الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًالأحزاب 70-71.
أما بعد:
الشرف بالعبودية لله والاستعانة به على ذلك
أيها المسلمون: نحن عبيد لله ، خلقنا لعبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات 56. حياتنا كلها عبودية لله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سورة الأنعام 162. لا شريك له، نحن عبيد لله متذللون، متذللون بين يديه هكذا المفروض أن نكون، العبودية هي شرف لنا، ليست عبوديتنا للبشر، ولا للطواغيت، وإنما عبودية لله .
أيها المسلمون: لا نذل لبشر ولا نخضع، ولا نخاف أكثر من الخوف الطبيعي ولا نركع، وإنما نحن نضع جباهنا على الأرض عبودية لله ، تطأطئ رؤوسنا له ، نقف بين يديه في الصلاة فنضع أيماننا على شمائلنا ذلاً بين يديه ، ونضع أعلى ما فينا جباهنا على الأرض ذلاً ونركع له ، لا نأخذ إلا من شرعه، ولا نتحاكم إلا إليه، ولا نعبد إلا هو ، عبوديتنا إخلاص لله، عبوديتنا إخلاص لله والله لا يرضى الشرك، ومن أشرك معه قال له يوم القيامة اذهب إلى هذا أشركت معه فخذ منه أجرك، عبوديتنا لله خالصة لا رياء فيها ولا سمعة، هكذا ينبغي أن تكون، عبوديتنا لله مجردة عن أمور الدنيا، بمعنى أنا لا نقصد شيئاً من الدنيا في عبادته، لا جاهاً، ولا مقاماً، ولا مالاً، ولا ذكراً بين البشر، وإنما نقصد بعبوديته نيل الأجر منه ، عبوديتنا لله فيها متابعة لرسوله ﷺ، فلا نخترع ولا نبتدع، ولا نأتي بما خالف السنة، فالعبودية تقتضي أن نسير على هذا النهج النبوي الكريم، الذي اختطه محمد ﷺ، وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد، وكل بدعة ضلالة، ليس هناك بدعة حسنة، وبدعة سيئة، والدليل قوله ﷺ: كل بدعة ضلالة[رواه مسلم 867]. فتأمل هذا الشمول في قوله لم يستثنِ شيئاً، وإنما قال: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار[رواه النسائي 1578]. فلا بدع في الدين، وإنما البدع في الأمور الدنيوية المباحة مباحة، عبوديتنا لله شرف يكاد المؤمن يطير فخراً وتيهاً عندما يسمع قول الله : قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْسورة إبراهيم 31. يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِسورة العنكبوت 56. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ سورة الزمر 53. هؤلاء بهذا النداء صاروا أكرم شيء وأشرفه: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم [رواه مسلم 2577]. هذه العبودية شرف وفخر لا تدانيها رتبة، ولا وسام، ولا نيشان، وإنما هي وسام وضعه الله على قلوب من يشاء من عباده الذين أذلوا أنفسهم لربهم، عبوديتنا لله مبنية على محبته، فليس عبودية كره، ولا عبودية ثقل في الأعمال، نعبده ونحن نحبه، ونقوم له طويلاً حتى تتعب الأقدام، ونحن نرغب في المزيد، عبودية مبنية على رابطة قوية نشعر بها نحو الخالق ، وهي حبنا له محبة صادقة خالصة، محبة عظيمة نتمنى أن نستزيد من العبادة لأجل هذا المحبوب، ولا نقدم في العبادة عليه شيئاً؛ لأنه ينبغي أن يحب أكثر من كل شيء ، عبوديتنا لله نرجو فيها ثواب الله، ليست عبودية فارغة عن طلب الأجر واحتسابه، بل إننا نرجوه ؛ لنأخذ الأجر والثواب منه برحمته ، عبوديتنا لله فيها استعانة به نحن نستعين بالله على عبادة الله، وبدون عون الله لا يمكن أن نعبده إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ سورة الفاتحة 5. قدم الغاية على الوسيلة، الوسيلة هي الاستعانة والعبادة هي الغاية، قدم الغاية على الوسيلة؛ لبيان أهميتها وشرفها، وإلا فإننا نقول: "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته -سؤال الله العون على مرضاته- ثم رأيته في سورة الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبوديتنا لله ليس فيها مَنّ ولا أذى، فلا نقول لقد قمنا لك ساعات، وصمنا لك أياماً طويلة، وتجْشمنا المشاق من أجلك، فلا نمن على الله بالعبادة، وإنما نعبد ونشعر بأننا مقصرون،
لا بد أن نعبد أكثر وأكثر، نشعر بأننا لا بد أن نعبد حتى الموت، فالعبادة لست متوقفة على حين أو زمن، وليست بحد محدود، وإنما هي بلا حدود وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ سورة الحجر 99. فنستمر في العبادة، ونستمر حتى نلقى الله، لا نعبده في موسم دون آخر، ولا في شهر دون غيره، ولا في وقت دون وقت، وإنما هي عبادة مستمرة حتى الممات، عهدنا مع الله أن نعبده حتى نلقاه، حبلنا معه المستمسكون نحن به أننا لا نزال على شرعه وطريقته حتى الموت، عبادتنا لله لا تفرق بين الدنيا والآخرة، فكما أننا نبتغي العبودية من الله بالصلاة -عبودية الله بالصلاة والصيام والزكاة والحج وقراءة القرآن والذكر والاستغفار والدعاء والعمرة وغيرها والذبح لله-، فإننا نبتغي العبادة في أكلنا وشربنا ونومنا ونكاحنا وتجارتنا وسائر أعمالنا لله ، وذهابنا إلى الطبيب وإعمالنا لأسباب الصحة، فإننا نبتغي بذلك -والمفروض أن يكون- العون على عبودية الله، فلا نفرق بين الدنيا والآخرة في العبادة، فالعبادة واسعة تشمل كل شيء، ولذلك فإننا لا نعرف الله في المسجد ونتنكر له خارج المسجد، ولا نعرف الله في صلاة التراويح ونتنكر له أمام الأفلام والأغاني، ولا نعرف الله في القرآن ثم نتنكر له في لعب الورق، لا نعرف الله في وقت ونجهله ونتنكر له في وقت آخر، لأن العبودية تشمل كل شيء، فالمباحات تنقلب إلى مأجور عليها بالحسنات بالنية، إذا صارت هذه الأشياء عبادة لله أجرنا عليها، عبادتنا لله نشعر بها عندما نقوم بها فنميزها عن العادات، نميزها عن العادات بمعنى: أننا لا نسمح للعبادة أن تتحول إلى عادة، فلا نسمح لأنفسنا أن نصوم لأن المجتمع يصوم، وأن نفطر لأن المجتمع يفطر، وأن نأتي للصلاة في المسجد لأن الناس يأتون إلى الصلاة، وأن نذهب للعمرة لأن أكثر الناس قد ذهبوا، وإنما نفعل ذلك كله ابتغاء الأجر والثواب، نفعل ذلك كله رضاً وإرضاءً لله ، نفعل ذلك كله طالبين للأجر ليس لمماشاة المجتمع، نعمل ذلك بالنية وليس في غياب النية، فلا تصبح العبادات جوفاء خالية من المعاني والخشوع، عبوديتنا لله مرضاة للرب في كل وقت، فلننظر ماذا يحب ربنا في وقت السحر فنفعل! قرآن، دعاء، ذكر، استغفار، ماذا يحب ربنا في أوقات الصلوات! الوضوء، الاستعداد، الذهاب إلى المساجد، الخشوع، ماذا يحب ربنا في وقت استرشاد الجاهل! تعليمه، تنبيهه، تذكيره، التفصيل له، ماذا يحب ربنا في وقت ضرورة المحتاج! أن نساعده بالمال والبدن، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، ماذا يحب ربنا في وقت قراءتنا للقرآن! الإقبال عليه، الخشوع، التطهر، استقبال القبلة، التفطن للمعاني، التوقف عند الآيات، سؤال الله