الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
خطر الحسد
فإن الله قد حذرنا من الحسد وشر الحساد، وقال موصياً بالاستعاذة من ذلك: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَالفلق:1-5، وبين أن اليهود حسدونا لأن الله آتانا من الفضل مالم يؤتهم، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْالبقرة:109، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِالنساء:54.، وهذا الحسد من أمراض النفوس، هذا الحسد: الذي هو البغض والكراهة لما يراه الحاسد من حسن حال المحسود، تارة يكره أن يرى نعمة عليه أصلاً، وتراه يكره أن يتفوق عليه، وأن يتميز عليه، وهذا المرض يجعل صاحبه لا يلتذ إلا إذا رأى النعمة قد زالت عن المحسود، وإن لم تنتقل إليه، وبعضهم يتمنى أن تزول عن المحسود وتنتقل إليه، والثاني أعقل من الأول، وإن كان في البشر كثير من الصنف الأول الذي يتمنى أن تزول النعمة عن المحسود ولو لم يأته مثلها ولو لم تصل إليه.
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم، فمثلاً: لا ترى المجاهد في سبيل الله الذي وضع نفسه وماله في الخطر لا تراه يحسد، لماذا؟ لأنه في تعب عظيم، ومشقة شديدة، وخطورة كبيرة، وإنما تحسد النفوس على النعمة التي يرون صاحبها يعيش في حال سهلة كصاحب المال، أو يعيش في سؤدد، وشرف، ومنزلة كصاحب الشرف والمكانة بين الناس.
والحسد إنما يحصل لمن له مكانة في العادة، ولا يحصل لأحد الناس المغمورين ولو كانوا يتنعمون أكثر في داخل بيوتهم أكلاً وشرباً ونكاحا.
وقد قال الحكيم: "لا يخلوا جسد من حسد", فهو قليل أن يسلم منه إنسان، وقد قيل: إن أول الذنوب التي عصي الله بها: الطمع، والكبر، والحسد.
فأما الكبر: فإنه ذنب إبليس الذي تكبر على السجود لآدم قائلاً: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍالأعراف:12.
والطمع: الذي أدى بآدم أبينا إلى الأكل من الشجرة، ومعصية الله -تعالى- عندما نهاه عن الأكل منها.
والحسد: هو الذي أدى بابن آدم إلى قتل أخيه قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، فحسده، وأدى به الحسد إلى قتله، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَالمائدة: 27.
وهذا الحسد -يا عباد الله- الذي يجعل كثيراً من الناس يكيدون للمحسودين، قل لي: بربك لماذا تنطلق الوشايات حول أشخاص معينين؟ ولماذا تشوه سمعتهم في كثير من الأحيان؟ إن هو إلا بسبب الحسد، وكذلك الغيبة وما يجري مجراها من الذم والقدح في الأعراض، وهكذا تجد أصحاب النفوس المريضة إذا لم يستطيعوا أن يصلوا إلى منزلة إنسان فإنهم لا يزالون يكيدون له، ويدبرون له المؤامرات.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه | فالناس أعداء له وخصوم |
كضرائر الحسناء قلن لوجهها | حسداً وبغياً أنه لدميم |
وهكذا لما لم ينالوا سعي ذلك الرجل، ولم ينالوا منزلته سعوا للإيقاع به، وصاروا أعداء له وخصوم كما أن الضرائر للزوجة الجميلة يقلن عن وجهها إنه ذميم قبيح مع أنه ليس كذلك، لماذا؟ من أجل الحسد.
فهذا الحسد هو الذي يدفع للعدوان؛ ولذلك حرمته الشريعة، وقال النبي ﷺ: لا تحاسدوا[مسلم:2559]، لماذا قال: لا تحاسدوا؟ لأن الحسد في كثير من الأحيان يدفع إلى البغي، والظلم، والاعتداء، والايذاء، والإيقاع بالمحسودين؛ فينال صاحبه العذاب يوم القيامة، ويطاله لأنه بحسده أدى إلى أن يعتدي على أخيه المسلم.
