الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حقوق القرآن علينا كثيرة أهمها الإيمان به
عباد الله: كان شهر شعبان يسمى عند السلف بشهر القرّاء، وذلك أنه إذا أقبل -بالإضافة إلى الإكثار من الصيام فيه- فإنهم كانوا يجتهدون في قراءة كتاب الله ؛ استعداداً للشهر الذي أنزل فيه القرآن –رمضان- فيكون الصيام أعظم، والقرّاءة أشد، ولكن هذا التهيؤ بالصيام في شعبان، وكذلك كثرة القرّاءة فيه، إنه لأجل حق هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله ، وحقه علينا في أمور كثيرة متعددة، ومن ذلك: الإيمان به، الإيمان بأن الله أنزله، لا كما قال الكفار: إنه تنزيلات شيطانية، وكذلك نؤمن بأنه كلام الله حقيقة وليس بتأويلات باطلة، كما قال بعضهم: إنه عبارة عن كلامه، تأولوا ولم يريدوا أن يقولوا: إن هذا كلام الله، وأيضاً فإننا نؤمن بأن الله قد أنزله رحمة للناس، وبشيراً، ونذيراً، وبركةً، وخيراً، ونوراً، وهدىً للناس.
من حق القرآن علينا تلاوته حق تلاوته ومعرفة معانيه
وأيضاً فإن من حق القرآن علينا: أن نتلوه حق تلاوته، فنأتي به على الوجه الذي يريده الله ، وحق التلاوة أن تعطي للحروف حقها، وأن تعتني بإخراجها من مخارجها، وأن تأتي به على التجويد الذي تلقاه محمد ﷺمن جبريل، فعلّمه لأصحابه، فعلّموه لمن بعدهم، وهكذا سرى في الأمة، ولذلك ترى أسانيد الشرف موجودة في هذه الأمة حتى الآن بسلاسلها الطويلة من القرّاء الأحياء إلى رسول الله ﷺ، إلى جبريل إلى اللوح المحفوظ، إلى رب العزة ، هذه أسانيد الشرف في هؤلاء القرّاء الذين تلقوه شيخاً عن شيخ إلى رسول الله ﷺ، وحق التلاوة: تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف، فإن الوقف فقه، فقد يقف الإنسان وقفاً محرماً، فليت شعري ماذا يريد من يقف على قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ وإنما قول الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَسورة محمد 19. وليت شعري ما هو القبح في المعنى الذي يفعله من يقرأ: وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ فيقف عندها، فيوهم بأن يوسف أكل المتاع، بينما تمام الآية: وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُسورة يوسف 17. وهكذا، وهكذا، ولهذا جعل القرّاء وقفاً محرماً ممنوعاً، وجعلوا وقفاً لازماً واجباً، وجعلوا وقفاً مستوي الطرفين، وجعلوا وقفاً الصلة فيه أولى، وجعلوا في مواضع الوقف فيها أولى، وهكذا فإن من الفقه الوقوف في الآيات، أين تقف؟ وإذا ضاق النفس هل يلزم أن تعود لكي تبتدئ القرّاءة من جديد من كلمات مضت لتصلها بما بعدها؟ أو يكفي أن تواصل من الموضع الذي انقطع فيه النفس؟ كل ذلك لا يتبين إلا بمعرفة المعاني والتفسير.
ومن حق هذا الكتاب علينا يا عباد الله كذلك: أن نعرف معانيه، فإنه أنزل ليس فقط من أجل معرفة حروفه، ولا من أجل قراءة كلماته، بل إن القراءة تُراد لمعرفة المعنى، والمعنى هو التفسير، وهذا التفسير علم، يشرف الله به من يشاء من خلقه، هذا التفسير هو المراد من هذه الآيات التي تكون في الصدور؛ ولذلك فإن الإقبال على معرفة معاني كلام الله هو الذي يزيد الإيمان يا عباد الله، وهو الذي يبين لك الرسالة لتعمل بها، وإن من حق القرآن علينا أيضاً: أن نستمع إليه كما قال الله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَسورة الأعراف 204. فجعل الاستماع والإنصات وظيفتان عظيمتان، الاستماع والإنصات بحيث يحضر القلب، الاستماع والإنصات بحيث لا يكون منك تشويش ولا أصوات، الاستماع والإنصات لكي يكون القلب حاضراً مواطئاً لما تستمعه الأذن فيدخل هذا في القلب فينفع، فينبت زرعاً، فيخرج ثمراً أيما ثمر، ولذلك شبه الله كتابه في مواضع بالمطر النازل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، فتخرج ألوان النبات وأنواعه شتى من الطيبات، وهكذا إذا نزل القرآن على قلب طيب كالتربة الطيبة أنبت أنواعاً من معاني الإيمان، التي تثمر ألواناً من الأعمال الصالحة كتلك الثمار الطيبة.