الرحمة، الاستعاذة من العذاب، والتفاعل مع هذه الآيات لنقلها حية في الواقع، ماذا يحب ربنا في يوم عرفة! أن نقف في ذلك الموقف إذا كنا حجاجاً ونخلص له في الذكر والدعاء، وإذا كنا في البلد صمنا؛ لأن صيام يوم عرفة يكفر سنة ماضية وسنة قادمة، وماذا يحب ربنا في يوم عاشوراء! نفعل، ونصوم تاسوعاء وعاشوراء، وماذا نفعل في وقت مرض أخينا المسلم! نفعل ما يرضاه الله من أنواع العبودية بزيارة المريض، وفي وقت النوازل نعتزل الفتن ونلجأ إلى الله بالدعاء، وهكذا تكون الأمور في كل وقت، هذا معنى العبودية، أن ننظر ماذا يرضي الله في هذا الوقت فنفعله، عبوديتنا بالقلب والجوارح ليست بالجوارح فقط، ليست بالحركات فقط، ليست مشياً ولا سعياً ولا فعلاً بالأيدي فقط، وليست انحناء ونزول وصعود فقط، وليست عد بالأصابع فقط، وإنما هي أيضاً أشياء بالقلب، محبة، خوفاً، رجاءً، استعانة، مراقبة، حياءً من الله، إخلاصاً له، تواضعاً إليه، إخباتاً بين يديه، وهكذا من أنواع عبوديات القلوب، فتتظافر مهمة القلب مع مهمة الجوارح، هل علمتم الآن أيها المسلمون ما هي أركان عبوديتنا؟ هل اتضح لكم أيها الناس ما هي صفات هذه العبودية؟ فإذا كان ذلك كذلك فاعلموا الآن بعدما اتضح ذلك لماذا يفشل كثير من الناس في امتحان الحياة الدنيا؛ لأنهم ما عرفوا الهدف الذي خلقوا من أجله، وإذا عرفوه وهو العبودية فلا يعرفون كيف القيام به، ما هي واجباته وأركانه وأسبابه، ومستحباته؟ ما هي فرائضه ونوافله؟ ومن أجل ذلك حصل التقصير في مقام العبودية، ولولا أن العلم بهذا مع العمل قد قام قياماً صحيحاً لم تكد ترى الآن في المجتمع عاصياً لله، أو مقصراً في واجباته.
المحاسبة على ما مضى واستغلال بقية أيام العشر
أيها المسلمون: لقد تصرم ثلثا شهر رمضان المبارك، لقد ذهب عشرون يوماً من أيامه، فهل أحسسنا وأحسستم هل أحسسنا جميعاً كيف انقضت هذه الأيام؟ ما بقي إلا الثلث، فهل شعرتم كيف مضت عشرون يوماً من رمضان؟ هلا كنتم مع هذه العشرين لحظة بلحظة! إن الزمان يمشي بسرعة، وهذا من أشراط الساعة، تصبح السنة كالشهر، ويصبح الشهر كالجمعة، وتصبح الجمعة كاليوم، ويصبح اليوم كالساعة مثل احتراق السعفة، تمضي الأيام سريعة جداً وهذه الساعات تنقضي ولا نحس بها، بالله عليكم هل أحسستم بانقضاء ثلثي الشهر الآن أيها المسلمون! فإذا كان حصل منا تفريط في الماضي، إذا كان حصل منا تقصير وإهمال في ثلثي الشهر الذي مضى فإن الحري بالمؤمن أن يستدرك ما فات.
أيها المسلمون: هذه العشر الأواخر قد أوشكت على الدخول وليلتنا القادمة أول ليالي العشر، فماذا نفعل الآن في عبوديتنا في هذه العشر الأخيرة من رمضان، كيف كان رسول الله ﷺ يعبد ربه في العشر الأخيرة من رمضان؟ كان ﷺ إذا دخل العشر: شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. [رواه البخاري 2024]. كان ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. [رواه مسلم 1175]. كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر في هذه العشر في أولها ثم دخل معتكفه، إذاً كان يخص هذه الأيام -والليالي القادمة مثلها- كان يخصها ﷺ بعبادات لله ، تفرغ تام للعبادة في هذه العشر، وشد المئزر: كناية عن الابتعاد عن النساء لأجل التفرغ للعبادة، لا تحريماً وإنما استحباباً حتى يجتمع القلب على عبودية الله فلا يشغله شاغل.
