الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
رحيل رمضان واستغلال العشر الأواخر
فقد صدق الله: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍسورة البقرة:184، وهاهي توشك على الانقضاء، رمضان ليس أشهراً، ولا سنوات، وإنما هو أيام لا تلبث أن تنقضي سريعاً حتى يكون في نفوس المؤمنين شيء من الحسرة على الفراق، ولكن يبقى المؤمن ما دام في رمضان لحظة على أمل، وفي عمل، والخيل إذا قاربت على الوصول جدت في المسير، وأخرجت أحسن ما عندها قبل نهاية السباق، ومن أحسن فيما بقي غفر الله له ما مضى، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، وهكذا نغتنم ما تبقى من الشهر، والمؤمن يرجو حديث: ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة[رواه الترمذي (682) وابن ماجه (1642). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (759).]، ففي كل ليلة من ليالي الشهر من أوله إلى آخره؛ فرصة للعتق من النار، ومن الذي لا يريد العتق من النار؟! من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين[رواه الطبراني في الأوسط (8131). وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (996).]، المؤمن يقشع الغفلة عن قلبه لتطلع شمس الإيمان عليه، وترتفع صحائف الصيام بأقدام الاجتهاد في قلوب الخشوع على عيون الخوف، وأيام قلائل يودع بها عباد الله المؤمنون شهر رمضان.
يا عبد الله: يا من قصرت فيما مضى، لا تفوت ما بقي، فما بقي عظيم، عن أبي ذر قال: "لما بقي ثلاث من الشهر جمع النبي ﷺ أهله ونساءه، وقام بنا حتى تخوفنا أن يفوتنا السحور"[رواه النسائي (1605). وصححه الألباني في التعليقات الحسان (2538).]رواه النسائي وهو حديث صحيح.وليلة سبع وعشرين قادمة، وبعدها ليلة ثمان وعشرين، وليلة تسع وعشرين، وربما تكون هي الأخيرة.
عمل النبي في العشر الأواخر
"كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وجد، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"[رواه البخاري (2024).]استعداد للعبادة، واجتهاد، وحرص على المداومة، وتجويد للخاتمة.
وقوله: "وجد" أي: زيادة عن العادة، واجتهد فيما لا يجتهد في غيرها من ليالي الشهر، "وأحيا ليله" أي: بالصلاة، والذكر، وتلاوة القرآن، "وأيقظ أهله" أي: لا يترك أحداً منهم غافلاً، وإنما في عبادة يسهرون لإحياء الليل.
عن أم سلمة قالت: "لم يكن ﷺ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً يطيق القيام إلا أقامه"[رواه المروزي في قيام الليل (1/247).].
عباد الله: معرفة ماذا كان يفعل النبي ﷺ يفيدنا كثيراً؛ لأن البعض ربما ينشغل في آخر الشهر، وفي الليالي الفاضلة العظيمة الباقية بالصفق في الأسواق، رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء،[رواه النسائي (1610). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3494).]، نضح ونضحت يدل على التعاون على الخير، بل فيه شيء من حمل النفس على العبادة وإن كانت لا تريد، فلا مجال للفتور والكسل، ولو رأى المسلم الجنة والنار عياناً لكان له شأن آخر، فأوج النشاط ينبغي أن يكون في الطاعة، ليس في الدعايات، والمشتريات، والبضائع، والسلع، والصفق في الأسواق، والإنسان يشتري على قدر الحاجة، ويسرع فيما لا بد منه.
الأعمال والطاعات في العشر الأواخر
عباد الله: إن التذكير بالأجر هو الذي يحمس النفس على العبادة لئلا تضيع أفضل ليالي العام في أمور الدنيا، ولم تحن لحظة النهاية بعد.
