الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
سيرة الرسول ﷺ التطبيق العملي للقرآن
فحري بالمسلم دائماً أن ينظر في سنة النبي ﷺ لكي يتبين التطبيق العملي للقرآن الكريم، والوحي المنزل من عند الله في تلكم السيرة العطرة التي أحياها محمد بن عبد الله ﷺ وأصحابه، وفيما يلي أيها المسلمون نموذجاً من تلك الحياة الكريمة التي عاشها النبي ﷺ مع أصحابه نتبين من خلالها شيئاً من الأحكام، والآداب، والفضائل، والطرائق الاجتماعية التي كان يعيش المسلمون بناءً عليها، ودرسنا من خلالها تلك الخطى التي حصلت في الجيل الأول الذي هو نبراس لنا وقدوة وأسوة.
نص الحديث
روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاسورة التحريم4، حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه، أي عن الطريق؛ لأجل قضاء الحاجة، وعدلت معه بإداوة فتبرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاسورة التحريم4؟ قال: واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة.
ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي ﷺ فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره وإذا نزل فعل مثل ذلك، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار، فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن،ثم جمعت عليَّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي ﷺ اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: قد خبتي وخسرتي أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله ﷺ فتهلكي؟ لا تستكثري النبي ﷺ ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكي، ولا يغرنك أن كانت جارتك، أي عائشة أوضأ منك وأحب إلى النبي ﷺ، قال عمر: وكنا قد تحدثنا أن غسان – وهم العرب المشركون في شمال الجزيرة – تنعل الخيل لغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إلينا عشاءً فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو، أجاء غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي ﷺ نساءه، اعتزل النبي ﷺ أزواجه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون، فجمعت عليَّ ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي ﷺ فدخل النبي ﷺ مشربة له – وهي غرفة علوية – فاعتزل فيها ودخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك، ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي ﷺقالت: لا أدري، ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلاً، ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها النبي ﷺ فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي ﷺ ثم رجع، فقال: كلمت النبي ﷺ وذكرتك له فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم رجع إليَّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما وليت منصرفاً إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي ﷺ فدخلت على رسول اللهﷺ فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال وهو نسيج الحصير المتشابك بجنبه ﷺ، متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف فسلمت عليه، ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع إليَّ بصره فقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت وأنا قائم: أستأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي ﷺ، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي ﷺ يريد عائشة - فتبسم النبي ﷺ تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت في بيته شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، قطع من الجلد غير المدبوغ فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبي ﷺ وكان متكئاً، فقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله استغفر لي.. الحديث.[رواه البخاري2468].
الفوائد المستفادة من الحديث
هذا الحديث العظيم الجليل فيه تبيان لحال من الأحوال التي كان عليها النبي ﷺ، فنقلها هؤلاء الرواة العدول؛ لتستفيد منها الأمة، وتأخذ منها الأجيال، لقد كان ابن عباس حريصاً على سؤال عمر، وهذا يدل على طلبه للعلم، حتى قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر، ولكنه يتحين الفرصة لسؤال العالم، وما دام القضية فيها شيء من الحرج؛ لأن بنت عمر حفصة قد دخلت في الموضوع، فهو لا يريد أن يسأله أمام الناس، فتحين حتى دخل عمر وعدل عن الطريق والجادة ليقضي حاجته، فلما خرج من الخلاء وصب على يديه يوضئه ويعينه على العبادة، وهذا باب من الأجر، فلما خلا به عن الناس إذا به يوجه له السؤال: من هما المرأتان اللتان قال الله تعالى فيهما: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُسورة التحريم4، من هما المرأتان؟ فيتعجب عمر، كيف خفي ذلك على ابن عباس مع علمه بالتفسير، أو كيف اجترأ وسأل مع ما في هذا، ولكن عمر لم تمنعه الأمانة العلمية بل فرضت عليه أن يقول ولو كانت ابنته قد دخلت في الأمر، ولم يمنعه الحرج من أن يفصح، ثم سرد له الحديث، وقال له مشجعاً كما في رواية: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك؟ قال عمر: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبرتك به.
