الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أصدق الحديث كتاب الله
أصدق الحديث كتاب الله، فيه خبر من قبلنا، ونبأ من بعدنا، وحكم ما بيننا، هذا الكتاب الذي جعله الله حبلاً ممدوداً بيننا وبينه، فيه آيات بينات نور وبركة، وهو شفاء لما في الصدور، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، معجز في لفظه، معجز بما حواه، هذا القرآن العظيم لو تدبر فيه المسلم لرأى فيه ما يحير الألباب، لرأى فيه ما يثبت على طريق الهدى والصواب، لرأى فيه الحكم والأحكام، والمواعظ والأخبار، والقصص والأمثال، يرى فيه وحدانية الله تعالى والدلالة على ذلك، والأوامر الإلهية والأحكام، وكذلك يرى ما فيه مما يدهش في صياغته، ولفظه، وما يحويه من المعاني، وإذا تأملت يا عبد الله ما في هذا القرآن من العجائب، فإنه يزيدك إيماناً، وتنتقل من مجرد القراءة إلى التأثر، ومن السماع إلى الاستماع، ومن الاستماع إلى الاستمتاع، والتلذذ بكلام الله ، وهذا ما ينبغي أن يرتقي المسلم فيه بنفسه، فإذا تأملت ما فيه من النظم العجيب، وكيف يدل التقديم والتأخير فيه على أمور متعددة، لوجدت عجباً، فمن ذلك وأنت تقرأ في سورة الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُسورة الفاتحة 5. قدم المفعول به على الفعل، وأصل الجملة نعبد إياك، يتقدم الفعل أولاً، فلماذا قدم المفعول هنا وقال إياك نعبد؟ وما الفرق بين إياك نعبد ونعبدك؟ الجواب: إن هذا التقديم والتأخير يفيد الحصر، إياك نعبد، يعني: لا نعبد إلا أنت، كما قال تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْسورة الزمر 66.حصر العبادة له سبحانه، وعدم إشراك أحد معه فيها، بينما لما قال اهدنا الصراط ما قدم وأخر هنا كما سبق، ما قال: إيانا اهدي، وإنما قال: اهدنا، فقدم الفعل أولاً؛ لأن الهداية ليست محصورة فينا، بل يهدينا ويهدي غيرنا، ولذلك أنكر النبي ﷺ على الأعرابي لما قال: ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا، فقال: لقد حجرت واسعا[رواه البخاري 6010].عندما تتأمل في هذا النظم العجيب، لما مر سليمان وجنوده على واد النمل، قالت نملة نادت، يا نبهت، أيها خصت، النمل سمت، ادخلوا أمرت، مساكنكم عينت، لا يحطمنكم حذرت، سليمان خصت، وجنوده عمت، وهم أشارت، لا يشعرون اعتذرت، اعتذرت وبينت عذر نبي الله سليمان، وأنه لو حطم بمن معه النمل فهو غير مدرك لوجودهن، وعندما تتأمل الاختصار، وكيف تُعرض الأحداث بشكل سريع، في كلمات وجيزة، وجمل قصيرة، كما ذكر ربنا في نهاية قوم نوح، وقيل الفعل المبني للمجهول، يا النداء، أرض ابلعي أمر، ماءك وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ سورة هود 44. دعاء عليهم، هكذا توالت في إيقاع سريع هذه الجمل القصيرة التي فيها كل القصة، ما بعد الإهلاك وماذا حصل لهم، وقيل يا أرض والله ينادي مخلوقاته فتستجيب، كما قال في آية أخرى عن السموات والأرض اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ سورة فصلت 11. هذا البيان وهذه الفصاحة والبلاغة، التي جعلت العرب وهم في قمة البلاغة، لما نزل القرآن ما كانوا في تخلف بلاغي مثل الآن، كانوا في قمة البلاغة والفصاحة، معلقاتهم على الكعبة التي فيها ذلك البيان وتلك الفصاحة، لكن لما نزل أعجزهم، أسكتهم كما قال بعض أئمة اللغة وهو مار بقوم فرأى جارية قد حملت قربة ماء فعجزت عنها فوقعت فانكسر فم القربة وهي تقول: يا عمي، تريد الاستعانة به، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها، قال: ويحك ما أفصحك، قالت: لا فصاحة بعد القرآن، فإن الله في آية واحدة ذكر خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين، وأوحينا إلى أم موسى خبر، فإذا خفت إخبار لها بأن ذلك سيقع، وماذا ستفعل عنده؟ أن أرضعيه الأمر الأول، فألقيه الأمر الثاني، ولا تخافي النهي الأول، ولا تحزني النهي الثاني، إنا رادوه إليك البشارة الأولى، وجاعلوه من المرسلين البشارة الثانية وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ سورة القصص 7.
