السبت 13 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 14 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مسؤولية المسلم عن سمعه


عناصر المادة
الخطبة الأولى
السمع أساس العقل وأصل الإيمان
كيف يكون تفاعل السمع مع الواقع؟
سماع القرآن من أعظم عبادات السمع
الغناء ينبت النفاق في القلب
الخطبة الثانية
ما هو حكم السماع؟
استماع هموم الآخرين والموظفين وتفريجها أجر عظيم

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب 70-71.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

السمع أساس العقل وأصل الإيمان

00:01:21

يقول الله في محكم تنزيله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً سورة الإسراء36.ولما أعطانا الله هذه النعم فإنه سيسألنا عنها يوم القيامة، فيما استخدمناها؟ وفي أي مجال استعملناها؟ والسمع أيها الإخوة من نعم الله العظيمة، وهو أكبر مدخل إلى القلب، ومن يفقد السمع فهو أسوأ ممن يفقد البصر، فإن عقله يضعف جداً، بل غالباً ما تجده في عداد المجانين، والسمع طريق عظيم لاكتساب العلم، والمدرك بحاسة السمع أعم وأشمل من المدرك بحاسة البصر، فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، فالسمع أساس العقل، وأصل الإيمان، وقد أمر الله بالسماع فقال تعالى: وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْسورة المائدة 108.وقال : وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُواسورة التغابن 16. سماع يترتب عليه إدراك وفهم وقبول وإجابة لنداء الله ، إن إخواننا المؤمنين من الجن لما سمعوا كلام الله ، أدركوا معنى ذلك القول، فقال الله تعالى عنهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِسورة الجن 1-2.  فاتصل بسمعهم لكلام الله إيمان وإجابة، ويترتب على السمع كذلك ومما هو مطلوب من السامع الفهم لكلام الله سبحانه، وكلام رسوله ﷺ، هذا الفهم الذي حُرِمَه كثير من العصاة والفجرة، فضلًا عن الكفار، فشبههم الله بالموتى فقال : فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء سورة الروم 52. وهذا هو سماع الفهم، وأما سماع القبول والإجابة فإنه يتمثل في قول الله : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا سورة البقرة 285. فترتب على السماع طاعة الله ، ولذلك كان من علامات أهل الباطل أنهم يسدون أسماعهم عن سماع الحق، ولذلك كان نوح قد تعب مع قومه تعبًا شديدًا وهو يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهى الله عنه، ولكن قابلوا ذلك بسد الآذان وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ سورة نوح 7. وبمثل هذا الإعراض قابل الكفار من قريش دعوة رسول الله ﷺ، وهذا القرآن الذي تلي عليهم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِسورة فصلت 26. ولما صعّد كفار قريش حملاتهم الإعلامية على دعوة رسول الله ﷺ، كانوا يقفون على مداخل مكة، فمن جاء من خارج مكة ليدخل مكة استلمه أولئك الضلال المضلون، فقالوا له: إياك والفتنة، إياك وأن يؤثر فيك الساحر المجنون، إياك وكلام الكاهن، الذي فرق بين القريب وقريبه، وأتانا بما لا نعرف، سفّه ديننا، وعاب آلهتنا، فمن أثر تلك الحملات الإعلامية: أن بعض الداخلين إلى مكة كان يحشو أذنيه كرسفًا -وهو القطن-؛ حتى لا يسمع كلام رسول الله ﷺ، إن الجاهلية تحارب الحق بشتى الوسائل، إنها تحارب الحق عبر الوسائل المختلفة، حتى تجعله في أعين الناس باطلًا، وحتى تصور دعاة الحق كأنهم ثعابين سيلدغون الناس، وتصور دعاة الحق كأنهم سحرة سيسحرون الناس، وتصور دعاة الحق كأنهم مجرمون يريدون أن يغووا الناس، ولذلك ترى كثيرًا من المتأثرين من سفهاء الناس بأقوال شياطين الإنس يحشون آذانهم فعلًا! حتى لا يسمعوا كلام دعاة الإسلام، ويعرضون عنهم بشتى الوسائل، ولئن كان الأولون يحشون آذانهم كرسفًا حتى لا يسمعوا الحق، فإن آذان كثير من الناس اليوم قد حشيت بوسائل اللهو والإلهاء والانشغال بالمحرمات عن سماع الحق وأهل الحق، والله وصف الكفرة بقوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا سورة الأعراف 179.