وهذا الحسد أصله في القلب ولكن له امتدادات في الخارج، وتصبح الأعضاء تعمل إرضاء لنفس الحاسد، وتسكينًا لجمرة الغضب المتوقدة في قلبه، حسداً على أخيه، وكذلك في تسكين الألم؛ فإنه لا يزال يتألم وهو يرى صاحبه يتقلب في النعمة، والناس يأتون إليه، وله المنزلة، وكذلك فإنه لا يزال يكيد لأجل أنه يأكله الغيض من داخله، فكان الحسد في شريعتنا محرماً، وكذلك في شرائع الأنبياء.
علاج الحسد
وهذه قضية في حكم رباني، وحكمة إلاهية، هذا الحسد الذي يجعل الإنسان لا يهدأ له بال، ولا يقر بنوم، ولا يرتاح عندما يرى غيره من أصحاب النعم؛ ولذلك كان من أصول العقيدة الرضا بالقضاء والقدر، وأن الإنسان يرضى بما قسم الله له، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍالزخرف:32، وهذا القسم وهذا الرفع من الله -تعالى-، ولذلك كان من علاج الحسد أن يلتفت الحاسد إلى هذه العقيدة، وأن يعتني بها، وأن يرضى بما قسم الله -تعالى- وقدر، هذا مع سعيه في الأخذ بالأسباب التي تنفعه وترفعه وتجعله يحصل على ما يريد بما يرضي الله ، ولذلك ترى من أدنى الناس نفسًا أن يكون كسلان وصاحب حسد، فهو لا يريد أن يجاهد ويعمل ويتعب لأجل أن يصل، ولا يريد من الآخرين أن يصلوا فهو كسول حسود حقود؛ ولذلك كان هذا من أردأ المنازل.
لقد أثنى الله -تعالى- على الأنصار، لأي شيء -أيه الأخوة- ؟ قال : وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُواالحشر:9، أي مما أوتي المهاجرون من الفضل والمنزلة، فهؤلاء الأنصار -رضوان الله تعالى عليهم- لم يجدوا في أنفسهم حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون من الفضل والمنزلة، فإن من أنفق قبل الهجرة أعظم ممن أنفق بعدها.
ومن كان يضحي في أول الإسلام لما كان المسلمون في قلة، وعيلة، واضطهاد، وإيذاء من الكفار أعظم ممن حصل منه أمور من هذا بعد ذلك، وكذلك من هجر الأوطان، والبلدان، والأولاد، والأهل لله -تعالى- وهي منزلة المهاجري أعظم ممن كان يعيش في أهله، ووطنه، وبلده، ومسكنه.
ولذلك كان المهاجرون في الجملة في الفضل أعلى من غيرهم، فهل وجد الأنصار في نفوسهم حسداً أو حقداً على إخوانهم المهاجرين الذي فضلهم الله -تعالى- بالهجرة؟ كلا؛ ولذلك مدحهم الله، وأثنا عليهم, وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌالحشر:9.
ثم -أيه الأخوة- إن هذا الحسد يدفع إلى الظلم، فانظر ما ذا فعل بإخوة يوسف لما حملهم حسدهم لأخيهم في منزلته عند أبيه على أن حملوه، وأخذوه وطرحوه في الجب، وألقوه، وتسببوا في بيعه بثمن بخس، وأخذه رقيقاً، ودخوله السجن، وسائر الابتلاءات التي حصلت له بسبب حسدهم، هو في الأصل الذي حملهم على ذلك، وجعلهم يفعلون ما فعلوا؛ ولذلك فإن الإنسان المسلم ينبغي أن يحذر من هذه الآفة، وقد قيل للحسن البصر -رحمه الله-: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك أخوة يوسف لا أبا لك! ولكن عمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولسانا"، ولكن - هذا كلام عظيم من الحسن -رحمه الله- فيما يفعله الحاسد إذا وجد من نفسه حسدا- قال: ولكن عمه في صدرك: أخفه، وغوره، واذهب به بعيداً، وإياك أن يطفح على السطح، أو أن يخرج إلى الخارج فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولسانا، فإما إذا تكلم الحاسد أو فعل بيده وجوارحه فإنه عند ذلك يأثم ويعاقب.
فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر ويكره ذلك من نفسه، أي أن الحاسد يكره هذا الذي وقع منه من الحسد، ويأنب نفسه ويوبخها، كيف يقع فيها مثل هذا لأخيه المسلم؟
الدفاع عن عرض المحسود
وكثير من الناس الذين عندهم دين من الحاسدين لا يعتدون على المحسود، ولا يعينون من ظلمه، ولكنهم لا يقومون بالواجب عليهم من الدفاع عنه، نبه على هذه النكتة العظيمة شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو يجد ما يجد من حسد الحاسدين من حوله الذين لما رأوا منزلته بين الناس تتعاظم، وأنهم يأتون إليه زرافات ووحدانا، وأن البلد قد اجتمعت عليه، وأن فتاواه قد طارت في الآفاق، وأنه كان وراء تنظيم الجيوش للجهاد، وإنكار المنكرات، والإصلاح بين الناس، لما وجدوا تلك المنزلة العظيمة اشرأبت إليه أعناق أهل البلد، واجتمعوا حوله كادوا له، وحسدوا، ووجد أن بعضًا من هؤلاء من أهل الدين لم يعتدوا عليه ولكنهم لما ظلم لم يدافعوا عنه، لقد أحس بهذا فهو يكتبه من تجربة، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود، ولا يعينون على ظلمه، ولكنهم لا يقومون بما يجب من حق أخيهم المسلم فلا يدافعون عنه ضد من ظلمه، ولا يطبقون الحديث النبوي في نصرة المظلوم.
وكذلك لا يمنعون من ذمه في المجالس واغتابه، ولا يدافعون عن عرضه إذا انتهك، وكأنهم يقولون بلسان الحال لا بلسان المقال: لم آمر بها ولم تسؤني، جاءت من غيري، وهؤلاء مذنبون في بخس حقوق أخيهم المسلم، هؤلاء معاقبون لأنهم لم ينصروا المحسود؛ لأن الله -تعالى- يوم القيامة ينصر في ذلك الموقف العظيم من نصر أخاه المسلم في الدنيا، ويرد النار عمن رد عن عرض أخيه وذب، وهكذا.
وأما من يتساهل في هذا فإنه يكون يوم القيامة في موقف عصيب مالم يكن له حسنات ماحية أو عفو من الله -تعالى-؛ ولذلك فإن على الإنسان إذا أحس في نفسه بحسد تجاه أخيه المسلم أن يقاوم ذلك، وأن يدافع عنه، ولا يرضى أن يظلم، ومن اتقى الله وصبر، ولم يدخل في الظالمين، ولا مع الظالمين، نفعه الله بتقواه ورفع منزلته وقدره.
وتأمل -يا عبد الله- في قصة زينب -رضي الله عنها- أم المؤمنين كانت تنافس عائشة في المنزلة، أقرب زوجات النبي ﷺ لمستوى عائشة زينب، والحسد بين الضرائر معروف، وكثير غالب، لا سيما وهن يتنافسن في أمر واحد، ورجل واحد، والمرأة تغار على زوجها إذا وجدت المنافسات لها؛ لأن شيء من حضها يفوت بالمشاركة، والمسألة واضحة، فلما تكلم المنافقون في عائشة، ورموها بالإفك، وسرت الشائعات، وتكلم من تكلم ما ذا فعلت زينب -رضي الله عنها-؟ كانت فرصة للاندفاع وراء مشاعر الغيرة، والنيل من هذه الضرة، ولكن عصمها الله بتقواها، فلم تتكلم في عائشة بكلمة واحدة، ولهذا رفع الله قدرها، وكانت أسرع زوجات النبي ﷺ لحوقاً به، فإنه قال في آخر عمره: أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يدا[مسلم:2452]، فكن بعد موته يقفن عند الجدار يتطاولن ينظرن أيهن أطول، ولم يدر بخلدهن أن المقصود ليس الطول الحسي وإنما طول آخر، طول الباع في عمل الخير، وكانت زينب -رضي الله عنها- امرأة فقيرة لكنها تحب الصدقة، فكانت تعمل بيدها، وتبيع، وتتصدق على المساكين، فرفع الله منزلتها بسبب صبرها عن الحسد، وعدم الانزلاق في ذلك الداء الذي لا يحلق الشعر، وإنما يحلق الدين.
