الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية سؤال أهل العلم
فإن الله قد جعل علينا أمانات، ومن هذه الأمانات أن نعبده وأن نتقرب إليه على حسب ما أنزل إلينا، وأوحى إلى نبيه ﷺ، ومن ذلك سؤال أهل العلم لمعرفة الجواب على الوقائع التي تحصل للإنسان المسلم في حياته، وما أكثرها، في أمور تتعلق بالعبادات في علاقته مع ربه، وأمور تتعلق بالمعاملات في علاقته مع الآخرين، بل في أمور تتعلق بعلاقته مع نفسه حتى في مسائل تتعلق بقضاء الحاجة، وقد قال : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَالنحل: 43.
ولا شك أن من المصائب العظيمة التي تحل بالمسلمين ندرة أهل العلم فيهم، وقلة العلماء، وإن من الخسائر العظيمة ذهاب العلماء وموتهم، وربما يبحث الواحد في البلد في طولها وعرضها في مدينته التي يسكن فيها فلا يكاد يجد عالمًا، وربما وجد طلبة علم، وربما لم يجد، وما حال كثير من الملايين من المسلمين الذين يعيشون في جهل ولا يوجد حولهم من يفتيهم فصار في الناس أزمة تتعلق بالفتوى، فهؤلاء لا يجدون الثقة الذي يفتيهم، وأولئك يبتلون بمتساهلين يفتونهم بالهوى، أو جهلة يخبرونهم بخلاف الأحكام التي أنزلها الله، ولا شك أن سؤال أهل العلم من الأمور التي ينبغي على المسلم أن يهتم بها.
والعلم خزائن والأسئلة مفاتيحها، والسؤال منفذ كبير لطلب العلم، والغرف من بحره، يفتح الآفاق، ويزيل الإشكالات، ويسهل الفهم، قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: أنى أصبت هذا العلم؟ قال: "بلسان سؤول، وقلب عقول".
حقوق العلماء
ولا غنى للمسلم عن سؤال أهل العلم، وهذا السؤال كما أنه مسؤولية فيمن يوجه إليه السؤال وعلى المجيب أيضا، فإن لهذا السؤال أدبا، وينبغي على المسلم أن يعرف أدب سؤال أهل العلم، ليتبع ذلك،
وكلما كان المسئول أعلم وجب التزام الأدب معه أكثر، قال علي : "إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم خاصة، وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تكثر عليه السؤال، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تراجعه إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، ولا تترفع عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء".
وقد قال النبي ﷺ: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا[الترمذي:1919]. والكبير يكون كبير السن، كما يكون أيضا كبير القدر، و قال الشراح: الظاهر أن المراد به الأفضل، ويحتمل الأسن أي الأكبر، قال أبو سلمة: "لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما كثيرا".
الآداب عند سؤال أهل العلم
قال أهل العلم: "على المستفتي أن يوقر المفتي في الخطاب فلا يناديه باسمه مجردا"، ويقرن خطابه له بالدعاء كقوله: ماقولكم -حفظكم الله- أو -رحمكم الله- في هذه المسألة" ويأتي بكلمة مواساة كأن يقول: أرجو ألا أشق عليك في كذا.
ولا يقل للشيخ إذا أجابه: نعم كان هذا رأيي في المسألة أيضا، فإنه ينم عن كبر، ولا يقول: أفتاني فلان بخلاف قولك، فإن هذا ضرب لأهل العلم ببعضهم البعض، وكذلك فإنه لا يسأله في حال الضجر أو الهم أو غير ذلك مما يشغل القلب، فكيف يستطيع المفتي أو الشيخ أو العالم أن يجيب وقلبه مشغول؟ وأنى له أن يفهم السؤال ويفهم الجواب وهو في حال انشغال خاطره؟
وكان بعضهم من أدبه يقدم الورقة التي فيها السؤال مفتوحة منشورة لأن لا يحوج الشيخ إلى فتحها، ويأخذها من يده إذا كتب له الجواب مفتوحة حتى لا يحوجه إلى طيها.