لماذا لا يسمعون؟ هل لأنهم ليست لديهم آذان؟ كلا إن لهم آذانًا ولكن لا يسمعون بها الحق أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ سورة الأعراف 179. لماذا شبه الله الكفرة بالأنعام؟ ولماذا وصفهم بأنهم أضل من الأنعام؟ لأن بعض الناس عندما يسمع كلام الله، وعندما يسمع الحق فإنه لا يأنس به، ولا ينقاد له، وإنما يعرض عنه إعراضًا شديدًا، أما البهائم أما الغنم فإنها إذا سمعت حادي الراعي، ونعيق الراعي بها فإنها تأنس لصوته، وتستجيب له، وتنقاد إليه، فتجيء إلى الراعي وهو يدعوها، فالأنعام أفضل من هؤلاء؛ لأنها تأنس بالصوت وتأتي، أما أولئك فهم يفرون ويبعدون وما أكثر أحوال الناس اليوم في هذا الجانب، فليتهم يسمعون الحق ثم ينقدونه لو شاءوا، ولكنهم يرفضون سماع الحق من البداية، وإن رفض سماع الحق من البداية مشكلة عويصة، إذ كيف تحاول أن تهدي الناس إلى سبيل الرشاد وهم يرفضون سماعك أصلًا؟! كيف يستجيبون وهم يوصدون الأبواب في وجهك من البداية؟! كيف يتبعونك وهم يطردونك ويأمرونك بالسكوت قبل أن تتكلم؟! وكثير منهم يقولون نحن نعرف ما تريد أن تقول ونحن سمعناه قبلك، ولكن لا فائدة، لا تحاول معنا.

كيف يكون تفاعل السمع مع الواقع؟

00:09:53

والسمع أيها الإخوة جاء في الدين تفاعله مع أحداث الواقع، هذا السمع يجب أن يكون حيًا متفاعلًا مع الواقع، ومع أحداث الواقع، ولذلك ترى بعض الأحاديث الآتية عن رسول الله ﷺ تبيّن هذا التفاعل: إذا سمعت النداء فأجب داعي الله[رواه الطبراني 304].حديث صحيح إذا سمعت النداء فأجب داعي الله حي على الصلاة، حي على الفلاح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول[رواه البخاري 611 ومسلم 383]. إذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله[رواه البخاري 3303 ومسلم 2729]. إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله[رواه أبو داود 5103].من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا[رواه مسلم 568]. والتفاعل مع سماع الأخبار أمر مهم من سمع بالدجال فلينأ عنه[رواه أبو داود 4319]. لا يقل أنا أتحداه، لا، يقول الرسول ﷺ: فلينأ عنه وليهرب منه، فإن الرجل يأتيه ويظن أنه مؤمن، فإذا قابله انقلب إلى الكفر، -والعياذ بالله- إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها[رواه البخاري 5728].

فإذن أيها الإخوة: المطلوب من المسلم عندما يسمع الأخبار: أن يتفاعل معها، عندما يسمع نبأ عن انتصار المسلمين أن يحمد الله، ويسأل الله المزيد، ويدعو لإخوانه بالتثبيت والنصر على الأعداء، إذا سمع أنباء تفيد شراً حصل بالمسلمين، وعذابًا وقع بهم، وتشريدًا حصل لهم، ونكاية أو تعذيبًا، فإن عليه أن يتفاعل مع هذه الأخبار -إن كان في قلبه إيمان- ولو بالدعاء لهم، فإن المؤمن يألم لأهل الإيمان، إن المؤمن في أهل الإيمان كالعضو من الجسد، إذا اشتكى عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، إن التفاعل مع الأخبار التي تسمع: يوجب تأييدًا ودعمًا، إن التفاعل مع المنكرات التي يسمع الإنسان عنها في حيه وفي بلده ينبغي أن توجب له تحركًا لدرء هذا المنكر، وتغييره، والأخذ على أيدي السفهاء، إن الناس اليوم الذين يسمعون أحوال المنكرات فلا يتغير في أنفسهم شيء كالأنعام بل هم أضل، إنهم  يسمعون الأحداث لكن لا يتفاعلون معها.

