبر لما فيه، ثلاثة قمصان في قصة يوسف، قميص دل على كذبهم، وقميص دل على كذبها، وقميص جاء معه الفرج، كل قميص يختلف عن الآخر، وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [سورة يوسف:18]، ما هذا الذئب صاحب الذوق الرفيع الذي يزيل قميص الولد عنه قبل أن يلتهمه ليس فيه خمش ولا شق ولا أثر ؟ والقميص الآخر لما عدت خلفه تريد الفاحشة، والعجيب أن العادة أن الرجل طالب والمرأة مطلوبة.
لكن من قلة الحياة انعكست القضية، صارت المرأة طالبة وهو يفر منها، وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ [سورة يوسف:23]، قال: قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، ولما عدت خلفه وهو يهرب، ويكون الإنسان في كثير من الأحيان الأعزب، والشخص البعيد عن أهله، ومن يعيش ظروفًا، عندما يسمع آيات يوسف هذه ليس مجرد آيات سريعة لأجل قيام الليل فقط، لا، هنا وعي وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ، دليلًا على براءته، لا يمكن أن يشق ويمزق القميص من الخلف وهو الذي يطلبها، ويسعى وراءها، والقميص الثالث، قميص المعجزة ليوسف ويعقوب -عليهما السلام، فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [سورة يوسف:96]، وهكذا كثير في القرآن من أنواع البيان والمعاني التي تجعل القارئ التالي القائم يتلذذ بالمعنى ويتلذذ بالعبادة، و الذي نخرج به أيها الأخوة أن فينا طاقات تعبدية تظهر في مثل هذه الليالي، تثبت لنا أن بإمكاننا لو أردنا أن نتغير أن نتغير، وبإمكاننا إذا أردنا أن نزيد في العبادة أن نتحمل، وبإمكاننا إذا أردنا أن نشابه السلف في قيام أكثر الليل، أننا نفعل ذلك، وهذا فيه -والله يا عباد الله- الآية العظيمة، هذه من تربية رمضان للصائمين، وهذه من تربية الله لعباده، وتأمل كيف جاءت في هذه الآيات آيات الصيام في سورة البقرة ذكر الدعاء، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186]، والقرآن شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185].
والاعتكاف وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187]، وقد اعتكف أناس في المساجد، وهذه سنة تنتشر والحمد لله باطراد، وزيادة ليثبت لنفسه أن بإمكانه أن يعتكف، ماذا يعني أن يقضي يومًا في الطاعة؟ لقد جرب ذلك ونجح، أو ليلة من المغرب إلى الفجر؟ ولا زال في رمضان باقي هناك ليلتان أو ثلاث، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعل قلوبنا عامرة بالإيمان واليقين يا رب العالمين، تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا.
اللهم أعتق رقابنا من النار، وارزقنا لذة تلاوة كتابك، وتدبره، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، حكيم عليم شرع فأحكم شرعه، وتعبد عباده، فاستخرج ما في نفوسهم من الخير، وهو الكريم يعطي بلا حساب، يضاعف بلا حدود، اختص الصوم لنفسه، إلا الصوم فإنه لي، هو السر بين العبد وربه، كم حسنة على الصيام؟ الله أعلم، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به أليسوا قد صبروا عن الطعام والشراب والشهوة؟ صبروا من أجله؟ وقد قال في كتابه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10] الله حكيم في شرعه ورحيم أيضًا.
شروط الزكاة
فهذه الزكاة هل هي كل يوم أو كل شهر؟ لا، كل سنة مارة، على أي مال؟ لا، إذا بلغ نصابًا، وإذا لم يبلغ نصابًا لا زكاة فيه، على أي شيء دخل في الملك، لا، قد لا يكون الملك تامًا فيكون المال محجوزًا ضائعًا فلا زكاة فيه، كل ما يملكه الإنسان ؟ لا هذه المستعملات، والتي للقنية بيوتك التي تسكنها ومراكب التي تركبها وأثاثك ولباسك مهما كثر لا زكاة فيه، وهذه الأراضي الزكاة فيما أعددته للتجارة منها، اشتريته بنية البيع، اشتريت أرضا لتتربح فيها هذه التي فيها الزكاة، لكن أرض لبناء مسكن شخصي؟ لا، لعمل مشروع استثماري تجاري؟ لا زكاة فيه، الزكاة في العائد بالتأجير أعددتها للأولاد في المستقبل لا زكاة فيه، هذا الشرع شرع عظيم الفرق بين الزكاة والضريبة عظيم عظيم، اثنين ونصف في المائة، لا عشرين ولا ثلاثين ولا عشرة إلا فيما سقت السماء؛ لأن من الحكمة الإلهية أن الزكاة على التعب، سقت السماء، العشر أنت تسقي نصف العشر بعضه وأثناء السنة هكذا وبعضه هكذا ثلاثة أرباع العشر، بهيمة الأنعام التي تعدها للدر والنسل لك لا لتجارة إذا كنت تعلفها أكثر العام لا زكاة فيها.
عباد الله:
زكاة الفطر
من حكمته أنه شرع لنا في ختام شهرنا نوعًا خاصًا من الزكاة غير زكاة المال، هذه الزكاة طعمة، فهي طعام لها ارتباط بالصيام، فهو يكلفنا بالعبادة ثم يطهرنا من اختراقاتها؛ لأنه فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعًا من طعام طهرة للصائم، أيها الإخوة الزكاة مثلًا يستفيد منها الغني أولًا المخرج أولًا خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة:103]، تطهرهم من الشح والبخل والمعاصي والآثام والذنوب وتزكي أنفسهم وتوقظ فيها جذوة الكرم والأخلاق الحميدة والإحسان إلى الخلق، ويتسامى بها صاحبها.