وينبغي اجتناب إساءة الأدب مع المسؤول، فلا يواجهه بكلمات لا تليق، فبعضهم قد يقول بعد سماع الجواب: في ذمتك، أنت متأكد ونحو ذلك، وربما يكون أسلوب الأعراب عقلاء الأعراب ألطف من بعض هؤلاء بكثير، فقد نادى رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبي ﷺ: نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك [البخاري: 63]. وربما يسأل بعضهم شيخا، فإذا جاءه الجواب بدأ بالجواب قاطعه، قال له: لا، أنت لم تفهم سؤالي، انتبه معي، ونحو ذلك، وربما يكون المسؤول قد فهم سؤاله لكونه قد مر عليه عشرات المرات من قبل، فبمجرد بدايته له بادره بالإجابة، والسائل يظن أنه لم يفهم، وحتى أن أحدهم قال لإياس القاضي -العالم المعروف-: أنا أكره فيك ثلاث خصال: ذكر منها أنك تحكم قبل أن تفهم، مع أن إياسا -رحمه الله- من أذكياء العالم، وقضاة الإسلام، ولكن هذا لجهله بحال إياس ظن أنه يجيب قبل أن يفهم.
ومن الأدب أن لا يقاطع الشيخ أثناء الإجابة، فيتمهل حتى ينهي كلامه، ثم يقول: ما يريد من الإستشكال، أو إعادة السؤال، أو سؤال زائد، أو سؤال فرعي، ونحو ذلك.
ولا يستعجل إذا بدأه الشيخ بالجواب على غير سؤاله، فقد يريد الشيخ أن يعلمه شيئا أهم من الشيء الذي سأله عنه، أو أنه يريد أن يأتي له بفائدة قبل جواب السؤال الذي يسأله عنه، وقد سأل رجل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن إطالة القراءة في سنة الفجر، يعني: كيف تكون، وهل هي سنة؟ فقال ابن عمر : "كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة"، وهذا ظاهره أنه لا علاقة له بسؤال السائل، فقاطعه السائل على العجلة، "قال: لست عن هذا أسألك، فقال له ابن عمر: إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث..." [مسلم:749] ومعنى ضخم: إشارة إلى الغباوة وقلة الأدب، وإنما قال له ذلك مؤدبا؛ لأنه قاطعه وعاجله قبل أن يفرغ من كلامه، فإن ابن عمر كان يريد أن يفيد السائل بحال النبي ﷺ في قيام الليل، ثم يتبعه بحال النبي ﷺ في صلاة سنة الفجر التي تكون بعد قيام الليل.
وكذلك فإن عمر لما سمع تميماً الداري يقول في مجلس: "اتقوا زلة العالم، كره أن يقاطعه، فيسأله ما زلة العالم؟ واضطر عمر للقيام، فوكل ابن عباس ليسأله، فقال: إذا فرغ -أي: بعد درسه- فسأله ما زلة العالم؟ ثم قام عمر، فجلس ابن عباس فغفل غفلة، ففرغ تميم وقام يصلي وكان يطيل الصلاة فقال ابن عباس: لو رجعت فقلت -أي نمت القيلولة- ثم أتيته، فرجع، وطال على عمر، فأتى ابن عباس، فقال: ما صنعت فاعتذر إليه، فقال: انطلق وأخذ بيده حتى أتى تميما الداري، فقال له: ما زلت العالم؟ قال: العالم يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب منه والناس يؤخذون به، أي أن هذا قد يخطئ وينتشر خطأه بين الناس ثم يتوب إلى الله من التساهل أو الخطاء الذي أخطأه، والناس لا يزالون يأخذون بالخطاء، فهذه خطورة زلة العالم.