عباد الله: ليست نفوس المؤمنين والله متعلقة بالحلقة الأخيرة للمسلسل، ولا بمعرفة النهاية للملهيات، وليست القضية تخطيطاً لمعصية في إجازة العيد، وإنما هي عبادات في آخر الشهر، وإذا كانت شياطين الجن مصفدة، فإن شياطين الإنس لا زالت تعمل؛ ولذلك ينبغي على العبد أن يحافظ على نفسه، ولا يترك المجال لقسوة قلب، وتحجر فؤاد، وقحط عين، فمساكين من تفوتهم هذه اللحظات في لهو أو لعب: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّسورة الحديد:16، امتلاء الأوقات بالطاعات،والانتقال من نوع إلى نوع،ويقوم المذنبون في الأسحار على أقدام الانكسار يرفعون العرائض إلى الله العزيز الغفار، وهكذا يكون المسلم مع ربه ، قائماً، وقاعداً، وعلى جنب، يشحذ همته، ويقوي عزيمته، ويستدرك ما فاته، ويواصل العمل،ويطرد الكسل، والله لا يضيع أجر المحسنين.
لا زال الصيام، والقيام، والتلاوة، والإطعام، والاعتمار، والذكر، والتدبر، والتفكر، والتوبة، والإنابة، والدعاء، والتضرع، والوصية بتقوى الله للأهل والأولاد، وحمل النفس على الطاعة، ومراغمة هذه النفس على مقاومة الكلل والملل، وأيضاً فإنه لا توقف عن تحمل المسئوليات، ويرجى في ليلة سبع وعشرين كما في ليالي الأوتار إصابة ليلة القدر، ثانية واحدة أكثر من أربعين يوماً من العبادة في غيرها من الأيام في السنوات والأعوام.
ليلة القدر وعلاماتها
وأرجى ما تكون ليلة القدر؛ في ليلة سبع وعشرين: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان[رواه مسلم (1169).]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن رجالاً من أصحاب النبي ﷺ أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال ﷺ: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر[رواه البخاري (2015).]رواه البخاري، وقال: التمسوها في العشر الأواخر[رواه البخاري (2021).] يعني: ليلة القدر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي[رواه مسلم (1165).]، والقدر تعظيم، ليلة ذات قدر لعظم جلالتها عند الله، وكثرت مغفرة الذنوب فيها، والعتق من النار، فإن من قامها إيماناً، أي: بمشروعيتها، واحتساباً، أي: للأجر فيها، غفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري (1901).].
قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍسورة الدخان3-4، في هذه الليلة تقدر مقادير السنة كلها، وتفصل من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة؛ ليكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، وما في السنة كلها من الجدب والسعة، والقحط والرزق، والمطر، فهي ليلة رفيعة القدر والشرف، فيها أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، هذه الليلة عبادتها خير من ألف شهر كما وصف الله ، تتنزل فيها الملائكة فهي في الأرض أكثر من عدد الحصى، ورئيسهم جبريل وهو الروح، تتنزل لكثرة بركتها، وللرحمة النازلة الكثيرة من السماء، تنزل معها الملائكة، تنزل تستمع تلاوة العبيد، وتشهد صلاتهم، وتحفهم وهم يذكرون ربهم، فإنها تحب الأعمال الصالحة، وتغشى المساجد عند الأبواب يكتبون في صلاة الجمعة، وفي حلق الذكر يحفونهم، وإذا قرأ العبد القرآن وضع الملك فاه على فم القارئ فلا تخرج آية من فم القارئ إلا وتدخل في فم الملك، كما ورد في الحديث في قيام الليل.
ليلة القدر بلجة، مضيئة، طلقة، معتدلة، تطلع الشمس في صبيحتها ضعيفة حمراء كالطست، مستديرة، لا شعاع لها، لا يرمى فيها بنجم، ولا شهاب، وبعض الناس يثبت فيها أشياء لم تثبت في الكتاب ولا في السنة.
ولكن الله أخفاها عنا لنجتهد في العبادة، ويستفيد العبد في الليالي الأخرى التي قامها حتى لو لم تكن ليلة القدر؛ لأن الأعمال كلها يثاب عليها، وتكتب في صحيفته، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا نبي الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني[رواه ابن ماجه (3850). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3337).]حديث صحيح، هذا العفو فيه تجاوز عن الزلات، وستر للذنوب والعيوب.