حسن القيام في ليلة القدر سبب لمغفرة الذنوب
أيها المسلمون: إن العبودية لله تقتضي متابعة نبيه ﷺ فيما كان يفعل، كان إذا دخلت العشر تغير واقعه مع أن الواقع أصلاً متغير من أول رمضان، ولكنه كان يقول ﷺ: أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم[رواه النسائي 2106]. وفي رواية: ولا يحرم خيرها إلا محروم[رواه ابن ماجه 1644]. وقال: من قام ليلة القدر -ثم وفقت له- إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه هل تصورت الذنوب التي ارتكبت في سائر الأيام والسنين الماضية، يمكنك إذا أحسنت قيام هذه الليلة أن تمحو ذلك كله سائلاً الله المغفرة والرحمة، نزل القرآن على رسول اللهﷺ في شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ سورة البقرة 185.إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ سورة القدر 1-3. والله يتفضل على عباده بمواسم يعطيهم في يوم منها ولحظة منها ما يعطي في أشهر وسنين ، ولما كان أعمار هذه الأمة قصيرة بالنسبة لأعمار الأمم الماضية فإن أعمار هذه الأمة في المتوسط بين الستين والسبعين، وكان الناس في الأمم الماضية يعيشون مئات من السنين، وهذا نوح عاش أكثر من تسعمائة وخمسين عاماً، فلأجل ذلك من رحمة الله من كرم الله من فضل رسوله ﷺ عنده أن أعطى أمته مواسم تكون العبادة في بعضها تساوي سنين لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تعويضاً لنا عن طول العمر الذي كان في الأمم الماضية، وقصر أعمار هذه الأمة أعطيت هذه الأمة مواسم في الخير تكون العبادة فيها مثل سنوات طويلة لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فهل يدرك العقلاء من الأمة الآن أهمية هذه المواسم العظيمة لكي يعوضوا سنوات طويلة قد عبد الله فيها أسلافهم في الأمم الماضية ممن كانت أعمارهم طويلة، ليلة القدر ليست ليلة فوازير وجوائز، ليلة القدر جوائز من رب العالمين، ليلة القدر ليست ملاهي وأغاني يا جماعة لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وليست الشياطين وَالرُّوحُ فِيهَا وليس طواغيت البشر وشياطين الإنس وإنما الروح جبريل بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سورة القدر 4-5. سلام من الله على عباده سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سلام هي بالعبادة وليس بالمعاصي، عن وافلة بن الأسقع أن النبي ﷺ قال: أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان [رواه البيهقي في شعب الإيمان 2053].
وقال ﷺ: التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين [رواه الطبراني في الكبير 814]. وقال: التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة [رواه ابن خزيمة 2189]. وقال: تحروها ليلة ثلاث وعشرين [رواه الطبراني في الكبير 338]. وقال: ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى[رواه البزار 9447]. وقال: اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فإن غلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي[رواه أحمد 1111]. وقال: اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر في تسع يبقين، وسبع يبقين، وخمس يبقين، وثلاث يبقين [رواه أحمد 11679].وقال: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان[رواه مسلم 1169]. قال أهل العلم: "فليلة القدر قد تتنقل وتتغير من سنة إلى أخرى، جمعاً بين الأدلة المختلفة ولكنها أكثر ما تكون في ليلة سبع وعشرين" لكن ليس بالضرورة أن تكون دائماً في سبع وعشرين وإنما تتنقل في ليالي الشهر كلها في العشر الأواخر؛ لأنه مرة قال: في سبع يمضين، ومرة قال: أو سبع يبقين[رواه أحمد 2543]. ومرة قال: وثلاث يبقين[رواه أحمد 11679]. ومرة قال: لثلاث يمضين فأوتارها وأشفاعها محل لحصول ليلة القدر فيها؛ لأن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين، ولا يطلق على رمضان ناقص لأن الأجر فيه تام، وإنما هو ناقص بالعدد وليس بالأجر، وقد يكون كاملاً ثلاثين يوماً، فباعتبار ما مضى وما بقي يختلف الأمر إذا كان الشهر تسعاً وعشرين أو ثلاثين، وبناء على ذلك فينبغي أن تلتمس ليلة القدر في جميع العشر من رمضان، وترها وشفعها، زوجاً ومثنى، تلتمس ليلة القدر في هذه العشر كلها جمعاً بين الأدلة، ما هي صفاتها؟ ليلة القدر ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء، ليلة القدر ليلة بلجة مشرقة، لا حارة ولا باردة، ولا يرمى فيها بنجم، ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها كأنها طست -يعني: إناء كبير مستدير- حتى ترتفع، فهذه علاماتها، هذه أوصافها، أخبرنا بها ﷺ، ولكن لا تكاد تُعرف لأن كثيراً من الناس لا يتحرونها، وعلامتها تطلع بعدها وليس قبلها، فإن طلوع الشمس من صبيحة اليوم التالي، وهذا هو المعنى في إخفائها؛ لكي يجتهد الناس في العبادة، فإنها لو حُددت لما عبد الكثيرون إلا يوم التحديد ونسوا بقية الأيام، فأخفيت لكي يجتهدوا في الدعاء، يجتهدوا في الأذكار، يجتهدوا في العبادة لله رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا في من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده ، لا شريك له، ولا ند له، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً ﷺ، سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، وخليل الرحمن، والمصطفى عند رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أدى الأمانة إلى العباد، وأحسن النصح فيهم، كم نحبه ﷺ! كم نحبه لما علمنا وذكّرنا! كم نحبه لما كان لنا قدوة بأعماله ﷺ وكانت أقواله نبراساً يستضاء به!.
كيف كانت عبادة النبي ﷺ وأصحابه في رمضان؟
أيها المسلمون: هل تريدون أن تعرفوا كيف كان رسولكم ﷺ وأصحابه يعبدون الله في رمضان وفي العشر الأواخر منه؟ حسناً! فاستمعوا لهذا الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناس يصلون في مسجد رسول الله ﷺ في رمضان بالليل أوزاعاً -يعني: متفرقين- يكون مع الرجل الشيء من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو الستة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته قالت: فأمرني رسول الله ﷺ ليلة من ذلك أن أنصب -يعني: أضع- له حصيراً على باب حجرتي، ففعلت، فخرج إليه رسول الله ﷺ بعد أن صلى العشاء الآخرة، قالت: فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم رسول الله ﷺ ليلاً طويلاً، ثم انصرف رسول الله ﷺ، فدخل وترك الحصير على حاله، فلما أصبح الناس تحدثوا بصلاة رسول الله ﷺ بمن كان معه في المسجد تلك الليلة فاجتمع أكثر منهم، قالت: وأمسى المسجد راجَّاً بالناس، فخرج رسول الله ﷺ في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد -حتى اغتص بأهله- من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فصلى بهم رسول الله ﷺ العشاء الآخرة ثم دخل بيته وثبت الناس، قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: ما شأن الناس يا عائشة؟ قالت: فقلت له يا رسول الله! سمع الناس بصلاتك البارحة بمن كان في المسجد فحشدوا لذلك لتصلي بهم، قالت فقال: اطوِ عنا حصيرك يا عائشة قالت: ففعلت، وبات رسول الله ﷺ غير غافل -ومن قام بمائة آية أو مائتين لم يكتب من الغافلين أبداً- وثبت الناس في مكانهم، فطفق رجال منهم يقولون الصلاة، حتى خرج رسول الله ﷺ إلى الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس ثم تشهد، فقال: أما بعد: أيها الناس! أما والله ما بت والحمد لله ليلتي هذه غافلاً -قائماً أصلي- وما خفي عليَّ مكانكم ولكني تخوفت أن يفترض عليكم[رواه أحمد 26307 ومسلم 761]. وفي رواية: ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها [رواه مسلم 761]. ولما مات ﷺ زالت هذه الخشية، فبقي قيام الليل والاجتماع عليه سنة، فأحيا هذه السنة عمر ، وقوله: نعمت البدعة هذه، أي: إحياؤه للسنة، وإلا فإنها ليست أمراً مبتدعاً جديداً فإنه ﷺ قد أقام بهم وصلى جماعة بهم، فجاء عمر لما زالت الخشية فأحيا هذه السنة، وعن النعمان بن بشير قال: "قمنا مع رسول الله ﷺ ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح قال: وكنا ندعو السحور الفلاح" [رواه أحمد 18402]. وعن حذيفة بن اليمان قال: قام رسول الله ﷺ ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النخل ثم صب عليه دلواً من ماء ثم قال: الله أكبر - ثلاثا - ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة-هناك أدعية للاستفتاح في قيام الليل- ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم -يكررها مثلما كان قائماً في الطول- ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، أو الأنعام [رواه أبو داود 874]. حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة [رواه أحمد 23399]. صلاة الفجر.