التقديم والتأخير من قوة بلاغة القرآن الكريم
وترى ما في القرآن من التقديم والتأخير مدهشاً، فعندما ذكر الثقلين في موضع قدم الإنس وفي موضع قدم الجن، فقال سبحانه: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا سورة الإسراء 88. وحينما قال في آية أخرى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ سورة الرحمن 33. كلاهما في معرض التحدي، الأول التحدي بالإتيان بمثل كلام الله، والثاني التحدي أن ينفذوا يوم القيامة من حصار الملائكة التي تطوقهم، فلا يستطيع أحد أن يخترق؛ لأنه لا سلطان إلا سلطان الله، هلك عني سلطانيه، لا تنفذون إلا بسلطان، ولا سلطان لكم، فلماذا قدم الإنس في معرض التحدي بالإتيان بمثل القرآن، وقدم الجن في معرض التحدي بالنفاذ من أقطار السموات والأرض والهرب؟ الجواب: لأن الإنس في باب الفصاحة والبلاغة والبيان أقدر من الجن، ولذلك قال: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا بينما الجن أقدر من الإنس في النفاذية والاختراق والطيران، ولذلك قدمهم في التحدي في الهرب والاختراق يوم القيامة فقال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ
فصاحة الألفاظ وبلاغة الكلمات في القرآن
ترى الألفاظ التي اختيرت بعناية، نوح قال عنه: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًاسورة العنكبوت 14. ما قال: ألف سنة إلا خمسين، ولا قال: ألف سنة إلا خمسين سنة، وكلها أعداد، ألف، وخمسين، قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فلماذا كانت السنة تمييزاً للألف والعام تمييزاً للخمسين؟ من المعروف في لغة العرب أن كلمة السنة تأتي بمعنى الشدة والقحط، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف[رواه البخاري 804]. وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَسورة الأعراف 130. قحط، وكانت المدة التي قضاها نوح في قومه سنوات شدة، قحط في عدد المدعوين الذين استجابوا، ما استجاب إلا قليل جداً، وكانت من قومه إيذاء وحصار كرب وشدة، بينما كانت الخمسين التي قضاها بعد هلاكهم هو والذين نجوا معه وآمنوا كانت سنوات طيبة، ولذلك عبر بالسنة هناك وبالعام هنا، كما قال يوسف ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ سورة يوسف 49. أنت ترى يا عبد الله حسن اختيار الكلمات والعناية بذلك، في التعبير عن الأمر الطيب والأمر السيء اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ سورة الفاتحة 6-7.أضاف الإنعام إلى نفسه، أنعمت إضافة صريحة مباشرة، غير المغضوب مبني للمجهول، غير الذين غضبت عليهم، تعليماً لنا للأدب في الخطاب، ولذلك قالت الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا سورة الجن 10. ففي الرشد والأمر الحسن جاء التعبير أراد مباشر، في نسبة ذلك إليه، وفي الشر أريد، أشر أريد بمن في الأرض، فجاء التعبير بالمبني للمجهول، مع أن الله هو الذي أراد في الحالين، لكن أدب الخطاب، قال الخليل: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِسورة الشعراء 78-79.فنسب الفعل إلى الله مباشرة لما كانت أشياء طيبة، خلقني، يهديني، يطعمني، يسقيني، قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ سورة الشعراء 80. ما قال: يمرضني إذا أمرضني، وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والشفاء أمر طيب فأضافه مباشرة إلى الله، وعبد الله الصالح الخضر قال في خرق السفينة وعيب السفينة: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَاسورة الكهف 79.