فوا أسفى كم ذا التكسل والونا | تغافلت يا مغرور عن ليلة القدر |
وقوم على باب الكريم وقوفهم | يناجون مولاهم قياماً إلى الفجر |
فيا حسنهم والليل أسدل جنحه | وأدمعهم تهمي كمنسكب القطر |
أطالوا على باب الكريم وقوفهم | ومن لازم الأبواب يظفر بالبر |
فذا وأبيك الحزم فاعمل بحسبه | فما أقبح التقصير في آخر العمر |
ما يغلو في طلبها عشر لا والله | ولا شهر لا والله ولا الدهر |
الغبن والحرمان أن نخبر بفضلها، ثم نتوانى في تحصيلها، وعبادتها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، واجعلنا ممن يصيبها يا رب العالمين.
عمل النساء في العشر الأواخر
وتوصى النساء بالعمل حتى الحائض والنفساء، فإنها لا تزال في ذكر، ودعاء، وتلاوة من حفظ، أو دون مس المصحف، وتدبر، وتفكر، ومحاسبة للنفس، وصدقة، وإطعام طعام، وخدمة للصائمين، وأعمال البر كثيرة ومتنوعة، والحمد لله، وقيام الليل على رأس الأعمال التي تفعل في العشر، ومن صلى مع الإمام حتى ينصرف، أي: حتى تنقضي الصلاة، سواء كانت على مرحلتين، أو دفعة واحدة، والمساجد في هذه الليالي معمورة، وقد يتعاون في المسجد الواحد أئمة فيعاملون كالإمام الواحد، والسنة الحرص على الصلاتين، وبعض الناس يقولون: هذه التراويح بعد العشاء، وهذا القيام في آخر الليل وكلها قيام، والتراويح إنما أطلقت على صلاة القيام في رمضان؛ لأنهم كانوا يستريحون بين كل ركعتين، وإلا فالكل قيام، وحكمها حكم القيام، ولا حرج أن يصلي بعد العشاء في مسجد، والصلاة الأخرى في الليل في مسجد آخر، لا سيما إذا وجدت مصلحة شرعية، ولو أكمل مع الإمام الذي بدأ معه فهو أولى، ولكن لا حرج أن يكمل وحده، فقد تفوته الصلاة لنوم فيقوم قبل الفجر وقد انتهت الصلاة في المساجد فإنه يصلي ما كتب الله له أن يصلي، والقيام في الجماعة أفضل في رمضان خاصة.
عباد الله: من انشغل، أو كسل عن القيام الثاني، فلا يترك بقيت صلاته، بل يصليها ويوتر هو، وبعض الناس يستسلمون، وينسحبون بعد أول ركعتين، أو بعد أربع، ولو كان من مسلسلات الدنيا لربما تسمر، وانتظر، وصابر نفسه وقعد، لماذا؟ لأننا نستمتع في المسلسلات، أو الملاهي، وأنواع الترفيه ما لا نستمتع في العبادة، وطبيعة النفس أنها تمل الجد، وتقبل على اللهو؛ لأنه خفيف، لكن قيام الليل ثقيل، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئاً أي: مواطأة القلب للسان وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًاسورة المزمل:1- 7 ، وهكذا كان النبي ﷺ وأصحابه يقومون أدنى من ثلثي الليل، ونصفه، وثلثه، وطائفة من الذين آمنوا معه.
الدعاء والأوراد الجامعة
عباد الله: هناك أدعية وأوراد جامعة، ولا يتكلف الإنسان في السجع، ولا يدخل في التفصيلات غير المشروعة، ولا يحول الدعاء إلى ما لم يرد فيه، وإنما يقتصر على الوارد، ولا يستعمل ما ينكر، وهذه المرأة لها حظ من تربية الإنسان لأهله، فإذا صلت في بيتها فلا بأس أن تصلي جماعة بمن معها من النساء، وليتدارك العبد ما يكون من أعمال البر سواء كان في نفع ذاته، أو نفع غيره، وسواء كان في تلاوة فهو في الختمة لم ينته بقي عليه أشياء، وما بقي من الشهر قليل فينبغي أن يجتهد ويجد.