سماع القرآن من أعظم عبادات السمع

00:13:42

ومن أعظم العبادات أيها الإخوة! المرتبطة بالسماع: سماع القرآن فهذا السماع حاد يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات، وأرفع الدرجات،، ولذلك كان رسول الله ﷺ يأمر أحد الصحابة أن يقرأ فيسمع لقراءته، ويقول: إني أحب أن أسمعه من غيري [رواه البخاري 4583 ومسلم 800].  وكانت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في سماعهم للقرآن إذا جلسوا في جماعة: أن يتحلقوا فيأمروا واحدًا منهم يقرأ، ثم يستمع الباقون، والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله وسماع كلام محبوبه فإنه يتفاعل مع كلام الله، وأما من امتلأ قلبه من محبة الشياطين واللهو، فإنه يقبل على سماع اللهو والغناء، وحرام على قلب قد تربى على غذاء السماع الشيطاني أن يجد من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبيل الصوت المشترك، بمعنى أيها الإخوة: بعض الناس اليوم إذا فتحوا الإذاعة فوجدوا قارئً يقرأ في الإذاعة، وقد يكون هذا القارئ من الذين يلحنون القرآن بحسب ألحان الأغاني، -والعياذ بالله- ويأتي بالإيقاعات في قراءته كإيقاعات الأغاني والموسيقى، بل إن بعض من سمع  أخبار بعض المقرئين الذين يقول رسول الله ﷺ في شأنهم: إن أكثر منافقي أمتي قراؤها[رواه أحمد 6633].حديث صحيح.

وفي حفلات الغناء للمطربات المشهورات تجد في الصف الأول نفرًا من المشتهرين بقراءة القرآن تذاع أصواتهم يجلسون في تلك الحفلات؛ لكي يكتسبوا إيقاع تلك الأغاني فينقلوه إلى قراءتهم فيما بعد، -والعياذ بالله- بعض الناس اليوم قد يتفاعل مع قراءة القرآن، مع سماع القرآن، لكن أي نوع من أنواع التفاعل؟! إنه يطرب لصوت القارئ ولكنه لا يتفاعل مع المعنى، ولذلك تجد هؤلاء يتأوهون بالآهات الطويلة بعد فراغ المقرئ من مقطع أو آية، تأوهات تدل على الطرب والنشوة، ولكن ليس لله، لا لمعنى القرآن، وإنما للحن الجميل الذي أعجبهم فتأوهوا عند سماعه، ولذلك كان لا بدّ من انتقاء المقرئين الذين إذا قرأوا القرآن تأثر الناس بقراءتهم تأثيرًا بالمعنى، خشعت قلوبهم لذكر الله، وليس أن تخشع أسماعهم وغرائزهم لجودة الألحان، والإيقاعات الموسيقية في القراءة، ولذلك ذم السلف التمطيط في القراءة، ولذلك أيها الإخوة! تجد بعض الناس اليوم يقتنون أشرطة مسجلة، لبعض المشهورين من القراء فيسمعونها، نعم في بعض الأحيان، ولكن لأن الصوت شجي جميل فيه ألحان وإيقاعات، فعليكم أن تقتنوا من أصوات قراء القرآن ما يؤثر في النفس تأثيرًا إيمانيًا، يتفاعل مع معنى القرآن.

الغناء ينبت النفاق في القلب

00:18:32

وأما السماع المقابل لسماع القرآن: فهو سماع الشيطان، وهو الغناء، الذي ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، وما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى، يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه وتبرمهم به -يتبرمون من سماع القرآن- وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأ، فلا تتحرك ولا تخشع، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله كيف تخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع طيب السهر، وتمنى طول الليل".

أيها الإخوة: إن كثيرًا من ابتلي بسماع الأغاني يسهرون الليالي ويطربون في سماع تلك الأغاني.

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاه
وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فهل شهدت عبادة بملاه
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواه

لماذا لا يحبون سماع القرآن؟ لأن القرآن يمتلأ بالأوامر والنواهي، والنفس تريد الخفة لا تريد أوامر ونواهي، وتقييدات وتكاليف، تريد أن تنتشي، وأن تخف من هذه الأشياء، وتنطلق وتتحرر، ولذلك يسمعون الأغاني أكثر  مما يسمعون  القرآن.

فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النشوان عند تلاه
فاحكم بأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله

النشوة الحاصلة بالقرآن أم النشوة الحاصلة عند سماع الأغاني؟ ولأنه ليس موضوعنا أيها الإخوة الآن الكلام على الغناء فنكتفي بهذا القدر، وإلا فإن أثر الغناء في نفوس العصاة اليوم أثر عظيم، يستخف به العصاة وهو يدمر نفوسهم تدميرًا، ويسد عليهم الطرق لسماع كلام الله، والتأثر به، ولذلك فإن الله عوض أهل الجنة الذين امتنعوا عن سماع الملاهي في الدنيا، بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة في الجنة، إن الحور العين ليغنين أزواجهن أغاني جميلة جداً، لا تقارن بأغاني أهل الدنيا، من امتنع عن سماع الأغاني في الدنيا سيعوضه الله بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة، كما أن من امتنع عن شربالخمر في الدنيا فسيعوضه الله بشرب خمرة لا كخمر الدنيا يوم القيامة.

