الخطبة الأولى
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب 70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ضرب الله الأمثال في القرآن للناس لعلهم يتفكرون
إخواني في الله: لقد ضرب الله في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ولعلهم يتفكرون، ولعلهم يعتبرون، وجعل في ضرب الأمثلة تربية قرآنية عالية لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم النافع، ومن هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى في محكم تنزيله قوله : أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ سورة الرعد 17.
فلما ضربها الله للتذكرة، وللاعتبار، وللتفكر، كان لزاماً على كل مسلم أن يتفكر، ويعتبر بهذه الأمثال، ويفهمها، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا المثل القرآني بعد أن بين أن فيها مثلان مضروبان للحق والباطل، قال: ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما، ليس من أهلهما، الذي لا يعرف ما ضرب له هذا المثل، وكما قال بعض السلف الحريصون على فهم القرآن أمثالاً، وحكماً، وأحكاماً، وتشريعات، وتوحيداً، وقصصاً، قال هذا الرجل: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ سورة العنكبوت 43. فأبكي لأنني لست من العالمين الذين عرفوا هذه الأمثلة.
وهذه الآية التي قرأناها نمر بها كثيراً أيها الإخوة: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ سورة الرعد 17. لما كانت الأرض الميتة لها ما يحييها من الماء النازل من السماء، فإن الله قد أنزل على القلوب الميتة ما يحييها، ويجعلها روحاً، ويكون لها بمثابة الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَاسورة الشورى 52.فالله تعالى يقرن بين إنزال الوحي، وبين نزول المطر من السماء في آيات كثيرة لعموم التشابه بينهما، ولذلك إذا تمعنت في سورة الحديد وجدت الله يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ القرآن وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون َسورة الحديد 16. ماذا قال الله بعد هذه الآية مباشرةً: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَسورة الحديد 17. جاء ذكر إنزال الغيث بعد ذكر إنزال الوحي مباشرة؛ تنبيهاً على ما بينهما من أوجه التشابه في الإحياء وغيره، وكما قال الله في سورة النحل: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَسورة النحل 64.ثم قال بعدها مباشرةً: وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَسورة النحل 65.
إنزال المطر مقترن بإنزال الوحي، وفي هذه الآية وفي هذه الآية أيها الإخوة أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا شبه القلوب بالأودية لما نزل المطر من السماء احتمل كل وادٍ من ماء المطر، بحسب سعته وضيقه، فكذلك قلوب العباد عندما ينزل عليها الوحي من السماء، تأخذ منه وتتسع بحسب ضيقها وعظمها، فقلب كبير يحتمل وحياً عظيماً، كما يحتمل الوادي الكبير ماءً كثيراً، وقلب صغير كوادٍ صغير احتمل من العلم شيئاً قليلاً كما احتمل من الماء ذاك الوادي الصغير، فحملت القلوب هذا العلم بقدرها، كما سالت أودية بقدرها، احتملت القلوب هذا العلم بقدرها كما سالت أودية بقدرها.
تفاوت الناس في استقرار العلم في قلوبهم
أيها الإخوة: يتفاوت الناس في استقرار العلم في صدورهم، وفي اتساع العلم، وفي اتساع القلوب لهذا العلم، تفاوتاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإيمان، واعلموا بأن الماء النازل من السماء لا يحتمله وادٍ واحد لكثرته، وكذلك الوحي النازل من السماء لا يحتمله كله قلب واحد، وإنما تتفاوت القلوب، لا يحيطون به علماً، لا يحيطون بالله علماً، وهذا من أدلة عجز البشر، وعلى أنهم مهما وصلوا إليه من العلم في العلوم الشرعية فإنهم لن يحيطوا بعلم الله أبداً، بل ولا حتى بما أنزله عليهم من القرآن، ولذلك لا بد أن نترفق في أخذ العلم، ولا بد أن نجاهد أنفسنا قليلاً قليلاً.
