الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
الحذر من فتنة الدنيا
فإن الله حذرنا فتنة الحياة الدنيا، وحذرنا من شهواتها وزينتها، وحذرنا من الاستمتاع بالعاجل، والتلذذ به، وترك الاستعداد لما يأتي، وحذرنا من التسابق في التعمير، والتوسع، والزخرفةِ، ونسيان ذكر الله، وعبادته، ودعاءه، والدعوة إلى سبيله، وبعض الناس هذا حاله فإذا مر به طائف التذكير وموعظة القلوب أجّل وسوّف في الأوبة والرجوع إلى الله، وأجّل وسوّف في الأعمال الصالحة، وأنه سيفعلها فيما بعد، وانشغل بما هو بصدده من التعمير والازدياد من هذه الدنيا، وبينما هو ضائعٌ في أمله العريض وتسويفه الذي يسلي به نفسه، إذ جاءه هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وقاطع الآمال في وقتٍ لم يكن قد أعد فيه نفسه للقاء المولى - جل وعلا- فتظلم الدنيا في عينيه، ثم لا يفصح لسانه إلا بقوله: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، فيجاب كلا سورة المؤمنون99-100فأي حسرةٍ وندامةٍ تعتري قلبه حينئذٍ، وأي ملامةٍ سوف يشعر بها إذ ذاك، لماذا؟ لأنه أطال الأمل، ومنَّ النفس بالأماني، وانتظر الوعود، وعقد أحلامه، وآماله عليها.
يا من بدنياه اشتغل | وغره طول الأمل |
الموت يأتي بغتةً | والقبر صندوق العمل |
الأماني
من مفسدات القلب ركوب بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، وخيالات البهتان، وهي بضاعة كل نفسٍ مهينة، خسيسةٍ سفلية، ليس لها همه تنال بها الحقائق، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهبية، وليست كل أمنيةٍ مذمومة، فإن الأماني على قسمين:
قسم محمود: وهو تمني الإنسان عمل الخير والمعروف والجهاد في سبيل الله والإنفاق فهذا خير وللإنسان فيه أجر.
والقسم الثاني مذموم: وهو تمني الشر والعياذ بالله، ولو كان له مالٌ لعمل فيه بالمعاصي فهذا مذمومٌ محرم، كما دل عليه حديث النبي ﷺ: مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجلٌ أتاه الله مالاً وعلماً فهو يعملُ بعلمهِ في ماله ينفقه في حقه، ورجلٌ أتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا لعملتُ فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله ﷺ: فهما في الأجر سواء، ورجلٌ أتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجلٌ لم يؤته الله علماً ولا مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا أي العاصي الذي يرى أمامه ما يفعلُ بماله لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل فهما في الوزر سواء[رواه ابن ماجه4228]، فكل إنسانٍ يتمنى وكلٌ بحسب حاله، فمن متمنٍ للقدرة والسلطان والضرب في الأرض والتطواف في البلدان للأموال والأثمان فهذا له ما تمنى، وصاحب الهمة العالية أمانيه حائمةٌ حول العلم والإيمان والعمل الذي يقربه إلى الرحمن ويدنيه من جوار الملك الديان، فأمانيُّ هذا إيمانٌ ونور وحكمة، وأمانيُّ الآخرين خدعٌ وغرور، وقد مدح النبي ﷺ متمني الخير وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر الفاعل، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملتُ فيه بعمل هذا التقي الذي بنى المساجد وعمر الأربطة وأنفق في الجهاد وكفل الأيتام وسعى في حاجات الأرامل والمساكين، فهما في الأجر سواء وقد تمنى النبيُّ ﷺ في حجة الوداع أنه لو كان تمتع وحل من العمرة ولم يسق الهدي، ولكنه كان قد ساق الهدي فصار قارناً بين الحج والعمرة، فأعطاه الله ثواب القران بفعله، وثواب التمتع بأمنيته، فجمع له بين الأجرين.