وأصحاب التقوى والعلم والقرب من الله لهم هيبة ولكن لا يمنع ذلك من الاستفادة منهم، وقص عليه القصة العظيمة التي فيها كيف استطاع الصحابة رضوان الله عليهم الجمع بين مصلحة الدين والدنيا، فكان لا بد لهم من العمل في النخل، فهذا قوتهم وعيشهم، وباب رزقهم، ولا بد لهم أيضاً من طلب العلم فكيف فعلوا؟ لقد تناوب عمر مع جاره من الأنصار، يعمل هذا في النخل يوماً وينزل الآخر إلى المسجد النبوي لحضور العلم من أول النهار إلى آخره حتى يرجع عشاء، حتى يرجع بعدما ينقضي اليوم ليخبره بما حصل في ذلك اليوم، يحضر رسول الله ﷺ إذا غبت وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره، إننا نحتاج إلى هذا المبدأ اليوم كثيراً، في غمرة طغيان الحياة المادية والدراسات الدنيوية التي صار لا غنى عنها في كثير من الأحيان، وتجد بعض النسوة الصادقات تمسك المرأة أولادها وأولاد الأخرى لتتمكن الأخرى من حضور درس، وهكذا بالتناوب يفعلن أموراً تدل على تحقيق هذا المبدأ من الجمع بين مصالح الدين والدنيا، وهذا شأن المسلم.
شأن المرأة في الإسلام
وكذلك ففي قول عمر : كنا معشر قريش نغلب النساء، أي نحكم عليهن ولا يحكمن علينا، بخلاف ما كان عليه أهل يثرب في الماضي من العكس حيث كان لكلمة نسائهم شيء من القوة، وكان لشأن المرأة في ذلك المجتمع شيء من النفوذ، قال عمر: كنا ونحن بمكة لا يكلم أحد امرأته إلا إذا كانت له حاجة، قضى منها حاجته، ما نعد للنساء أمراً، ولا ندخلهن في أمورنا، فلما جاء المهاجرون بنسائهم إلى المدينة وحصل التداخل نشأ عن ذلك أخذ، نشأ عن ذلك تعلم من أدب نساء الأنصار، أي من سيرتهن وطريقتهن، وهذا يبين أثر اختلاف العادات الاجتماعية على حياة الزوجين، وهذا أمر تنبغي مراعاته من الزوجين؛ لأن عدم ذلك يمكن أن يؤدي إلى مشكلات كثيرة؛ لأن ما يكون عيباً عند قوم قد لا يكون عيباً عند آخرين، وما يكون مقبولاً عند قوم، قد لا يكون مقبولاً عند آخرين، بل إن بعض الكلمات تختلف في المقصود منها تمام الاختلاف والكلمة واحدة هي هي، لكن ما بين قوم وقوم حتى لربما كانت الكلمة مدحاً عند قوم، ومسبة عند آخرين، والمقصود هنا: أن يراعي كل من الزوجين عادات أهل الآخر، وعادات بلدته وقبيلته وهكذا، وعلى الإنسان المسلم أن يحذر عند انتقاله من بلد إلى بلد أن لا يتعلم أهله وأولاده إلا ما كان طيباً من عادات القوم، ويؤخذ كذلك من القصة أن درجة نفوذ النساء ومكانتهن في البيوت وعند الأزواج وكذلك درجة تدخلهن في الموضوعات والقرارات تختلف من مجتمع إلى آخر، فمن المهم مراعاة ذلك، وإعطاء الفسحة في الأمر ما لم يصل إلى شيء محرم، أو أمر يخالف الشرع، كأن تفرض المرأة كلمتها على الرجل في الدخول في منكر أو إدخاله إلى البيت، أو الذهاب إلى مكان محرم ونحو ذلك، إن الفسحة تعطى للمرأة فيما لا يخالف الشرع، ولا يمكن أن تصل عند المسلمين إلى تولية المرأة مثلاً الولايات العامة كالإمارة والقضاء، فهذا لا يجوز بنص حديث النبي ﷺ: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. رواه البخاري.[رواه البخاري4425].
