الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي امتن على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتمحى السيئات، وترفع الدرجات، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها، فقد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها.
خلق الله الخلق لهدف وغاية
وإنما خلق الله الخلق لعبادته، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات 56. ومن أعظم العبادات: الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سورة البقرة 183. ورغبهم فيه فقال: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سورة البقرة 184. وأرشدهم إلى شكره على فرضه، بقوله: وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ سورة البقرة 185. وحببه إليهم وخففه عليهم؛ لئلا تستثقل النفوس ترك العادات، وهجر المألوفات، فقال : أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍسورة البقرة 184. ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر، فقال سبحانه: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ سورة البقرة 184. فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم، يخافونه من فوقهم، ويرجون ثوابه، والفوز العظيم.
ولما كان قدر هذه العبادة عظيماً، كان لابد من تعلم الأحكام المتعلقة بشهر رمضان؛ ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله، وما هو حرام فيتجنبه، وما هو مباح فلا يضيق على نفسه بالامتناع عنه.
والصيام يا عباد الله هو: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية، أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض، ومن أفطر منه شيئاً بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة، قال النبي ﷺ في الرؤيا التي رآها: حتى إذا كنت في سواء الجبل -أي: في وسطه-إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قلت: مَن هؤلاء؟ قال الذين يفطرون قبل تحلة صومهم أي: قبل وقت الإفطار [رواه الحاكم في المستدرك 1568].
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر، أنه شر من الزاني، ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا أفطر في رمضان مستحلاً لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالاً له وجب قتله وإن كان فاسقاً عوقب عن فطره في رمضان".
فضائل الصيام
وفضل الصيام عظيم، ومما ورد فيه: أن الصيام قد اختصه الله لنفسه، وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب، وأن الصوم لا عدل له، وأن دعوة الصائم لا ترد، وأن له فرحتان إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه، وأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة، يقول: أي رب! منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه، وأما خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأن من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً، وأن من صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، وأن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.
وأما رمضان فهو ركن الإسلام، وقد أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر، فإذا دخل فتحت أبواب الجنة، وفتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين.
فهذا ربنا يندبنا إلى فعل الخيرات، وعمل الصالحات، والكف عن المحرمات، والإكثار من الدعوات، بإخبارنا أن أبواب السماء تفتح، وأن أبواب الجنة كذلك، وأن أبواب النار تغلق، فيقول افعلوا الطاعات فهذه أبوابي مفتوحة، واتركوا المحرمات فها قد أغلقت أبواب جهنم في شهركم، وسلسلت الشياطين من أجلكم، ومن صام رمضان إيماناً بفرضيته، واحتساباً لأجره، غفر له ما تقدم من ذنبه، ولله عند كل فطر عتقاء.
عباد الله: هذه مدرسة التقوى قد أقبلت لعلكم تتقون، والنفس إذا امتنعت عن الحلال طمعاً في مرضات الله، فأولى بها أن تنقاد للامتناع عن الحرام، والإنسان إذا جاع اندفع شر كثير من حواسه، وكذلك شعر بألم الفقراء فأحسن إليهم، وليس الخبر كالمعاينة، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل ومشى، والصيام يربي الإرادة، واجتناب الهوى، والبعد عن المعاصي، وفيه قهر للطبع، وفطم للنفس عن مألوفاتها، واعتياد النظام والدقة.
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين، فتصوم الأمة وتفطر في شهر واحد، وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله ، فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد، ومنهم من يدخله لأول مرة، ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد، وهذه رقة نادرة فلابد من انتهاز الفرص بالمواعظ المرققة، والدروس المناسبة، والكلمات النافعة، والنصيحة الصالحة، والتعاون على البر والتقوى.
