الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء:1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-710.
أما بعد:
الشريعة تتشوف إلى بقاء المودة بين المسلمين
فقد جاءت هذه الشريعة بالأمر بالتحاب بين المؤمنين، وسلامة صدور بعضهم لبعض، كونوا عباد الله إخوانًا ووفرت الشريعة كل فرصة فيها تقوية لرابطة الأخوة، كما نهت عن كل أمر فيه إيذاء لهذه الرابطة.
ما هو القلب السليم؟ هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد، والشح الكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبر الله، ومن كل شهوة تعارض أمر الله، وسلم من كل إرادة تزاحم مراد الله، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله.
عباد الله: إن هذه الشريعة جاءت فيما جاءت به إصلاح ذات البين؛ لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين؛ لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْسورة الأنفال:1وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي ﷺ: ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم[رواه مسلم:54]، كل هذه الإجراءات لسلامة؛ الصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي، وقيل للنبي ﷺ: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد[رواه ابن ماجة:4216]وهو حديث صحيح.
عباد الله: لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجدُ تقطع العلاقات، وتجهم الوجوه، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به تصفية القلوب والنفوس، ومراعاة المشاعر، وقد قال الله تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْسورة النور:28 علم الله تعالى أن بعض الناس إذا استأذن فلم يؤذن له، وقيل له: ارجع أنه قد يجد في نفسه، على أخيه صاحب البيت، فقال الله تعالى معزيًا، ومسليًا، حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية عن أخيه المؤمن، قال: فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ، فسلاه وعزاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه، إذا رجع لما يقال له: ارجع، ولذلك كان بعض السلف، يفرح إذا قيل له: ارجع، ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعد الله هو أزكى لكم.
وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها، قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَسورة الحجر:47 فأهل الجنة لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا، كما جاء في صحيح البخاري -رحمه الله-، سلامة الصدر، سلامة القلب، طهارته من الغل والحقد للمسلم، هذه راحة ونعمة؛ ولذلك أكدت عليها الشريعة، حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية، فإن سلامة صدر المسلم لأخيه من أعظم الأسباب لتحقيق ذلك، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل، وقيام ساعاته، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه، وقد وصف العلماء -رحمهم الله- أخلاق أهل العلم فقال: لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه، ونهاه عما يكره مولاه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره؛ إبقاء على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين، في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم عن أحد من العباد، هذا دأب طالب العالم، والداعي إلى الله، والمتمسك بالدين، هذا حاله ، وهذا خلقه، لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهم في غاية الأهمية قال الله : وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواسورة الحشر:9. لما فضل المهاجرون على الأنصار.
سلامة الصدر علامة لصدق الإيمان
كانت قلوب الأنصار سليمة لإخوانهم، ولم يعترضوا على تفضيلهم، ولم يحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وإنما كانت الأنصار كما قال الله: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَة مِّمَّا أُوتُوا، أي: مما أؤتي إخوانهم المهاجرون من الفضل وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ لو كان بهم حاجة مع ذلك يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره، عن أنس بن مالك قال: "كنا جلوسًا مع الرسول ﷺ فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة[رواه الترمذي:3694]، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلّق نعليه في يديه الشمال، فلما كان الغد قال النبي ﷺ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي ﷺ مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي ﷺ تبعه- أي: تبع الرجل الممدوح- عبد الله ابن عمرو بن العاص- فقال للرجل: إني لاحنت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤيني إليك حتى تمضى- أي هذه الأيام الثلاث- فعلت؟ قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليال الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ وتقلب على فراشه ذكر الله ، وكبّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مرت الثلاث ليال، وكدت أن احتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول لك: ثلاث مرار، يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأرد أن أهوي إليك؛ لأنظر ما عملك فاقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ﷺ؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إيّاه، لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إيّاه، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق! حديث صحيح، هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق، إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائمًا سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش، ولا حقد، ولا حسد على أحد من إخوانه، إنه أمر بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، من وفقه الله له حصل له.