إن بعض الحركات اليوم تساعد وتحث وتدفع المرأة على أن تبرز وتتكلم فإلى أي حد يسمح المجتمع الإسلامي بذلك، هذه قضية حساسة ومسألة مهمة.
أما بالنسبة لأن يكون لها شأن يناسبها ومكانة تتلاءم مع خلقتها التي خلقها الله عليها فهذا لا شك فيه، ومن ذلك مسألة استشارة الرجل لزوجته، أو السماح لها بإبداء رأيها، وإشراكها في اتخاذا القرار فإنه من إكرام الزوجة على أن يكون للرجل الكلمة الأخيرة والفصل في القضية وهذه من قوامته. وبعض الناس يرفض أخذ رأي الزوجة في شيء البتة، ويورد حديثاً منسوباً إلى النبي ﷺ وهو "شاورهن وخالفوهن فإن في خلافهن البركة" وهذا حديث لا أصل له مرفوعاً، ولا يصح عن النبي ﷺ، بل قد ورد عن النبي ﷺ خلافه، لما شاور أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية فأخذ برأيها لما عرف وجاهته، فيؤخذ برأي المرأة العاقلة، ما دام هو الحق وهو الراجح والصحيح، ولكن أن تجعل للنساء الكلمة على الرجال وأن تتساوى معه في كل شيء فهذا حرام، مساواة المرأة بالرجل حرام، مناقض للإسلام، والله لم يساويهن، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءسورة النساء34، فالله رفع هذا درجة على تلك وفضل جنس الرجال على جنس النساء بالعقل والقوة الجسدية، وقوة الرأي وغيره، فكيف تريد أنت أن تساوي بينهما؟!.
ولذلك فإن هؤلاء الذين يريدون إظهار المرأة أن تكون مساوية للرجل ظلمة، ظلمة، ظلموا الدين وظلموا الشريعة، وظلموا الرجال، وظلموا النساء، يريدون إقحام المرأة في جميع الميادين، ولما قام والٍ مسلم بمنع المرأة من مزاولة الأعمال التي لا تليق بها كتعبئة البنزين في السيارات في محطات الوقود قامت الدنيا من أجل ذلك، الغربيون الكفرة واليهود والنصارى ومن وراءهم وكذلك أذنابهم، الأذناب، هل يليق بالمرأة أن تعبئ البنزين في محطات الوقود، ثم بعد ذلك يريدونها أن تعمل مظيفة جوية ونحو ذلك من عمل الاختلاط، ثم الرجال يحتاجون إلى العمل، ويعيشون في بطالة، وتزداد نسبة البطالة بين الرجال، ثم يريد هؤلاء المجرمون فتح أبواب العمل للنساء على مصارعها ومساواتهن بالرجال، فماذا يفعل الرجال الذين من المطلوب منهم أن ينفقوا، وأن يعملوا وأن يقوموا بهذه الأعباء المالية، تزاحمه لتأخذ وظيفته وهو المطالب شرعاً أن ينفق عليها، وليست مطالبة أن تنفق عليه.