من سنن الصيام تأخير السحور وتعجيل الفطور
عباد الله: إن للصيام آداباً، وله سنناً، فمن ذلك: الحرص على السحور وتأخيره؛ لقول النبي ﷺ: تسحروا فإن في السحور بركة [رواه البخاري 1923 ومسلم 1095]. فهو الغداء المبارك، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، و نعم سحور المؤمن التمر [رواه أبو داود 2345]. وتعجيله مخالف للسنة، وتأخيره إلى قرب الفجر يُمكّن من القيام للصلاة، وأما الفطر فالسنة فيه التعجيل لايزال الناس بخير ما عجلوا الفطر[رواه البخاري 1957 ومسلم 1098].وهكذا نخالف أهل الكتاب، وكان النبي ﷺ يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسى حسوات من ماء، ويقول عند إفطاره ما جاء في الحديث الصحيح: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله[رواه أبو داود 2357]. ثم يذهب لصلاة المغرب، ثم إن شاء تعشى بعدها، ولا يضيع الصلاة، ويبتعد الصائم عن الرفث وهو: الوقوع في المعاصي، فلا يرفث، وقال النبي ﷺ: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه[رواه البخاري 1903]. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟.
ومما أذهب الحسنات، وجلب السيئات: الانشغال بالفوازير، والمسلسلات، والأفلام، والمباريات، والجلسات الفارغات، والتسكع في الطرقات، مع الأشرار ومضيعي الأوقات، وكثرة اللهو بالسيارات، وازدحام الأرصفة والطرقات، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة عند الكثيرين شهر نوم بالنهار؛ لئلا يحس بالجوع، فيضيع ما يضيع من وراء ذلك من الصلوات، ويفوت ما يفوت من الجماعات، ثم لهواً بالليل، وانغماس في الشهوات، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر؛ لما سيفوته من الملذات فيسافرون، وبعضهم إلى بلاد الكفار، والمساجد تأتي إليها بعض المتبرجات المتعطرات، وقَلّ من يسلم من هذه الآفات.
عباد الله: بعض الناس يجعلون الشهر موسماً للتسول وهو غير محتاج، وبعضهم يلهو فيه بما يضر من الألعاب، والمفرقعات، ومن الناس من ينشغل فيه بالصفق في الأسواق، والتطواف على المحلات.
عباد الله: إن هذا الشهر شهر عبادة، مَن استقبله بتوبة وحسن نية انتفع، ومَن استقبله بغير ذلك فليس له إلا ما نوى، لا يصخب الصائم فإن امرئ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم[رواه مسلم 1151].إحداها تذكيراً لنفسه، والأخرى تذكيراً لغيره، فيجب ضبط النفس، واستعمال السكينة في كل شيء، حتى سياقة السيارات قرب أذان المغرب.
عدم الإكثار من الطعام ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن[رواه أحمد 17186]. وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات، وأشغلهن عن العبادة، وأنفقت الأموال الطائلة، يأكلون أكل المنهومين، ويشربون شرب الهيم، فإذا قاموا للتراويح قاموا كسالاً، وبعضهم لا يتحمل إلا ركعتين.
عباد الله: شهرنا قادم فجودوا بالمال والجاه والبدن والخلق، كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة [رواه البخاري 1902].
عباد الله: إن الجمع بين الصيام، وإطعام الطعام: من أسباب دخول الجنة، غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام، وهذه ستنطبق في شهر رمضان من فطر صائماً كان له مثل أجره[رواه الترمذي 807].والمراد بتفطيره: أن يشبعه، وله أجر ولو فطره على شربة ماء، أو تمرة، ولكن كلما كان أكمل كان الأجر أكثر.
كان عدد من السلف يؤثرون الفقراء بطعام إفطارهم: منهم عبدالله بن عمر، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان عبدالله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين.
عباد الله: ينبغي أن تُهيئ الأجواء والنفوس للعبادة، ويُسارع للتوبة والإنابة، ونفرح بدخول الشهر، ونحرص على اتقان الصيام، والخشوع في التراويح، وعدم الفتور لا في العشر الأواسط ولا في غيرها. عباد الله: أعدوا العدة لهذا الشهر: بتجهيز أنفسكم، وأهليكم، ومساجدكم؛ لأجل القيام بالعبادات، والتهنئة بدخوله لابأس به، والدعاء بالبركة فيه أيضاً.
