الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب 70-71.
أما بعد:
أثر الإيمان في حياة الإنسان
فإنه لعظيم حقاً أثر الإيمان في حياة الإنسان، وكيف يغير الإيمان مسار الإنسان ليخرجه خلقاً آخر متمتعاً بصفات عالية، وأخلاق سامية، إنه يحتوي على مواصفات عظيمة، وقد سبق أن ذكرنا بعضاً من هذه الصفات التي يتصف بها المؤمن عند إيمانه، وماذا يفعل الإيمان للإنسان، ومن ذلك الأمن النفسي الذي قال الله تعالى فيه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَسورة الأنعام82، فكما لا يتحسر المؤمن على الماضي باكياً حزيناً، ولا يلقى الحاضر جزوعاً ساخطاً، ولا يواجه المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في فزع، ورهبة، وغموض، وتوجس من المستقبل، كأنه عدو شرير، بل إنه يعيش آمن النفس مطمئناً؛ لأن الإيمان مصدر أمنه، والأمن من ثمرات الطمأنينة والسكينة التي وهبها الله للمؤمنين، ولا عجب أن جعل الله الجنة دار أمن وسلام فأهلها في الغرفات آمنون، لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، تتلقاهم الملائكة منذ دخولهم قائلة لهم: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ سورة الحجر46.
إن أهل الجاهلية البعيدين عن الدين يعيشون في خوف، وقلق، وهم لازم إنهم يخافون من المستقبل خوفاً عظيماً، فلا ترى أحدهم مرتاحاً في عيشته، ولا آمناً باله، ولا مطمئنة نفسه، كما يقول الواحد منهم معبراً عن نفسه: إنني أعيش في خوف دائم في رعب من الناس والأشياء، ورعب من نفسي، لا أغنت عن الثروة التي أملكها، ولا المركز الممتاز الذي أتبوؤه، ولا السهرات الحمراء، ولا غير ذلك من مباهج الدنيا الحلال والحرام، فإنني أرى الأشباح من حولي، وأرى الخوف فاتحاً فمه ليلتهمني، إنني تائه في الحياة مع أنني بلغت قمتها، إنها صارت عدوي رغم كل ما أملكه فيها، إنني أخاف من الحياة ذاتها، هكذا يعيش الواحد من البعيدين عن الدين في ضيق الصدر، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًاسورة طـه124، فهذا الضنك في المعيشة، والضيق في العيش يذيقه الله للبعيد عن دينه، المعرض عن شرعه رغم كثرة ماله، وفسحة بيته، إلا أن الفسحة الحقيقية في الصدر لا في البيوت، ولا في السيارات الفارهة، ولذلك يعيش المؤمن آمناً مطمئناً، في سلام وسكينة، وأمن نفسي رغم أن بيته ضيق، ورغم أن سيارته قديمه، ورغم أن ملابسه بالية؛ لأن السعادة الحقيقية ليس في المظاهر وإنما هي في الحقائق، وهذا الأمن الذي يوفره الإيمان للإنسان ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً حياً لأم مؤمنة صار إيمانها مصدر أمنها رغم أنها في حال خوف وقلق، ولكنها لم تخف لأن الله ثبتها وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّسورة القصص7 إذا خافت ألقته في اليم، مع إن إلقاءه في اليم بحد ذاته مصدر خوف عظيم، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّسورة القصص7 ألقيه في البحر، امرأة تلقي ولدها في البحر، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْسورة القصص7-8 هذا المؤمن النبي، ليكون لهم في المستقبل عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَسورة القصص7-8، واستجابت الأم لصدق موعود الله الذي وعدها والله لا يخلف الميعاد، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سورة القصص13.
أيها الإخوة: إن الناس يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سدت أبواب الخوف عنده، فلم يعد يخاف إلا الله وحده، يخافه أن يكون فرَّط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فإنه لا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة آل عمران175.