وأمر القلوب في اتساعها للوحي والإيمان أمر عظيم جداً، هذا القلب الذي يصفه رسول الله ﷺ بأنه كالمضغة في صغره، كالمضغة، المضغة الشيء اليسير، يستطيع أن يحوي في جنباته إيماناً عظيماً كبيراً جداً، فإن في بعض قلوب العباد أيها الإخوة من العلم والإيمان ما لو نزل على جبل لتركه قاعاً صفصفاً، متصدعاً، من هذا العلم والإيمان، انظروا إلى عظمة الله في خلقه، خلق قلوب العباد صغيرة في الحجم الحسي، لكنها كبيرة جداً في الحجم المعنوي، تسع علماً كثيراً، وتسع إيماناً عظيماً، وتسع من المعرفة والعلم بالله أشياء كثيرة لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ صحيح أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌسورة ق37.
وكذلك أيها الإخوة: يصف رسول الله ﷺ ويخبر بأن لله آنية في الأرض، الآنية جمع إناء، الله تعالى له آنية في الأرض، في هذه الأرض، ما هي هذه الآنية، يقول رسول الله ﷺ في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي عنبة : إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها[أخرجه الطبراني في مسند الشاميين 840]. إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، يملؤها الله تعالى نوراً وعلماً وإيماناً لمن كان له قلب، وأحبها إليه أحب هذه الآنية هذه القلوب، أحبها إلى الله ألينها وأرقها، التي إذا سمعت آيات الله تتلى عليها ترى جلود أصحابها، ترى جلودهم تقشعر من خشية الله ، هذه الآنية التي يملؤها الله تعالى من فضله ورحمته، ما يوصل إلى خشيته وعبادته، هذه الأودية التي سالت، المطر عندما ينزل من السماء فيغسل الأرض ويتجمع في هذا الوادي، يتجمع في هذا الوادي، يحمل معه في هذا الوادي الزبد الذي يطفو على سطحه، يحمل معه الزبد الغثاء الذي يطفو على سطح الماء، يتجمع في هذا الوادي عالياً على الماء، هذا الزبد أيها الإخوة يكون رابياً عالياً منتفخاً فوق الماء.
ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه، كما يمر عليه السيل فيحتمله، فإن هذا الغثاء -أيها الإخوة- بعد فترة من الزمن يتفرق، يفرقه الوادي ويقذفه إلى جنبيه، ويتعلق بالأشجار، وتتقاذفه الرياح فتأخذه، ويظهر الماء في الوادي لماعاً صافياً يفيد الناس فيستقون منه، ويرعون، فكذلك العلم والإيمان إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات، عندما ينزل الماء على الأرض فيسيل يجرف معه من هذه الأرض كل ما هب ودب، ما هو النافع وغير النافع، حتى يصير زبداً عالياً فوق سطح الماء، هذا العلم عندما يدخل القلوب، وتخالط بشاشته القلوب، فإنه يثير ما في القلب من الشبهات والشهوات، يثيرها لا ليبقيها في القلب، وإنما يثيرها ينفض القلب نفضاً، يثير ما فيه من أمراض الشهوات والشبهات، يثيرها ليقلعها ويذهب بها حتى ينقي القلب من هذه الأدران والأخلاط.
وإذا ذهبت الشهوات والشبهات يبقى القلب صافياً من كل ما علق به وكدّره، ويبقى هذا القلب فيه العلم والإيمان، يفيد الناس تعليماً، ويفيد النفس خشية، وعملاً، وعبادة، وتطبيقاً، كما يفيد الماء الذي بقي في الوادي، فإنه ينبت الأشجار على جنبتي الوادي، ويستقي منه الناس، ويشربون، ويسقون أنعامهم بإذن الله.
وكذلك هذا العلم إذا نزل في القلوب، هذا الوحي ينبت الله به أشجار العبادة والخشية زهيّة قائمة على أصولها في قلوب المؤمنين، وكذلك فإن هذا الماء يستقر في الوادي، عبّر بالوادي ولم يعبّر هنا بالنهر حتى يبين الاستقرار الحاصل للماء في هذا الوادي، كما يحصل به الاستقرار للعلم عندما ينزل في القلوب فإنه يبقى فيها ثابتاً متكاثراً، فيه البركة، وفيه النفع العظيم، واستقر العلم والإيمان في جذر القلوب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً، ويزول شيئاً فشيئاً، ويبقى العلم والإيمان نافعاً، فكان عباد الله أعلاهم قدراً أكثرهم إحاطة ووعياً بما أنزل الله تعالى.