إذاً أيها الأخوة: التمني تمني الحياة، وتمني المال، وتمني الدنيا، وتمني الجاه، هذا الذي يتمناه إن كان لشهوات نفسه فهو مسكين، وإن كان للمعاصي فهو مجرمٌ أثيم، وإن كان يتمنى الخير يتمنى أن يُعطى مثلما أعطيَ فلان من العلم ومثلما أعطيَ فلان من قيام الليل، ومثلما أعطيَ فلان من الصوت الحسن بالقرآن دون تمنٍ لزوال النعمةِ عن الآخر أماني طيبة، ومن الناس من هو عاجزٌ عن عمل الخير فهو يتمنى أن يقدر عليه، كمن يتمنى الجهاد في سبيل الله، كمن يتمنى أن يستطيع الدخول على هؤلاء اليهود اليوم فيقاتلهم حتى تنفرد سالفته، هذا الذي يتمنى الجهاد ويتحرق شوقاً إليه وهو غير قادرٍ عليه فقد سُدت أمامه الأبواب وانقطعت السبل لكنه يتمنى أن يصير هناك في نحور العدو فله ما تمنى وهذا الذي يتمنى أن يكون صاحب علم فيكون من أهل الفقه الذين أراد الله بهم خيراً فهو يتمنى أن يكون في مصاف هؤلاء، فإن صدق وعمل فسيكون منهم يوماً من الأيام، هذه الأماني الطيبة، ينبغي أن نحث أولادنا عليها أن يتمنى كل واحدٍ منهم شيئاً من الخير فإن هذه البداية لتحقيق المطلوب، وهذا ما يعبرون عنه بالهدف أن يكون له هدف يسعى إليه وأمنية يصل إليها، لكن الذي يتمنى الدنيا وآلاف الملايين، ويتمنى القصور والمراكب الفارهة لماذا؟ لا لشيءٍ من الأعمال الصالحة، وإنما لكي يستمتع بها ويلتذ والذي يتمنى الجنة بغير عمل فهو مسكينٌ أيضاً، فمن الناس من يتمنى الخير ولا يسعى له وهذه أمنيةٌ زائفة وإن غُلفت بغلافٍ جميل، فليحذر أصحاب هذا النوع من التمني، يتمنى أن يكون عالماً ولا يفتح كتاباً، ويتمنى أن يكون في الجنة ولا يحضر صلاة الجماعة في المسجد، ويتمنى مرافقة النبيين وهو مخالفٌ للسنة فكيف يصدق حاله أمنيته؟! هذا كذب، وواضح أن القضية إذاً عبارة عن خيالات وأحلام، ليس لها نصيبٌ من الواقع في البدء والتطبيق والعمل على تحقيق هذه الأمنية، أما بالنسبة لطول الأمل وهو: أن يتمنى الإنسان العيش طويلاً طول العمر، وما أكثر تمني الناس لطول العمر، فلأي شيءٍ يتمنى طول العمر؟!
إن كان يتمنى أن يطول عمره ليزداد عملاً صالحاً هو الآن يعمل الصالحات فيتمنى أن يزيد عمره لكي يزيد عمله الذي هو قائمٌ به الآن فهذا شيءٌ طيب وأما أن يتمنى الفاسق والعاصي طول العمر لكي يزداد من اللذات والشهوات المحرمة فهذه مصيبةٌ على مصيبة، وبعض هؤلاء العصاة يتمنى أن يطول به العمر ليتوب فيما بعد فهذه أمنيةٌ زائفةٌ مغلفةٌ بغلافٍ جميلٍ كما تقدم في أمنيةٍ مشابهة، وهذا مسكين لأنه يسوف ويؤجل بالشيء الذي يقدر عليه الآن.
