الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نص الحديث الحادي عشر
يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ رواه البخاري مختصرًا، ومسلم -رحمه الله-[رواه البخاري: 7412، ومسلم: 2788].
وجاء في حديث آخر: يقبض الله الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ [رواه البخاري: 4812، ومسلم: 2787].
شرح الحديث الحادي عشر
وهذا حديث عظيم من أحاديث عظمة الله -تعالى-، فيه بيان قدرته وقوته وكبريائه وجلاله، وخضوع المخلوقات له بأسرها، وأنه قهرها، وأنه سبحانه وتعالى ملكها، وأنه يفعل فيها ما يشاء، وأنه طوى السماوات والأرضين طواها طيا سبحانه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن كل شيء تحت قهره وقدرته.
وهذا دليل على ربوبيته سبحانه، وأنه يجب أن يعبد وحده لا شريك له، فهو المستحق للعبادة دون سواه، ومن عظمته تعالى أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى الله شيء صغير حقير، وهذه السماوات والأرضين في كف الرحمن أصغر من الخردلة في يد أحدنا؛ كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم" [الإبانة الكبرى، لابن بطة: 7/ 308].
قال ابن القيم -رحمه الله-:
بل قولهم (يعني أهل السنة)
إن السماوات العلا | في كف خالق هذه الأكوان |
حقًا كخردلة تُرى في كف ممسكها | تعالى الله ذو السلطان |
وجاء في بعض روايات الحديث: أن النبي ﷺ ذكر على المنبر، قال: يأخذ الله سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها يعني النبي ﷺ أنا الملك "حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه" يقول ابن عمر الراوي يقول النبي ﷺ لما حدث بهذا الحديث على المنبر: "نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله ﷺ؟" [رواه مسلم: 2788] يعني اهتز المنبر، والنبي ﷺ فوقه يقول: ((يأخذ الله سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الملك، والنبي ﷺ جعل يقبض أصابعه ويبسطها.
هذا فيه بيان أن الله يقبض السماوات والأرضين بيده قبضًا حقيقيا، لماذا كان ﷺ على المنبر يقبض أصابعه ويبسطها؟
إشارة إلى أن الله يقبض السماوات والأرض قبضا حقيقيا بيديه -سبحانه-؛ ولا مجال لأن يقال: إن هذا تشبيه وهذا تجسيم، وأن النبي ﷺ يعلم ونحن نعلم بأن قبضة الرحمن غير قبضة البشر، لكن لإثبات القبض الحقيقي النبي ﷺ ما اكتفى بالكلام فقط، وإنما قبض أصابعه وبسطها على المنبر، واهتز المنبر من هول ما يحكي ﷺ، حتى قال ابن عمر: "جعلت أقول في نفسي أساقط هو برسول الله ﷺ" [رواه مسلم: 2788].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67]، ورسول الله ﷺ يقول هكذا بيده ويحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه ، هذا كلام النبي ﷺ الآن كلام الراوي ابن عمر انتهى يقول ابن عمر: ورسول الله ﷺ يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر، ثم حكى لفظ النبي ﷺ بالنص قال: يمجد الرب نفسه، أنا الجبار -يعني لما يقبض الأرضين والسماوات لما يقبضها بيديه ماذا يقول وهو يقبضها، يقول: ممجدا نفسه:- أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم ، يقول ابن عمر: فرجف برسول اللهﷺ المنبر حتى قلنا: ليخرن به. [رواه الإمام أحمد: 5414، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3196].
فإذا لما سمعت أعواد المنبر وخشب المنبر الكلام ما استطاع أن يثبت، فجعل المنبر يهتز، وانفعالات الجمادات مع كلام الله ورسوله كثير: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، وكان النبي ﷺ يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر وترك الجذع، الجذع حن كما يحن الصبي.
على أية حال: انفعال الجمادات مع الآيات أو مع كلام النبي ﷺ هذا كثير، لكن الشاهد الآن كيف أن المنبر جعل يهتز حتى خشي الصحابي أن يتحطم، والنبيﷺ يخر من فوقه، يسقط من هول ما سمع المنبر، والنبي ﷺ وهو يقبض يديه ويبسط، يقول فوقه: يمجد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم .
طي الله للسماوات والأرض يوم القيامة بيديه
طيب قوله ﷺ: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى الرواية الأولى ما هو الطي؟
الطي معروف في اللغة، الطي: ضم الشيء بعضه إلى بعض، جمع الشيء بعضه إلى بعض، فطيه: جمعه، أن يجمع بعضه على بعض، أو بعضه إلى بعض، وأن يلف.
