الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًالأحزاب 70-71.
فرضية الصيام وشكر الله على نعمة بلوغ رمضان
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍسورة البقرة 183-184. هذا النداء من الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين لا يخالفون أمره، ولا يعصونه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْسورة الأحزاب 36. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ورغب العباد فيه بقوله: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وأرشدنا إلى شكره على ما فرضه علينا بقوله: وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ سورة البقرة 185. حببه إلينا، وخففه علينا، حتى لا تستثقل النفوس ترك العادات، وهجر المألوفات، فقال الله تعالى: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ لا تلبث أن تنقضي سريعاً وتذهب، وهذا ما سنشعر به في آخر هذا الشهر، تذهب أيام الشهر بسرعة، فالسعيد من استفاد منها، ورحمنا سبحانه ونأى بنا عن الحرج والضرر، فقال سبحانه: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ هذه الآيات التي تخاطب المؤمنين، وتشحن نفوسهم للدخول في هذا الشهر العظيم، في هذا الشهر الكريم شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، ولذلك فإن المؤمن لو ضرب على أن يأكل ويشرب في هذا الشهر لا يمكن أن يفعل؛ لأنه يشعر بأن الأمر نزل من الله تعالى، من فوق سبع سماوات يخاطبه هو فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصار فرضاً عليه.
يا عباد الله، يا أيها الناس، يا معشر المسلمين: رحمة الله تعالى قد جاءتنا وأدركتنا، أعظم نعمة منّ الله بها علينا بعد نعمة التوحيد والهداية لهذا الدين في هذا اليوم أن بلغنا شهر رمضان، بلوغ شهر رمضان نعمة، فكم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، وصار إلى ظلمة القبر، ألم يعزي بعضكم في بعض الأموات في الأيام الماضية، ما كتب الله لهم أن يصوموا، انقطع بهم الأجل قبل بلوغ الشهر، وأنتم بلغتموه، فاحمدوا الله تعالى على هذه النعمة، النعمة العظيمة ببلوغ الشهر، فالحمد لله على ما أنعم، ونسأل الله المزيد من فضله.
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر، وأنعم علينا بجعل الأجور مضاعفة فيه، بل إن أجر الصيام ليس بمقدر بشيء معين: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به فمنّ الله علينا بعبادة الأجر فيها بغير حساب إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ سورة الزمر 10. كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ثم تأمل كيف تنشأ العلاقة بين الخالق والمخلوق يدع شهوته وطعامه من أجلي [رواه مسلم 1151]. فلما كان الترك لأجل الله صار الثواب بغير عدد، أضعافاً مضاعفة بغير حساب، سبحان من خلق في أنفسنا شهوة الطعام والشراب، ثم تعبدنا بتركها وقتاً معلوماً في رمضان، ثم أعطانا بها الجزاء الأوفى، ثم جعل الصيام شافعاً للعبد يوم القيامة، كما جعل للصائم فرحة عند لقاء الله، فرحة عند لقاء الله أيها الصائم! يا عبد الله الفرحة عند لقاء الله لا تعدلها فرحة، ومن فرح في ذلك اليوم فلا يحزن أبداً أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ سورة يونس 62. فهذا الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه، والصيام يقول يوم القيامة: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه فيشفع فيه.
جعل الله رائحة فم الصائم الكريهة عند الناس أطيب عنده من ريح المسك، وجعل الصوم جنة ووقاية من عذاب النار، وأخبر نبيه ﷺ أن: من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً[رواه مسلم 1153].
يا معشر المسلمين أبشروا إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم خصوصية للصائمين: فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد [رواه مسلم 1152].