كان الوادي قبل أن ينزل الماء عليه كان جافاً منتناً متسخاً، فيه من أكدار الطبائع ما يجعل فيه من الشوائب أشياء كثيرة، فلما نزل الماء غسل الأودية ونظفها، وأزال الخشونة والجفاوة التي فيها، قلوبنا أيها الإخوة تكون من مخالطة الحياة المادية فيها قسوة كبيرة، وفيها جفاء كبير، جفاف عظيم في القلوب، عندما ينزل عليها الوحي من السماء يطريها، وينعمها، ويصلحها، وينظفها، يجب أن يكون الوحي يفعل بقلوبنا كما يفعل الماء النازل من السماء بأودية الأرض وطرقاتها.
هذا الزبد أيها الإخوة الذي يزول ويتفرق وتنسفه الرياح، هذا الزبد تقدم ذكره في الآية على ذكر ما ينفع الناس، فإن الله قال: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ثم قال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ فقدم ذكر الزبد على ذكر ما ينفع الناس، من أسباب وحكم هذا التقديم، أن الزبد هو الذي يظهر للناس، أنت إذا نظرت إلى الوادي الممتلئ بالماء أول ما تنظر إليه عينك إلى الزبد، أول ما ترى هو الزبد، وقد تغفو العين ولا ترى الماء المتجمع في الوادي.
إن الباطل أيها الإخوة: إذا علا في يوم من الأيام، فإن الناس أول ما ينظرون وأول ما يرون هو هذا الباطل، وقد يغفلون عن كون الماء النقي الصافي موجود تحته، فلا يرونه، ولكنه موجود، وقد يظنون بأن الماء غير موجود كذلك يظنون بأن الحق قد مات، أو غاب، أو أنه غير موجود، وأن الباطل هو الذي استقر، وهو الذي علا، وهو الذي بقي، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فإن من تحت هذا الزبد حقاً يتأجج، ينتظر الفرصة المواتية لكي يستعلي، وينتظر الأسباب التي يهيئها الله لانقشاع الزبد الباطل؛ لكي يظهر الحق لامعاً نظيفاً على صفائه ونقائه الذي أراده الله.
وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الحق الصابرين عليه، وأن لا يجعلنا من المغترين بالباطل وانتفاشه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والعلم النافع وصلى الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلّغ هذا الوحي للناس، وأقام الحجة عليهم، وصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسلمياً كثيراً.
توضيح المثل الناري في سورة الرعد
لما ضرب المثل المائي في الجزء الأول من الآية أعقبه الله تعالى بذكر المثل الناري، أعقبه بذكر المثل الناري، المثل المائي كان في إنزال الماء على الأرض، المثل الناري يقول الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ الناس إذا أرادوا أن ينقوا المعادن التي يستخرجونها من الأرض لكي ينقوا هذه الصدور من الشوائب ويحصلوا على هذا الذهب الصافي، أو الفضة الصافية، أو النحاس والحديد الصافي، ماذا تراهم يفعلون؟ إنهم يأخذون هذا الخام من المعادن المختلطة، فيوقدون عليها النار إيقاداً شديداً حتى تذهب الأخلاط ويبقى المعدن النافع، فيجعلونه على كيفيات تناسبهم في حياتهم العامة، الحديد، والذهب وغيرها من المعادن يوقد عليها النار إيقاداً شديداً، فتذهب الشوائب التي فيها ويبقى المعدن نقياً، يُجعل بعد ذلك على أشكال أخرى، هذا هو المثل الثاني، عندما تخالط قلوب العباد المحن والفتن، ويكتوي المؤمن بنارها، فإنها تنقيه، وتهذبه من الشوائب، وتجعل معدنه أصيلاً صافياً، إن في الابتلاءات، والمحن، والفتن أيها الإخوة، نفع عظيم؛ لإخراج أخلاط الدعت، والكسل، والركون إلى الحياة الدنيا، والتراجع، والجبن، إخراج هذه الأخلاق، إخراجها من النفس يحتاج إلى صهر بحرارة عظيمة من حرارات الفتن، والابتلاءات التي تمحص معادن الناس، والتي تزيل الأخلاق والطبائع الرديئة منهم، وتجعل الأخلاق الحسنة والطبائع الجيدة هي التي تبقى، كما يبقى معدن الذهب الصافي، بعد إيقاد النار تحت الأخلاط التي .......