أيها الأخوة: هذا هو المحك في الموضوع، هل الشيء الذي تتمناه من الخير أنت قادرٌ عليه الآن، إذا كنت قادراً عليه الآن، فأمنيتك زائفة وتمنيك بحرٌ لا ساحل له، ولُجةٌ مغرقة إنه من الشيطان، أما إذا كان تمنيك لشيءٍ لا تقدر عليه الآن وهو من الخير فتمنيك عبادةٌ تؤجر عليها، مررت بمسجدٍ فقلت يا ليت لي مثل مال هذا الذي بناه لأبني مثله، سمعت بقصة مجاهدٍ فقلت يا ليتني أقدر على ما قدر عليه من القتال والعلم بفنون الحرب فأنت تؤجر مثلما أُجر وهكذا، هذا الذي لا يستطيع لكن يتمنى أن يكون مثل أصحاب الأعمال الصالحة فتكون الأمنية مركباً يحمله إلى المراتب العالية، أما تمني مجرد طول العمر فقط من دون أن يكون هذا طول العمر لهدفٍ سامٍ ديني يرضي الله فإن هذا التمني الذي ليس فيه هذه الأشياء الطيبة هو من جنس تمني اليهود وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَسورة البقرة96.
ويصور القرآن الكريم طول أمل هؤلاء أصحاب الدنيا وحرصهم على الحياة بصورةٍ تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍأي: حياة مهما تناهت في الحقارة والدناءة والمهانة، يريدون أي حياة أي عيشة وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍوهكذا ينفر المؤمنين من طول الأمل والركون إلى الدنيا ومشابهة هؤلاء لماذا ضرب الله لنا مثل الدنيا في القرآن بأشياء أيله للفناء والذهاب والزوال وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، صار حطاماً مصفراً تذروه الرياح وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا سورة الكهف45،
وكذلك قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ سورة يونس24، هكذا صاحب اللذات والشهوات يزهو بها وقتاً قصيراً فإذا استكمل ماله وحصل على مطلوبه فتلهى به مدة اضمحل عنه وزال، زال صاحبه أو زال النعيم فأصبح صفر اليدين منه ممتلئ القلب من الهم والغم والحزن والحسرة بزواله وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ سورة الرعد26، مؤمن آل فرعون حذر قومه يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ سورة غافر39
فهي متاع مؤقت متاع زائل وهكذا يرى الكفار اليوم ما عملوه من هذه الإنجازات الضخمة، ناطحات سحاب، مصانع، معامل، إنتاج صناعي هائل، الآلات، تقنية، معدات ضخمة، ويقولون: غزونا الفضاء وقيعان المحيطات وفعلنا وفعلنا لكن هذه الآلات والمعدات والأقمار الصناعية والمجسات الفضائية والتلسكوبات الهائلة والغواصات هذه الأشياء إلى أي شيءٍ ستؤول إلى نهاية زائلة ستزول إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَيونس7-8،
عندهم تطويرات في الأطعمة عندهم ثمارٌ يانعة بعيده عن الآفات بزعمهم يزعمون أنهم يطورون في الجينات ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَسورة الحجر3، وللتفريق بين من يأخذ من الدنيا لعمارة الأرض بشريعة الله ويأخذ بأسباب القوة لأجل نصر الدين للتفريق بين هذا وبين الذي يأخذ بأسباب القوة للبغي في الأرض كما تفعل الأمة المجرمة اليوم الصليبية للتفرقة يقول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ سورة هود15-16، يعملون هؤلاء عندهم صناعة الترفيه جميع أنواع الملذات التي تخطر ببالك ولا تخطر، ومنتجعات وأطايب الأطعمة والأشربة والوسائد والأرائك ذاتية الحركة وآلية التحكم، قصر كامل كل شيء بالريموت وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا سورة الأحقاف20 يختٌ فاخر فيه من كل ما لذ وطاب ما يخطر، وما لا يخطر ببال البعض المساكين، أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ سورة الأحقاف20، فالواجب الاعتبار بحال هؤلاء، قال ﷺ: من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمه، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له[رواه الترمذي2465]، "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين : في حب الدنيا وطول الأمل[رواه البخاري6420]، كما