وفي قضية إنقاذ الوالدين من الولد الكافر، وكذلك في تنشئة الولدين الغلامين في المدينة: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ سورة الكهف 82. أراد الله أن يبدلهما أراد ربك أن يبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما؛ لأن الإبدال خير فنسبه إلى الله مباشرة وذكر الفاعل، إذا تأملت ختام الآيات فهو عجب عجاب، ويروى أن الأصمعي رحمه الله تعالى لما كان جالساً في المجلس وقرأ قول الله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ سورة المائدة 38. سهى وقال: والله غفور رحيم، وكان بجانبه أعرابي جالس، فقال ما هذا؟ قال كلام الله، قال ليس هذا بكلام الله، فانتبه الإمام رحمه الله وأتى بالآية كما هي وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌوكان من قبل قد قرأها والله غفور رحيم. فأنكر الأعرابي أن يكون ختم الآية بغفور رحيم أن يكون كلام الله، فقال الأصمعي للأعرابي: تحفظ القرآن، تقرأ القرآن يعني: تحفظه، قال: لا، قال كيف علمت؟ قال هذا ليس موضع رحمة فيغفر، ولكنه موضع عزة فيحكم، فلا يمكن أن تكون الآية والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم، لا يمكن، لكن والله عزيز حكيم نعم هذا كلام الله.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل القرآن، بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأنزل الكتاب فيه آيات محكمات، وجمعه في صدر نبينا ﷺ فلم ينسَ منه شيئاً، أشهد أنه رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وا أسفاه على هجر كتاب الله
عباد الله: هذا القرآن ثروة عظيمة، هذا القرآن مائدة كبيرة، هذا القرآن ما قدره كثير من المسلمين حق قدره، فلا يزال مهجوراً بينهم، تارة هجر تلاوة، وتارة هجر تدبر، وتارة هجر عملِ، وتارة حتى هجر الاستشفاء به، أهملوا ذلك، لا بد من العودة للقرآن، لا بد من التلاوة بعناية، لا بد من معرفة التفسير للتدبر، فإنه والله فيه الأعاجيب، وأنت ترى هذه الكلمات، وهذا التعبير مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَسورة النحل 66. الفرث والدم مستقذران، بقدرة الله ينشأ من بينهما لبن خالص من الشوائب، ليس مثل الفرث شوائب، سائغ ليس مثل الدم مقرف في شربه، لا يستسيغه أهل الفطر السليمة، تجد الترتيب في الكلمات وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ سورة النحل 68. لتجد التدرج في النزول، فإن من النحل نحل جبلي يكون في الجبال في أعاليها، يتخذ من الجبال بيوتاً، ومنها ما هو شجري ومن الشجر خلاياه تحت، ومما يعرشون ما يصنعه الناس لها للنحل، وهذا أسفل من الشجر، فتأمل كيف تدرج في النزول، الجبال، الشجر، يعرشون، رتب ليس هناك عشوائية، ولا فوضى، كل كلمة لها دلالة، وكل حرف له دلالة، وكل ترتيب في الكلمات له دلالة، في معرض تقبيح الفاحشة في تلك الكلمات ذكرها ربنا عن النسوة في امرأة العزيز، ماذا فعلت؟ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ سورة يوسف 30. امرأة أنثى، والزنى من الذكر قبيح ومن الأنثى أقبح؛ لأن فيها حياء أكثر مما في الذكر، ولذلك قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍسورة النــور 2. فقدم الزانية، مع أن الزنى منهما جميعاً قبيح، امرأة العزيز إذاً هي متزوجة، ليست عزباء والزنى من المتزوجة أقبح، فقد كفاها الله وأغناها وأعفها بزوج، فلماذا تزني؟ لماذا تريد الفاحشة؟
امرأة العزيز، العزيز إذاً هذا صاحب مرتبة اجتماعية عالية، فهذا ليست من سقط القوم، والمفترض في أصحاب المراتب الاجتماعية العالية المحافظة على السمعة ومع ذلك تريد الفاحشة، امرأة العزيز تراود العادة أن المرأة مطلوبة والرجل طالب، حتى في النكاح لكن أن تكون هي الطالبة وهو المطلوب، إن عكس هذا يدل على قبح إضافي تراود هي بنفسها، ثم تراود من؟ فتاها، إذاً لم تراود في مثل طبقتها الاجتماعية، من الذي راودت إذاً؟ عبدها، مملوكها، خادمها، هذا أقبح، امرأة العزيز تراود فتاها، تحوي هذه المعاني في هذه الكلمات القليلة نظم قرآني معجز.