يا عباد الله: اشعروا بالنعمة العظيمة عندما تفتح أبواب الجنان في أول ليلة من رمضان، وتغلق أبواب جهنم، وتسلسل الشياطين، هذه النعمة، صفد لك الشياطين، وفتح لك أبواب الجنة، وغلق أبواب النيران، وضاعف الأجر، وهو يقول لك: يا عبدي هلم فاعمل، وكسر شهوة نفسك بما أعانك على ذلك من منعك عن الطعام والشراب في النهار، والجسد ينجذب إلى الأرض، والروح تحتاج إلى غذاء، وخفة المعدة، والتجرد من الشهوات، يؤدي إلى صفاء النفس، وفراغ الخاطر، فيعرف المسلم تفاهة الدنيا فيحن إلى الآخرة حنين الطائر إلى وكره، والسمك إلى مائه، الحنين إلى الآخرة.
فحي على جنات عدن فإنها | منازلك الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبي العدو فهل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلم |
أخرج أبونا من الجنة بمكيدة إبليس، والجنة وطننا الأصلي الذي نزل فيه أبونا، الجنة هو الدار الأصلية لهذا المخلوق البشري، ولكن مكيدة إبليس أخرجت الأب من الجنة، فهل يا ترى سنرجع إلى وطننا الأصلي؟ هل سنرجع إلى أرضنا الأصلية؟ أرض الجنة، هل سنرجع إلى تلك الدار أم لا؟ السعيد من رجع بسلام، والشقي من تاه عن درب الجنة فسقط في عذاب النيران.
أهمية احتساب الأجر في صيام رمضان
عباد الله: صيام شهر رمضان يعدل صيام عشرة أشهر و من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري 38 ومسلم 760]. إيماناً بالله، وإيماناً بفرضية الشهر، وعدم الشك بوجوبه، إيماناً بما أعد الله للمؤمنين، واحتساباً للأجر، فهو لا يزال يراجع نفسه ويذكرها بأجر الصوم، في نهاره يقول لنفسه: إلا الصوم فإنه له، وهو يجزيني به، إلا الصوم فإن جزاءه بلا حساب، يرجو ثواب الله، يأمل موعود الله، يتعلق أمله بهذه الحسنات العظيمة، يوم يقال للصائمين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِسورة الحاقة 24. منعناكم عن الطعام والشراب والنكاح في نهار الأشهر، أشهر رمضان في أعماركم خذوا الآن الأجر كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ سورة الحاقة 24.
الاحتساب مهم -أيها الإخوة-، مهم في حصول الأجر، والذي لا يحتسب لا يرجو رحمة ربه، لا يأمل في الثواب، لا تتعلق نفسه بالحسنات، يفوته أجر عظيم، تذكر الحديث: إيماناً واحتساباً في كل أيام الشهر، تذكر الحديث: إيماناً واحتساباً ولله عند كل فطر عتقاء، عند كل فطر تفطره في أيام هذا الشهر لله فيها عتقاء من النار، عتقاء من النار، فيا فرحة الذي كتب في العتقاء في ليالي هذا الشهر.
نسأل الله أن يكتبنا فيهم، نسأل الله أن يجعلنا منهم، نسأل الله أن لا يحرمنا الأجر في هذا الشهر.
أهمية رؤية الهلال في رمضان
عباد الله: إذا كانت المسألة عظيمة إلى هذه الدرجة، إذا كانت القضية خطيرة لها شأن عظيم، الأمة كلها مطالبة بأن تصوم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته [رواه البخاري 1909 ومسلم 1081]. وجعل القمر دليلاً عينياً على بلوغ الشهر، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، فعند ذلك تتجه الأمة كلها وتتوحد، وقد آلمنا وآلم المسلمين تفرقهم، شيعاً وأحزاباً، دولاً وبلداناً، تفرقوا والإسلام فيه ما يجمع صوموا لرؤيته، ولذلك قال جمهور العلماء: "إذا رأى واحد من المسلمين الهلال الثقة صام المسلمون كلهم في أرجاء الأرض"؛ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته [رواه البخاري 1909 ومسلم 1081]. لا حسابات، ولا فلكيات، ولكنه دليل عيني، وبرهان قوي، المسلم الثقة الذي يوثق ببصره وخبره إذا رأى الهلال صامت الأمة كلها.