إذن: الضم والجمع واللف هو الطي؛ معروف في اللغة كما في "لسان العرب" وغيره، وهذا الطي الذي يكون يوم القيامة طي حقيقي، نؤمن به على حقيقته، السماوات كبيرة وواسعة والله يطويها: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] كيف تطوى الكتب وتجمع؟ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104]، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67].
إذن، قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] هو كقوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة" يعني فيها ملائكة وفيها أشياء عظيمة، والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة، كيف حبة الخردل في كف أحدنا، طبعا هذا مجرد للتوضيح والتقريب وإلا هي في يد الرحمن أصغر من ذلك، لكن لأجل التقريب والتوضيح، يقول: كخردلة في يد أحدكم وإلا هي بالنسبة ليد الرحمن أقل من ذلك -سبحانه-، وهذا من أعظم الأحاديث في عظمة ربنا -سبحانه-، يعني أن الله يطوي السماوات والأرضين على اتساعها وعلى عظمها كما تطوى الصحيفة التي يكتب فيها، يعني نحن إذا كتبنا الآن في ورقة وطويناها، يعني كل هذه السماوات والأرضين بيده -سبحانه- تطوى طيا كما طي الورقة، كيف نحن نطوي الورقة بكل يسر وسهولة نطويها، والله يطوي السماوات والأرضين بما فيها من الخليقة بيديه -سبحانه-، شيء يعني سبحان الله العظيم العظمة الإلهية هذه شيء لو أدرك البشر، يعني أدرك الحقيقة تغيرت تصرفاتهم نحو ربهم، يعني لا في الطاعة ولا في المعصية كان طاعتهم صارت أكثر، وكان يعني من يتجرأ أن يعصي الرب الذي يطوي السماوات والأرضين بما فيها من الخليقة كلها بيده، يعني إيش هذه الخلائق كلها وهذه؟ فمن الذي يتجرأ على حربه ومعصيته.
والذين يحاربونه الآن، ويحاربون شرعه ودينه الآن، ما قدروا الله حق قدره، وإلا لو يدركون ذلك، يعني هل يتجرؤون على حربه؟ وهل يتجرأ العصاة على معصيته؟ وهل يصر أرباب الكبائر أو أصحاب الفجور على محاربة ربهم؟ المرابي يعني لما يسمع: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279} يرابي وهو يعلم أن الله يقبض السماوات والأرضين كطي السجل للكتب؟
طيب هذه السماوات فيها نجوم وكواكب وشمس وقمر وخلائق عظيمة كلها يطويها طيا، فتزول عن أماكنها، تزول عن أماكنها كلها، خلاص تتبعثر، يعني الطي هذا ما الذي سيفعل بالسماوات الطي، خلاص أفلاك وشموس وكواكب ونجوم كلها تتبعثر وتذهب تضمحل، قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104] يعني في الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104] يعني مثلما بدأنا الخلق أول مرة، كيف كان؟ لا شيء، ما في سماوات وما في أرض، أول ما بدأ الخلق قبل أن يخلق ما في سماوات ولا في أرضين، فيطوي الله السماوات والأرضين بيديه، ويقول: أنا الملك، قال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ فراحت السماوات وراحت الأرضين: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ما كانت شيئا، والبشر هؤلاء؟ الذين فيها وحتى الملائكة كله يموت، ما يبقى أحد، إذا طواها خلاص وما يبقى إلا الله، لذلك يقول الله لما يطوي السماوات والأرضين: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].
فهؤلاء الجبابرة والعتاة والفراعنة والطغاة، يعني ما يعقلون لا يعلمون هل اتعظوا: يوم يطوي الله السماوات والأرضين بيديه، ماذا لهم أصلا؟ أين قوتهم؟ أين ملكهم؟ أين سلطانهم؟ أين جبروتهم؟ أين جنودهم؟ أين أسلحتهم؟ راحت ذهبت كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 26-27].
قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104] كما ابتدأنا خلقهم ولم يكونوا شيئا، كذلك نعيدهم بعد موتهم، لا شيء، وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] يعني هذا الإفناء وهذا الطي وهذ الذهاب بالخلق، يعني يذهب الله بهم، بالسماوات وبالأرضين وبالخليقة كلها: وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ سيحدث حقا ويكون، وسينفذ كما وعدنا، بكمال قدرة الله، لا تمتنع عليه الأشياء، ذكر ذلك السعدي في تفسيره والشنقيطي في "أضواء البيان" وغيرهم من المفسرين.
إثبات اليدين لله والأصابع والقبضة
الحديث هذا وهذه الروايات تدل على إثبات صفة اليدين لله -تعالى-، وأن لله يدين عظيمتين تليقان به -سبحانه-، ليست كأيدي المخلوقين، ولا أصابعه كأصابع المخلوقين، ولا قبضته كقبضة المخلوقين، شيء لا يمكن للعقل أن يتصوره، ولا أن يدركه: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طـه: 110].