وللحروف في القرآن معاني
ولكل حرف دلالة فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا سورة الكهف 97. لماذا أضيفت التاء في النقب، وحذفت في الظهور على السد، لا بد لكل زيادة في المبنى من زيادة في المعنى، فما هي الزيادة في المعنى التي أضافتها إضافة التاء وزيادتها، أيهما أصعب؟ الظهور على السد والارتقاء من فوق أم النقب والخرق، وهذا سد من قطع من حديد، آتوني زبر الحديد، جمعت بإرشادات وخطة ذي القرنين رحمه الله، لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، في غاية التخلف، علمهم الصناعة، وكيف يحمون أنفسهم، ووضع خطة العمل، زبر الحديد، ثم أججوا النيران، هاتوا المنافخ، انفخوا، فصارت النيران تصهر قطع الحديد لتلتحم مع بعضها البعض يملأ ما بين السدين، الجبلين، انفخوا، حتى إذا جعله ناراً، وطبقاً واحداً منصهراً، قال: آتوني أفرغ عليه قطرا، النحاس المذاب، نحاس مذاب يصب فوق هذا السد الحديدي، حديد ملبس بالنحاس، سبيكة في غاية المتانة والصلابة، اختراقها صعب جداً جداً، أصعب من الارتقاء عليه، ولذلك قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا والأمثلة كثيرة جداً يا عباد الله.
إعجاز القرآن الكريم في التشبيه
ونحن نرى هذا الإعجاز العظيم في كلام الله ، نرى العجب العجاب فيه حتى في التشبيه، لما وصف شجرة الزقوم، قال: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ سورة الصافات 62-65. شجرة الزقوم من عالم الغيب في جهنم، ليست موجودة في الدنيا، ورؤوس الشياطين بالنسبة لنا من عالم الغيب لأننا لا نراهم، ولم نرَ الشيطان فالشيطان لا نراه، فشبه غيباً بغيب طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ سورة الصافات 65. فكيف شبه غيباً بغيب ونحن لم نرَ هذا ولا هذا؟ الجواب: أنه أراد بيان قبحها، وقد استقر في النفوس أن الشياطين في غاية القبح شكلاً ومضموناً، ولذلك جرى في التشبيه على ما استقر في النفوس من قبح الشياطين، فقال عن شجرة الزقوم: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ قبيحة المنظر جداً، للحرف الواحد دلالات وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى سورة الضحى 5. ما هو الفرق بين السين وسوف؟ ما هو الفرق بين سيعطيك وسوف يعطيك؟ الجواب: أن سوف تدل على مزيد من التنفيس، ومزيد من طول الأمد، ولذلك سميت حرف تنفيس؛ لأن الزمن فيها أطول، فكأنه يقول له سيعطيك الله فاصبر، وإذا ما جاءت العطية الآن لا تيأس، وعليك بالصبر والعطية ستأتي ولا بد.
عباد الله: لا تنقضي عجائب القرآن ومهما استغرق المستغرقون في دراسته، والتأمل فيه، والنظر، والمقارنة، والبحث، والتدبر، لن تشبع النفوس، ولن تنقضي عجائب القرآن، لكن بلا تفسير بلا معرفة المعاني كيف ستتدبر؟ لا بد من معرفة المعاني، اقرأ ولو التفسير الميسر، ولو تفسيراً مختصراً، ثم تحيي سنة المدارسة في بيتك، مع أهلك وأولادك على مائدة هذا القرآن العظيم.
اللهم اجعلنا من أهلك أهل القرآن، علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، اللهم اجعلنا به عاملين، وعلى هديه سائرين، وبنوره مستبصرين يا أرحم الراحمين.
عباد الله: الله ذكر الظلمات بالجمع والنور بالإفراد، فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًاسورة الأنعام 153. بالإفراد، والسبل بالجمع؛ ليبين لنا أن طريق الحق واحد.
اللهم اجعلنا من أهل الصراط المستقيم، وجنبنا سبل الضلال يا رب العالمين، أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا، واجمع على الحق كلمتنا، اللهم انصر إخواننا في الشام وبورما ومالي وسائر الأرض يا رب العالمين، اللهم اقمع الباطنية والصليبيين واليهود والمشركين، اللهم اجعل بأسهم بينهم واجعل دائرة السوء عليهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون، واجعلهم وأموالهم وأسلحتهم غنيمة للمسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين يا أرحم الراحمين، اكشف ما نزل بهم من ضر يا رب العالمين، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم اجعلنا آمنين في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء والفتنة والبلاء والغلاء يا سميع الدعاء.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.