نماذج من سلامة الصدر عند الرعيل الأول
كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يلتمسون إزالة أي شيء يحصل في صدر الواحد على أخيه، لما أتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال في نفر، قالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر مستدركًا، لعله يطيب خاطر الرجل الذي يرجى إسلامه، قال أبو بكر: "أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم! لعلها عبارة أراد أن يتألف بها قلب الرجل! فأتى النبي ﷺ فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم[رواه مسلم:2504]، لعلك أغضبت إخوانك من أجل هذا المشرك! لعلك أغضبت إخوانك لخاطر هذا الكافر! - قبل إسلامه - يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك! فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، يا إخوتاه، أأغضبتكم؟! وجدتم في أنفسكم شيئًا عليّ؟! قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي، لا ما أغضبتنا، ولا وجدنا في أنفسنا شيئا، يغفر الله لك يا أخي، رواه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، فهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه أن يسارع لتطيب خاطره، والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفًا يدخل في قلب أخيه شيئا عليه، وغير قابل، ينبغي على من أعتذر إليه أن يقبل العذر، وأن يسارع إلى تطيب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة، يغفر الله لك يا أخي.
لقد كانت المناشدة بأسلوب غاية في المحبة، يا إخوتاه أغضبتكم؟ تلك أخلاق الصديق -رضي الله تعالى عنه-، وقد قال ابن عباس أيضا كلمات تدل على صلاح قلبه لإخوانه لجميع المسلمين، لما شتمه رجل قال له: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم ، ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي ﷺ بأن يعلمه الله القرآن، ففتح الله على ابن عباس أشياء كثيرة، في تفسير كتابه، كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مرّ بها، ولم يكن له يتمنى أن يتفرد بالعلم؛ ليكون بارزًا بينهم، متميزًا عنهم، وإنما يتمنى أن كل المسلمين يعلمون منها ما يعلم، ثم قال: "وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين- أي: القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين؛ لأنه عادل أفرح لوجوده بين المسلمين ولعلي لا أجد فرصة ولا علاقة بي بهذا الرجل ولا أتوقع أن أعرف قضية لي عليه ثم قال ابن عباس: وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلد من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي به من سائمة، لا غنم ولا زرع في تلك البلد، ولكنني أفرح؛ لأن مطرا أصاب بلدًا من بلاد إخواني من بلاد المسلمين فانتفعوا به.
هذه أخلاق ابن عباس، وأما أبو دجانة لما دخل عليه وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل له: مال وجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا، وعن أبي حبيبة قال: دخلت على علي وعمران بن طلحة بعد وقعة الجمل، استشهد فيها طلحة، فرحب بي، ثم أدناه، ثم قال لولد طلحة يطيب خاطره، بعد مقتل أبيه، يقول علي لولد طلحة: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَوهكذا مر علماء هذه الأمة، مروا على هذا الطريق، طريق سلامة صدر المسلمين، فهذا شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- كان فيما يجمع من الخصال سلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدًا عليه، قاموا ضده، بل سعوا في سجنه، وألبوا عليه الحكام، ومع ذلك كان ممسكًا للسانه، وممسكا لألسنة أصحابه أن تنال أحدًا من أهل العلم، فقال في رسالته التي بعثها من السجن، قال لهم، قال لأصحابه، خارج السجن، وهو يتوقع أن صدورهم تغلي الآن على أولئك الذين كانوا سببًا في إيداعه في ذلك السجن، يقول: تعلمون -رضي الله عنكم- أني لا أحبّ أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلا عن أصحابنا بشيء أصلا، لا ظاهرا ولا باطنًا ، ولا عندي عتب، لا حظ: على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل هم عندي من الكرامة، والإجلال، والمحبة، والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل، إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا أو مذنبًا.
فالأول: مأجور مشكور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد معفو عنه، مغفور له، والثالث: المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، لا تتكلموا بأي عبارة، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أؤذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!، قال ابن القيم -رحمه الله-: كان بعض أصحاب ابن تيمية الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي كابن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد من خصومه قط، بل كان يدعوا لهم، وجئته يومًا مبشرًا بموت أكبر أعدائه، وأشدّهم عداوة له من أصحاب المذاهب، فنهرني وتنكر لي، واسترجع، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أخبرت بموت رجل! ثم قام من فوره إلى بيت أهله، أي: أهل الميت، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له، وقال ابن مخلوف- وكان من أشدّ الناس عداوة لابن تيمية -رحمه الله- بل أفتى بقتله- كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجج عنا، ذلك أن الأيام قد دارت، وتولى السلطان الناصر، وقرّب شيخ الإسلام، وأراد أن ينتقم له من أعدائه، ممن أمر بسجنه، ولكنه -رحمه الله- أبى ذلك وقال: :إن قتلتهم من أين تأتي بمثلهم؟ وهم علماؤك، ونحو ذلك من الكلام حتى سكنه.