ومن امتنع عن لبس الحرير ممن حرم عليه في الدنيا فسيعوضه الله بلبس الحرير يوم القيامة، ومن امتنع عن الزنا في الدنيا فسيعوضه الله بالحور العين يوم القيامة، وبالزوجات الصالحات، وبالقدرة على الجماع، حتى أن أحدهم يُعطى قوة مائة عذراء.

أيها الإخوة: لا تظنوا أنكم إذا حرمتم أنفسكم اليوم  شيئًا من المحرمات التي حرمها الله أن ذلك سيضيع، قال الله عن أهل الجنة: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ سورة الروم 15. ومعنى  يحبرون أي: يسمعون سماعاً طيباً.

نسأل الله أن نكون من أهلها، اللهم اجعلنا من أهل الجنة، وأعلِ مراتبنا فيها.

 أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

00:23:10

الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يكن له شريك في الملك، ولا ولي من الذل، وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً.

ما هو حكم السماع؟

00:23:31

أيها الإخوة: وأما حكم السماع فهو بحسب المسموع: فإن كان المسموع يحبه الله، فقد يكون واجباً، أو مستحباً، وإن كان يبغضه الله فهو محرم، وإن كان مما سكتت عنه الشريعة فهو سماع مباح، ولهذا أمثلة كثيرة فمن السماع الواجب سماع القرآن وخصوصاً في الصلاة، ومنه قول الله فيما يصف به المؤمنين: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُسورة القصص 55. وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، هذه الكلمة كلمة اللغو، تشمل: جميع المحرمات، بل والمكروهات من المسموعات، ولذلك كان من الأمور المحرمة سماع الكذب لأخذه، والتصديق به، وسماع الغيبة، وسماع النميمة.

ومن المسموعات كذلك المذمومة: ما ذم الله تعالى في كتابه نفراً، فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْسورة التوبة 47. ومعنى سماعون لهم: مستجيبون لهم، واليوم يقدم كثير من المسلمين أن يعيروا آذانهم لأعداء الله ؛ ليسمعوا منهم الباطل، ويسمعوا منهم ما يقال عن دعاة الإسلام، ويسمعوا منهم الشبهات التي تحاك وتدار حول الدين، إنهم يسمعون منهم الأوامر التي فيها هدم للدين، والله نهى عن الركون إليهم، وعن الاستماع إليهم.

وكذلك من أنواع المسموعات المحرمة المخربة تخريباً شديداً في المجتمع المسلم: سماع الوشاة، الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الأخ وأخيه، الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الملتزم بدينه ومن يلتف حوله، الوشاة الذين يريدون أن يخربوا المجتمع الأخوي المسلم، إن على الواعين من المسلمين وغير الواعين أن يعوا هذه المسألة، وهي قضية سماع الوشاة، وسماع الوشاة له أمثلة كثيرة، وصور عديدة، بعض الناس لا يدققون فيما يسمعون، ولا يطلبون البينة على الاتهامات الباطلة التي يسمعونها، بل إنه يعطي سمعه لكل أحد صادقاً أو كاذباً، وهذا أيها الإخوة أمر خطير، يُؤدي إلى اتهام البريء، وقد يؤدي كذلك إلى تبرئة المذنب، وكم من بيوت قد خربت وعلاقات قد فصمت وانقطعت بسبب سماع كلام الوشاة؟

ومن المسموعات المذمومة كذلك: سماع الصوفية المنحرفين، من الغناء والألحان التي أوردنا ذكر بعضها، بل إنهم يوهمون غيرهم من السذج أنهم يسمعون الجماد، وأنهم قد وصلوا إلى مستويات إيمانية عالية، قال القشيري أحدهم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا، قال: تقول الله الله، انظروا إلى هذه الخرافة، وإلى هذه التراهات التي ينطق بها هؤلاء، ولئن كنتم لا تسمعون أنتم في واقعكم مثل هذه الخرافات، فإن في بيئات أخرى ومجتمعات أخرى أناس عندهم هذا الغلو وأضعافه، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً يقظاً وهو يسمع مثل ذلك الكلام.