الاقتداء بالصحابة في التأمل والتدبر للقرآن الكريم
عباد الله: كان الصحابة يجتمعون فيأمرون أحدهم أن يقرأ، ويستمع الباقون، وكانوا يأمرون أنداهم صوتاً، وكثيراً ما كان يقول عمر لأبي موسى: ذكِّرنا ربنا، فيقرأ عليهم ما يتيسر وهم يستمعون ينصتون، ويتدبرون، ويتفكرون، ومن حق القرآن علينا: هذا التفكر وهذا التدبر، وهذا معنى زائد على مجرد معرفة التفسير؛ لأن التفسير معرفة المعنى العام، وأما التدبر والتفكر فهو: التدقيق للاستنباط والاستخراج، ومعرفة الفوائد، والغوص في المعاني في أعماقها، وهذا يتطلب حضور ذهن عظيم، ويتطلب جهداً في التركيز، ويتطلب معرفة بالتفسير، فيتدبر الإنسان مواضع التدبر في القرآن، وكله موضع للتدبر، فإذا تدبرت مثلاً في سورة الفيل: فرأيت كيف أهلك الله أولئك القوم الذين جاؤوا بحيوان كبير ضخم كالفيل، أهلكهم بطير صغار من صغار الحيوان، فسلط صغار مخلوقاته -الطير الأبابيل- على الفيل وأصحابه، بالرغم من ضخامة الفيل، وكان الهلاك فكيف دمر بهؤلاء الصغار من مخلوقاته هذا الضخم الكبير ومن معه من هؤلاء العتاة الجبابرة، الذين جاؤوا بهذه الجيوش والجحافل لهدم بيته العتيق، أليس في ذلك دلالة على عظمته وقوته وقدرته ؟
وعندما تتأمل في قوله مثلاً: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِيسورة الفجر 24. هذه الكلمة التي يقولها الإنسان يوم القيامة إذا بُعث من قبره، ورأى حشره، ونشره، وحسابه، ورأى الجنة والنار عياناً، فيقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي أليس ما كان فيه في الدنيا حياة؟ فلماذا يعبر بالحياة الآن على ما يكون؟ فيقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فتستخرج من ذلك: أن الحياة الحقيقية، الحياة الدائمة، الحياة المستقرة، الحياة الأبدية، أنها تلك التي في الآخرة، وأن ما في الدنيا الآن حياة مؤقتة، قصيرة، لذتها عابرة، لا تلبث أن تنقضي، ولذلك يقولون يوم القيامة، ويظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، فتكون الدنيا كحلم، وظل زائل، وأن الحياة الحقيقية كما قال الله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَسورة العنكبوت 64. ما هو المقصود بقوله: الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ؟ الحيوان صيغة مبالغة من الحياة، وهذه الكلمة الحيوان معناه: الحياة الدائمة، الطويلة، المستقرة، الحقيقية، ولذلك يقول الإنسان في الآخرة: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِيمع أنه قد سبقتها حياة أخرى، لكن لا شيء بالنسبة لتلك الحياة، وهكذا، وهكذا من أنواع التدبرات، والتفكرات، وهذا من حق القرآن علينا، لكن من الذي يطيق ذلك؟ العارف بالمعنى.
ومن حق القرآن علينا يا عباد الله: أن نُسْمِعَه لغيرنا وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِسورة التوبة 6. فإسماع القرآن للآخرين، وإسماع القرآن للعالم واجب علينا، إسماع القرآن للعالم واجب علينا، وبث القرآن للعالم واجب علينا، ومن صفات البلاغ ومعاني البلاغ الذي كلفت به هذه الأمة.