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
ومن أحكامه: أن هذا الشهر الكريم يثبت برؤية هلاله، والعمل بالحسابات بدعة، وترك رؤية الهلال لأجل الحسابات ظلم وافتراء على الشريعة، ألم يقل الشارع: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؟ [رواه البخاري 1909 ومسلم 1081]. فما بال البعض يعلنون تحديده وتعيينه قبل أن يُرى هلاله! بحسابتهم وبدعهم وافترائهم على شريعة الله.
ولو قالوا لا يرى، واحتمال رؤيته ضعيفة، ورآه الثقات من المسلمين فنقدم أيّ شيء؟ ألسنا نقدم البينة الواضحة التي ترى بالعين؟ إن هذه الشريعة كاملة وصالحة لكل زمان ومكان، سواء كانت آلات الرصد متطورة، والحاسبون فيهم مهرة، أم لا، سواء كان التخلف في الحسابات حاصلاً أو متقدماً.
أيها الأخوة: هذه الشريعة لكل زمان ومكان، ولذلك جاءت بشيء يستطيعه الصغير والكبير، والعامي والمثقف، والمتعلم وغير المتعلم، والمتطور وغير المتطور - كما يقولون -.
بالرؤية إذاً يثبت هلال رمضان، إذا رآه الثقات، ولا بأس من الاستعانة بالآلات المقربة كالمناظير، مادامت المسألة لا تخرج عن الرؤية التي جاء النص عليها في الشرع صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فنعم للرؤية ولا للحسابات!.
أحكام مهمة في الصيام
يجب الصيام على: كل مسلم، بالغ، عاقل، مقيم، قادر، سالم من الموانع، كالحيض والنفاس.
ويحصل البلوغ بواحدة من أمور ثلاثة:
بإنزال، أو إنبات الشعر الخشن، أو إتمام خمسة عشر سنة، وتزيد الأنثى أمراً رابعاً وهو الحيض، فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سن العاشرة، ويؤمر الصبي بالصيام لسبع إذا أطاقه كالصلاة، ويلزم به في العشر، وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية، والدلالة على الخير.
كان الصحابة يصوّمون صبيانهم الصغار، ويجعلون لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته في الصيام، وربما رأى الولد متحمساً فثبطه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ سورة التحريم 6. وينبغي توجيه اعتناء خاص بصيام البنت في أول بلوغها، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلاً ثم لا تقضي، وربما لا تصوم خجلاً من معرفة بلوغها.
وإذا أسلم الكافر، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أثناء النهار: لزمهم الإمساك بقية اليوم؛ لأنهم صاروا من أهل الوجوب، ولا يلزمهم القضاء على الراجح؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في أول وقته.
عباد الله: إن من مات في أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر، ومن جهل فرض الصوم في رمضان، أو جهل تحريم الطعام، أو الوطء، فجمهور العلماء على عذره إن كان يعذر مثله، كحديث العهد بالإسلام، والمقيم في بادية بعيدة عن مسلمين.
والمسافر يرخص له في الفطر إذا كان سفره سفراً مسافة أو عرفاً، إذا جاوز البلد وخرج من البلد ليس في مطار البلد في حدود البلد وإنما إذا جاوز البلد، وما اتصل به من بناء، ويشترط ألا يكون مسافراً للتحايل على الفطر، وإنما يسافر في مصلحة وليس يسافر لأجل الإفطار.
ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادراً على الصيام، أو عاجزاً عنه، سواء شق عليه، أو لم يشق.
ومن عزم على السفر في رمضان، فإنه لا ينوي الفطر، ولا يجمع بين الصلاتين حتى يسافر، هذا على الصحيح الراجح، وهو قول جماهير العلماء.
وإذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك؛ لأنه أتم صوم يوم كامل، ولا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها، وأما إذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد أن يصوم وأن يتم ذلك اليوم فلا يفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه، سواء كان على الأرض، أو في الطائرة، فإنه يفطر بغروب الشمس في المكان الذي هو فيه، لا في بلد المغادرة، ولا في بلد الوصول، ولا تحت في الأرض إذا كان في الطائرة، وإنما إذا غربت الشمس وهو في الطائرة أفطر إذا أراد أن يتم يوماً.