وكذلك لا ينسى عباد الله من المساكين، والمستضعفين الذين يحتسب الأجر في نفعهم ببدنه، أو ماله، أو جاهه، أو رأيه، وكذلك ينبغي أن يتدارك تفريطه في حق القرآن الكريم.
منع القرآن بوعده ووعيده | مقل العيون بليلها لا تهجع |
فهموا عن الملك العظيم كلامه | فهماً تذل له الرقاب وتخضع |
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاًسورة الإسراء:106، لتدبره النفوس، وتقبل عليه،وتتفهمه العقول، وهكذا يترسل فيه ليفهم، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًاسورة المزمل:4، يعني: لا تعجل بقراءته، بل اقرأه على مهل وبيان، مع تدبر للمعاني، ولا يكون الهم آخر السورة، بل الهم أن يعقل العبد معاني كلام ربه، قال ابن عباس : "لأن أقرأ البقرة وآل عمران وأرتلهما، وأتدبرهما، أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله هذرمة" أي: مستعجلاً، ولذلك يغفل الناس عن الكيفية في ظل الكمية في عصر الأرقام، ويهتمون بقضية ما أنجز من الكثرة، دون النظر إلى ما حصل فيها من التدبر والتأمل، ولذلك فإن معرفة المعنى يعين حقيقة على تدبر القرآن: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًاسورة الفرقان:73، وإنما وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًاسورة الإسراء:109،فكيف يزيدهم خشوعاً وهم لا يعرفون معناه؟
عباد الله: البكاء عند القرآن صفة العارفين، وكثير من الناس يبكون في بعض الأدعية ما لا يبكون في القرآن، لماذا؟ لأن هذا الدعاء قد يأتيهم بما يحرك أشجانهم، لكن هذه الآيات التي في كثير من الأحيان غير معروفة المعنى لدى السامع لا تحرك وجدانه، ولذلك ينبغي الحرص على التفسير.
مشروعية الاعتكاف وأحكامه
عباد الله: شرع الله الاعتكاف، وهي عبادة يلازم فيها المرء المسجد بطاعة الله، ويحبس نفسه على أنواع الحسنات، وقد داوم النبي ﷺ عليه في العشر الأواخر حتى لحق بربه ، ولما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد ليمكث فيه، ويخلو فيه عن الناس، ويقبل فيه على الله، ولا يخرج منه إلا للحاجة، ولذلك قال الفقهاء: لا يعود مريضاً حال اعتكافه، ولا يشهد جنازة.
ومن مقاصد الاعتكاف؛ تحري ليلة القدر لأنه إذا اعتكف العشر الأواخر أصابها قطعاً، وهذا التحري والاغتنام لأعز ما يطلبه المرء طاعة الله ، والخلوة بالله، والانقطاع عن الناس؛ لأن كثرة المخالطة لهذه الأنفاس تقسي، وتلهي، فإذا خلا بالله رق قلبه، وغسل نفسه، وتخفف من متاع الدنيا، وترك اللذات من أجل طاعة الله ، ومثل المعتكف؛ كمثل عبد ألقى نفسه بين يدي ربه، ثم قال: رب لا أبرح حتى تغفر لي، رب لا أبرح حتى ترحمني.
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا | حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا |
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفاً | يا رب فاعف وعافه فلأنت أولى من عفا |
يتعود العبد في الاعتكاف على العبادة الطويلة، والمكث في المسجد، والتقلل من الدنيا، والبعد عن الترف، والإقلاع عن العادات الضارة، ويحفظ صيامه، فكم تخرق الصيام في ما مضى، فإذا اعتكف صار خرق الصيام أقل.
وفي الاعتكاف هجر للفرش الوثيرة؛ بالإقبال على الله، فما الذي سينام عليه في المسجد؟
وكذلك فيه حماية للقلب من فضول الكلام، والطعام، والشراب، والمخالطة للبشر، وذهب العلماء كالإمام أحمد رحمه الله إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، ويحرص على الانفراد بنفسه، والتخلي بمناجاة ربه، وذكره، ودعائه، ولكنه مع ذلك يعلم، وينصح، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فإنه قد تحدث أشياء حتى في المساجد، ولكن العتب على من ينشغل بالقيل والقال، وربما يكون دخول بعض الحواسيب، والأجهزة، وما في الجوالات من الأشياء يلهي عن الاعتكاف، فالاعتكاف طمأنينة نفسية وقيام لله .