ترجمة معاني القرآن وحكم الترجمة
ومن واجب القرآن علينا كذلك: ترجمة معانيه إلى من لا يفقه العربية، ولا نقول: ترجمته؛ لأن ترجمة القرآن غير ممكنة، ترجمة القرآن مستحيلة؛ لأن القرآن نزل بكلام عربي مبين، ولا يمكن أن يترجم اللفظ؛ لأنه لا يوجد لغة أخرى تسع المعاني الموجودة في العربية، ولذلك لا يصح أن تقول: هذه ترجمة القرآن؛ لأن القرآن لا يمكن ترجمته، ونقل كل المعاني التي في هذه اللغة إلا بهذه اللغة، فبقيت ترجمة المعاني وليست ترجمة اللفظ؛ لأن اللفظ لا يمكن نقله كما هو إلى لغة أخرى، وترجمة معاني القرآن الكريم هو نوع من التفسير، ولذلك فإن التفسير لا يلزم لمسّه وجوب وضوء، وإنما هو من كتب العلم.
اشتراط الطهارة لمس المصحف
أما القرآن فله واجب آخر علينا من الواجبات: وهو أن لا يمس إلا على طهارة، كما فهم العلماء من قوله تعالى: لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَسورة الواقعة 79. وهم الملائكة، فإذا جعل هذا القرآن في اللوح المحفوظ لا تمسه إلا الملائكة الأطهار، فإنك يا عبد الله تقتدي بهم في مسه على طهارة؛ لأنهم لا يمسونه إلا على طهارة، وهم أطهار في جميع الأحوال، أي: الملائكة، وأما نحن فإن من يمس القرآن يجب أن يكون طاهراً من الحدثين الأكبر والأصغر، حتى يمس المصحف لا يمس القرآن إلا طاهر[رواه الطبراني في الكبير 13217]. وعلى ذلك أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم من أهل العلم كشيخ الإسلام رحمه الله وغيره، العلماء في القديم والحديث جماهيرهم: على وجوب الطهارة لمسّ المصحف، وقد أوجب بعض أهل العلم في الأجهزة الحديثة إذا ظهر القرآن على الشاشة أن يكون الماس لها طاهراً، وقال بعضهم: ليس لها حكم المصحف؛ لأنها تظهر وتختفي، وليست باقية دائماً كما هو موجود في المصحف، مطبوع فيه، مستقر لا يختفي ولا يزول، والأحوط أن يمسه على طهارة، حتى لو كان في هذه الأجهزة الكفية، ما دام ظهر على الشاشات.
الاستهزاء بالقرآن الكريم وإهانته كفر
وكذلك فإن من حق القرآن علينا: توقيره، فلا يجوز إهانته أبداً بأي حال من الأحوال، ولا رميه، ولا أن يجعل في أماكن نجاسات، أو قاذورات، وقد نبه العلماء على أن القرآن لا يجعل فوقه كتب أخرى، بل يجعل فوق جميع الكتب، حتى لو كانت كتب فقه، وحديث، ولغة، ومصطلح، وأصول فقه، ونحو ذلك وهذا من توقير القرآن، وكذلك لا يترك يعبث به الصغار فيهينوه، ولكن العلماء رخصوا للصغار بالإمساك في المصحف على غير طهارة للحفظ، إذا كان الطفل لا يعبث بالقرآن، ولا يرميه ويهينه، وإنما لمشقة الطهارة على الأطفال أجازوا لهم مس بعض أجزاء المصحف للحفظ منه، وكذلك فقد جعل العلماء من يهين المصحف عمداً وهو يعلم كافراً بالله العظيم، وهذا من أمثلة الكفر العملي، لأن الكفر منه كفر اعتقادي، وكفر باللفظ، وكفر بالعمل، وإهانة المصحف برميه في القاذورات ونحوها من أنواع الكفر العملي، الدال على وجود الكفر في القلب أصلاً، وقد قال الله: أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَسورة التوبة65. فمن استهزأ بشيء في القرآن عمداً وهو يعلم فقد كفر بالله العظيم؛ لأن هذا كلام الله، وهو حق على الحقيقة، فمن استهزأ بكلام الله دل ذلك على استهزائه بالله تعالى؛ لأن كلامه صفة من صفاته، لا ينفك عنه .