ومن وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور العلماء، وإذا مر المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إذا كانت إقامته فيها أربعة أيام أو أقل، وإذا أراد أن يصوم فليصم.
ومن ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر، وإذا أراد أن يكمل اليوم فإن له ذلك، ولو كان يسافر كل يوم كأصحاب سيارات الأجرة وغيرهم فإن لهم أن يفطروا ما داموا مسافرين، وعليهم القضاء بعد ذلك.
وإذا قدم المسافر من سفره أثناء النهار فإن الأحوط له أن يمسك؛ مراعات لحرمة الشهر، لكن عليه القضاء.
وإذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد آخر فحكمه حكم من وصل إليهم، يصوم بصيامهم، ويفطر بإفطارهم.
وكل مرض حقيقي خرج به الإنسان عن حد الصحة يجوز له الإفطار به؛ لقوله تعالى: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ سورة البقرة 184.بخلاف الصداع الخفيف، والسعال، فليس عذراً للإفطار، وإذا ثبت بالطب، أو علم الشخص من عادته وتجربته، أو غلب على ظنه: أن الصيام يجلب له المرض، أو يزيده، أو يؤخر البرء، جاز له الإفطار حينئذ، بل يكره له الصيام.
وكذلك فإن من دخل في عملية جراحية وفقد وعيه نتيجة لبنج فإنه يقضي بعد ذلك.
ومن أرهقه جوع مفرط، أو عطش شديد، خاف على نفسه الهلاك، أو ذهاب بعض الحواس، فإنه يأكل ما يحافظ به على نفسه، ويمسك، ويقضي بعد ذلك، وليست امتحانات الطلاب عذراً يبيح الفطر في رمضان إطلاقاً، يجب عليهم الإمساك، وهم مأجورون عند الله ، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحانات؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وشهرنا شهر بارد ونهاره قصير، وصالح لتمرين الصبيان الصغار ولله الحمد، وهذه نعمة عظيمة.
والمريض الذي يرجى برؤه ينتظر الشفاء ليقضي، والمريض مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، وكذلك الكبير العاجز: يطعم عن كل يوم مسكيناً، من قوت البلد ما يعادل كيلو ونصف من الرز تقريباً عن المسكين الواحد، وله أن يجمع الفدية فيطعمها المساكين في آخر الشهر، أو يطعم كل يوم مسكيناً، ويخرجها طعاماً، سواء كانت مفرقة أو مجموعة.
وكذلك فإن المريض الذي ينتظر الشفاء وقُضي عليه بالموت فليس عليه ولا على أوليائه شيء، وأما إذا تمكن من القضاء فلم يقضِ ومات، أخرج من تركته طعام مسكين عن كل يوم، وإن تبرع بعض أوليائه بالصيام عنه فهو مأجور، ويجزئ ذلك.
عباد الله: إن من بلغ حد الخرف من كبار السن فإنه يسقط عنه الصيام، ولا إطعام، ولا كفارة، ولا فدية، ولا يصوم عنه أحد من أقربائه؛ لأنه لم يصبح من أهل التكليف.
ومن قاتل عدواً، أو أحاط العدو ببلده، أفطر للتقوي على القتال، وتشترط النية في صوم الفرض، لابد أن تكون في أي جزء من الليل، ولو قبل الفجر بلحظة، فإذا كنت تتوقع أن يعلن عن صيام رمضان في الليلة القادمة فاحرص أن لا تنام إلى الفجر، إلا وعندك نية إذا أعلن الشهر تأخذ الخبر، وكل من علم بأن غداً رمضان وأراد الصيام فهذه نية، النية: عزم القلب على فعل الشيء، فإذا عزمت بقلبك على الصيام غداً بعد العلم بدخوله، فإذاً هذه نية كافية، والتلفظ بها بدعة، هذه نية في القلب كافية، وهذا هو كل المطلوب.
فاحرص يا عبدالله! ألا تنام إلى الفجر إلا بعد أن تأخذ علماً، أو تستيقظ قبل الفجر للسؤال ليكون لك نية من الليل من لم يبيت الصيام من الليل، فلا صيام له[رواه النسائي 2334]. وهكذا النية لكل صوم واجب.
