الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
خلق الرحمة
فهنالك خلق عظيم في الإسلام، من نزع منه فهو شقي، ومن رزقه فهو بر تقي، إنه علامة على هذا الدين، إنه شيء في أساسه، إنه دين الفطرة، ودين الرحمة، الرحمة يا عباد الله، قال النبي ﷺ: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال[رواه مسلم2865]رواه مسلم، لا تنزع الرحمة إلا من شقي[رواه الترمذي1923]رواه الترمذي وهو حديث حسن، الرحمة التي هي في نفس المسلم التي يطبعه عليها الإسلام التي جعلها الله في النفوس، تلك الرحمة التي جاء الإسلام بتنميتها والمحافظة عليها، إنها الخلق الذي إذا فقده الإنسان صار جلموداً كالحجر، وصار متوحشاً قاسي القلب كالصخر، إنه الخلق الذي فقد الكثيرون التعامل على أساسه، وعمت المشكلات بين الزوج وزوجته، والأب وأولاده، والدائن والمدين، والرئيس والمرؤوس، بسبب نزع الرحمة، وانعدام الرحمة، وفقد الرحمة، عم البلاء بسبب زوال هذا الخلق، ترى كل مصيبة حولك أيها الأخ المسلم، إن النبي ﷺ علمنا قولياً وعملياً كيف تكون هذه الصفة.
رحمة النبي ﷺ
أيها الإخوة: نفس بلا رحمة كيف تكون؟ رفع للنبي ﷺ بنت ابنته ووضعت في حجره، فماذا فعل ﷺ؟ عن أسامة بن زيد قال: "أرسلت ابنة النبي ﷺ إليه بأميمة بنت زينب ونفسها تقعقع كأنها في شن" هل رأيتم القربة الجافة الجلد الجاف كيف يكون صوت الحجر فيه إذا تقلقل واضطرب؟ "كأنها في شن، فالنبي ﷺ لما رأى ذلك المنظر ففاضت عيناه، قال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟" وفي رواية: "فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله! أتبكي أو لم تنه عن البكاء؟ فقال ﷺ: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[رواه البخاري1284]رواه البخاري رحمه الله.
رفع للنبي ﷺ ذلك الطفل فلم يملك عينيه من البكاء، ولم يستطع حبس دموعه ﷺ وهو الرءوف الرحيم.
وقد كان ﷺ من رحمته يعانق الولد ويشمه ويقبله، عن أنس بن مالك قال: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ، كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي المدينة" النبي ﷺ وضعه عند ظئر رجل وامرأة، عند رجل وامرأته المرأة ترضع إبراهيم بن محمد بن عبد الله ﷺ، فكان ينطلق يقول أنس: فكان ينطلق ﷺإلى عوالي المدينة إلى ذلك المكان ونحن معه قائد الأمة ومعه أصحابه، كان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت فيأخذه فيقبله ﷺ ثم يرجع يذهب تلك المسافة لأجل تقبيل ولده معه الصحابة لأجل تقبيل ولده، كما جاء في صحيح مسلم، ولما توفي إبراهيم قال رسول الله ﷺ: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثديفي السنتين الأوليين وهو يرتضع، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة.[رواه أحمد11692]
ولما كان النبي ﷺ يخطب على منبره ذات مرة، جاءه الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، وفي رواية ابن ماجة: يعثران ويقومان بسبب ضعف الطفل في مشيته يتعثر، فنزل رسول الله ﷺ من المنبر قطع الخطبة توقف عن الحديث والناس في المسجد والصحابة حوله وكلام العلم والوحي، قطع الخطبة ونزل من المنبر، في الرواية: فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌسورة التغابن15 فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما[رواه الترمذي3774 وابن ماجه3600].
هكذا كانت رحمته ﷺ بالأطفال، كان يمشي لزيارة بنته فاطمة لأجل أن يلتقي بحفيده الحسن، عن أبي هريرة قال: خرج النبي ﷺفي طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة فقال: أثم لكع، أثم لكع ويقصد بالكع تارة الولد الصغير، فحبسته شيئاً فاطمة حبست الحسن ، فظننت أنها تلبسه سخاباً خيط يعلق من قرنفل أو غيره في الأطفال لطيب الرائحة، فظننت أنها تلبسه سخاباً أو تغسله، فجاء يشتد حتى عانقه وقبله وقال: اللهم أحببه وأحب من يحبهرواه البخاري، وفي رواية: اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه[رواه البخاري2122] كذلك في البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة قال: فما كان أحد أحب إليَّ من الحسن بن علي بعدما قال رسول الله ﷺ في البخاري، وفي رواية لأحمد: يقول أبو هريرة "ما رأيت الحسن إلا فاضت عيني أو دمعت عيني أو بكت" شك الراوي.