ولما دعا أبو الأنبياء إلى توحيد الله، وقام بتحطيم الأصنام، وخوفه الناس من قومه آلهتهم، فقال لهم متعجباً: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سورة الأنعام81، وقرر الله الحقيقة بنفسه قائلاً:الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ سورة الأنعام81، وفسر النبي ﷺ الظلم بالشرك، وفسره بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌسورة لقمان13، فيتبين لنا أن التوحيد هو أساس الأمن، ومنبع الأمن التوحيد والإيمان الخالص لله تعالى، الإيمان بالله وتوحيده، وأن الشرك هو مصدر الخوف، ومصدر القلق، ومصدر الهم، الشرك بأي نوع من أنواعه، والكفر بالله تعالى هو القلق، والهم، والغم، والصعاب النفسية، وهو أهم أسباب الخوف، والاضطراب والرعب، ولذلك قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ بسبب شركهم سنلقي في قلوبهم الرعب، بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًاآل عمران151.
أيها المسلمون: إن الناس يتكلمون عن الرزق، وعن الرواتب، وعن الوظائف، وعن التجارات، وعن الأرباح، وعن الأسهم، وعن المشاريع، وعن الخاسر منها وغير الخاسر، إن الناس في قلق في القضية المادية، في قلق مستمر في قضية الدخل، والطرد من الوظيفة، وإيجاد وظيفة، ولكن المؤمن آمن حتى من جهة رزقه، فهو يعلم أن رزقه لن يفوت، وأن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ولا يضيع عبده، وقد خلق الأرض مهاداً، وفراشاً، وبساطاً، وبارك فيها، وقدر أقواتها، وجعل فيها معايش وتكفل بأرزاق العباد، وكرر وأقسم، ووعد ، وعد الله لا يخلف الله وعده، قال الله : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ سورة الذاريات58، قال تعالى: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ، يحلف بنفسه سبحانه، فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ سورة الذاريات22-23. إن المؤمن يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وإن المؤمن يعلم أن الله يرزق كل أحد، وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْسورة العنكبوت60، وأنه مهما كان له رزق فسيأتيه، ولا ينافي ذلك سعيه، فهو من الأسباب، والأسباب من التوحيد، ولكن مع الإيمان بالمسبب وخالقها، والاعتماد على خالق الأسباب، وأن الإنسان سيأتيه رزقه قل أو كثر، لكنه إذا قل لا يسخط من ربه، وإذا كثر لا يطغى على شريعة ربه، إن المؤمن يعيش بالضمانات التي ذكرها الله تعالى في كتابه من أنه هو الرزاق، والعالم اليوم يريدون في اتفاقياتهم ضمانات، ويبحثون عن ضمانات، دائماً يطلبون الضمانات؛ لأنهم خائفون من نقض العهود والمواثيق والمستقبل، فإذا كان المسلم عنده الضمانات من ربه، إذا كان المؤمن عنده الضمانات في هذه الآية، فمما يخاف، وعلى أي شيء في رزقه يخشى، وهو يعلم أن الله رازق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور، ولذلك كان المؤمن يذهب إلى ساحات الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، من خلفه ذرية ضعاف، يخشى عليهم، وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ومع ذلك فهو يوقن أنه تركهم في رعاية رب كريم، حقاً - أيها الإخوة- إنه لموقف صعب أن يطلب من أحدنا أن يذهب إلى ساحات الجهاد وعنده أولاد صغار، فمن الذي يفعل ذلك ويضحي ويقدم، الإنسان إذا كان يوقن بأن هناك رباً رحيماً أمره بالجهاد فهو يطيع وتكفل له برعاية أولاده ورزقهم فهو لأجل ذلك يغادرهم، وإلا ما غادر مؤمن أولاده إلى ساحات الجهاد قط.
وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إنني عرفته أكالاً وما عرفته رزاقاً، ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق.
والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة، لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَسورة الأعراف34، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ سورة المنافقون11، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سورة نوح4، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ سورة فاطر11.
أيقن المؤمن أن الله قد فرغ من الآجال والأعمار، وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ من الذي يغيرها، وكتب على كل نفس متى تموت وأين تموت.
ومن كانت منيته بأرض | فليس يموت في أرض سواها |
وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت، والخوف على الحياة.
وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون، ثم يموتون بأرض أخرى، إن التجهز للموت حق، ولكن بالحق، وباليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى.
لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك، المؤمن لا يخاف الموت، فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده خوفه، لا يرده الخوف منه، ولا يثنيه الجزع، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ سورة الجمعة8، أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ سورة النساء78،قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْسورة آل عمران154أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه.
ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم، إن الموت خطب قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَسورة الزمر30، هذا من جهة الحس في المؤمن، أما من جهة الاستعداد له، فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس، يقول: إن زوجتي تخاف من الموت، ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها.
أيها الإخوة: الخوف من الموت خوفان: خوف سلبي، يقعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء، وخوف إيجابي وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأنه طريق لا بد أنه مسلوك، ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن من أن يأسى على فوته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت، لماذا إذا قلت لهم: فلان مات كما قال أحدهم، قال: أعوذ بالله، تعوذ بالله من الموت، وهو سيأتيك يأتيك.
لماذا يخافون الموت؟
لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يتأملونها، سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة، لا لأجل أن يعمر قصراً زيادة، أو يشتري سيارة زيادة، لكن لأجل أن يتزود من الأعمال الصالحة بزيادة، وأن يتوب توبة أخرى.
أيها الإخوة: الموت ليس عدماً محضاً، ولا فناء صرفاً، إنه انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور.
وما الموت إلا رحلة غير أنها | من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي |
إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته يبين هذه الحقيقة لإخوانه قرؤوها بعد موته:
قل لإخوان رأوني ميتاً | فبكوني ورثوني حزناً |
أتظنون بأني ميتكم | ليس هذا الميت والله أنا |
أنا في الصور وهذا جسدي | كان ثوبي وقميصي زمنا |
أنا عصفور وهذا قفصي | وطرت عنه وبقي مرتهناً |
الجسد الذي ترونه ممدداً أمامكم على الفراش هذا قفصي.
لا تظنوا الموت موتاً إنه | ليس إلا نقلة من هاهنا |
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، إذا نظرنا إلى تجاعيده، وترهل هذا الجسد، ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعني أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب هذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل، لا بد أن يكون هناك انتقال، فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب، فاعلم أن هناك تصميماً جديداً، وبناءً جديداً، ولعلها حكمة من الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني، والشيخ الكبير، وأن هناك نقلة، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار، فلا بد من التغيير، والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء، وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.
مصادر الأمن والسكينة
أيها الإخوة: إن من مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن الأمل الذي يضيء له الظلمات، وينير له المعالم، ويهديه السبيل، وتنمو به شجرة الحياة، ويرتفع به صرح العمران، هي قوة دافعة تشرح للعمل، وتخلق دواع الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، الإيمان يولد الأمل، والأمل مهم في الحياة، ما الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق إلا أمله في الحصاد، وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر إلا الأمل في الربح، وما الذي يبعث الطالب على الجد والمثابرة إلا الأمل في النجاح، وما الذي يحبب إلى المريض الدواء المر إلا الأمل في الشفاء، والذي يدعو المؤمن إلى أن يخالف طبيعته وهواه ويتحمل المشاق في هذه الدنيا الأمل في جنة الفردوس هو الذي يهون هذه، الأمل دافع النشاط، ومخفف الويلات، وباعث البهجة، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، إذا يئس التلميذ من النجاح نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالبيت والمدرسة، ولم يعد ينفعه درس خاص ولا عام، ولا نصح يسدى، ولا تهيئة المكان، ولا الجو المناسب، ولا ولا، إلا أن يعود إليه شيء واحد يحل له كل هذه المشكلات ألا وهو الأمل، فإذا رجع الأمل انحلت المشكلات، وإذا يئس المريض من الشفاء كره الدواء، وكره الطبيب، والعيادة، والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه العلاج إلا أن يعود إليه الأمل، وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان اسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه أبوابها، وتقطعت دونه أسبابها، وضاقت عليه بما رحبت، إنه اليأس، سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، لا إنتاج ولا إحساس حينئذ، واعلموا أن اليأس ملازم للكفر، كما أن الأمل ملازم للإيمان، وليس بعجيب أن تجد أصناف اليائسين بغزارة وكثرة، بين الجاحدين لله البعيدين عن شرع الله، إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَسورة يوسف87، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون سورة الحجر56.