الرقية بالقرآن الكريم
وكذلك فإن من حق هذا القرآن: أن نستشفي به، يعني أن نرقي به في حال الأمراض الحسية والمعنوية، فيستشفى بالقرآن؛ لأن الله جعل فيه الشفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَسورة الإسراء 82. فإذن فيه رقية عظيمة، وأعظم ما يسترقى به من القرآن سورة الفاتحة، والمعوذات، وقد سأل النبي ﷺ أبا سعيد لما رقى بالفاتحة سبعاً، رقى رجلاً لدغته عقرب، فقال: وما يدريك أنها رقية[رواه البخاري 5749]. أي: أنه تعجب من فقهه، وأراد أن يمدحه، فيقول: ما أطلعك؟ كيف عرفت وتوصلت إلى ذلك؟ إقراراً له على ما فعل، فالرقية بالفاتحة سبعاً من أعظم الرقى، وكذلك الرقية بالمعوذات، والأصل أنهما: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِسورة الفلق 1. وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِسورة الناس 1. وقد أضاف العلماء إليهما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌسورة الإخلاص 1. لفضلها، وعظمها، ومنزلتها، ومكانتها، وأجرها، وأنها تعدل ثلث القرآن، وفيها ذكر صفات الرب ، فيستفتح بها في الرقية، ثم يسأل الله ، ويستعاذ به من شر ما خلق، ومن شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس، ويستعاذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، وكذلك يستعاذ برب الفلق، والغاسق إذا وقب، فهو رب الغاسق، ورب الفلق، يستعاذ به من شر ما خلق، ومن شر الغاسق إذا وقب، يعني: ظهر.
ومن حق القرآن علينا يا عباد الله: أن نتبرك به؛ لأنه كلام ربنا، فنقرؤه نرجو به البركة، وقد كان بعض السلف أو بعض أهل العلم يقول: ما ازددت حفظاً للقرآن وتلاوة له إلا ازدادت البركة في وقتي، وتمكنت أن أعمل في وقتي ما لم أكن أستطيع أن أعمله من قبل، فهو بركة.
وكذلك من حق القرآن علينا: أن نوقر حامليه، من حُفّاظه، وعلمائه، والعالمين بتفسيره، وأهل التدبر له، ولا شك في ذلك، وهذا بيّن ظاهر، فالنبي ﷺ أمر بتقديم قارئ القرآن في الصلاة: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله[رواه مسلم 673]. أي: أحفظهم وأعلمهم، وكذلك قدَّم في القبر عند دفن اثنين فأكثر للحاجة؛ لأن الأصل أن يدفن كل واحد في قبر مستقل، ولكن إذا دعت الحاجة كما في معركة أحد، أن يقدَّم أكثرهم قرآناً في الدفن، وكذلك زوَّج الرجل الفقير بما معه من القرآن، يعني: زوَّجه بشرط التعليم، أي: جعل مهرها أن يعلمها ما يحفظه، فتأمل كيف جعل الحفظ والمعرفة مهراً، ولذلك فإن توقير حامل القرآن من الدين العظيم، هذا القرآن الذي كان في صدور الذين أوتوا العلم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَسورة العنكبوت 49. كان يدفعهم إلى مصاف الصفوف الأولى في الصلاة وفي الجهاد، ولذلك لما استحر القتل بالقرّاء في معركة اليمامة، اتجهت جهود الصحابة إلى جمع القرآن؛ لأن كثيراً من الحفاظ الذين جعلهم القرآن في المقدمة قد قتلوا رحمة الله عليهم، كما ذهب سلفهم في بئر معونة من الذين كانوا يقومون به في الليل ويتلونه في النهار.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن يا أرحم الراحمين، اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وزوال غمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اجعله لنا شفيعاً يوم الدين، واجعله لنا حجة لا حجة علينا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير، والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وذريته الطيبين، وأزواجه، وخلفائه الميامين، وصحابته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، أوردنا حوضه، واسقنا منه، وارزقنا شفاعته، واجمعنا به يا رب العالمين.