عباد الله: إذا كانت القضية بهذه الخطورة فهل يجوز لنا أن نذهب الحسنات بالانشغال بالترهات، والسيئات، والأفلام، والمسلسلات، والمباريات، والجلسات الفارغات، أو التسكع في الطرقات، أو اللهو بالسيارات، أو الازدحام في الأرصفة والطرقات؟ هل يجوز لنا إذا كان هذا هو الأجر، وهذا هو المغنم، أن ننام ونضيع الصلوات، أو نفوت الجماعات؟ هل يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نسافر إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات في موسم الخيرات؟ هل يجوز لنا أن نفعل المنكرات حتى في المساجد؟ هل يجوز أن يحول الشهر إلى شهر لهو ولعب وصفق بالأسواق، وتطواف على المحلات، وتتبع للبضائع، والله يدعونا إلى مائدته، ونحن نعرض عنها؟ كلا والله، فدع إذن، فاترك هذه الملهيات التي خطط لها أعداء الإسلام جيداً، وحبكوا طرائقها حبكاً محكماً من أجل أن يلهوك أنت، أنت يا أيها المسلم، أنت المستهدف، أنت غنيمتهم، أنت مرادهم، أنت بغيتهم، لا يجوز لك أن تجعل الحيلة تنطلي وأن تقع بالفخ، اترك الآن، اترك اللهو، اترك هذه الملهيات، اترك الانشغال بالقنوات، وما أدراك ما القنوات، وأقبل على الله تعالى، عجل الطاعات، خذ آداب الصيام من الحرص على السحور وتأخيره، وتعجيل الفطر، وعدم الإكثار من الطعام، ولا تشغلوا نساءكم في البيوت بالطبخ والخادمات حتى لا يعود لهن وقت يعبدن الله فيه، جودوا بالعلم، جودوا بالمال، جودوا بالجاه في هذا الشهر، الأجر مضاعف، جودوا بالبدن، جودوا بالخلق الحسن "كان رسول الله ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان" كل ليلة اجتماع ثنائي بين النبي ﷺ وجبريل، ما هو موضوع الاجتماع، ما هو جدول الاجتماع؟ "فيدارسه القرآن" هذا شهر القرآن، فيدارسه القرآن، هذا شهر القرآن، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ "فلرسول الله ﷺأجود بالخير من الريح المرسلة" [رواه البخاري 1902]. فإن قلت يا عبد الله: إنني عازم على الختمة، والله أيها الإخوة إن الذي بدأ رمضان يريد الوصول إلى الله سيصل وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا سورة العنكبوت 69. وعد قاطع من الله، لما غربت شمس الأمس ففتح ذلك الرجل مصحفه، وأقبل على القراءة عازم على البداية الصحيحة أن يختم، والصحابة كانوا يختمون القرآن في كل أسبوع مرة، كل سبعة أيام مرة، عازم على الختمة سيختم، والذي لهى وأجل وسوّف فلن يتقدم.
آداب تلاوة القرآن
أولاً: أن يقرأ القرآن لله لا من أجل الناس؛ لأن الله يقول لأحد الناس يوم القيامة: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل، وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل، ثم يسحب إلى النار[رواه الترمذي 2382].
أن يتلوه على طهارة، أن يستقبل القبلة، السواك، إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأفضل صيغها: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، الترتيل وتحسين الصوت، التأني والترسل في القراءة، الصبر على مشقة التلاوة لمن لا يحسن تهجي الحروف، أو به علة في نطقه، البكاء والتباكي وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا سورة الإسراء 109. وبكى النبي ﷺ عند قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا سورة النساء 41. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا سورة النساء 42.
ودخل عمر دير راهب فناداه فأشرف الراهب فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت قول الله : عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً سورة الغاشية 3-4. مع عملها ونصبها تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً؛ لأنها تعمل وتنصب في الباطل والبدعة والشرك.
وكتب عمر إلى رجل سمع أنه يشرب الخمر: "من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير" لما بلغت الرجل الرسالة جعل يقرؤها ويردد، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، ثم نزع مما كان فيه من شرب الخمر.