وهذان اليدان للرب اللتان تطويان سماواته وأرضيه تطويانها؛ إنها عظيمة، ونحن نجري الصفات على ظاهرها لا ننفيها، ولا نتأول فيها تأوّلات فاسدة، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نقول: اليد هي القدرة، وما له يد حقيقية كما يفعل بعض المحرفة المنحرفة، وإنما نقول له: يدان حقيقيتان تليقان به ، عظيمتان، يطوي بهما سماوته وأرضه طيا، ويجمع بعضها إلى بعض، ويزوي بعضها إلى بعض، فيذهب ما فيها، ولا نشبّه صفات الله بصفات خلقه، لا السمع ولا البصر ولا اليدان، ولا.. ولا.. ونثبتها له كما أثبتها لنفسه، ونقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، فجمع الله في هذه الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ بين نفي أمرين: التمثيل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ونفي التشبيه، وإثبات الصفات، قال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ .
إذن، لا بد أن نثبت ما أثبته الله لنفسه دون تمثيل أو تشبيه، لا نشبهه بخلقه ولا نمثل نقول: هي مثل كذا، ومثل كذا، ونخترع من عندنا، ما نقول على الله بلا علم، قال : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64]، وقال في إثبات يديه الشريفتين: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
وقد تنوعت النصوص الشرعية في إثبات اليدين لله، وإثبات الأصابع، وإثبات القبضة؛ مثل أن الله يخرج من النار حديث القبضة المشهور بقبضته يقبض قبضة من النار ويخرجهم، هؤلاء بقايا أهل التوحيد من أصحاب الكبائر والمصرين والمجاهرين، يعني آخر من يخرج من النار، آخر دفعة تخرج من النار من الموحدين؛ لأنه لا يبقى فيها موحد، النار ما يبقى فيها موحد، لكن هؤلاء الموحدين الذين استوجبوا دخول النار وشاء الله أن يدخلوها في النهاية بعدما يشفع النبيون وتشفع الملائكة ويشفع الصالحون يقبض الله بقبضته من النار من شاء أن يبقى من أهل التوحيد إلى آخر خلق منهم، يعني فيخرجهم، فقد تنوعت النصوص الشرعية في إثبات اليدين لله -تعالى- وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما وتثنيتهما، يعني أنهما يدان، وأن إحداهما يمين، والأخرى شمال، لكنهما في القوة سواء، يعني نحن البشر بعضنا اليد اليمنى عنده أقوى من اليسرى، وبعضنا الشمال عنده أقوى من اليمين، والله كلتا يديه يمين في القوة، فنثبت أن له يدان يمين وشمال، لكن سواء في القوة والعطاء، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] -سبحانه-، وأن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه -تعالى- يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها، يعني: ينميها يثمرها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ كما جاء في النصوص الشرعية، نؤمن بذلك كله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، يعني ما نخترع من عندنا كيفية، ما نصف كيفية، وما وردت الكيفية، هناك كيفية لا نعلمها، لكن ما نخترع من عندنا كيفية، ونقول: هي كذا، وهي كذا، وإنما نتكلم نثبت كما ورد.
ونعتقد أن ما يقوله البعض من التحريف والتأويل الباطل أنه باطل، نعتقد أنه باطل، لما يقول بعضهم: اليد القدرة، والطي والقبض التسخير والقهر، لكن لا يثبتون طيا حقيقيا، ولا أنه يجمعها، أو يزوي بعضها إلى بعض، ما يثبتونه.
نقول: هذا ضلال مبين، لماذا لا تثبتون ما أثبته الله؟ لماذا لا تثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال؟
اثبتوا له الأسماء كما أثبتها، هو سمى نفسه أنتم تعرفون الله أكثر من نفسه ؟ هو سمى نفسه كذا، هو أخبر عن صفاته بكذا وكذا، وأخبر عن أفعاله بكذا وكذا، قال: يطوي السماوات والأرض يعني يطوي طيًّا حقيقيًّا، فكما أننا لا نحرف في الأسماء كذلك لا نحرف الصفات كاليدين والسمع والبصر لله ، ولا نحرف في الأفعال يطوي، يعني يطوي، انتهينا، ونعرف ما هو الطي في اللغة الجمع والضم، فالسماوات والأرض في يد الله وفي قبضته لا يفوت منها شيء، ولا يخفى عن علمه منها شيء، ولا يعزب عن قدرته منها قليل ولا كثير؛ كما قال ابن هبيرة -رحمه الله- في "الإفصاح".
كمال ملك الله وشموليته للدنيا والآخرة
وقوله ﷺ: ثم يقول أنا الملك هذا الكلام منه -سبحانه- بيان لعظمته وثناء منه على نفسه، وتنبيها على ملكه الكامل، وسلطانه الشامل.