وكذلك فإن قرص الشمس إذا غاب أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، ولا بالضوء الباقي فيه، ولو لم يسمع مؤذناً إذا غرب قرص الشمس واختفى بالكلية أفطر الصائم.
عباد الله: ينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصغار، والمصادر غير الموثوقة، وما دام المؤذن قد اختبر، وثقة في توقيته، فإنه يؤخذ بأذانه، ويعتمد عليه، وينتبه لفارق التوقيت بين المدن والقرى، وخصوصاً الذين يسمعون الأذان بالإذاعة، أو في التلفزيون، من دول مجاورة في توقيت إفطار أهلها اختلاف فلينتبه للمسألة، ولا يجوز لإنسان أن يأكل أو يشرب إلا إذا تيقن من غروب الشمس، وما دام شاكاً فليس له الأكل والشرب، هذا بخلاف الفجر فإن لك أن تأكل وتشرب وتنكح إلى طلوع الفجر، إذا تيقنت من طلوعه تمتنع، فإذا شككت هل طلع أم لا؟ فأنت تأكل وتشرب ما شئت حتى تتيقن من طلوعه.
عباد الله: إن عدداً من الناس يعتقد أنه لا بد من الاحتياط بالإمساك قبل وقت الفجر بعشر دقائق، ويطبع بعض التجار تقاويم فيها وقت الإمساك قبل الفجر بعشر دقائق، وهذه بدعة، وحرام، ولا تجوز، ولا يجوز اعتمادها، ولا العمل بها، فإن الله تعالى قال: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ سورة البقرة 187. فلا احتياط بعشر دقائق ولا بغيرها، وإنما إلى الفجر، فإذا لم يكن عندك قدرة على رؤية نور الفجر، وليس إلا التقويم أقرب ما يمكن، فعند ذلك تعتمد عليه؛ لأنه أقرب ما يمكن، والمؤذنون يؤذنون اليوم على التقاويم في الغالب لا على رؤيتهم الفجر، الذي يصعب في المدن بأنوارها ومبانيها العالية.
عباد الله: إن كثيراً من الناس يأكلون ويشربون أثناء الأذان؛ لإهمالهم بالتوقيت الصحيح للسحور، وعدم اكتراثهم بالقيام قبل الفجر بوقت كاف، يؤخرون ذلك إلى آخر لحظة، ثم يريدون أن يأكلوا ويشربوا أثناء الأذان، لماذا؟ لماذا يحصل ذلك؟ فالحذر من هذا، لا يكن ديدناً لأحدنا حتى لا يكون ذريعة إلى الأكل والشرب بعد طلوع الفجر.
والمفطرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة: أن يكون عالماً غير جاهل، ذاكراً غير ناسٍ، مختاراً غير مكرهٍ، ولا مضطر.
ومن المفطرات ما يكون من نوع الاستفراغ، كالجماع، والاستقائة، والحيض، والحجامة، ومنه ما يكون من نوع الابتلاع، كالأكل والشرب، والأدوية، والحبوب التي بمعنى الأكل والشرب، والحقن المغذية، ونقل الدم، كل ذلك يفطر، فإذا احتاج الإنسان فَعَلَه ثم قضى بعد ذلك، وأما الإبر التي ليست بمغذية، وإنما هي للمعالجة، كالبنسلين، والأنسولين، وإبر التطعيم، ونحو ذلك، فلا تضر الصيام، سواءً كانت عن طريق الوريد، أو العضلات، والأحوط أن يأخذها الإنسان بالليل، وغسيل الكلى التي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى، مع إضافة مواد كيماوية، وغذائية، كالسكريات، والأملاح، وغيرها إلى الدم، كما قال الأطباء يعتبر ذلك مفطّرة؛ لأن هناك إضافات غذائية إلى الدم الداخل الجسم، وإن كان لا يستطيع القضا أخرج الفدية، وإن كان له أيام لا يغسل فيها قضى في تلك الأيام، والراجح أن الحقنة الشرجية، وقطرة العين والأذن، وقلع السن، ومداوة الجراح، كل ذلك لا يفطر، وبخاخ الربو لا يفطر؛ لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة، وليس بالطعام، وهو يحتاجه في رمضان وغيره، وسحب الدم للتحليل لا يفسد الصيام كذلك، ودواء الغرغرة لا يفسد الصيام إن لم يبتلعه، والحشوة الطبية لا تفطر ما دام لم يبتلع شيئاً من ذلك، وغسول