يا أيها الناس، يا عباد الله: لقد تفشى شرب الخمور في المجتمع تفشياً عظيماً، والأغنياء يشربون النوع الأصلي، والذين هم أقل يأخذون الزجاجة أو القارورة الكبيرة بخمسين والصغيرة بخمس وعشرين، والذي يشرب الخمر يسقيه الله من ردغة الخبال يوم القيامة، عصارة أهل النار، قرف أهل النار، عرق أهل النار، صديد أهل النار، قيح أهل النار، هذا شرابه يوم القيامة.
إلى الذين أسرفوا على أنفسهم رمضان فرصة للتغيير
والذين أساؤوا وأسرفوا على أنفسهم ينتهزوا رمضان ليجعلوه فرصة للتوبة، نريد أن يكون هذا الشهر أيها المسلمون شهر انقلاب في حياتنا، نريد أن نتغير فعلاً، نريد أن نحول مسارنا من مسار المعصية إلى مسار الطاعة، وعدد من الناس الذين يرتكبون المعاصي عندهم صراع نفسي، فإذا جاء رمضان تغلب الجانب الخيّر في أنفسهم، غلبت نزعة الخير في أنفسهم نزعة الشر، وأقبلوا على الله، وجاؤوا إلى المساجد زرافات ووحداناً، يتقاطرون إلى بيوت الله تعالى، يشهدون الإفطار، يأكلون بعد صيام، ألا ليتذكروا أنه الذي قال: "يدع طعامه وشرابه وزوجته من أجلي" الذي قالها في الحديث القدسي: يدع شهوته[رواه مسلم 1151]. وفي رواية: يدع زوجته [رواه ابن خزيمة 1897]. يدع طعامه وشرابه من أجلي[رواه أحمد 10175]. إذا كانت حلال وتركها لله وهي حلال؛ لأن الله أمره بتركها في نهار رمضان، فحري به أن يترك الآن الحرام الذي هو أصلاً حرام، زنا، خمر، مخدرات، علاقة بالنساء، ربا، أموال حرام، ظلم، اترك، اترك، اترك وأقبل على الله، هذا موسم التغيير، إذا لم تتغير الآن فمتى ستتغير؟ متى تتغير؟ إذا لم تقبل الآن فمتى تقبل؟
بكى الصحابة من قوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ سورة ق 19. وقرأت عائشة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ سورة الطور 27. فلا زالت تبكي وتبكي مدة طويلة، وبكى الصحابة من قوله تعالى: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ سورة البقرة 284. وبكوا من قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّسورة الحديد 16. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا استبطأ الله إقبال قلوب المؤمنين، فقال لهم: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ما جاء الأوان بعد، فإذا ما جاء الأوان في رمضان فلن يأتي في الغالب، هذه هي الفرصة، هذه رقة ما بعدها رقة، وفرصة ما بعدها فرصة، فغير يا عبد الله، تخلص من اللهو، وتخلص من أدوات المنكرات الآن، الآن قبل أن يفوت الأوان.
ومن آداب التلاوة: أن يكون بصوت ليس بجهر ولا مخافتة وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً سورة الإسراء 110. أن يكون بين الجهر والإسرار، والإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو خاف أن يتأذى من بجانبه من صوته، والجهر أفضل لطرد الشيطان والنوم، رتب السور، حافظ على ترتيب المصحف ما أمكنك، فإنها السنة، وكف عن القراءة عند النعاس، أو التثاؤب، أو خروج الريح، إذا مررت بسجدة فاسجد، ولا تقطع القراءة لكلام الناس، إلا عند الحاجة، قف عند رأس الآية، والوقوف عند رؤوس الآيات سنة، وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، واستحضر عظمة الله تعالى المتكلم بهذا القرآن، وقراءة التفسير تساعدك على التدبر، واستشعر أنك المخاطب بهذا الكتاب.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا، وذهاب أحزاننا وغمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسِّينا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، وتلاوتنا وأعمالنا، واجعلنا من الأخيار الأبرار، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وافسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
من فطر صائما كتب له مثل أجره
عباد الله: الجمع بين القيام والصيام وإطعام الطعام من أسباب دخول الجنان، ولذلك فإن هذا الشهر تجتمع فيه هذه الأمور، صيام، وقيام، وإطعام، ومن فطر صائماً كتب له مثل أجر الصائم لا ينقص من أجر الصائم شيء [رواه أحمد 17044].كان كثير من السلف يؤثرون بإفطارهم وهم صيام، منهم عبد الله بن عمر ، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل رحمهم الله، وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام، ويجلس يخدمهم، وكان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، كما قال أبو السوار العدوي، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكل مع الناس، وأكل الناس معه.