قال النبي ﷺ، لا يزال قلبه شاباً بالرغم من أنه صار شيخاً كبيراً، لكن قلبه حيويٌ قويٌ في حب اثنتين: حب الدنيا وطول الأمل، طول الأمل: أن يقول سأعمر، ويقول بعض الناس لأبنائهم وإذا أراد أن يتكلم مع شخص يقول: المستقبل أمامك، المستقبل أمامك، وما يدريك أنه أمامه فقد يموت اليوم، فبعض النصائح مبعثها في قضية أنك ستعيش وتعمر وأنه سيأتي عليك السنوات الطويلة ما كان هكذا النبي ﷺ يفعل مع أصحابه، قال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أخذ النبي ﷺ بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل[رواه البخاري6416]، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"، المنصوح عبدالله بن عمر كان شاباً فتياً في أول أمره ما قال له : المستقبل أمامك، وأنت الآن عشرات السنين ستأتي عليك وإنما قال: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " إذاً حتى عندما نتكلم مع الشبان لابد أن نوصيهم بهذا، وقد يقول قائل هذا كلام تحطيمي، أليس معنى ذلك أنكم تريدون أن تقولوا للشباب لا تعملوا شيئاً لأنكم ستموتون هذه الليلة أو في الصباح، والجواب: كلا؛ لأن النبي ﷺ الذي قال هذا هو الذي قال وأوصى بأن الإنسان إذا كان بيده فسيلة واستطاع أن لا يموت حتى يغرسها فليفعل ثم يموت. [رواه أحمد12902]معنى ذلك أن الإنسان المسلم إذا عمل فهو لا يعمل لنفسه فقط يعمل لمن بعده، يعمل عملاً صالحاً ليجري عليه أثره في قبره، والذي يعمل لنفسه فقط أناني كما يقولون.
إذاً أيها الأخوة: نحن نعمل في صلاح الدين والدنيا لا لأنفسنا فقط، بل للأجيال القادمة أيضاً، نعمل أيضاً لمن بعدنا، ونعمل أيضاً ليأتينا أجر العمل في قبورنا، فلو غرس غرساً ومات لا يأكل منه إنسان، ولا طير، ولا دابة إلا كتب له أجر، وجرى عليه في قبره، وهكذا، لكن أن نقول دائماً المستقبل أمامك، وأنك ستعمر العمر طويل ماذا يدريك، والنبي ﷺ كان ينبه أصحابه الذين يبنون الأبنية إلى مفهوم أنه قد لا يعمر في هذا المبنى الذي يبنيه، فعن عبدالله بن عمرو قال: "مر بي رسول ﷺ، وأني أطين حائطاً لي أنا وأمي، أي: يصلحه بالطين، فقال: ما هذا يا عبد الله، فقلت: يا رسول الله شيءٌ أصلحه، فقال: الأمر أسرع من ذلك[رواه أبو داود5235]رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
لم يقل له: لا تبن، لم يقل له: لا تبن ولم يقل: لا تصلح حائطك لكن أراد منه أن لا تتعلق نفسه بالمبنى، وقال: الأمر أسرع من ذلكيعني: الموت أسرع من فساد ذلك الحائط الذي تخاف فساده وهدمه لو لم تصلحه، فاهتم بإصلاح العمل أكثر من الاهتمام بإصلاح البيت، ما قال لا تصلح بيتك، لكن أراد أن يلفت نظره إلى الاهتمام بإصلاح العمل أكثر من إصلاح البيت، وهذا لب القصيد.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المشتغلين بطاعتك، اللهم قنا شر فتنة الدنيا وفتنة المال يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من المجتهدين في العبادة يا أرحم الراحمين، ولاتكلنا إلى أنفسنا طرفة عين إنك أنت الكريم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
خطورة الأماني
عباد الله:
إن الذي يرى بأن العمر أمامه طويل سوف يؤجل التوبة، إن الذي يرى أن المستقبل أمامه ممتد سوف يؤخر الحج والعمرة، سوف يؤخر العمل الصالح، سوف يقول أنا إذا وصلت الأربعين انتظمت في قيام الليل والصيام، أنا إذا وصلت الستين تفرغت للمسجد، وما يدريك أنك ستصل إلى الأربعين أو الستين، ولذلك فإن طول الأمل في العيش يفسد العمل، طول الأمل يفسد العمل، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً سورة البقرة74، قيل لشخص: صلِ بنا الظهر، جماعة فيهم ناسٌ من السلف أرادوا أن يقدموا إماماً فقيل لأحدهم: صلِ بنا الظهر فتحرج فأصروا فقال: كأنه يريد أن يخرج من المأزق قال: إن صليت بكم الظهر فلا أصلي بكم العصر، يعني يصلي بكم واحد آخر، فقال ذلك العالم الرباني: نعوذ بالله من طول الأمل ما يدريه أنه سيصل إلى العصر.
