الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
جحود آدم ونسيانه
الحمد لله المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الملك، القدوس، السلام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الرقيب الحسيب الشهيد، الشديد الفعال لما يريد، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُسورة غافر19. وهو عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، لا يحتجب عنه شيء ولا يستتر، جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملأ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال : إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسط فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم قال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، وقد كتبت له عمر أربعين سنة، قال: يا رب زد في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له، قال: أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد تعجلت قد كتب لي ألف سنة، قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود[رواه الترمذي3368]. رواه الترمذي وغيره.
فأمر بالكتاب والشهود إذاً لأجل ضبط الأمور وعدم النسيان، كما نسي آدم ، إن الشهود في الدنيا أيها الإخوة: على أي قضية من القضايا أو حادثة من الحوادث قد ينسون كما نسي آدم، أو يكذبون، وقد يبالغون ويزيدون، وقد يكونون شهود زور، وقد يمتنعون من الإدلاء بالشهادة على وجهها خوفاً أو طمعاً.
هذا في حال الدنيا، فتعالوا نتعرف على شهود الآخرة، إنهم شهود يوم القيامة، شهود عظام، وشهادات عظيمة، من هم؟ وكيف هي شهاداتهم، ومتى، وعلى أي شيء سيشهدون، وعلى من سيشهدون؟
شهادة النفس على ابن ادم
إن الشهداء -أيها الإخوة- يوم الدين هم أولاً: -أيها الإخوة- نفس الإنسان تشهد عليه، تكون هذه الشهادة عند الاحتضار، حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي الأسف في تلك اللحظات التي يكون الواحد فيها في ذروة الحسرة، وشدة الألم، وتقفل أبواب التوبة ويعترف الإنسان ويشهد على نفسه بالتقصير والتفريط، فأغلى أمانيه أن يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُسورة المؤمنون99-100.ولكن الله يكذبه، ولكن الله يأبى ذلك ويقول: كَلَّا، وقد قال سبحانه في تكذيب هذا الإنسان: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُسورة الأنعام28. قال : وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَسورة الأنعام130.
شهادة الله، وشهادة رسله وأمة محمد ﷺ يوم القيامة
فإذا ما أذن الله بقيام الساعة واضطربت الأرض وانطمست النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال، واختل نظام الكون عندها يتتابع الشهود بعضهم وراء بعضهم، ويظهر للعبد ما لم يكن يعهده من قبل وما لم يكن بحسبانه، وأعظم الشهداء يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم سبحانه، الذي خلقهم، ولا تخفى عليه خافية، وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِسورة يونس61. إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًاسورة النساء33. وأي شهادة أعظم من شهادة الله على عبده وأمته، قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًاسورة الإسراء96. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً سورة النساء122. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًاسورة النساء87. ولكن الله يحب الإعذار إلى خلقه، وأن تقوم عليهم الحجة والبينة فيبعث شهداء إضافيين، وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا سورة النساء166. ولكن زيادة في إقامة الحجة، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءسورة الزمر69. وأول من يشهد في الأمم رسلها، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًاسورة النساء41. وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْسورة النحل89. وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، يشهدون على أممهم بالبلاغ كما يشهدون على المكذبين بالتكذيب، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَسورة الأعراف6. ، ويكذب المكذبون، يقولون في كل أمة: ما جاءنا من نذير، فتأتي هذه الأمة أمة محمد ﷺ لتشهد للرسل جميعاً على أممهم المكذبين، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْسورة البقرة143.فنشهد نحن لنوح أنه بلغ، ولهود أنه بلغ، ولصالح أنه بلغ، وهكذا نشهد لسائر الأنبياء أنهم قد بلغوا وخبرهم عندنا في الكتاب، وإيماننا بذلك يؤهلنا أن نكون شهداء لسائر الأنبياء على أممهم يوم القيامة.
قال النبي ﷺ: يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول الله: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ[رواه البخاري4487]. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاسورة البقرة143. فذلك قوله جل وعز: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاسورة البقرة143.
وهكذا يكون محمد ﷺ شهيداً وأمته أيضاً، أي: الذين أجابوه آمنوا به واتبعوه ولم يكفروه، يكونون شهداء على الناس، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًاسورة النساء41.طالما حذرنا من الغي والفساد، وأمرنا بالهدى والرشاد، فيكون المشهد فاضحاً لجميع العصاة من أمة محمد ﷺ، والمرائين، قال في وصف ذلك المشهد: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًاسورة النساء42. وهكذا يكون موقف الخزي والمهانة، والحسرة والندامة، عندما تتمنى قوافل العصاة من المرابين والديوثين والمتبرجات وسائر الفسقة والفاسقات، من المغنين والمغنيات، وأهل معصية الرسول عموماً، أن نتنشق الأرض وتبتلعهم، وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ، ولا يستطيعون أن يكتموا الله شيئاً.