أيها الناس: لقد جاء النبي ﷺ إلى بيت ابنته ليجد حفيده يقول: أين لكاع؟ ادع لي لكاعاً، فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته، فأدخل فمه في فمه، ثم قال: اللهم إني أحبه[رواه أحمد10510] وهكذا كان ﷺ يأتي للبيوت ليقبل الصبي الصغير ويمشي تلك المسافة ويعبر عما حباه الله به من الرحمة والرقة والعطف والحنان.
ولذلك لما تباهى رجل أمام النبي ﷺ بقوله: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: من لا يرحم لا يرحم[رواه البخاري5997]رواه البخاري، أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك[رواه البخاري5998] لك عشرة أولاد ما قبلت منهم أحداً.
والولد إذا كان مريضاً فهو أحق وأجدر بالشفقة والرحمة، عن البراء قال: دخلت مع أبي بكر أول ما قدم المدينة فإذا عائشة ابنته مضطجعة وكانت صغيرة أول ما قدم المدينة، قد أصابتها حمى، فأتاها أبو بكر فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها، إن رحمة الأهل والإخوان مما فطر الله الناس عليه، فجاء هذا الدين لإحياء ذلك وتنميته والمحافظة عليه، فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَسورة يوسف88 فماذا فعل يوسف وهو النبي الرحيم وإخوانه يشتكون إليه الفاقة: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّسورة يوسف88 وفيهم أبوه وأمه، مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ؟ فكشفهم وعرفهم بالحقيقة، قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ(سورة يوسف89) ثم أتى بأهله فأكرمهم وأنعم عليهم بنعمة الله.
وكان النبي ﷺ يرحم الجميع، ومن رحمته بطلبة العلم ما حدثنا به مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي ﷺ في نفر من قومه فأقمنا عنده عشرين ليلة طلبة العلم جاءوا يطلبون العلم ويتعلمون ويسمعون الحديث، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم[رواه البخاري6008]رواه البخاري.
إن النبي ﷺ وهو الإمام في الصلاة كانت رحمته بأم الصبي خلفه إذا بكى صبيها، عن أنس بن مالك قال: إن النبي ﷺ قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه[رواه البخاري709]رواه البخاري، وفي رواية له: كراهية أن أشق على أمه[رواه البخاري707] كان النبي ﷺ يدخل في الصلاة يريد إطالتها، ومع ذلك إذا سمع بكاء الصبي خفف، وجاء في صفة التخفيف في صحيح مسلم: فيقرأ بالسورة القصيرة، وربما كانت ثلاث آيات من أجل هذا الولد من أجل أمه، وفي رواية للبخاري أيضاً: "فيخفف مخافة أن تفتن أمه"[رواه البخاري708].
وكانت رحمته ﷺ عامة للأرامل والعجائز والثكالى والنساء، عن أنس : أن النبي ﷺ لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه، فقيل له، فقال: إني أرحمها، قتل أخوها معي[رواه البخاري2844]رواه البخاري، وذكر النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث في صحيح مسلم: أن هذه المرأة أم سليم وأختها أم حرام كانتا خالتين للنبي ﷺمن المحارم أو من الرضاع يدخل عليهما النبي ﷺ ويدخل على أم حرام فيواسيها وذلك لأن حرام بن ملحان كان ممن نكب في سبيل الله، وممن قتل في معركة بئر معونة، وممن غدر الكفار بهم من المسلمين، فكان ﷺ يدخل على هذه المتيمة بأخيها ويزورها.
وكذلك كان يزور أم أيمن حاضنته ﷺ، واستمرت السنة من بعده مع أبي بكر وعمر في زيارة هذه العجوز وقضاء حاجتها.
وكان ﷺ يرحم صاحبة المصيبة ويدرك مشاعرها ويريد التخفيف عنها كمنع أن ترى المنظر البشع، قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي وكان ثقة يصلح للخلافة، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي زناد عن هشام عن عروة قال: أخبرني أبي الزبير : أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى بعد جمع الجثث في المعركة أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى قال: فكره النبي ﷺ أن تراهم كره أن ترى المرأة منظر القتيل وجثة حمزة المشوهة، فقال: المرأة المرأة أي: أدركوا المرأة، احبسوا المرأة قبل أن تصل إلى الجثة فترى منظرها، قال الزبير : فتوسمت أنها أمي صفية وصفية أخت حمزة قال: فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، فلدمت في صدري وكانت امرأة جلدة قالت: إليك لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله ﷺ عزم عليك، فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له.[رواه أحمد1421].