الأذن، وبخاخ الأنف، إذا لم يبتلع شيئاً وصل إلى الحلق فإنه لا يفطر، والأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية، وغيرها لا تفطر، وكذلك ما يدخل المهبل من تحاميل، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو أصبع للفحص الطبي لا يضر الصيام، وإدخال المنظار، أو اللولب إلى الرحم لا يفطر كذلك، وما يدخل في الإحليل من قسطرة، أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة، لا يفطر كذلك، وفرشاة الأسنان لا بأس باستعمالها، والسواك سنة في كل النهار، ومعجون الأسنان الأحسن أن يؤخر إلى الليل؛ لأن له نفوذاً قوية، وكذلك فإن غاز الأكسجين، وغازات التخدير، وما يمتصه الجلد من المراهم، واللصقات العلاجية الجلدية، وإدخال قسطرة في الشرايين للتصوير، وإدخال منظار من خلال جلد البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها، أو أخذ عينات من الكبد، وغيرها، أو منظار معدة، كل ذلك لا يفطر، كما نص مجمع الفقه الإسلامية بباحثيه على ذلك.
مَن أكل أو شرب ناسياً
عباد الله: إن من نسي فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، ومن رأى من يأكل ناسياً فعليه أن يذكره؛ لعموم قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى سورة المائدة 2. وعموم قوله ﷺ: فإذا نسيت فذكروني[رواه البخاري 401 ومسلم 572]. ولأنه بالنسبة للرائي منكر يجب أن يغيره، ومن احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة، كحريق، أو غرق، فإنه يفطر لأجل ذلك، ولا حرج عليه، وهو مأجور ويقضي بعد ذلك.
والحذر الحذر من الجماع في نهار رمضان، فإنه أسوأ المفطرات على الإطلاق، تجب به الكفارة المغلظة، عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ ليذوق وبال أمره، فإن لم يستطع - لا متلاعب ولا متكاسل - فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، ومن جامع في أيام رمضان نهاراً: فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها، مع قضاء تلك الأيام، والتوبة إلى الله، على الرجل كفارة وعلى المرأة كفارة مستقلة إذا كانت راضية، وليحذر الصائم من كل ما يمكن أن يؤدي إلى الوطء، أو الإنزال المفسد للصوم، كتقبيل، أو مباشرة، أو معانقة، أو لمس، والنبي ﷺ كان يقبل وهو صائم، لكنه كان أملك الناس لأربه، وقد جاء في الحديث: يدع زوجته من أجلي[رواه ابن خزيمة 1897]. ولذلك فإن من كان سريع الشهوة لا يملك نفسه لا يجوز له أي استمتاع؛ لأنه ربما يؤدي إلى فساد صومه.
نسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، رب الأوليين والآخرين، وأشهد أن محمد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التنبه لكل ما يفسد الصوم
عباد الله: كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، كل ما يتوصل به إلى حرام فهو حرام، كل ما يؤدي إلى حرام فهو حرام، كل ما يوقع في حرام فهو حرام، ولذلك لابد للصائم من الانتباه لكل ما يفسد صومه أو يفطره فيجتنب ذلك وأسبابه المؤدية إليه.
ومن جامع أهله فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح، ولو اغتسل بعد طلوع الفجر، ولو استيقظ وهو على جنابة، أو طلع عليه الفجر وهو على جنابة، فليس عليه شيء، وقد كان ﷺ يصبح جنباً ثم يغتسل، وكذلك من احتلم في نهار رمضان فليس عليه شيء، والنائم مرفوع عنه القلم، بخلاف من تعمد الإنزال فيه فإن جرمه عظيم، وإثمه جسيم، وعليه الإمساك والتوبة، وقضاء هذا اليوم.