استماع هموم الآخرين والموظفين وتفريجها أجر عظيم

00:28:43

وما أحسن أن يستمع المسلم إلى شكوى أخيه المسلم! أن يستمع الموظف مثلاً إلى شكوى مراجع فيقضي له بالحق وينصفه، وكثير من الناس الذين أُكلَت حقوقهم اليوم إنما سبب ذلك عدم سماع شكاويهم، وعدم إنفاذ الحق فيها، ولذلك لا بدّ من سماع شكوى المظلوم، وإحقاق الحق له، وما أحلى أن يسمع الأخ المسلم الهمّ الذي يعتلج في نفس أخيه فيفرج همه! وما أحلى أن يسمع ما يدور في خاطره من أنواع الهموم فيسري عنه! وما أحلى أن يسمع مشاكله فيحل له تلك المشاكل! ويوجد له العلاجات والحلول لهذه الأشياء التي يعاني منها.

إن السماع والإنصات مهم جداً في إيجاد الحلول للناس، فعلى دعاة الإسلام أن يفقهوا هذه المسألة، وإن سماع كلام أهل العلم من أقرب العبادات إلى الله ، فبها تزول ظلمات الجهل والشك والريبة.

والحديث طويل أيها الإخوة في أنواع السماع، ولكن وصيةٌ أخيرة نوصي بها أنفسنا جميعاً ونحن نعيش في أتون الجاهلية المحرق، التي يراد من ورائها إسماعنا أشياء لا نريد سماعها، بل إنه حتى على مستوى البيت فإنك تجد إنساناً شاباً قد التزم بدين الله، فيأتي فاسق من الفسقة في ذلك البيت فيرفع صوت الأغنية مثلاً إلى أقصى حد؛ نكاية بذلك الملتزم بدينه، وحتى يسمعه رغماً عنه، وهنا لا بدّ أن يستعيذ المسلم بالله من شر ما يسمع، وما يفرض عليه أن يسمع، وما يراد منه أن يسمع لكي يسير في سبيل الشيطان، و يعتصم بالله، فكأنه موجود وغير موجود، فهو في عزلة شعورية عن هذا الواقع الفاسد، لا يسمع المحرمات، ويحاول أن يشغل نفسه بسماع الأشياء الطيبة، وأن يعتزل تلك المجالس، ولذلك فرق علماؤنا بين السماع والاستماع، ولمَّا تحدث ابن القيم رحمه الله عن قصة ابن عمر، لما كان يسير فسمع مزمار راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ذلك، قال: ولا يجب على كل مسلم أن يفعل هذا، بل إنه إذا وجد في نفسه نفرة من ذلك -إنسان يسير في الشارع فسمع غناءً من بيت، لا يجب عليه أن يغلق أذنيه بإصبعيه- ولو فعل ذلك لكان أمراً محموداً، ولكن ما دام أنه يحس بنفرة مما يسمع وبكراهية لما يسمع، فهو لا يستمع لها ولكنه يسمعها، هو لا ينصت لها ولا يتأثر بها، أما إذا أحس في قلبه تأثراً، وأنه وجد في قلبه ميلاً للسماع فبدأت مرحلة الاستماع، فإن عليه أن يغلق أذنيه، وعليه أن يهرب من ذلك المكان بأسرع وقت ممكن.

اللهم يا عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم واجعل ما نسمع من طاعتك، اللهم وأبعدنا عن المحرمات من المسموعات، اللهم وافتح أسماعنا لكل من يريد أن يخبرنا بحق، أو يدلنا على حق، أو يأمرنا بحق، اللهم وأغلق آذاننا أمام كل من يريد أن يجرفنا إلى منكر، أو يسمعنا منكرًا، اللهم واجعلنا من عبادك الذين يخشونك بالسر والعلانية، اللهم واجعلنا ممن أحببتهم وأحبوك، واقذف في قلوب عبادك حبنا، واجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك.

وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

وصلى الله على نبينا محمد.

1 - رواه الطبراني 304.
2 - رواه البخاري 611 ومسلم 383.
3 - رواه البخاري 3303 ومسلم 2729.
4 - رواه أبو داود 5103.
5 - رواه مسلم 568.
6 - رواه أبو داود 4319.
7 - رواه البخاري 5728.
8 - رواه البخاري 4583 ومسلم 800.
9 - رواه أحمد 6633.