وكم من شخص تكاملت دراسته الجامعية، وفرح به الأبوان، واستلم الشهادة، وقفل عائداً إلى بلده، وعملوا له حفلة التخرج، واجتمع الأحباب والأصحاب والأقارب، وبينما هو في نشوة الفرح بهذا يحلم بالزواج، وعمل الشركة التي ستقرضه قرضاً مجزياً يبني به بيتاً، فهو يحلم بشكل البيت، وغرفه، وأنواع أثاثه، وزوجته، وماسترتديه من الملابس في ليلة عرسها، وأين سيكون شهر العسل، وماذا سيفعل فيه، وكيف تكون الخطة، وكيف يكون البرنامج والانتقال ما هي المراكب، وما هي الفنادق، وما هي الأماكن السياحية التي سيطوفان بها، كم سيدخر، وماذا سيفعل بعد ذلك؟! يبني استراحة أو بستاناً غير بيت الملك، ثم ماذا يكون يشتغل بتجارةٍ بعد الوظيفة، ويأخذ تقاعداً مبكراً لأجل خوض غمار الأرباح، وهكذا يكون له مؤسسة، أو شركة، وموظفون، وعمال، وأرباح، وعقود، ومقاولات، وشهرة، واسم في البلد، وصيتٌ ذائع، ويخطب ودهُ الأقربون والأبعدون، ويلتف حوله الناس، ويأتي إليه المحتاجون، وهكذا يكون له بين الناس المنزلة والمكانة، عالم الأحلام طويل، ومشوارٌ لا ينتهي، فبينما هو في غمرتها وبحرها إذ جاءه ملك الموت فدخل عليه فقطع عليه حبل أفكاره وأمانيه، وأنزله عن عرش مملكة التمني فأصبح صريعاً، هذه سكتةٌ قلبية وهذه سكتةٌ دماغية وهذه جلطةٌ وهذه وهذه من أنواع موت الفجأة فماذا ستراه يكون في تلك الحال؟!
أيها الأخوة: إن هناك أمثلةً كثيرةً في الواقع على أناسٍ حلموا كثيراً دخلوا في عالم الأحلام وقطعوا مشواراً في الدنيا لكن لم يصلوا إلى شيء، ولذلك من كانت الآخرة همه هذا هو صاحب الربح، من كانت الآخرة همه، انظر في عمرك كم تعمل للدنيا وكم تعمل للآخرة، في اليوم أربع وعشرين ساعة تقول أنام منها ثمان ساعات فماذا يبقى منها بعد ذلك؟! كم منها للدنيا وكم منها للآخرة، هل يغلب عمل الآخرة فيها على عمل الدنيا فيها أم لا؟ لماذا نتصدق بالفتات؟! لماذا نبقي للآخرة البقايا ؟! وأما الدنيا فلها كل النصيب وأوفر النصيب وأحظ النصيب من عملنا وجهدنا، لماذا الغرق في أوديتها؟!
لابد أيها الأخوة أن نفكر ملياً في قضية الآخرة، وحتى هذه الأعمال الدنيوية التي نقوم بها يجب أن ننوي بها وجه الله، فإن كان بيتاً قلنا: يستر به عورته ويواري به أهله، وإن كان وظيفةً، قلنا: ينفق منه على نفسه وولده وعلى والديه وأهله دون غرقٍ فيها ولا اشتغالٍ عن الآخرة، الله لم ينه عن البيع والكسب لكنه قال: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لا تلهيهم هذا هو السر في الموضوع لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُسورة النور36-37.