ولما تولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ورحم بالرعية كما رحم بها الصديق وسائر الخلفاء: خرج إلى السوق يوماً -كما يقول مولاه أسلم- فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله ما ينضجون كراعاً ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع -أي: المجاعة، الجوع- وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي ﷺ، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً وحمل بينهما نفقة وثياباً، ثم ناولها بخطامه ثم قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.[رواه البخاري4161]رواه البخاري.
إن رحمته ﷺ لم تقتصر على الأحياء، كانت تشمل الأموات، كان يأتي البقيع فيدعوا لهم ويستغفر، كذلك كان يجتهد في الدعاء لهم في صلاة الجنازة.
إن رحمته ﷺ لم تقتصر على الأحياء، كانت تشمل الأموات، كان يأتي البقيع فيدعوا لهم ويستغفر، كذلك كان يجتهد في الدعاء لهم في صلاة الجنازة.
وعن عائشة: أن النبي ﷺ قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي، قالت: عيناه تذرفان.[رواه الترمذي989] قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ولما توفي سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه لما انفجر جرحه وسالت دماء الشهيد، حضره النبي ﷺ وأبو بكر وعمر، تقول عائشة: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: رُحَمَاء بَيْنَهُمْ سورة الفتح29 قال علقمة: قلت: أي أمه فكيف كان رسول الله ﷺ يصنع؟ قالت: كان إذا وجد فإنما هو بلحيته.[رواه أحمد24573]رواه الإمام أحمد رحمه الله.
هذا سعد بن معاذ لما تذكر قصته وأخوه أنس بن مالك بعد سنين يقول محمد، يقول واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ: دخلت على أنس بن مالك فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: إنك بسعد أشبه جدك سعد أنت تشبهه ثم بكى فأكثر البكاء فقال: رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم، وأخبر بحديث النبي ﷺ: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون[رواه البخاري11814]لثوب من حرير أعجب الصحابة لينه. والحديث رواه الإمام أحمد.
إن رحمة النبي ﷺ إن الرحمة في الإسلام -أيها المسلمون- ليست مقتصرة على البشر حتى للبهائم، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله ﷺخلفه ذات يوم فأسر إليَّ حديثاً، ثم ذهب ليقضي حاجته ﷺ فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي ﷺ الجمل لما رأى النبي ﷺ حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي ﷺ فمسح ذفراه أي: رقبة البعير، فسكته - وكف البعير عن البكاء- فقال: من رب هذا الجمل؟-لمن هذا الجمل؟- فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه[رواه أبو داود2549].
ولما جاء رجل النبي ﷺ يقول: يا رسول الله! إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: والشاة إن رحمتها رحمك الله[رواه أحمد15165]رواه الإمام أحمد.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، طائر معه فرخان، معها ولداها فأخذنا فرخيها، ذهبت لتأتي بطعامهم فصعد رجل فأخذ الفرخين من العش، فجاءت الحمرة تفرش أي: جناحيها وتقترب من الأرض فوق رأس النبي ﷺ وأصحابه، فجاء النبي ﷺ فقال: من فجع هذه بولدها، ردوا ولدها إليهاورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار[رواه أبو داود2675].
الرحمة ليست ضعفاً
عباد الله: هذه الرحمة التي جاء بها الإسلام، هذا الخلق العظيم الذي ينبغي أن يكون في نفوسنا، إنه ليس من الضعف إطلاقاً، يظن بعض الناس أن الرحمة ضعف، كلا والله، فهذا النبي ﷺ أقوى الناس شخصية، وبهذه الرحمة وهذه الأمثلة التي سمعناها عن رحمته ﷺ.