الحسد بمعنى الغبطة
أيها المسلمون: إن بعض الناس يتحركون في الخير عندما يرون الآخرين يتحركون في الخير، وهذا طيب إذا لم يؤد إلى عداوات ومصادمات، والمنزلة الأعلى من هذا أن يتحرك الإنسان في الخير حتى ولو لم ير غيره يتحرك.
إن عمر سعى لمنافسة الصديق في الخير امتثالا لقوله -تعالى-: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَالمطففين:26، وكان الصديق صاحب خير ذاتي، لا يحركه عمل الآخرين بقدر ما يتحرك هو من نفسه، ولعمر من ذلك نصيب أيضاً، ولكن فاق أبو بكر عمر -رضي الله عنهما-، ولذلك قال العلماء في أن الذي يتحرك في الخير دون أن يرى الآخرين يتحركون - ولم حصل له الباعث من رؤية الآخرين، وإنما تحرك هو تلقائياً وذاتياً- أنه أعلى منزلة وأفضل في الخير، وأرسخ قدماً في الدين.
وهذا ما يجعلنا نلتفت إلى الغبطة المحمودة، وهي المنافسة في الخير، وتمني الخير للآخرين، رجل آتاه الله علماً يقضي به بين الناس، ويعلمه، ويعمل به، ورجل أتاه الله مالاً ينفقه على هلكته – أي يفنيه في الحق، وفي سبيل الله – ورجل أتاه الله القرآن فهو يقرأ به آناء الليل، وآناء النهار.
هؤلاء حقاً الذين يغبطون، وليس الغبطة في أمور الدنيا، فلو قال قائل: ما حكم أن أتمنى غنى مثل غنى فلان؟ فنقول: لا بأس بذلك إذا لم تتمن زوال النعمة عنه، ولكن ليس هذا هو الذي حثنا الشارع على المنافسة فيه والتمني، وإنما حثنا على التنافس في الخير لا في الدنيا، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ المطففين:26، بعدما ذكر من أحوال الصالحين والمجتهدين ما ذكر.
أيها الأخوة، أيها المسلمون: إن هذه القضية الخطيرة -وهي قضية الحسد- من الأمور التي تودي في المهالك، خصوصاً وأنه يقع حتى من بعض الصالحين، بسبب قلة التقوى، وضعف نفس، واستيلاء الغفلة في لحظات الحسد، عندما يقع من الإنسان شيء لأخيه المسلم فإذا فاقك إنسان في دين أو خير أو صلاح، فنافسه في الخير والصلاح، ولا تتمنى أن يسلب صاحب العلم علمه، ولا أن يسلب صاحب الدعوة نشاطه في الدعوة، إياك وإياك !
وكذلك لا تتمنى أن يسلب صاحب التفوق الدراسي تفوقه، ولا صاحب الوظيفة العالية وظيفته، ولا صاحب المال ماله، ولا صاحب الاستقرار العائلي والسعادة الزوجية سعادته، إياك وإياك -يا عباد الله- إن ذلك محق في حياتك، ومعصية لله، وعقوبة يوم الدين.
اللهم طهرنا من الغل والحسد والبغضاء، واجعل نفوسنا سليمة لإخواننا المسلمين، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو البر الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا هو ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
حال أبنائنا في الامتحانات
أيها الأخوة: وعلى مشارف نهاية العام الدراسي الذي يخوض فيه كثير غمار الامتحانات؛ فإن قضية الحسد بين الطلاب أمر واقع، فينبغي أن ينتبهوا لذلك.