فضائل شهر شعبان
عباد الله: شهر عظيم شهر شعبان، يغفل الناس عنه؛ لأنه بين شهرين عظيمين، فينسى الناس الوسط بينهما، رجب شهر محرم عظيم، ورمضان أنزل فيه القرآن، وفيه عبادة الصيام ومنزلته معروفة، وإذا كان الشيء بين عظيمين ينسى حقه في كثير من الأحيان؛ ولذلك قال ﷺ: يغفل الناس عنه[رواه النسائي 2357]. فترى كثيراً يذهبون فيه لا لأجل عبادة، أو زيادة تقرب إلى الله، ولكن يضيع فيه من حق الشهر ما يضيع، وخصوصاً عندما يكون في مثل هذه الإجازات، ولذلك يا عباد الله من عرف فضل زمانه اجتهد، واندفع للعمل، وشعبان يغفل الناس عنه؛ ولذلك العبادة في أوقات الغفلة من علامات الإيمان، فلو دخلت مولاً من المولات، وسوقاً كبيراً من الأسواق، فتحرك لسانك بذكر الله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير[رواه الترمذي 3428]. في مكان غفلة، مكان تبرج، وسفور، وصخب، وبيع، وشراء، ودنيا، وأيمان، وأشياء من أنواع الترف، والملهيات، والمشغلات، عندما تذكر الله في سوق هذا يدل على صحة قلبك، وقوة إيمانك، وكذلك عبادة الله في شعبان، وبعض الناس يستعد لرمضان بما يسمونه بالشعبنة، وإن هي إلا انغماس في أوحال المعاصي، يقولون: نودع اللهو حتى نتفرغ للعبادة، وهل التفرغ للعبادة يا عباد الله يكون بتوديع في الحرام، وانغماس فيه؟ بالعكس عندما يكون الشيء محتاجاً إلى جهد فلا بد فيه من نوع تحمية وتسخين، ألا تراهم هكذا يفعلون في الرياضات، فإذا كان رمضان شهر عبادة عظيم فإنه يحتاج إلى تهيؤ واستعداد، وهذا التهيؤ والاستعداد بالإكثار من الصيام في شعبان؛ حتى لا يهجم رمضان عليه وهو غير مستعد، يكون بفتح المصحف والإقبال على القرآن؛ حتى يزداد في رمضان، فيكون دخل في الجو ليزداد منه، حتى لا يبدأ فجأة، فإن النشاط يختلف.
وكذلك فإن شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وهذه ميزة عظيمة لشعبان، ولا توجد لغيره من الشهور؛ لأن الرفع ثلاثة أنواع: رفع يومي في الصبح والعصر، ورفع أسبوعي مرتين كذلك في الاثنين والخميس، ورفع سنوي في شعبان، ترفع أعمال السنة في شعبان، ولم يثبت ذلك في يوم معين في شعبان، وإنما ثبت في شعبان، وبعض الناس يدعي أنه في الخامس عشر من شعبان، ويجعلون لها ميزات خاصة، ويخصونها بعبادات ليست لغيرها، ويعتقدون فيها اعتقادات لم تثبت في الكتاب ولا في السنة، ولذلك قال العلماء: لم يثبت لليلة النصف من شعبان، لم يثبت فيها عبادة تختلف عما يكون في غيرها، فتقوم فيها كما تقوم في بقية الليالي، وتصوم نهارها كما تصوم في شعبان وفي غيره، وفي أيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لكن لا تخصها بشيء، ولم يرد ذلك؛ حتى لا تقع في البدعة فتأثم من حيث تريد الأجر، وكذلك فإنه قد جاء في بعض الأحاديث النهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان لمن لم يصم في النصف الأول أو من قبل، وقد ضعَّف كثير من العلماء هذه الرواية، وقالوا: الصوم في شعبان مستحب، في جميعه، في أوله، في نصفه الأول، وفي نصفه الثاني، ولم يثبت النهي، وبعضهم حسن الحديث وقال: إذا كانت له عادة استمر عليها، ولكن قد ثبت يقيناً النهي عن تقدم رمضان بيوم، أو يومين، فلا يجوز صيام يوم الشك، اليوم الذي لا يُدرى هل هو من شعبان ثلاثين شعبان، أو هو من رمضان واحد رمضان، ولذلك نتبع الهلال، فإذا ثبتت الرؤية صمنا واحد رمضان، وإذا لم تثبت الرؤية أكملنا شعبان ثلاثين يوماً، ومن صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ﷺ، وأما صيامٌ قبل رمضان بيوم أو يومين لعادة، كأن يوافق يوم الاثنين آخر شعبان مثلاً فيصومه لأنه الاثنين، فلا حرج حتى لو كان الثلاثاء واحد رمضان، وهذا فيه تفضيل صاحب العادة، المعتاد للأعمال الصالحة يُخص بأحكام تكريماً له، فالصوم في شعبان في كله الأصل الاستحباب.