دعوات لتقتحم المرأة ميادين العمل بأكملها، وتتساوى مع الرجل، تراجع تحت وطأة الهجمة النصرانية اليهودية، لماذا؟ أليس لنا دين وشرع ومنهاج، أليس لنا أحكام، وموازين جاءتنا من رب العالمين، وهكذا أيها الإخوة يريدون أن تنتخب المرأة رئيساً، أليس في الإسلام أهل الحل والعقد هم الذين يفعلون ذلك من أهل العلم ووجهاء الناس وعقلائهم وأهل الخبرة فيهم. ثم يريد هؤلاء أن تعطى حتى أي ربة منزل هذه الميزة، وتتساوى بصوتها مع الرجال، ظلمة، فسقة، مجرمون، خارجون عن شريعة الله ، منهزمون أمام هجمة النصارى واليهود والغربيين والشرقيين وهكذا، تراجع عن الشريعة، وهكذا استحياء وخجل من نقد الغرب.
أيها المسلمون: إن هذا الحديث فيه بوضوح تقدير مكانة المرأة حق قدرها، وهكذا قام عمر رضي الله تعالى عنه إلى زوجات النبي ﷺ يعظهن ويذكرهن كيف تردي على النبي ﷺ، كيف تهجريه، يوجه واحدة واحدة، وهكذا غيرة على بيت النبوة ولمصلحة النبي ﷺ وبدأ بابنته حفصة، دخل عليها فقال: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي ﷺ اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله ﷺ فتهلكي.
وهذا فيه درس عظيم أيها الإخوة، وفائدة كبيرة في تبيان دور أبي الزوجة بعد الزواج، وأنه يعظها في طاعة زوجها، ويبين لها حقه عليه، ويحذرها من إغضابه، وبعض الآباء يظن أنه إذا زوج ابنته أنه لم يعد عليه أية مسؤولية تجاهها، وهذا خطأ، بل إن النبي ﷺ كان يعمل لإصلاح شأن فاطمة مع علي رضي الله عنهما بعد زواجهما، وكان يمر عليهما ويوقظهما لقيام الليل، ويصلح ما بينهما إذا تغاضبا، ويزور فاطمة ويداعب أولادها، ولأبي بكر توجيهات كثيرة لابنته عائشة بعد زواجها، فليست البنت بعد زواجها إذن حمل قد فرغ منه ورمي به على رجل آخر، وإنما لا زالت علاقة التوجيه والنصيحة والإصلاح قائمة ومستمرة، وهذا عمر ، يقول لحفصة: بأن لا تكثر الطلبات على زوجها، لا تستكثري النبي ﷺ، لا تطلبي منه الكثير، لا تكلمي رسول الله ﷺ أي في الطلبات فإن رسول الله ﷺ ليس عنده دنانير ولا دراهم، فما كان لك من حاجة حتى دهنه فسليني، ولا تراجعيه في شيء، أي لا ترادديه في الكلام ولا تهجريه، وهكذا. ولا يغرنك أنه يدلل امرأة أخرى لا تظني أنك مثلها، فكان عمر يقدر اختلاف مكانة الزوجات عند الزوج، وهكذا.
وهكذا قام ينصح ابنته أن تحافظ على مال زوجها ولا تكثر الطلبات، وخصوصاً إذا كان الزوج قليل ذات اليد، والأب إذا كان عنده سعة فليس عليه غضاضة لو قال لابنته: إذا أرادت أن تطلب شيئاً لا يستطيعه زوجها أن تسأله هو، فيوفره لها ويهديها إياه، ما لم يؤذ ذلك الزوج، والأب مأجور عند الله عندما يعلم بحاجة ابنته فيوفرها لها، والغالب أن الآباء أغنى من الأزواج فإن الزوج شاب في مقتبل العمر قد أنفق على الزواج واستدان وعليه مسؤوليات مالية، والأب قد يكون تقدمت به السن فجمع شيئاً من الثروة، فليغنها إذن حتى بعد زواجها، ما دام ذا قدرة.