التحريش وظيفة إبليس في جزيرة العرب
عباد الله: إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، كلمة قالها النبي ﷺ لأصحابه، إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العربفي ذلك الوقت قال هذه الكلمة، ولكن في التحريش بينهم[رواه مسلم:2812]، فالشيطان هو الذي يئز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ هذا قلبه غيظًا على أخيه، فلنحرص على تجنب عداوة اللعين، الذي طرده الله من رحمته وأبعده إلى يوم الدين، ولنعلم أن كل حقد أو حسد مصدره هذا الشيطان، وكذلك لنعلم أن الحقد على المسلم أو الحسد له يعرض الإنسان لرد عمله، وحرمانه من الفضل العظيم، قال النبي ﷺ: تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئًا إلا امرئ كانت بينه وبين أخيه الشحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا[رواه مسلم:2565]. رواه مسلم، فلذلك المشاحن بأخيه يحرم من المغفرة يوم الإثنين والخميس بسبب الشحناء وبسبب التلاحي حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين تلاحى فلان وفلان فرفعت، كما أن هذا الحقد بين المسلمين سبب لسوء الخاتمة الحقد على المسلم قال ﷺ: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجره فوق ثلاث فمات دخل النار [رواه أبو داود:4914] وهو حديث صحيح.
نسأل الله أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين.
اللهم طهر قلوبنا من كل غل وحقد وحسد وغش، اللهم اجعل قلوبنا تقية نقية، واجعلها سليمة يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلب سليم، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنك رؤوف رحيم ، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين- وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أسباب التباغض وطرق علاجها
عباد الله: إنه ينبغي الكف عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر: الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين أحقاد بسببهما، وكم جرى من انفصام عرى الإخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حريًا بالمسلم أن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، وكم من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض اللحم المستورد وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًاسورة الحجرات:12وكذلك لنتنزه عن تتبع العثرات، وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: كان هنا- يعني: بالمدينة- أناس لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم، وكانت أناس لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس فبقيت عيوبهم، وذكرت من بعدهم، ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان، كما قال النبيﷺ: يبصر أحدكم القذة في عين أخيه وينسى الجذع في عينهرواه ابن حبان:5761 فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت وينسى أخطاءه هو وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة المراء والجدل والنقاش العقيم، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سببًا في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يونس الصدفي -رحمه الله-:" ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذًا الخلاف في الرأي لا يفسد للود بين المسلمين قضية، ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهب، أو قبيلة، أو حزب، أو جماعة، أو شيخ، أو شخص، تقليدًا أو حمية، من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ومن نصب شخصًا كائنًا من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا"، فكان دائمًا التعصب سببًا عظيمًا لوقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وقال الشيخ ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين، وصيروا أهله شيعًا، كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليه، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى، سواهم، يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والدين واحد، والرب واحد" ولذلك كان لا بدّ من ترك هذا التعصب، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل، والفهم السليم.
عباد الله: إن التنافس في الدنيا من الأشياء التي توغر الصدور، التنافس على صفقة، لماذا حرمت الشريعة بيع المسلم على المسلم؟ وشراء المسلم على المسلم؟ وسوم المسلم على المسلم؟ حتى في حال المساومة لا يجوز أن تدخل بينه وبينه؟ وخطبة المسلم على خطبة أخيه؛ لأن الشريعة تريد المحافظة على صدور المسلمين نقية، وقال ﷺ: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تدابرون ثم تتباغضون[رواه مسلم:2962]، قال هذا لما بشرهم بما يفتح عليهم من فارس والروم، وكذلك فإن حب الرياسة هو من أعظم أسباب الحقد على الإخوان، قال الفضيل -رحمه الله-: "ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحدًا بخير" ثم إن هناك بعض الأمور التي يتساهل فيها بعض الناس، ولها صلة وثيقة بقضية اختلاف القلوب، مثل اختلاف الصفوف في الصلاة، عدم تسوية الصفوف، ترك الفرج، التقدم والتأخر، عدم الإتمام من الجانبين، قال النبي ﷺ: لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم[رواه البخاري:717، و مسلم:436]
وينبغي على المسلم أن يترك كل ما يمكن أن يكون سببا للعداوة، كالمزاح الثقيل، والنجوى بين اثنين التي تحزن الثالث، وليكن الشعار الدعاء دائمًا وأبدًا، بأن يجعل الله قلبه سليمًا قال الله: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌسورة الحشر:10.