وبعض المستفتين والسائلين يعاملون الشيوخ والمفتين والعلماء كأنهم موظفون عندهم يأخذون أجرا، وأنه لا بد أن يجيب على الهاتف، ولا بد أن يجلس في المسجد، ولا بد أن يكمل إلى النهاية، وكأنه يأخذ مالا منه، وربما يكون هذا من المحتسبين الذين لا يأخذون أجرا أصلا على الإجابات أو على الإفتاء، فبأي حق يلزم بتعطيل مصالحه لأجل آخر.
وكذلك فإنه من الأدب أن يقدم بين سؤاله من العبارات ما يدل على تحرجه إذا كان في السؤال ما يستحيى منه، كأن يقول: إن الله لا يستحي من الحق، ثم يتبعه بذكر السؤال.
وبعض الناس يقول: لا حياء في الدين، وهذا خطأ فإن الحياء من الدين ولا شك، وإنما الصحيح أن يقول: إن الله لا يستحي من الحق، كما قالت المرأة الصحابية لما سألت رسول الله ﷺ ونحو ذلك من العبارات الصحيحة.
وربما يعمد بعض السائلين إلى عبارات فيها قلة حياء، وقلة أدب لا تتناسب مع صاحبه فضلا عن شيخ يسأله.
ثم ينبغي على المستفتي إذا أحس أن الشيخ يريد بجوابه إبعاده عن الموضوع وصرفه عنه، فإن عليه أن يكف فقد تكون المسألة لا مصلحة في إظهار جوابها، أو أنها من المشتبهات التي اشتبهت على الشيخ، أو أن الشيخ يتورع عن الجواب فيها، وربما يقول المجيب: لا أنصح بهذا، اترك هذا، فيحرجه، فيقول: قل: حرام أو حلال، وربما يكون لم يظهر لهذا الشيخ إلى هذه الدرجة القطع بالمسألة، وأنه يريد التورع في الفتوى.
وهكذا لا يلح عليه إذا قال: لا أدري بل يدعو له، ولا أدري نصف العلم، ولا أدري كنز ثمين، ولذلك فربما يحتقر بعض السائلين المسؤول أو الشيخ إذا قال: لا أدري، وكأنه يقول: ولماذا نصبت نفسك للجواب إذا كنت لا تدري؟ ولماذا صعدت المنابر إذا كنت لا تدري؟ ولماذا تقدمت للإمامة إذا كنت لا تدري؟ ولذلك لما سأل أحد الخطباء عن مسألة فقال لا أدري، فقالوا: لا تدري وأنت تخطب بنا، فقال: لقد صعدت المنبر بعلمي ثلاث درجات، ولو صعدته بجهلي لبلغت عنان السماء.
وربما يعمد بعضهم إلى الإغلاظ على المفتين أو المسؤولين، ويرسل له رسالة تأنيب بالجوال ونحوه، أو يقول: إذا لم ترد فلماذا وضعت اسمك في لائحة المفتين، وما يدريه بأنه وضع اسمه، فربما يكون وضع من آخرين، وهذا هو الغالب، ولذلك فإن التعامل مع مثل هؤلاء بمثل هذه الطريقة كأنهم من الموظفين المضطرين الذين يجب عليهم أن يجيبوا في أي وقت، في أي ساعة من ليل أو نهار مهما كثرت الأسئلة، ومهما كثر السائلون بغض النظر عما يكون له من الشغل الخاص به أو مصالح دينه ودنياه، إن ذلك ينم عن عدم تقدير للأحوال.
آفات يقع فيها بعض المستفتين
وكذلك فإن من آفات بعض المستفتين أنه يتبرع بالسؤال لغيره، ولا يأتي بالمعلومات كاملة، فإذا أراد أن يسأل لغيره فليأخذ معلومات كافية أولا، والتوكيل بالسؤال لا بأس به، كما وكل علي المقداد للسؤال عن أمر استحيا منه أن يسأل النبي ﷺ [البخاري:132، و مسلم:303].