ثم إن قضية الأساليب المشروعة وغير المشروعة من أجل الامتحانات قضية خطيرة وحساسة؛ ولذلك فإننا نتساءل أحياناً لماذا يلجأ كثير من الطلاب إلى الأساليب غير المشروعة؟ من أجل النجاح، بحثاً عن أسئلة الامتحانات، وسعياً في كشفها، أو شراءاً لها، أو غشاً في قاعات الاختبارات، ونحو ذلك. لماذا؟
الكسل، الإهمال، اللامبالاة، يسعون للنجاح بغير بذل جهد، يريدون ثمرة بغير بذل سبب، إن ذلك وبال عليهم، ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الإخوان والأبناء بحديث النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز[مسلم:2664]، احرص على ما ينفعك وليس على ما يضرك في الدنيا والآخرة، احرص على ما ينفعك يعني ابذل الأسباب المؤدية إلى النتائج، الأسباب المشروعة المؤدية إلى النتائج الطيبة، احرص على ما ينفعك ابذل الأسباب، واستعن بالله يعني لا تتكل على نفسك، ولا على جهدك، ولكن اتكل على الله، فلا تتكل على مذاكرتك، ولكن اعتمد على الله مع بذل الأسباب، سبحان الله ما أنفع هذا الحديث في الحياة استعن بالله ولا تعجز، لا تعجز عن اتخاذ الأسباب المشروعة، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.
إنه مما يسوء -أيها الأخوة- أن تكون هناك حالات كثيرة من هذه الأمور، إن الأمة الغشاشة لا تفلح، وإن الذين يريدونها سهلة من غير تعب لن يفلحوا، وإن هذه النتائج الغير المبنية على حقائق لن تنفع، بل إنها ستكون حبراً على ورق، ولن يشعر معها الشخص بطعم ولا لذة حقيقية، كيف وهو يعرف أنه أخذها بغير سبيل شرعي؟ بغير تعب، بغير فهم، بغير جد وحرص على ما ينفع.
ولا بد أن تكون الأمانة قائمة في الجميع طلاباً ومدرسين لأجل الوصول إلى التعليم الصحيح، والهدف المنشود، والقضية المرجوة من وراء التعليم، والتربية قبل التعليم.
لقد أحزنني كثيراً قصة قصها علي مدير مدرسة، قال: ذهبت بالطلاب في استعداد لحفلة خارج وقت الدوام المدرسي، وتدريبات في المدرسة خارج وقت الدوام المدرسي، ولما انتهينا من التدريبات، وأردنا الانصراف، أذن المؤذن للصلاة، فقلت للطلبة: ستنتظرنا الحافلات أمام باب المدرسة ريثما نصلي ونركب، وكان معي خمسة وستون طالباً من القسم الثانوي، كم صلى معي منهم؟ صلى معي منهم اثنان فقط، فقط، فتصور، وتأمل، وتفكر -يا عبد الله- خمسة وستون طالباً من أبناء المسلمين لا يصلي منهم إلا اثنان فقط، وأنت تعلم أن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر.
إننا إذا -أيها الأخوة- أمام قضية خطيرة في التردي والانهيار، ولا بد من المسارعة إلى الإنقاذ، ولا حل إلا بالدعوة إلى الله، والإقبال على الدين، والتوبة إلى الله، أما أن يعرف أولئك الله في أيام الاختبارات، ولا يعرفونه في غيرها، وربما صار بعضهم لا يعرفه حتى في أيام الشدة، كحال مشركي هذا العصر بالمقارنة بحال مشركي قريش الذين كانوا يعرفون الله في الشدة، فإذا نجاهم إلى البر إذا هم يشركون، ولكن من كفر بعض الناس وعنادهم أنهم لا يعرفونه حتى في أوقات الشدة.