وانظر ما يتجلى هذا اليأس في الشدة ونزول الشر كما ذكر الله، وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌسورة هود9، وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا سورة الإسراء83، وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ سورة فصلت49، استثنى الله صنفاً واحداً فقال: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِسورة هود11، فلو خسر في تجارة، أو رسب في مدرسة، أو حصل له فشل في شيء فإنه لا ييأس ولا يقنط؛ لأن أمله مستمر برب رءوف رحيم، ليس اليأس فقط من الدنيا، وإنما أيضاً السخط على الرب، كما قال المعري:
هذا ما جناه أبي علي | وما جنيت على أحد |
ولكن المؤمن أوسع الناس أملاً، راضٍ عن ربه، لماذا أيها الإخوة؟ ما هو السر في أن المؤمن عنده أمل، والكافر والضال يائس وقانط؟ السبب: أن المؤمن يؤمن بأن هناك إلهاً رحيماً قديراً يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، أرحم من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يفرح بعباده، يفرح بتوبة عبده أشد من فرحة الضال إذا وجد، والغائب إذا وفد، والظمآن إذا ورد، إله يجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
ويزيد، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، إله يدعو المعرض عنه من قريب، ويتلقى المقبل عنه من بعيد، ويقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة[رواه البخاري7405 ومسلم2675].
إله يداول الأيام بين الناس، فيبدل من بعد الخوف أمناً، ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، ومع كل عسر يسراً، فلذلك يأمل المؤمن فيه، هذا مبعث الأمل، هذا هو السر، الاعتصام بالإله البر الرءوف الرحيم العزيز الكريم الفعال لما يريد، يعيش المؤمن على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه، إنه دائماً متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه غير الذي ينظر إليها الكافر، لا ينظر إلى الحياة بوجه عبوس قمطرير، فهو إذا حارب فهو واثق بالله أنه سينصره؛ لأنه مع الله، والله معه إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ سورة الصافات172-173، إذا مرض لم ينقطع أمل المؤمن أبداً من العافية، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِسورة الشعراء78-80. إذا اقترف المؤمن ذنباً لم ييأس من المغفرة، ومهما كان الذنب عظيماً فإن عفو الله أعظم، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ سورة الزمر53، والمؤمن إذا أعسر وضاقت ذات يده أمل في الله، ولم يزل إيمانه فيه عظيماً لقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاسورة الشرح6، ولن يغلب عسر يسرين[رواه مالك1621 والحاكم3950]، ولو العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه[رواه الطبراني في الكبير9977].
والمؤمن إذا انتابته كارثة من كوارث الزمن ووقعت به المصيبة حقاً، فإن أمله بالله ما زال موجوداً، كيف يكون موجوداً والولد قد مات؟ كيف يكون الأمل موجوداً والبيت قد احترق، والمال قد ذهب؟ إنه موجود في رجاء الأجر على احتساب المصيبة بالصبر، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ سورة البقرة156.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا بإيماننا آمنين مطمئنين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يتوب علينا إنه هو البر الرءوف الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله إله الأولين والآخرين، ورب السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، خلق فسوى، وقدر فهدى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فعال لما يريد، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير النذير، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمثلة على أثر الإيمان في النفوس
عباد الله: إن أثر وقوع المصيبة على المؤمن يختلف تمام الاختلاف عن الكافر، ولنأخذ حال امرأة كانت في جاهليتها كافرة وقعت عليها مصيبة، ولما صارت مؤمنة في الإسلام وقعت عليها مصائب فاختلف حالها في إسلامها بالطبع عن حالها لما كانت كافرة، تلك المرأة هي الخنساء التي فقدت في جاهليتها أخاها لأبيها فقط، إنه صخر فملأت الآفاق عليه بكاء وعويلاً ونياحة وشعراً حزيناً حتى قالت:
يذكرني طلوع الشمس صخراً | وأذكره بكل غروب شمسي |
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
هذه المرأة هي نفسها المرأة التي أسلمت وحضرت حرب القادسية مع أبنائها الأربعة فجلست إليهم في تلك الليلة الحاسمة تقول لهم: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رحم واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، إنكم لبنو رجل واحد، ورحم واحد ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة آل عمران200، فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها تظفروا بالغنم في دار الخلد.
فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، وأنوف حمية، تدفعهم وصية أمهم بموعود ربهم، إذا فتر أحدهم ذكره إخوته وصية العجوز، فزأر كالليث، وانطلق كالسهم، وانقض كالصاعقة، حتى استشهدوا واحداً بعد واحد، فبلغ الأم نعي أولادها الأربعة، فماذا قالت؟ لم تلطم خداً، ولم تشق جيباً، ولم تطلق صيحة، ولا نياحة، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.
أيها أشق على النفس الأخ لأب، أم الأولاد الأربعة، الواحد أم الأربعة؟ ومع ذلك كان للمرأة موقف آخر يختلف تمام الاختلاف عن الموقف السابق، ما الذي تغير أيها الإخوة؟ تغير شيء واحد فقط، إنها النقلة من الكفر إلى الإسلام، ومن الجاهلية إلى الإيمان، ولذلك كان الكفر يأساً، وكان الإسلام أملاً.
الإيمان أمل بالله تعالى، الإيمان هو الذي يجعل المسلم يطلب من ربه ويرجو رحمة ربه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم زدنا إيماننا، اللهم زدنا إيماننا، اللهم زدنا إيماناً، وتقى، وتوكلاً عليك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، اللهم إنا نسألك دخول جنة الخلود، اللهم اجعلنا يوم القيامة مع الآمنين الركع السجود، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتفرج همومنا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا، وتستر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تكبت عدونا، اللهم دمر اليهود والنصارى، واجعلها عليهم ناراً ودماراً، الله إنهم تمالئوا على حرب الإسلام فاكبتهم، واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم، اللهم قيض لهم من عبادك المسلمين من ينصر المسلمين عليهم يا رب العالمين، اللهم قيض من عبادك الأخيار من يقود المسلمين لجهاد الكفار يا رب العالمين، ويحقق النصر يا أرحم الراحمين، عجل فرجنا يا رب العالمين.
أعياد الكفار
إخواني: إذا كنا مقبلين على عيد من أعياد الكفار فإننا نذكر أنفسنا بعدم جواز مشاركتهم مطلقاً، لا الهالوين، ولا الكريسمس، ولا غيرها، فإنها من عقيدتهم، ونحن لنا عقيدتنا، وإذا كان لهم دينهم فلنا ديننا لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِسورة الكافرون6، ولعل من قدر الله، وهو من قدر إن شاء الله أنه سيوافق دخول رمضان هذه السنة عيدهم الأكبر الذي سيكون فسننظر كيف يعمل المسلمون، هنالك سيتعارض دخول رمضان في عبادته، وجلاله مع ما يفعلونه من الكفر، والفسق في عيدهم، وهذه مناسبة تمحيص كما قلنا في الخطبة الماضية، فلننظر إلى أي الفريقين سيميل المائلون.
أحكام الجمع في المطر.
ومن الأحكام -أيها الإخوة- التي يحتاج التنبيه إليها في هذا الوقت الجمع في المطر، فاعلموا رحمكم الله أن الجمع في المطر رخصة جاءت عن رسول الله ﷺ وبالذات جمع العشاء إلى المغرب جمع تقديم عند نزول المطر، ويشترط للجمع بين الصلاتين شرطان: الأول: أن يكون المطر مستمراً من الصلاة الأولى إلى الصلاة الثانية.
وثانياً: أن يكون مطراً حقيقياً مطراً يبل الأرض والثياب، فإذا كان مطراً يبل الأرض والثياب، وكان مطراً مستمراً ساغ الجمع، فجمع الصلاتين رحمة من الله وتخفيف، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌسورة البقرة178.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.