وليس مما ينقص قدر الأب أن يظهر رحمته تجاه الأولاد، قال أحدهم بعد فراق أولاده في سفر:
أين الضجيج العذب والشغب | أين التدارس شابه اللعب |
أين الطفولة في توقدها | أين الدمى في الأرض والكتب |
أين التشاكس دون ما عرض | أين التشاكي ما له سبب |
أين التسابق في مجاورتي | شغفاً إذا أكلوا وإن شربوا |
يتزاحمون على مجالستي | والقرب مني حيثما انقلبوا |
فنشيدهم بابا إذا فرحوا | ووعيدهم بابا إذا غضبوا |
وهتافاهم بابا إذا ابتعدوا | ونجيهم بابا إذا اقتربوا |
بالأمس كانوا ملأ منزلنا | واليوم ويح اليوم قد ذهبوا |
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم | في القلب ما شطوا وما قربوا |
إني أراهم أينما التفتت | نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا |
وأحس في خلدي تلاعبهم | في الدار ليس ينالهم نصب |
وبريق أعينهم إذا ظفروا | ودموع حرقتهم إذا غلبوا |
في كل ركن منهم أثر | وبكل زاوية لهم صخب |
في النافذات زجاجها حطموا | في الحائط المدهون قد نقبوا |
في الباب قد كسروا مزالجه | وعليه قد رسموا وقد كتبوا |
في الصحن فيه بعض ما أكلوا | في علبة الحلوى التي نهبوا |
في الشطر من تفاحة قضموا | في فضلة الماء التي سكبوا |
إني أراهم حيثما اتجهت | عيني كأسراب القطا سرب |
دمعي الذي كتمته جلداً | لما تباكوا عندما ركبوا |
حتى إذا ساروا وقد نزعوا | من أضلعي قلباً بهم يجب |
ألفيتني كالطفل عاطفة | فإذا به كالغيث ينسكب |
قد يعجب العذَّال من رجل | يبكي ولو لم أبك فالعجب |
هيهات ما كل البكا خور | إني وبي عزم الرجل أب |
يجب أن نرحم العيال، أن نرحم الكبار، أن نرحم الصغار، أن نرحم الخدم، أن نرحم الموظفين، أن نرحم المراجعين، أن نرحم الطلاب، أن نرحم الجميع، أن يرحم المسلم أخوه المسلم، المسلم أخو المسلم، يرحمه لا يخذله، فأين الرحمة التي نزعت من قلوب الكثيرين؟
اللهم إنا نسألك أن تجعل في قلوبنا الرحمة للمؤمنين، والشدة على الكافرين، اللهم اجعلنا رحماء فيما بيننا أشداء على الكفار، إنك أنت أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأفسحوا لإخوانكم الواقفين يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرحم الراحمين، وأشهد أن نبي الله ﷺ بالمؤمنين رءوف رحيم، وأشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصحنا فأحسن نصحنا صلى الله عليه وعلى أصحابه وآله وأزواجه وذريته والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
ليس لدى أعدائنا رحمة
عباد الله: هذا ديننا ملئ رقة، ورحمة، وحناناً، وعطفاً، على من يستحق، هذا ديننا هذا فخرنا هذا تاريخنا، وهذا نبينا، وهؤلاء أصحابه وهؤلاء أئمة المسلمين وعلماؤهم، الذين آتاهم الله الرحمة فماذا لدى أعدائنا؟ ماذا عندهم؟ ماذا لديهم عن الرحمة؟ هل الكفر أدى بهم إلى الرحمة؟
إذا كان ابنك دون العشرين فحذاري أن ترسله إلى الغرب عامة، أو بريطانيا خاصة، أو أن تسمح له بالذهاب إلى هناك، فلقد تناقلت الصحف ضرباً جديداً من الاغتصاب يستهدف الشباب، ويتركز بصفة خاصة في قطار الأنفاق، الحضارة التي لم تعد تفرق بين طفلة في الخامسة وامرأة في التسعين من العمر، طفلة تذهب إلى مدرستها فتجد من يكمن لها بين الأشجار ويقتادها إلى غابة مجاورة أو مرأى بسيارات ثم يلقي بجثتها ويفر هارباً.
وامرأة طاعنة في السن تلوك وحدتها وتلعق مرارة الجحود بين جدران أربعة تفاجأ بمن يقتحم عليها بؤسها ليضيف إليه بؤساً شديداً وجديداً بالاغتصاب وسلب ما لديها ويولي هارباً، اغتصبوا حتى العجائز.
ورفعت امرأة شكوى على القس بيكار لأنه قام باغتصابها طيلة عام كامل مستغلاً ظروفها في اللجوء إلى الكنيسة.
وحوادث اغتصاب الصغار كثيرة، وقد أصبحت قضية الطفولة المعذبة في فرنسا اليوم هي القضية الأولى، وأعلنت فرنسا أن قضيتها الوطنية الكبرى هي الطفولة المعذبة.
وقد وجد في بريطانيا أرقام هواتف خاصة يتصل عليها الصغار للاستغاثة بالشرطة من آبائهم وأمهاتهم، وقد قتلت إحداهن أولادها الثلاثة وغرقتهم في بحيرة ثم ادعت أن واحداً من المجرمين قد خطفهم.
إنها الجريمة التي لو روعت لتل روك في أمريكا الجرائم تلو الجرائم في حقوق الأطفال والكبار والعجائز وجميع المجتمع وحتى الشباب.