عباد الله: شعبان حَفَل في تاريخنا بمناسبات كثيرة، فكان فيه مناسبات عقدية، دعوية، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش لما أراهم القمر شقين، قالوا: هات آية، فأشار إلى القمر فانشق، فرؤوا حراء بينهما، لكن هل آمنوا؟ أبداً، أراهم الله آيات، لكن: مَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَاسورة الزخرف 48. ولكن: عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَسورة الأحقاف 3. قالوا: سحرنا محمد.
في شعبان فرض رمضان، في شعبان من السنة الثانية للهجرة كان فرض رمضان.
في شعبان بنى النبي ﷺ بزوجته حفصة.
وفي شعبان كانت غزة تبوك.
وحَفَل تاريخ المسلمين بأحداث عظيمة في شعبان، فمن ذلك فتح الهند على يد السلطان المسلم العظيم محمود الغزنوي رحمه الله، فلما وصل إلى صنمهم الأكبر سومنات، الذي كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، أراد أن يهدمه، فبذلوا له الأموال الطائلة ليتركه، فقال بعض أصحابه في الجيش: خذها أيها السلطان لمصلحة المسلمين ودع لهم الصنم، فوعدهم أن يستخير الله، وفي اليوم التالي قام إلى هدمه وقال: لأن آتي يوم القيامة ويقال: هذا محمود الذي هدم الصنم، خير من أن يقال: هذا محمود الذي ترك الصنم يعبد من دون الله، بعث النبي ﷺ علياً ألا يدع تمثالاً إلا طمسه، فهدم الصنم فوجد تحته من الكنوز والجواهر أضعاف أضعاف ما بذلوه له، وهكذا من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وفي شعبان دخل الصليبيون بيت المقدس فاحتلوه تسعين عاماً، قتلوا عند دخولهم تسعين ألفاً، وانتهكوا الأعراض فقيل: لم يبق فيها بكر، وكانت رزية عظيمة، ومصيبة كبيرة على أهل الإسلام.
دخلوا في عام أربعمائة واثنين وتسعين للهجرة، ولكن أعاده الله للمسلمين لما عادوا إليه، لما عاد المسلمون إلى الله أعاد لهم بيت المقدس، فكانت أول جمعة في مسجد بيت المقدس، في المسجد الأقصى في أربعة شعبان خمسمائة واثنين وثمانين للهجرة، وكان فتحاً عظيماً من الله تعالى.
اللهم إنا نسألك في شهرنا هذا أن تخلّص بلاد الشام من الطواغيت يا رب العالمين، اللهم أنقذ إخواننا المستضعفين، اللهم أنقذ إخواننا المستضعفين، اللهم أنقذ إخواننا المستضعفين في الشام وسائر الأرض يا رب العالمين، اللهم أطعمهم من جوع، وأمّنهم من خوف، احمل حافيهم، اللهم اكس عاريهم، وداو مريضهم، واشف جريحهم، وارحم ميتهم، واجمع على الحق كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه، في شهرك هذا العظيم أن ترفع البلاء عن إخواننا في الشام، ليس لها من دونك كاشفة فاكشف ما نزل بهم من ضر يا رب العالمين، اكشف ما نزل بهم من ضر يا أرحم الراحمين، اللهم عجل فرج المسلمين يا رب العالمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء فابطش به، اللهم من أراد بلدنا هذا وبلاد المسلمين بمكر فامكر به، اللهم اقطع دابره، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم اقض ديوننا واستر عيوبنا، وارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم اقض ديوننا، واجمع على الحق كلمتنا، أصلح نياتنا، وذرياتنا، واغفر لآبائنا، وأمهاتنا، اللهم اعتق رقابنا من النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، واجعل مثوانا في الفردوس الأعلى يا غفور، يا كريم، يا رحيم، يا رب العرش العظيم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.