وليس له حد لأقله عند أكثر العلماء، فكل ما يمكن أن يطلق عليه اعتكاف معتبر؛ ولذلك لو مكث صلاتين أو ثلاثاً في المسجد فهو اعتكاف عند أكثر العلماء، ولو مكث مثلاً من صلاة العشاء إلى أن ينتهي من قيام الليل ثم انصرف للسحور فهو اعتكاف، وإن مكث ليلة من المغرب إلى الفجر فقد ورد عن عمر أنه قال: نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي ﷺ: أوف بنذرك[رواه البخاري (2043).]، وإن اعتكف يوماً كاملاً النهار مع الليل فهو أفضل، وأطيب، فإذا اعتكف يومين، وثلاثاً، والعشر فهذا ما كان يفعله النبي ﷺ باعتكاف العشر.
وبعض الناس لهم أعمال فيقول: أنا لا أستطيع أن أعتكف في النهار فهل يمكن أن أعتكف من المغرب إلى الفجر؟
الجواب: نعم يمكن له ذلك، وربما يقول: عندي عمل في الليل هل أستطيع أن أعتكف من الظهر إلى المغرب؟ الجواب: نعم.
والخروج للعمل مما يتنافى مع مقصود الاعتكاف، فلا يصلح أن يجمع بينهما، وإنما يفصل هذا عن هذا.
عباد الله: لا يجوز تضييع ما كلف به من العقود الواجبة، في العبادات المستحبة؛ لأن ذلك واجب، وهذا مستحب، وأخذ الإجازة للتفرغ للعبادة عمل عظيم، وهذا المعتكف يشتغل بعبادات متنوعة، ويطهر المسجد بالعاكفين، وتهيأ بيوت الله من أجلهم.
وللمرأة أن تعتكف بشرط أمن الفتنة، وليس أن تخرج في طريق موحش، أو ليلة مظلمة في مكان غير مأمون، أو مطروق. وينبغي للمسلم أن يصون أهله، وأن يراقب الحجاب الذي تخرج به نساؤه.
أيها المسلمون: إن للاعتكاف سنن وشروط ينبغي أن يعرفه المسلم، فمن شروطه:
- أن يكون متطهراً من الحدث الأكبر، فإن طرأ ما يوجب الغسل خرج فاغتسل.
- أن يكون الاعتكاف في المسجد، فلا يصلح أن يكون في المصليات؛ لأن الله قال: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِسورة البقرة:187،والمسجد هو الأرض الموقوفة إلى قيام الساعة،لا يغير،ولا يبدل، بخلاف المصليات التي تنتقل فتكون تارة هنا، ثم تلغى، ثم تنقل، فليست موقوفة، فالوقف هو ميزة المسجد الأساسية، والفرق الأساس عن المصلى.
ومن محظورات الاعتكاف:
- الخروج لغير حاجة، فيخرج لقضاء حاجته، وجلب ما لا بد من جلبه من إفطار، أو سحور، وكان النبي ﷺ يدخل رأسه لبيته لترجله عائشة رضي الله عنها، فإذا خرج بعضه من نافذة، أو باب، فلا حرج في ذلك، أما الخروج لغير حاجة فلا.
- مباشرة النساء، ولا يبطل الاعتكاف بالاحتلام، ومن قطع نيته في الاعتكاف بطل، فإذا أراد أن يواصل نوى من جديد.
والمبالغة في استعمال ما يشغل المعتكف من هاتف وغيره، والإكثار من الزيارات، والمجالسات بغير حاجة شرعية يشغله عن مقصود الاعتكاف الأساسي.
وينبغي عدم تقذير المساجد، والحرص على فرشها؛ لأنها وقف.
صدقة الفطر وأحكامها
أيها المسلمون: من العبادات العظيمة التي يختم بها الشهر صدقة الفطر، لأنها تجبر نقص الصيام، ورفق بالفقراء، وإغناء لهم ليفرحوا بالعيد ولا ينشغلوا بالسؤال، وتطهير للصائم من اللغو والرفث.