أيها المسلمون: إذا التفتنا ماذا نجد؟ ماذا لدى القوم أصحاب الحضارة والآلات والتكنولوجيا؟ أفلام دعارة للأطفال، شبكات دعارة للأطفال، سرقة أطفال من دول وبيعهم على ملاهي في دول أخرى، هذه رحمتهم.
من أجل تحويل العالم الفقير أو العالم الثالث إلى سوق حر لتصريف المواد المخزنة، تقوم هذه الدول الغنية الغربية بإتلاف مئات الأطنان من الفائض سنوياً من القمح، بل ربما ترمي به في عرض البحر ويموت في المقابل أربعة عشر مليوناً من البشر سنوياً جوعاً، سبعين في المائة منهم من الأطفال، أين حضارتهم؟ أين تقدمهم؟
تنفق فرنسا ثلاثة وعشرين بليون فرنك على الكلاب والقطط، وهناك من الجوعى والموتى في العالم من يحتاجون إلى كسرة خبز، أين حقوق الإنسان التي يتشدقون بها؟
يدفنون النفايات السامة في الدول الفقيرة والمتخلفة ليتأثر بالإشعاع شعوب تلك المنطقة.
وعندما يتباهون بتقديم المعونات ماذا قدموا للبوسنة؟ ماذا قدموا لإخواننا؟ أطعمة فاسدة، أطعمة انتهت مدتها، وقدموا الخنزير الذي يعلمون أن المسلمين لا يأكلونه وأنه حرام عندهم، وألقوا بعضها خارج المدن المحاصرة ليخرج بعض أهلها لأخذ المساعدات فيقتنصهم القناصة الصرب، ماذا فعلوا؟ ماذا فعلوا؟
مذابح المسلمين الآن في كوسوفو مجموعات بالحبال والسلاسل مربوطة من المسلمين وقد انهالوا عليهم بالفؤوس والصور لا يطيق الإنسان أن يراها إطلاقاً، جثث ورءوس ورقاب وصدور وعظام، لحم وأكوام من الدم والأعصاب وقد اختلطت دماؤهم بعظامهم بلحومهم بعصبهم من الفؤوس الصربية، ورئيسة الكيان الصربي بيلين التي كانت تتباهى أنها تستمع بشرب دماء أطفال المسلمين، والمسلمين فقط، ومن الذي يقول اليوم إن في كوسوفا مسلمين لا تراهم يقولون إلا المنحدرين من أصول ألبانية والمنحدرين من أصول ألبانية والمنحدرين من أصول ألبانية، لقد سئمنا تلك العبارة وهم مسلمون وهم إخواننا، والحمد لله عندهم انتصارات، عندهم انتصارات عظيمة لكن لا يعلنها الكفرة حتى لا يرفعوا معنويات المسلمين، ولكن إخواننا يواجهون المشكلة الكبيرة المقاتلون من الشباب وحملة السلاح قادرون على الدفاع والهجوم لكن ماذا تفعل بالأطفال والنساء والعجائز في البيوت؟ فهؤلاء الصرب يدكون بيوت المسلمين دكاً ويتعرضون لقوافل النازحين قتلى وإهانة وذلاً، هؤلاء إخواننا يسامونا أشد أنواع العذاب في تلك القارة التي تزعم أنها متقدمة وأنها متحضرة وأنها متطورة، ماذا كنا نحن نفعل بالرحمة إذا انتصرنا عليهم؟
قال العماد رحمه الله: كان للمسلمين من يأخذ من خيام الفرنج، يأخذون الرجال، فاتفق أن بعضهم أخذ صبياً رضيعاً ابن ثلاثة أشهر أخذ في الختان، أخذ في المعركة، صبي لامرأة نصرانية فوجدت عليه أمه وجداً شديداً واشتكت إلى ملوكهم، فقالوا لها: إن سلطان المسلمين، صلاح الدين الأيوبي رحيم القلب وقد أذنا لك أن تذهبي إليه، فتشتكي أمرك إليه، قال العماد: فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها، فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه، والصبي صبي لامرأة نصرانية من أعدائه الذين يقاتلون المسلمين، ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري ولم يزل واقفاً حتى جيء بالغلام، فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
هذا تاريخنا، هذه سيرتنا مع أعدائنا، هذه رحمتنا بأطفال العدو فأين رحمتهم بأطفالنا؟
أيها المسلمون: لقد آن لنا أن نترك المنكرات والمحرمات ونعود إلى الدين، وأن نرحم أنفسنا من عذاب النار.
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا وأن تغفر لنا وأن تتجاوز عنا، اللهم سامحنا، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم ارزقنا الرحمة، اللهم ارزقنا الرحمة، اللهم ارزقنا الرحمة يا أرحم الراحمين..