وبعضهم يسأل وليس عنده إجابة هو، ليس السؤال واضحا في ذهنه هو، وقد سأل بعضهم أحد العلماء عن يمين حلف به، فقال الشيخ: ما نيتك كذا أو كذا، قال: لا أدري، فقال الشيخ: ليتك إذ دريت دريتُ أنا، لأن الجواب سيبنى على هذا.
وبعضهم يريد حسم قضايا الطلاق بالهاتف، ويلح بالاتصال في هذه المسألة مع أن قضية الطلاق خطيرة، وينبني عليها استحلال عرض، أو الامتناع عن عرض، فهي مسألة عويصة خطيرة، ولابد فيها من سماع كلام الأطراف المختلفة، فلا بد من سؤال الزوج عن حاله أثناء التلفظ بالطلاق، وما نص كلامه بالضبط، وما درجة الغضب التي كانت عنده، ولابد من سؤال المرأة ماذا سمعت من الزوج، أو الشهود حتى لو كانت خادمة ونحوها، يسألون عما سمعوا، فإن التثبت من الألفاظ التي قيلت في الطلاق مسألة مهمة جدا، ولابد من سؤال المرأة عن حالها من ناحية الحيض، أو الطهر، إن هناك فارقا في الإجابة عند بعض أهل العلم: بين أن تكون المرأة واقعها زوجها بعد الطهر ثم طلقها، أو طلقها دون أن يواقعها بعدما طهرت، ولذلك فإن سؤال الأطراف في مسائل الطلاق مهم، فكيف يريد أن يحسمه رجل في سؤال بالهاتف، أو امرأة في سؤال بالهاتف، ولذلك فإن من الحكمة رد مسائل الطلاق والاستفتاءات فيه إلى المحكمة والقاضي، ونحو ذلك من مراكز الافتاء التي جعل من وظيفتها ضبط الواقعة، وكتابة كلام الأطراف الذين حصلت لهم.
وبعضهم يريد الجواب في مثل هذه المسألة الخطيرة على الماشي وبسرعة، وأن يقول: عجل، عجل بالجواب في هذه القضية التي حصل فيها الطلاق لا يقدرون خطورة المسألة.
وكذلك فإن من الآفات ذكر معلومات لا داعي لها في السؤال إطلاقا، ولا تؤثر في الفتوى لا من قريب ولا من بعيد، فتضيع الأوقات في سرد التفاصيل، ولا شك أن معرفة ما هو مهم في الجواب في السؤال أو غير مهم ينبني على فقه، و ينبني على فهم، ولكن هناك أمور واضحة في عدد من الأحيان، وكأنه لا يصدق بأنه قد وجد من يسمع كلامه، ليقول له سائر الأحداث بالتفصيل، وربما لا يكون لها علاقة بالموضوع، كأن يسأل عن شيء حدث بالعمرة فيبدأ عن الحوار بينه وبين زوجته من أجل الذهاب، وهل وجدوا حجزاً أو لا، وماذا حصل في الميقات، وزحمة الحرم، وأنه فقد أهله ثم وجدهم، ونحو ذلك ثم ليسأل في النهاية أنه نسي تقصير شعره بعد العمرة، فماذا عليه؟ فلا بد من تقدير الوقت، ومعرفة أن هناك آخرين من الناس يريدون السؤال، وأن التطويل بهذه الدرجة في ذكر مالا علاقة له يفوت على الآخرين الفائدة، وربما كانوا محتاجين أكثر منه، ولذلك ينبغي أيضا أن يتيح السائل لغيره من السائلين المجال، فيمشي إذا انقضت حاجته، ويفسح لغيره.