وإن من العيب الكبير أيضاً أن ترى الطالب منهمكاً في الأمور العلمية التي يسمونها علمية من هذه الدنيويات، ولكنه لا يلقي بالاً للمقررات الدينية الشرعية، ولا يحرص على مذاكراتها، ويستخف بها، هذا حال كثير من الطلاب، توحيد، فقه، حديث، تفسير، سهل كله ينجح فيه، وهكذا صار الانطباع سائداً عند الطلاب أن المواد الدينية تافهة، وأنه ينجح فيها بغير جد كبير وعناء، وترى التركيز والاهتمام في قضية الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء. هل سمعت -يا عبدالله- في حياتك بطالب أتى بمدرس خصوصي ليشرح له المقررات الدينية؟ قد يقول: إنني أفهمها، ولا تحتاج إلى شرح، وبالفطرة تأتي، ولكن هل الحقيقة هي كذلك ؟ هل جربت -أيها الأب- أن تمسك بكتاب التوحيد مثلاً في المرحلة الثانوية أو المتوسطة وتوجه أسئلة إلى ولدك لتعرف ماذا يفقه من التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
ثم -أيها الأخوة- ما هو الحكم الشرعي في إلقاء كتب المواد الدينية في البراميل الخضراء بعد انتهاء الامتحانات، وفيها الآيات، والأحاديث من كلام الله -تعالى-، وحديث نبيه ﷺ، وشرح العلماء عندما تلقى في براميل القمامة، وعندما تلقى في الشوارع يدوسها الناس، والمارة، والسيارات ما هو الحكم في هذا؟ أليس منطوي على استخفاف، أليس نوعا ًمن الازدراء، والاحتقار لما في هذه الكتب ؟ أليس من الممكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة جداً على العقيدة؟
ولذلك فإنني أؤكد -أيها الأخوة- على مسألة الاهتمام بالمواد الدينية الشرعية فهمًا، وتعلماً، واحتفاظًا بكتبها، ومحافظة عليها، وعدم استخفاف بها؛ فإنك في قبرك لا تسأل عن فيزياء ولا كيمياء، ولكن تسأل في العقيدة: من ربك ؟ ما هو دينك؟ من هو نبيك ؟ وإنك تسأل يوم القيامة أيضًا في هذه الأمور.
وإذا كنت ممن لا تحتاج إلى هذه الكتب فلا أقل من الصدقة بها، أو إرسالها إلى من يحتاجها، وإنني أدعو الهيئات الخيرية إلى تبني مشروع لجمع الكتب الدينية من الطلاب في نهاية السنة التي لا يحتاجون إليها، وبدلاً من أن يكون مصيرها إلى براميل القمامة يكون طريقها إلى المسلمين في العالم الذين ربما يتمنون شيئاً مطبوعاً فيه حقائق عن دينهم.
خصوصاًً وأن هذه الكتب الدينية والشرعية -والحمد لله- لدينا فيها خير عظيم، ومنهج سوي، ومعلومات موثوقة.
وأوصي الطلاب أن لا يدرسوها لأجل الدرجات فقط وإنما يرجوا وجه الله -تعالى-، الطالب المسلم في دراسته لهذه المواد.
تصور -يا أخي- أن أحد الطلاب الذي اهتموا بالمواد الدنيوية في دراستهم الثانوية حتى أتى فيها بأعلى الدرجات، وأهمل المواد الدينية حتى قارب فيها حد النجاح فقط؛ لأنه عندما يسافر إلى الخارج سيعادلون له المواد الدنيوية فقط، فأرسل بشهادته رفقة طلب إلى جامعة من الجامعات في الخارج في بلاد الكفار، فردت الجامعة بالاعتذار عن قبوله، لماذا؟ وذكروا في حيثيات الرد والرفض قالوا: إننا لا حظنا أنك في المواد الدينية منخفض الدرجات، وهذا يعني أنه ليست لديك أصالة، وليس لك ارتباط بجذورك مما يجعلنا نشك في صلاحياتك أصلاً للدراسة لدينا؛ لأن الذي لا يهتم بجذوره وأصوله لا خير فيه.
قال هذا الكلام نصارى كفار كفرة الذي رد عليه، انتبه إلى القضية، كافر قال: أنت ليس لك اهتمام واضح بجذورك وأصولك، وهذا يعني أنه لا يرجى أنه يكون فيك أهلية، ليس لك أهلية لأن تدرس ما دام ليس لك اهتمام بالجذور والأصول.
نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً إنه سميع مجيب، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارفع الظلم عن المسلمين، اللهم اطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحمل حافيهم، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم أن تنصر المسلمين في فلسطين وغيرها يا رب العالمين، اللهم اخز اليهود الذين فتحوا نيرانهم على المسلمين، اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، اللهم اخزهم وشردهم وشرد من خلفهم ممن يوالونهم يا رب العالمين.
وإن إخواننا في فلسطين وغيرها يحتاجون إلى الدعم، وتحتاج تلك الأسر الفقيرة إلى الصدقات، ولذلك فلا ننسى إخواننا المسلمين في فلسطين والشيشان وغيرها من بلاد المسلمين دعاءً ونصرة وصدقة وتأييدا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالصافات:180-182.