إطعام الطعام، الإتيان بالطعام إلى المساجد التي فيها الفقراء والغرباء لإطعامهم، والمسألة تحتاج إلى تنظيم وترتيب حتى لا تتكدس الأطعمة في مكان، وتنقص في مكان، فاعملوا لذلك الجهد يا عباد الله.
رمضان فرصة لصلة الرحم وإزالة الخلافات
هذا الشهر فرصة لصلة الأرحام التي انقطعت، ولتطييب النفوس والخواطر والاسترضاء، وإزالة الشحناء، وقلب العداوة والبغضاء إلى مودة وإخاء.
صلة الأرحام تهلهلت عند كثير من الناس، تقطعت بهم الأسباب، المادة غلبت عليهم، ولذلك وجدت حالات كثيرة من المآسي، لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر، زوروا أرحامكم وأقرباءكم في هذا الشهر، بروا آباءكم وأمهاتكم في هذا الشهر العظيم.
واحد من الناس عنده خير ونعمة، لكن لما رأى أباه قد بلغ من الكبر عتياً، وصار عالة وكلاً وتعباً عليه، ولم يطق أن يتحمل أباه في بيته، وأن يقوم على خدمته ذهب به إلى مستشفى العجزة والمعاقين، وتركه هناك وذهب، وبعد فترة من الزمن قفز الابن في بيته في بركة السباحة الموجودة في البيت، فوقع على رقبته فأصيب بشلل رباعي كامل، لا يستطيع حتى أن ينطق، وفي النهاية لما رأوا أنه لا يفيد علاجه نقلوه إلى هذا المستشفى -مستشفى العجزة والمعاقين- ووضع في سرير بجانب سرير أبيه، وكان والده يقوم على خدمته، وهو ينظر إلى والده ويبكي، حتى الكلام لا يستطيع أن يتكلم، فقط ينظر إلى هذا الوالد الذي جنى عليه وعيناه تمتلئان بالدموع.
أيها المسلمون: نريد أن نجعل من هذا الشهر صلة للرحم، كما أنه طاعة لله وإقبال على الله، كذلك هو شهر بر وخير وصلة.
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم يوم الجمعة، في هذا الشهر شهر رمضان أن تعتق رقابنا من النار، اللهم اعتق رقابنا من النار، واغفر لنا يا غفار، اللهم قدمنا عليك في شهرك هذا بذنوب كثيرة وسيئات عظمية، وأنت غني عن عذابنا ونحن محتاجون إلى رحمتك فلا تعذبنا، اللهم ارحمنا أجمعين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم، اللهم من كان منا مقصراً فرده إليك رداً جميلاً، اللهم من كان منا مشتغلاً بمعصية فارزقه التوبة منها يا رب العالمين، اللهم اجعلنا أخياراً أبراراً، يا أكرم الأكرمين، اللهم انصر الإسلام وأهله، اللهم انصر الإسلام وأهله في الأرض يا رب العالمين، اللهم أخز اليهود والنصارى والمشركين، اللهم اجعلها عليهم دماراً، اللهم أهلكهم وانصر المسلمين عليهم، اللهم اكشف أستار المنافقين، اللهم اكشف أستار المنافقين، اللهم واجعل عبادك الأخيار في خير ونصر وعافية يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.