وكذلك فإن من الآفات العظيمة حجب معلومات مهمة في عرض السؤال، وهذه خيانة كبيرة كما إذا أخفى أمر طلقتين، ثم سأل الشيخ عن الطلقة الثالثة فقط، ولم يذكر له أنه طلق المرأة من قبل فقد يجيبه على ما يظهر من سؤاله أنها طلقة واحدة، فيقول: وقعت، استرجع المرأة، وأشهد على ذلك، وامضي معها في الحياة، ولكنه لو أخبره بأن هناك طلقتين من قبل لتغيرت المسألة جداً، وكذلك كأن يحلف بعض الورثة، ويقول: مات أبي عن كذا وكذا، ولا يذكر الآخرين فتختلف قسمة الميراث حينئذ، ولا شك أنها خيانة عظيمة، وهؤلاء الذين يخفون بعض الحقائق في الأسئلة عن المسؤولين إنما لا ينفعهم ذلك بشيء، وقد قال الله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْالنساء: 142. ولذلك تجد بعض المفتين يقولون في فتاويهم: إن كان الواقع كما ذكر السائل، فالجواب كذا وكذا، إن كان الواقع كما ذكر السائلمعناها أنه يريد أن يقول: إذا لم تكن هناك أمور مخبئة، أو لم تذكر، أو تفاصيل مهمة لم تعرض، ونحو ذلك،
وقد يقول بعض العامة: إننا لا ندري ماهي المعلومات المهمة من غير المهمة، فهنا لا بأس باللجوء لبعض طلبة العلم من هو أفهم وأوعى لكي يصيغ لك السؤال، لأن صياغة السؤال بحد ذاتها فن مهم وعظيم، فإذا أحسنت الصياغة، واقتصر على المطلوب كان ذلك أوفر للوقت، وأعون على الوصول إلى الجواب الصحيح، وهذا الموضوع -وهو صياغة السؤال قبل سؤال- مهم أن يفكر في صياغة السؤال، أو يلجأ لغيره في صياغة السؤال، فكم يوفر من الأوقات، وكم يعين على الوصول إلى المقصود، هذا بدلا من أن يفاجأ أن الشيخ قد رد عليه بالهاتف، فيقول: نسيت سؤالي عندما فوجئت بردك، أما لو كان كتبه أمامه وصاغه فأحسن صياغته لوفر الوقت، وخرج بالفائدة.
وكذلك فإنه لابد أن يكون مستعداً لتقبل الحكم الشرعي، فإن بعض الناس يسأل وهو خائف أن يجاب بأن هذا حرام أو غير جائز ونحو ذلك، وربما يكاد يغلق سماعة الهاتف مثلا قبل أن يسمع بقية الجواب، يظن نفسه أنه يعذر بعدم سماع البقية، والمسلم يستسلم للحكم الشرعي سواء وافق هواه أو خالف هواه؛ لأننا متعبدون -أيها الأخوة- بالنزول على حكم الله ورسوله، والرضوخ للشريعة، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاالنساء: 65.