وهكذا طلب عمر رضي الله تعالى عنه ذلك الطلب من ابنته حرصاً على بيت الزوجية، وأن لا تضايق النبي ﷺ في شيء.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا، وبيوتنا، وزوجاتنا، وذرياتنا، ونياتنا إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، والشافع المشفع يوم الدين، وحامل لواء الحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تابع الفوائد
لقد فوجئ عمر بن الخطاب ذات يوم بزميله الذي كان قد ذهب لحمل العلم في ذلك اليوم يطرق على بابه طرقاً شديداً ليخبره بهول وفاجعة أعظم من أن تغير غسان المشركين عليهم، ليقول له: طلق النبي ﷺ نساءه، إن ذلك كما عرفنا أيها الإخوة من القصة لم يقع، فلماذا قالها إذن ذلك المسلم؟ إنها إشاعة مبنية على فهم لاعتزال النبي ﷺ نساءه، أكثرن عليه في النفقة وتظاهرتا عليه في العسل حتى حرمه على نفسه، وتظاهرتا عليه في مارية الأمة على حرمها على نفسه، وذبح شاة وأهدى لإحدى زوجاته، أرسل إليها فردته تراه قليلاً، فزادها الثانية والثالثة، كل ذلك ترده، حصلت مجموعة من الحوادث متقاربة أراد النبي ﷺ أن يؤدب نساءه فاعتزلهن، ففهم بعض الناس أنه طلاق، ولعل ا لمنافقين كما ذكر العلماء هم الذين أشاعوا هذه القضية، وأكدوا موضوع الطلاق ونقلوه من احتمال إلى تأكيد، وهكذا سرت الإشاعة، وعمر بنته تحت النبي ﷺ، وقضية الطلاق هنا ستقع عليه الوقع العظيم فلما سمع ذلك قال: خابت حفصة وخسرت، أي أنه كان يحذرها وكان يذكرها، وكان يعظها، ولكن حصل المكروه، والإشاعات تكثر حول الكبار والأفاضل وأن على الإنسان المسلم أن لا يقبل أي خبر فضلاً عن أن يساهم بنقله ونشره، وأن يرد الأمر إلى أهله، وأن من شأن أهل البصيرة الرجوع إلى المصدر للتأكد من الخبر، وهذا ما فعله عمر ، لبس ثيابه ونزل إلى المسجد يستقصي الخبر وينظر ما القضية، فأولاً بدأ بالزوجة، "فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، قال: ألم أكن حذرتك؟ سألها، أطلق النبي ﷺ نساءه؟ فقالت: لا أدري، ثم شرعت تبكي، حزناً على فراق النبي ﷺ من جراء الإشاعة، وأيضاً تأثراً لإغضاب أبيها الذي كان قد حذرها من قبل، فسألها عمر عن النبي ﷺ، قالت: ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرج عمر حتى جاء إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، ناس ينكتون بالحصى ويضربون به الأرض كفعل المهموم المفكر، صورة رائعة للمشاركة الشعورية من الصحابة للنبي ﷺ يهمهم ما أهمه، يغمهم ما أغمه، وهذه القضية قضية بالنسبة لهم كبيرة، جاءوا حول المنبر، جلسوا وقد شاعت الإشاعة بينهم ووقعت عليهم وقوع المصيبة العظيمة، يبكي بعضهم والآخرون يضربون بالأرض بالحصى كفعل المهموم، وعمر غلبه ما وجد، ذهب يستأذن المرة الأولى على النبي ﷺ فصمت ﷺ، الثانية صمت ﷺ، الثالثة صمت ﷺ، ثم أرسل الغلام وراء عمر يدعوه للدخول، دخل عمر على النبي ﷺ فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر رمال الحصير في جنبه الشريف، ورمال الحصير ضلوعه المتداخلة، مثل الخيوط بالنسبة للثوب، نسيج الحصير قد أثر في جنبه الشريف، فقال وهو قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع إليه البصر وقال: لا، فقال عمر من شدة إعجابه بالخبر: الله أكبر. وهذه السنة فيمن سمع خبراً مفرحاً وشيئاً أعجبه أنه يكبر، لا أن يصفق، فهذا التكبير عند