عباد الله: إن الهدية تذهب وحر الصدر كما قال النبي ﷺ: تهادوا تحابوا[رواه البيهقي:11946] فلو كان بين إنسان وأخيه شيء فأهدى له هدية، فلا شك أن مثل هذه الهدية كفيلة -في الغالب- بإذهاب ما أوغل، فهذه من العلاجات الشرعية.
الفرق بين سلامة الصدر والسذاجة
عباد الله: إن بعض الناس لا يفرق صاحب القلب السليم الطيب، وبين الإنسان المغفل الساذج، ويظن أنه عندما يقول: فلان قلبه طيب، يعني: مغفل وساذج، وأن الدعوى إلى أن يكون الشخص طيب القلب، سليم القلب، يعني: أن يكون مغفلا ساذجًا! كما يقولون: على نياته، فما هو الفرق بين المغفل والساذج؟ وبين الإنسان سليم الصدر، طيب القلب، الذي ننشده ونتحدث عنه؟ قال شيخ الإسلام -رحمه الله- "القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، إذًا، ليس أن يكون مغفلًا أمرًا مطلوبًا، أن يكون الإنسان مغفل لا يدري عن طرق أعداء الله، ولا يدري عن وسائل المجرمين.
المجرمون لهم وسائل في اصطياد الناس للمخدرات وأوكار الرذيلة، وجر الناس إلى الفساد، ومهم بالذات في هذا الوقت، في هذا الزمان، أن يكون المسلم واعيًا، منتبهاً، فكثير من الناس قد جروا إلى فاحشة، وجروا إلى مسكرات ومخدرات، جروا إلى محرمات بسبب الغفلة والسذاجة.
مغفل لا يدري عن طرق أهل الشر، وليس هذا هو سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده، نعم، ربما يكون حاله في الإثم مختلفًا عن حال القاصد الذي يعلم الشر وينجر إليه، ولكن المسلم ينبغي أن يكون نبيهًا غير مغفل، قال ابن القيم -رحمه الله- معقبًا على كلام شيخ الإسلام الذي قال فيه: "فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه، لا يمدح به، عبارة ذهبية، أما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به قال ابن القيم: الفرق بين سلامة القلب والبله والتغفل، أن يكون أبله مغفل، الفرق بين سلامة القلب وبين أن يكون أبله مغفل، أن سلامة القلب تكون مع عدم إرادة الشر بعد معرفته، بعد معرفة الشر، فيسلم قلبه من إرادة الشر وقصد الشر، لا من معرفته والعلم به، هذا بخلاف البله والغفلة، فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا نقص، لا يحمد به صاحبه، فالأمر كما قال عمر : "لست بخب ولا يخدعني الخب" وكان عمر أعقل من أن يخدع، وأورع من أن يخدع، قال عمر : "لست بخب، يعني لست بلئيم، ولا مخادع، لست بخب، ولكن في نفس الوقت الذي لست بخب، قال عمر: "ولا يخدعني الخب" لست بخب ولا يخدعني الخب، وكان عمر أعقل من أن يخدع، وأورع من أن يخدع، فهذا الذي نريد ، نريد مسلمًا يعرف طرق الشر، ويعرف أهل الشر، وهو نبيه، حذر، فطن، ولكنه لا يريد شرًا بأحد، ولا يخدع أحدا، فإذا وصل المسلم، وصل المسلمون إلى هذا الحد فهذا ما نتمنى، فينبغي التفرقة إذًا بين المغفل الأبله، وبين الطيب القلب الممدوح شرعًا.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفطنين لأهل الشر وكيدهم، وأن يباعد عنا كيد الفجار، وشر الأشرار، إنه سميع مجيب.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، إنك رؤوف رحيم، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، واكبت أعداء الدين، إنك على كل شيء قدير، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واجعلهم في ديارهم خائفين مذعورين، واغفر لمن قتل في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولمن مات من المسلمين، على التوحيد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يلقاك بقلب سليم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الصافات:181:180.