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا اتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العامين، الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، أشهد أن لا إله إلا هو العليم الحكيم، وأشهد أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين-، إمام العلماء والأتقياء، علمنا ديننا فأحسن تعليمنا، صلى الله عليه وعلى ذريته وآله وأزواجه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
النهي عن الأسئلة غير المفيدة
عباد الله: إن من الأمور المهمة، أن يسأل الإنسان عما يعنيه، ويترك السؤال عما لا يعنيه وقد قال النبي ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[الترمذي:2317]، وربما يعمد بعضهم إلى فرضيات غريبة عجيبة لا تحصل، أو لا تكاد تحصل، ليسأل عنها مضيعاً للأوقات، قال ابن عباس : "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله ﷺ ما سألوا إلا عن ثلاثة عشرة مسألة حتى ما قبض كلهن في القرآن، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"، سأل رجل الإمام أحمد عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقال له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا، ودخل آخر على الإمام أحمد فسأله عن مسائل نادرة الوقوع ،فلما أراد أن ينصرف، قال له الإمام أحمد: ماذا تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت، قال: ماذا تقول إذا خرجت من المسجد فسكت؟ قال: اذهب فتعلم، وقد كره النبي ﷺ كثرة السؤال، وكره المسائل وعابها، كما في البخاري [رواه البخاري1492]،
والمقصود السؤال عما لا ينبغي السؤال عنه، أو السؤال عما لا يفيد، أو الأغلوطات التي يقصد منها السائل إظهار نفسه، والتعالي على غيره، وقد سأل رجل النبي ﷺ عن اللقطة، قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها هذا الظرف الذي كانت موجودة فيه، الخيط الذي شدت فيه، الكيس الذي وجدت فيه، قال: ثم استنفق بها فإن جاءها ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله فضالة الغنم، قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وهذا لا يعني ترك التعريف، وإنما الغنم لها قيمة فلا بد من الحرص على معرفة صاحبها، قال: يا رسول الله فضالة الإبل، فغضب رسول الله ﷺ حتى احمرت وجنتاه، قال: مالك ولها معها حذائها وسقائها حتى يلقاها ربها[البخاري:2436، ومسلم:1722]، فغضب رسول الله ﷺ من هذا السؤال لما ظهر فيه من التعنت، وقال ابن عمر: "يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن، فإن عمر كان يلعن من سأل عما لم يكن"، وقال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، كأنه يستعرض عضلاته عليه، خبأت لك شيئا صعبا، فقال الشعبي -رحمه الله-: "أخبأها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها".
وهكذا فإن على المسلم أن يحرص على السؤال عما يفيد، وأن يترك التنطع، وكذلك يزجر العالم من سأل عن هذا النوع من الأسئلة، وقد ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله- أن شبطون كان من علماء الأندلس، كان في مجلسه، فأتت إليه ورقة من أحد السلاطين، يسأله عن كفتي الميزان يوم القيامة، الذي توزن به أعمال العباد أهما من ذهب أو من فضة؟ فقلب شبطون -رحمه الله- الرقعة وكتب عليها من الخلف، قال ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وكان السلف يوبخون عن مثل هذا، فإذا سأل عما لم يقع قال: دعنا عن هذا حتى يقع، وسل عما وقع، فهذه الافتراضات البعيدة تترك، وإذا حصلت في الأمة ونزلت وفق الله لها من يجيب، الآن على هذا النحو البارد لا تتحرك الهمم والأذهان، وتشحذ للإجابة، ولكن إذا وقعت الواقعة، ونزلت وصارت شيئا حقيقيا، وفق الله من علماء الأمة من يتصدى لها.
وسأل رجل عراقي عائشة -رضي الله عنها- أي الكفن خير؟ قالت: "ويحك وما يضرك"، أي إذا مت أن تلف بها.
وكذلك فإنه ينبغي التجرد في طرح السؤال عن البواعث والأمور السيئة، فربما يسأل بعضهم لإحراج الآخرين، وربما يسأل بعضهم ليأخذ الجواب فيذهب ليقلع به عين فلان بزعمه، ونحو ذلك ليس ذلك من المقاصد الشرعية في الأسئلة، وإنما أن يسأل لمعرفة الأحكام، وإفادة الناس، ونقل ما ينتفعون به إليهم.
وكذلك فإنه ينبغي الحذر من إشغال أهل العلم بالأمور التافهة: كأسئلة المسابقات التي يعمد بعض الناس إلى إشغال هواتف المشايخ بمثلها، وإنما كان ينبغي عليهم أن يبحثوا هم لمعرفة الجواب، ولهذا وضعت هذه الأسئلة أصلا.