قال أبو ذر : صمنا فلم يصلّ ﷺ بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة-من صلى مع الإمام من أول الصلاة إلى آخرها حتى يسلم معه كأنه قام الليل كله- ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونسائه، فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور [رواه الترمذي 806]. فلما مات ﷺ أحيا أصحابه سنته، ولما زالت الخشية أحيا أصحابه سنته فصاروا يقومون ليلياً في رمضان، وكلف عمر أُبياً وغيره أن يصلوا بالناس، لما أمر عمر أُبي بن كعب أن يصلي بالناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان كما كانت سنته ﷺ، كان أُبي يقرأ بالمئين حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر، كم عبدوا الله! كم صبروا على العبادة! في صيامهم وقيامهم وذكرهم لله !.
الاعتكاف: سنيته وأحكامه
كان ﷺ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وأخبر أصحابه أنها سنة، وقال الله: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِسورة البقرة 187. وآكد الاعتكاف في رمضان، وكان ﷺ يعتكف في غيره، وقال أبو هريرة: "كان رسول الله ﷺ يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً" [رواه البخاري 2044]. ولا يشرع إلا في مساجد، قالت عائشة: السنة في المعتكف ألا يخرج إلا لحاجته التي لا بد له منها، ولا يعود مريضاً، ولا يمس امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، والسنة لمن اعتكف أن يصوم، فإذا كان رمضان لا بد أن يصوم، وفي غير رمضان يستحب أن يصام مع الاعتكاف، وينبغي أن يكون في مسجد جامع؛ لكي لا يضطر للخروج للجمعة، وإن اعتكف في أحد المساجد الثلاثة فهو أفضل وأفضل، ويخرج المعتكف لقضاء حاجته والطعام إن لم يتيسر له ذلك، فيقضي حاجته بسرعة ويعود.
صاموا، قاموا، اعتكفوا، قرأوا القرآن، وذكروا الله ، فأدوا ما عليهم من واجباتهم نحو الله ، هكذا كانوا، ونحن اليوم نستطيل الصلاة، ونضطر لتقصير الصلاة؛ من أجل ألا ينفر الناس من المساجد، وهذه سنة نبينكم ﷺ، واعلموا أيها الأخوة! أنه ليس هناك فرق بين التراويح والقيام، التراويح هي القيام، كله قيام الليل، كله اسمه قيام، لكن أطلق عليها التراويح؛ لأجل أنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات، أو بعد ركعتين يستريحون، فسميت تراويح، وإلا هي هي قيام الليل، ويخطئ العامة الذين إذا أطال الإمام في صلاة التراويح بعد العشاء قالوا: كأنه قيام، نقول هو قيام ولا فرق بين التراويح والقيام، كله قيام، ولكن بعض الناس يفصلون أو يجعلون قسماً بعد العشاء مباشرة، وفي الليل حتى لا يتعب الناس من القيام المتواصل، والمحافظة على سنته ﷺ بصلاة إحدى عشرة ركعة في ليل رمضان، ويجوز الزيادة عليها، والأفضل الالتزام بالسنة إحدى عشرة ركعة، فلو قسمها جزأين فصلى بعد العشاء أربعاً مثلاً، وصلى في الليل أو في الثلث الأخير من الليل صلى البقية الباقية من الإحدى عشرة فهذا حسن جداً، والحمد لله على نعمائه، وشرعه لنا .
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اجعل شهر رمضان هذا فتحاً ونصراً وتأييداً للإسلام والمسلمين، اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم ارزقنا تحكيم الشريعة، والعمل بالسنة، ومتابعة الكتاب، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.