وهي تؤدى قبل العيد، ويجوز أن يخرجها في آخر الشهر بيوم، أو يومين، يوم الثامن والعشرين، والتاسع والعشرين، أو ثلاث إذا كان الشهر ثلاثين، الثامن والعشرين، والتاسع والعشرين، والثلاثين.
فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعاً -يعني طعام-، فلا يجزئ إخراجها نقوداً؛ لأن النقود صارت صدقة من الصدقات، وليست صدقة فطر، صاعاً من تمر، أو من أي طعام آخر، على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين.
فإن أخرجها ولدك، أو زوجتك من مالهم الخاص فلا تمنعهم من ذلك، والمعسر لا فطرة عليه، ومن فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه صاع فهو موسر، ويخرج الإنسان عن نفسه، وزوجته، وأولاده، ووالديه المحتاجين إليه. ومقدارها: صاع من طعام، وإن تبرع بها إنسان عن آخر بإذنه أجزأت المخرج عنه، والمخرج مأجور، والدليل على كونها من الطعام حديث أبي سعيد الخدري: "كنا نعطيها في زمان النبي ﷺ صاعاً من طعام"[رواه البخاري (1508).]رواه البخاري.
"من قوت البلد" والقوت هو ما يقتات عليه، ويكال، ويدخر، طعام يبقى، كالرز والتمر، ويغني الإنسان، وأما الفاكهة فليست بقوت، فكل ما يقتات عليه ويعيش الناس من رز، وتمر، وقمح، ونحو ذلك، فهذه الأصناف متنوعة والحمد لله.
وكان لديهم الزبيب، والأقط وهو اللبن المجفف، مما يقتات عليه فلذلك يجوز الإخراج منه، فلو رأى سعر الرز مرتفعاً، فاشترى تمراً فلا حرج في ذلك.
وتجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، ولو أرسل شخص إلى أهله مالاً وقال: اشتروا أنتم وأخرجوا، أو وكل ثقة، أو جمعية موثوقة وقال: اشتروا أنتم، وأخرجوا فلا بأس بذلك، لكن بعض الناس يهمل، ويفرط، وينسى، ويوكل مفرطاً آخر؛ ولذلك تجب المتابعة لتتأكد حتى تبرأ ذمتك.
وتعطى للفقراء والمساكين هذا متفق عليه، وقال بعضهم: لأهل الزكاة الثمانية، فأما صرفها في بناء المساجد، وتفريقها في مشاريع خيرية عامة فلا، فليس هذا مجالها.
وتصرف زكاة الجماعة لواحد من الفقراء، أو يقسم الصاع على أكثر من فقير لا حرج في ذلك، ويخرجها الإنسان في المكان الذي هو فيه، ويفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه، ومن له أهل في بلد آخر فلا حرج أن يرسل بها إليهم ليفرقوها هم في تلك البلد، وربما يسافر فيوكل، أو يخرج في البلد الذي سافر إليه.
اللهم إنا نسألك أن تفقهنا في الدين، وأن ترزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، وأن تعتق رقابنا من النار يا رب العالمين، وأن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اغفر لنا جدنا وهزلنا وعمدنا وخطأنا وكل ذلك عندنا، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، اللهم إنا نسألك أن تعتق رقابنا من النار، اللهم إنا نسألك أن تقربنا إليك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلد، والعافية في الجسد، والصلاح للذرية والولد، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في خير وعافية، نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلينا وأموالنا، استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وأخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم إن كثرت ذنوبنا فعفوك أعظم ورحمتك أوسع، اللهم إنا نسألك أن تشملنا برحمتك، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم إنا نسألك أن تعتقنا في هذا الشهر من النار، اختم لنا شهر رمضان بغفرانك، والعتق من النيران يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تحط عنا الأوزار، يا غفار اغفر لنا، يا رحمن ارحمنا، يا رزاق ارزقنا، يا تواب تب علينا، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تفرج كروبنا، وتقضي ديوننا، وتفرج همومنا، وتصلح ذرياتنا ونياتنا، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، أحسن ختامنا يا ربنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.