وكذلك فإن على السائل أن يحرص على عدم إضجار الشيخ، وتغيير خلقه، وقد حصل هذا لبعض العلماء، فكان بعضهم من أحسن الناس خلقا، لم يزالوا به حتى ساء خلقه، ولذلك عنونوا في كتب الأدب كراهة إملال الشيوخ، ولما سئل مالك -رحمه الله- عن سؤال ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع فلما أراد أن يسأل عن الخامس، قال: "ياهذا ما هذا بإنصاف"، وكذلك دخل بعض طلبة الحديث على مالك -رحمه الله-، قالوا فحدثنا بسبعة أحاديث فاستزدناه، فقال: من كان له دين فلينصرف فانصرفت جماعة، وبقيت جماعة، فقال: من كان له حياء فلينصرف، فانصرفت جماعة، وبقي جماعة، فقال من كانت له مروءة فلينصرف فانصرفت جماعة، وبقيت جماعة، فقال: "يا غلمان أخرجوهم، فإنه لا يبقى على قوم لا دين لهم ولا حياء ولا مرؤة" وقال بعضهم لمن أكثر عليه: إنك لثقيل لذلك ينبغي التلطف للوصول إلى المقصود، فإن التلطف والإتيان في الأوقات المناسبة، ولو تكرر فإنه يؤدي إلى تحصيل علم كثير.
والمهم -أيها الأخوة- النية الحسنة وقد قال النبي ﷺ: من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار[رواه الترمذي[2654]. فهذا الحديث الصحيح يبين حكم الذين يسألون لتعجيز الشيخ، أو للإفحام، أو لاستعراض العضلات، والتباهي، أو ليبين أن عنده طرفاً من الجواب، ونحو ذلك من إساءة الأدب، وإساءة النية قبل ذلك، ولهذا ينبغي سؤال الله الإخلاص في القول والعمل‘ وأن تكون النية الطيبة هي الباعث‘ والاستفادة من الأمور المهمة جداً‘ ولما رزقنا الله في هذا الزمان هذا الهاتف الذي قرب البعيد ويسر الأمور، بحيث لو لم يكن عندك في بلدتك عالم تسأله لأمكن أن تسأله بالهاتف وهو في بلد آخر، نعمة عظيمة كانوا من قبل يمشون لأجلها المسافات الطويلة جداً، يركبون الإبل لأجل مسألة، يسافر أسبوع وأسبوعين وشهرا، وعندك الآن هذا الهاتف فلا تجعله نقمة، ولا تستعمله في معصية، ولا تجعله للإزعاج، وإنما اشكر نعمة ربك بهذا الهاتف، لأجل أن تصل إلى المطلوب، فاتصال في وقت مناسب، وتأدب في السؤال، وعدم اضاعة الوقت في الاستغراق عن السؤال عن الأحوال والصبر على المجيب، وتجهيز مسبق للأسئلة.
وكذلك فإننا لا بد أن ننبه نساءنا عندنا عندما يسألن بالهاتف أن لا يخضعن بالقول، وأن يسألن بقدر الحاجة، وأن لا يطلن في المقدمات، وأن لا يتكسرن ولا يتميعن أثناء الكلام، قال الله –تعالى-: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًاالأحزاب: 32. وعدم التبسط، وإزالة الكلفة في هذه المحادثة، فإنها لا تأمن ماذا يقع من جراء كلامها، فينبغي تحريص النساء على هذا.
نسأل الله أن يجعلنا من الأتقياء الأنقياء الأخفياء، ومن البررة العاملين بكتابه وسنة نبيه ﷺ، اللهم إنا نسألك توبة نصوحا ومغفرة عامة تغفر بها ذنوبنا وخطايانا، لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا عسيرا إلا يسرته ، اللهم أنزل بطشك باليهود والصليبين، اجعل بأسهم بينهم، اللهم اكسر حملاتهم وأرغم أنوفهم، اللهم خالف بين كلمتهم وألقي الرعب في قلوبهم وأتهم من حيث لا يحتسبون، اللهم اضرب قلوب بعضهم ببعض، اللهم اجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين، اللهم نسألك الهداية لنا ولإخواننا يا رب العالمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالصافات:180-182.