وكذلك فإن الاهتمام بصيام النساء أمر مهم أيها الأخوة! فإن كثيراً من النساء ربما لا تعرف بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام، فينبغي على وليها أن يقوم عليها تعليماً ونصحا.
ويجب عليها أن تستدرك ما فاتها من الرمضانات من صيام رمضان الماضي قبل دخول رمضان الجديد، فإذا كانت صاحبة عذر مستمر، كحامل، ثم نفساء، ثم مرضع، ودخل الشهر الجديد، وعذرها مستمر فليس عليها إلا القضاء، يجوز للحامل أن تفطر لأجل الحمل، ويجوز للمرضع أن تفطر لأجل نفسها، ولأجل ولدها، لا حرج في ذلك، وهما على الصحيح، كالمريض، ليس عليهما إلا القضاء فقط، والحائض إذا رأت السائل الأبيض الذي يدفعه الرحم بعد انتهاء الحيض، أو جفت جفافاً تاماً، وجب عليها أن تغتسل للصلاة، وأن تبدأ بالصيام، وإذا أسقطت الحامل جنيناً متخلقة فهي نفساء، وإذا كان الجنين غير متخلق فهي استحاضة يجب عليها الصيام إذا استطاعت، وكذلك فإن الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها التي خلقها الله عليها، ولا تتعاطى حبوباً، ولا غيرها، لمنع الدورة، وقد ثبتت أضرار هذه الموانع، فإذا استعملتها وانقطع الدم تماماً، وصامت بالنية صح صيامها، وكذلك فإن المرأة عليها أن تتقي الله في خروجها لصلاة التراويح، ويجب على الأولياء أن يأخذوا على نسائهم بشأن ذلك، فإن بعض المناظر جد مزرية أيها الأخوة.
صلاة التراويح سنة في رمضان
صلاة التراويح سنة في رمضان، الاجتماع عليها سنة في رمضان، أحد عشر ركعة، كان النبي ﷺ لا يزيد عليها في رمضان ولا في غيره، والزيادة عليها جائزة؛ لحديث: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى[رواه البخاري 990 ومسلم 749]. ولكن السنة والأفضل والأكمل والأكثر أجراً وفعل محمد بن عبدالله ﷺ أحد عشرة ركعة، يصليها بتأن لا تسأل عن حسنهن وطولهن.
يجتمع الناس لصلاة التراويح في المساجد، بخشوع وأناة يصلون، وليس الأفضل من ينتهي أولاً، وليس البحث عن المسجد المبكر في الخروج هو الهدف، وإنما الهدف أيها الأخوة: هو الازدياد من الطاعة والعبادة في هذا الشهر الكريم، فعلينا أن نتقي الله تعالى في صلاتنا، وأن نتقي الله تعالى في صيامنا، وأن نكثر من فعل الخيرات في هذا الشهر.
نسأل الله أن يجعله شهر خير لنا جميعاً، ونسأله أن يوفق أبنائنا في امتحاناتهم واختباراتهم، وأن يجعل ذلك عوناً على طاعته.
عباد الله: يدخل علينا شهرنا وقد نكأت جراحنا، وازدادت مواجعنا، وقتل أطفالنا ونسائنا، وأحرقت بيوتنا، وروّع آمننا، وازداد ذلنا، وعظم بلائنا من أعدائنا التاريخيين من اليهود والنصارى، انتهكوا حرمة دمائنا بحجة مراعات حرمة شهرنا، قاتلهم الله! ثم يقولون بأنهم سيستمرون وإن دخل الشهر، إن هذا الذل الذي في الأمة لن يرفعه إلا عودة الأمة إلى دينها، وتمسكها بكتاب ربها، وسنة نبيها ،واجتماعها على دينها.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلت حيلتنا، وهواننا على الناس، وأنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلنا، إلى عدو يتجهمنا، أم إلى جبار يذلنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، نعوذ بك أن ينزل بنا غضبك، أو يحل بنا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم قاتل اليهود والنصارى، واجعلها عليهم ناراً ودماراً، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم روعهم في ديارهم، وانزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.