كذلك يضرب الله الحق والباطل
يقول الله تعالى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ هذان المثلان: المثل المائي والناري، ضُربا في القرآن للحق والباطل، إذا اجتمعا فإن الله يقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ يضربها للحق والباطل، يعني أن الحق والباطل إذا اجتمعا فإنه لا ثبات للباطل، ولا دوام له أبداً، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يصبغ في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال، كما يقول القرطبي رحمه الله: فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد والخبث، يضمحل الباطل لا يبقى مطلقاً، ولو ظن الناس بأنه طويل العمر والأمد، فإنه لا بد من ذهابه حين يأذن الله ويشاء، ويخرج الحق عالياً مرفرفاً فوق الأرض، معلن للناس بأن دين الله موجود، وبأن شرعته باقية، وبأن الطائفة المنصورة موجودة إلى قيام الساعة، وانظروا إلى حكمة ..... القرآن في ضرب الأمثلة، فإنه ضرب مثلين أحدهما: يصلح لأهل البوادي، المطر والماء والوادي، لا يصلح فهمه إلا لأهل البوادي، والمثل الثاني: يصلح للمتقدمين من أهل الصناعات، هذا القرآن يفهمه كل أحد، فيه من النور، فيه ...... بيان لكل أحد، في آياته نور لكل من أراد الوصول إلى الحق، ولا بد للدعاة إلى الله من اقتفاء أثر القرآن، وطريقته، ومنهجه في ضرب الأمثلة للناس.
ومن عموم الفوائد في هذه الآية أيها الإخوة: قاعدة عظيمة أن البقاء للأصلح، أن البقاء للأنفع، أن البقاء للحق، هذا الزبد لا ينفع شيئاً، ولكنه يذهب، ويبقى الماء من تحته، وهذا الركام يذهب ويبقى الذهب خالصاً نقياً، كذلك يا إخواني توجد في العالم كثير من الأمور والطرائق والمذاهب ما أنزل الله بها من سلطان، لا تنفع الناس بل تضرهم، لكن ليعلم العالم كله بأن البقاء للأصلح، البقاء لدين الله تعالى، مهما تعالت الجاهلية وانتفشت فإن دين الله عام منتصر، وكثير من الناس لا يفقهون هذه القضايا، ويظنون الظنون السيئة بالله ، ويتشاءمون، تُرى متى ينحسر الضلال، ومتى يبزغ نور الفجر من جديد وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ سورة يوسف 21. فالأصلح لا بد له من البقاء والاستمرارية؛ لأن الله قد أذن بهذا، وأمر بهذا أمراً كونياً قدرياً، لا بد أن يحصل، وهو أمر شرعي كذلك يحبه الله تعالى، يحب الله أن يبقى الإسلام، ويحب الله أن يبقى ما هو الأصلح للناس، لذلك كان لزاماً على كل موحد مسلم أن يفكر جدياً أن يلبس لباس الإسلام النافع، ظاهراً وباطناً حتى ينفع الله به، وحتى يبقى، وإن لم يبقَ الجسد فإن المنهج باقٍ، والناس يتوالدون، والله يحمل في طيّات أجيال بني البشر ما يجعل منهم في المستقبل روّاداً للحق، قاضين به، مقيمين بشرعة الله .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك ووحيك وشرعتك، اللهم اجعلنا من أهل الحق وروّاده، ومن القائمين به شرعة ومنهاجاً، اللهم وأبعدنا عن الباطل وأهل السوء، اللهم واكتب النصر للحق والسنة، اللهم وانصر أهل السنة على أهل البدعة، واجمع المسلمين على الحق وعقيدة التوحيد الصافية يا رب العالمين، اللهم وثبت الأمن والاستقرار في ربوع بلدنا هذا وبلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم من أراد دينك ووحيك وسنة نبيك وبلاد المسلمين بسوء فاردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.