يتمنى الظالم الذي ظلم، يتمنى المرابي الذي رابى، والمرتشي الذي قبض أن تنشق الأرض وتبتلعه، وهكذا يكون الموقف يوم الدين في تلك الشهادة العظيمة.
شهادة الملائكة يوم القيامة
ومن الشهود على العباد يوم المعاد ملائكة الرحمن، الكرام، الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون، وما هم عنا بغائبين، يروننا من حيث لا نراهم، ويسجلون أعمالنا، أمنة، إنهم يكتبون بكل صدق وأمانة، دون زيادة ولا نقصان، هؤلاء الكتبة وضيفتهم تسجيل أعمال العباد، الصغير والكبير، قال النبي ﷺ في وصف حال رجل يوم القيامة: وتنشر له صحائفه وسجلاته، ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر[رواه ابن ماجه4300]. فيها أعماله وأقواله، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌسورة ق21. قال ابن كثير رحمه الله في السائق والشهيد: أي ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها بأعمالها، فكل واحد منا يوم القيامة سيأتي ومعه ملكان، واحد يسوقه، والثاني يشهد عليه، وتنشر الصحائف التي غفل عنها العباد، ويقول الملك: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌسورة ق23. والملائكة يشهدون، وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا فتشهد الملائكة بعدما شهد النبيون.
شهادة الأرض على الناس يوم القيامة
وهناك شاهد آخر أسفل منا، ونحن فوقه، نعيش على ظهره، إنها الأرض تشهد بكل ما عمل عليها من خير أو شر، كما قال الله : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَاسورة الزلزلة4-5.
ولما أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد قال لهم النبي ﷺ: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم[رواه مسلم665]. أي: ألزموا دياركم الحالية، فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا. رواه مسلم.
فإذن تكتب الآثار إلى المساجد، وتشهد الأرض لمن مشى عليها إلى الخير أو إلى الشر، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍسورة يس12.
وعلى هذه الأرض أشجار وأحجار تشهد كذلك كما روى البخاري رحمه الله عن أبي سعيد، قال لعبد الرحمن بن صعصعة: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت في الصلاة فارفع بالنداء، أي بصوتك، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة. وفي رواية: لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة.
وهكذا يمشي في صلاة العيد من طريق ويعود من آخر، واستحب بعض العلماء أن يصلي النافلة في غير مكان الفريضة، وهذا الحجر الأسود الذي في الكعبة سيشهد يوم القيامة لمن استلمه بحق، بحق وليس بأذية خلق الله، بحق كما قال النبي ﷺ، فكل الآثار على هذه الأرض مكتوبة.
قال العلماء: من عصى الله تعالى في موضع من الأرض فليطعه في نفس الموضع حتى يشهد له بالحسنات، كما سيشهد له بالسيئات، وقد قال الله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِسورة هود114.
روى الترمذي رحمه الله عن النبي ﷺ، لما قرأ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَاسورة الزلزلة4. قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها يوم تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول – أي الأرض -: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها[رواه أحمد8867].
فيا له والله من منظر مهول، هذه الأرض التي طالما وطئناها بأقدامنا، وعملنا عليها الذنوب والمعاصي فأثقلناها بذلك بالخطايا والآثام، ولم يشعر العاصي أنها ستنطق عليه، فتخبر بكل ما عمل عليها من زنا وقتل، وظلم وجور، وكذب وسرقة، ومقارفة للحرام، كما أنها ستشهد بالصلاة، والذكر، والتسبيح، والسير في الطاعات، والطواف، والسعي، وغير ذلك من المشي إلى العلم، وزيارة الإخوان، وغير ذلك من أنواع القربات والطاعات، فلتكتب آثارك عليها يا عبد الله بالخير.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن عمروا أوقاتهم بذكرك، وأن تجعلنا ممن يشهد لهم بالخير يوم الدين، اللهم كفِّر عنا سيئاتنا، وتوفنا مسلمين، اللهم أحينا مؤمنين، وأمتنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، رضي عنهم، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
شهادة أعضاء الإنسان عليه
شهدت النفس، وشهد رب العزة، وشهدت الرسل، وشهدت الملائكة، وشهدت الأرض وما عليها، فمن بقي؟ من بقي يا عباد الله؟ لقد قال النبي ﷺ: يلقى العبد ربه فيقول الله: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي ربِ، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني[رواه ابن حبان7445]. وفي رواية: فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول الله: ألا نبعث شاهدنا عليك[رواه ابن حبان7445]. وفي رواية: فيقول الله: هاهنا إذن، الآن نبعث شاهداً عليك، فيتفكر في نفسه، من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه وفمه ولحمه وعظامه بعمله، بعمله ما كان، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه[رواه مسلم2968]. رواه مسلم رحمه الله تعالى.