من خبث اليهود
ولا زلنا نذكر ونحن في هذه الأيام حال إخواننا المساكين في أرض فلسطين تحت الحصار كان سعيداً بزملائه في مدرسة الأمعري للذكور لم يسمع منه يوماً كلمةٌ واحدةٌ تنم عن الضجر وعن عدم الرغبة في الدراسة ولكن عندما توفي والده وكان حينها في الصف التاسع الإعدادي،قال بأنه سيترك المدرسة بالرغم من المعارضة لأنه يرى حال المجاعة قد دنت من أشقاءه الخمسة يتوجه "مراد" بإحساسٍ عجيب نحو العمل سعيداً بالدور الذي أصبح منوطاً به في إعالة أسرته وهو في الإعدادية، ترك المدرسة التي أحبها ووضع ذكرياته الجميلة ذكرياته الجميلة مع أصدقائه جانباً ليتفرغ للمهمة والثغرة التي فتحت واختار حاجز قلنديا مع العلم بأنه يبعد عن مخيمه عدة كيلومترات، لكي يبيع ما يحمله على لوحه الخشبي المتواضع وهذا الابتعاد لشعوره بالخجل لأنه كان لا يريد أن يراه أبناء حارته وأصدقائه يحمل أدوات عيش أسرته فيمشي متعباً هذه المسافة جيئةً وذهاباً كل يوم، قاطعاً أكثر من عشرة كيلو مترات لم يكن يظهر أمام أهله شيئاً من التبرم أو التأفف أو التضجر، وهو يذهب ليبيع يومياً هذا الكعك بالسمسم على تلك اللوحة التي يحملها على رأسه وظهره وفي يومٍ من الأيام الماضية بينما كان عائداً إلى بيته أوقفه ثلاثة جنود يهود كانوا على الشارع الرئيسي وكان خالياً من المارة والسيارة ودافع الحقد الذي تربى عليه اليهود في مناهجهم الدراسية اعتدوا على ذلك الفتى المنهك في عملٍ يوميٍ شاق على ذلك الحاجز بالضرب استخدموا أيديهم وأرجلهم وبساطيرهم العسكرية وأعقاب بنادقهم طيلة ساعةٍ كاملة لم يجد صراخ الفتى ولا توسلاته ودموعه والدماء تغطي وجهه والأنين الذي ينبعث، وكلما علا صراخه زادت شراستهم حتى خار بين أيديهم وبنادقهم وقهقهاتهم ليعبروا بجدارةٍ عن معنى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ سورة المائدة82، وذلك الغل الذي في نفوسهم للمؤمنين ثم تركوه فريسةً تغص بدمائها ملقى على الأرض ليلفظ أنفاسه الأخيرة، هؤلاء الأطفال الذين اضطروا لترك مدارسهم لإعالة أهليهم ببيع هذه الأشياء البسيطة ماذا لو كانوا أولادك أنت ؟! ماذا لو كانوا أولادك أنت ؟! ماذا لو كانوا أهلك أنت ؟! وينبغي أن يكونوا هم أهلك وأولادك فعلاً، ماذا كنت ستقدم أو تفعل لأجل هؤلاء، ومرةً أخرى نحث إخواننا على الصدقة ومد يد العون لهؤلاء المساكين المحتاجين الذين يرزحون تحت الحصار.
اللهم إنا نسألك العون لإخواننا، اللهم فرج همومهم وغمومهم، كن معهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم إنا نسألك لهم الأمن والثبات والرزق يا رب العالمين، ارزقهم الصبر إنك نعم المولى ونعم النصير، اللهم عليك باليهود، اللهم زلزل بهم الأرض وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، اللهم إنا نسألك أن تمكر بهم، اللهم عليك بالصليبين والمشركين اضرب قلوب بعضهم ببعض، اللهم إنا نسألك أن تهلك هؤلاء الكفرة المجرمين وأن تجعل بأسهم بينهم، اللهم أحطهم بعذابك، اللهم أحطهم بعذابك، اللهم إنا نسألك الرحمة للمسلمين، اللهم ثبت علينا الأمن والإيمان في بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.