سماع الخبر السار يغنينا عن فعل هؤلاء الكثرة من الرجال في مشابهتهم للنساء من جهة، وقد قال ﷺ: إنما التصفيق للنساء[رواه البخاري684]، ومن مشابهتهم للفساق بل الكفار أحياناً التي كانت صلاتهم عند البيت مكاء وهو التصفير، وتصدية وهو التصفيق، فالتصفيق للنساء ليس للرجال، فكبر عمر، ثم شرع يسري عن النبي ﷺ ويخبره عن عادة قريش مع النساء، وعادة أهل المدينة مع النساء، وماذا حصل من التضارب نتيجة التداخل، فتبسم النبي ﷺ، ثم أخبره عن موعظته لابنته حفصة، وأن لا تساوي نفسها بعائشة فتبس تبسمة أخرى ﷺ، وهكذا يفعل الإنسان المسلم مع أخيه الذي أصابته ضائقة نفسية، فإذا رأيت أخاك قد أصابته ضائقة نفسية فيستحب لك أن تحدثه بما يزيل همه، ويطيب نفسه، وقد قال عمر في الحديث: لأقولنَّ شيئاً يضحك النبي ﷺ، وهكذا فعل رضي الله تعالى عنه.
ثم ماذا كان قائد الأمة، ما نوع الأثاث الموجود في بيته؟ ما هي التحف المعلقة على الجدران؟ ماذا يوجد في خزائنه داخل البيت؟ يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فرفعت بصري في بيته فلم أجد غير أهبة ثلاث، الإهاب الجلد قبل الدباغ، هذا كل الموجود مع فراش حصير ليس عليه شيء لين، وفي رواية: فنظرت في خزانة رسول الله ﷺ فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. هذا كل الموجودات، ثلاث قطع من الجلد غير مدبوغة، وفراش حصير، وقبضة من شعير، هذا كل الموجود، فتأثر عمر لذلك، وقال: ادع الله فليوسع على أمتك، وكان عمر قد بكى وسألهﷺ لماذا يبكي، قال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، أي وأنت رسول الله في هذا الفقر؟ فقال ﷺ: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟، والمعنى: أأنت في شك في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا، ثم قال له: إن أولئك قوم قد عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا، وقد أخذ من ذلك العلماء أن كل لذة أو شهوة قضاها المرء في الدنيا فهو استعجال له من نعيم الآخرة، كل توسع في الدنيا على حساب التوسع في الآخرة، نعم لو كان مباحاً لا يأثم عليه الإنسان، لكن كثرة الاستمتاع بهذه الأشياء على حساب الاستمتاع في الآخرة، هذا على حساب هذا، عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ولذلك لا يندب للمسلم أن يتوسع في هذه الأمور الدنيوية فإنها تشغل عن ذكر الله من جهة، وتقسي قلبه وتعلقه بالدنيا أيضاً وتجعله يلهث وراء الكماليات، وهذا ما وقع فيه الناس في هذا الزمان.
وقد طلب عمر من النبي ﷺ أن يستغفر له وانتهت بذلك هذه القضية الكبيرة التي مرت بالمجتمع الإسلامي، ونحن نسمعها اليوم ونرى ما فيها من العبر والفوائد والأحكام وإنها بحق مدرسة، السيرة النبوية مدرسة من دخلها تعلم أموراً كثيرة.
نسأل الله أن يؤدبنا بأدب الإسلام، وأن يعلمنا علم الشريعة، ونسأله أن يديم علينا السعادة في بيوتنا وبلداننا وبلدان المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يسعون لرفع راية لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألك النصر العاجل للإسلام وأهله، اللهم دمر المشركين، اللهم وأخز المنافقين، اللهم من أراد إشغال المسلمين عن دينهم فاجعل كيده في نحره، ومن أراد نشر الفساد بينهم فاقطع دابره واجعله عبرة للمعتبرين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.