وفي رواية أيضاً في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، عن حكيم بن معاوية البهزي عن أبيه: أنه قال للنبي ﷺ: إني حلفت هكذا، ونشر أصابع يديه، أن لا آتيك – مما سمع من دعايات الكفار – ثم قال له، وقد أراد الله به خيراً فأتى: إني حلفت هكذا، ونشر أصابع يديه، حتى تخبرني ما الذي بعثك الله تبارك وتعالى به؟ قال: بعثني الله تبارك وتعالى بالإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتِ الزكاة، أخوان نصيران، لا يقبل الله من أحد توبة أشرك، قلت: يا رسول الله، ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، أي: لا تقل: قبحك الله، ولا تهجر إلا في البيت، ثم قال، وهذا موضع الشاهد، هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون – ثلاثاً – ركباناً ومشاة وعلى وجوهكم، توفون يوم القيامة سبعين أمة، أنتم آخر الأمم، وأكرمها على الله تبارك وتعالى، تأتون يوم القيامة وعلى أفواهكم الفدام، قال ابن الأثير في النهاية رحمه الله: "الفدام ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة"، أي: يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم، فشبه ذلك بالفدام، قال: تأتون يوم القيامة وعلى أفواهكم الفدام، أول ما يعرب عن أحدكم فخذه، أول ما ينطق من الجوارح الفخذ؛ لحكمة يريدها الله، أول ما يعرب عن أحدكم فخذه[رواه أحمد20023].
ولما قال: تحشرون هاهنا أشار إلى الشام، فهي أرض المحشر والمنشر، ألا نبعث عليك شهيداً، فيفكر من الذي سيشهد عليه؟ فتشهد عليه فخذه أول ما تشهد، ثم تتابع الأعضاء، كما ذكر الله : حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَسورة فصلت20-23.فتنطق الجوارح على الإنسان فيقول: تباً لكن فعنكن كنت أناضل، كنت أدافع عنكن، فإذا أنتن تشهدن علي، فليتأمل العاصي المسكين أن جوارحه التي يعصي الله بها، ويذوق بها، ويطعم بها، ويلمس بها، ويرى بها، ويسمع بها، ويمشي بها، ويبطش بها أنها ستكون الشهود عليه، وضده يوم الدين.
العمر ينقص والذنوب تزيد | وتقول عثرات الفتى فيعود |
هل يستطيع جحود ذنب واحد | رجل جوارحه عليه شهود |
يا من استترت من أعين الخلائق في الدنيا ألم تعلم بأن الله يرى؟ ألم تعلم بأن الملائكة الكرام الكاتبين يحصون عليك كل صغيرة وكبيرة؟ أين يهرب الواحد منا والأرض شاهدة عليه، والرسل والأنبياء شهود، والأيام والليالي شهود، والملائكة شهود، والجوارح والأعضاء والجلود شهود، وكفى بالله شهيداً.
أنا من خوف الوعيد | في قيام وقعودي |
كيف لا أزداد خوفاً | وعلى النار ورودي |
كيف جحدي ما تجرأت | وأعضائي شهودي |
كيف إنكاري ذنوبي | أم ترى كيف جحودي |
وعلي القول يحصى | برقيب وعتيد |
ندم العصاة يوم القيامة
فلا يملك عصاة الجن والإنس يوم القيامة أمام هذه الشهادات المتوالية إلا الاستسلام والاعتراف، ولكن فات الأوان، يا من قد وهى شبابه، وامتلأ بالزلل كتابه، أما بلغك أن الجلود إذا استشهد نطقت، أما علمت أن النار للعصاة خلقت، إنها لتحرق كل من يلقى فيها، والتوبة تحجب عنها، والدمعة تطفيها، يا أسفاً للعصاة في مآبها، إذا انقطع أسبابها، وغابت في الأسى عند الحضور عتابها، كل أمة تدعى إلى كتابها، قامت الأمم على أقدامها، فأقامت تبكي على إقدامها، وسالت عيون من عيون غرامها، ندماً على آثامها، في أيامها وأحقابها، كل أمة تدعى إلى كتابها، ظهرت في ذلك اليوم أهوال لا توصف، وبدت أمور لا تعرف، وكشفت حالات لم تكن تكشف، يا له من يوم لا كالأيام، تيقظ فيه من غفل ونام، ويحزن من فرح بالآثام، وتيقن بأن ما كان فيه من لذة أحلام، ذهبت اللذة وبقيت الحسرة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الآمنين يوم الدين، وأن تغفر لنا ذنوبنا أجمعين، تجاوز عنا بحلمك يا حليم، وكفر عنا سيئاتنا يا غفور يا رحيم، اللهم أقل عثرتنا واغفر زلتنا، وامح سيئاتنا، اللهم زد حسناتنا، وضاعفها لنا يا كريم، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع، والستر يوم الفضيحة، استرنا بسترك الجميل، واصفح عنا الصفح الجزيل، اللهم إنا نسألك أن تغفر لأموات المسلمين، يا رب العالمين، وأن تنصر المجاهدين، وتعلي كلمة الدين، وتقمع المشركين والمبتدعين، اللهم إنا نسألك أن تجعل فرجنا وفرج المسلمين قريباً، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.