وقوله: أنا هذه معرفة، والملك معرفة، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فإن ذلك من طرق الحصر، يعني أنا الملك لا ملك غيري، هذا معناه، فالذي له الملكية المطلقة والسلطان التام هو الله لا ينازعه في ذلك أحد.
طبعا هذا الملك ليس مختصا به فقط يومئذ؛ حتى في الدنيا ملك الله في الدنيا شامل كامل، وملك غيره محصور ناقص مسبوق بعدم ملحوق بفناء، لكن ملك الله تام شامل، أول آخر -سبحانه-، فهو الملك في الدنيا والآخرة، وإذا كان في الدنيا ينازعه من ينازعه كفرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51]؟ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
إذن، نازعه في الملك -سبحانه- في الدنيا من نازعه كالنمرود وفرعون، ففي الآخرة لا يستطيع أحد أن ينازعه، والمنازعة التي في الدنيا منازعة باطلة، يعني لو قال فرعون: أنا ربكم الأعلى! أنا الملك! أنا كذا، هل هو حقيقي؟ هل هو ربهم الأعلى؟ هو مربوب الله بقدرته أن يزيله في أي وقت يريد، وقد أغرقه بالماء، أغرقه في البحر، ولا قدر أن يدفع عن نفسه شيئا، وراح ملك فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [الذاريات: 40] ما أغنى عنه ولا شيء.
وقوله في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وفي القراءة الأخرى المشهورة السبعية الصحيحة: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4]، في بيان تمام ملك الله بيان ملكه تمام ملكه، ملك يوم الدين، ولا ملك يومئذ غيره يوم الدين.
قال ابن كثير -رحمه الله-: وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، فهو مالك الدنيا والآخرة؛ لأنه قد تقدم الإخبار عن نفسه بقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وهذا يشمل كل العوالم في الدنيا وفي الآخرة، قال: وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين؛ لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه؛ كما قال يوم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ [النبأ: 38]، وقال تعالى: وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طـه: 108]، وقال: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [هود: 105].
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما"، وقال: ويوم الدين: يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم.
لماذا سمي يوم القيامة يوم الدين؟
الدين ما معناها؟ يدينهم بأعمالهم، يحاسبهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر إلا من عفا عنه، هذا كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- كما نقله أهل التفسير كالطبري وابن كثير، قال ابن كثير -رحمه الله-: وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف وهو ظاهر، يعني واضح، فظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله -تعالى- ينادي: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ فلا يجيب أحد، فيقول تعالى مجيبا نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].
ففي الدنيا -كما قال الشيخ ابن عثيمين في تفسيره للفاتحة-: يظهر ملوك يعتقد، -يعني رعيتهم- أنه لا مالك إلا هم، ولكن الحقيقة أنهم مملوكون هم وملكهم لله .
الكبرياء والعظمة لله وحده
وقوله تعالى: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ الجبارون: الظلمة، المتعالون على الناس بالقهر والغلبة والظلم والبطش بغير حق، هذا الجبار؛ فيقول الله يوم القيامة: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ المتكبرون المتعالون على الناس بجاههم وسلطانهم وأموالهم وأنسابهم، يتكبرون على الناس: بنسب، بمال، بقوة، وهكذا، كما ذكر ذلك صاحب "مرقاة المفاتيح" وكما في "إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد".
وفي حديث: الكبر بطر الحق، وغمط الناس [رواه مسلم: 91] ما يفيد تعريف ما هو الكبر بطر الحق، يعني جحد الحق وغمط الناس، ظلم الناس انتقاص الناس، فبطر الحق دفعه وإنكاره وجحده ترفعا وعلوا وكبرا، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم وانتقاصهم؛ كما في النووي على شرح مسلم.
هنا الاستفهام أين ملوك الأرض؟ أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين ملوك الأرض؟ هذا الاستفهام ما هو؟ الله يعلم أين هم، وأين ذهبوا وماتوا كما يقول العامة وشبعوا موتا، والله يعلم.
إذن، هذا السؤال أين ملوك الأرض؟ ما هو؟ هذا سؤال تحدي؛ لأن السؤال أنواع: في سؤال لمعرفة الجواب استفهامي، سؤال استنكاري، سؤال تعجب، في سؤال تحدي، أين ملوك الأرض؟ هذا سؤال تحدي، أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والقوة والتجبر والتكبر؟ قال الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] تأتي يوم القيامة ما معك شيء؛ لا بيت لا خدم لا حشم لا جنود ما في وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94].
أما المتكبرون، فقد جاء في الحديث الصحيح: أن الله يحشرهم كالذر -كالنمل الصغار- يطأهم الناس بأقدامهم، فالمتكبرون يوم القيامة حجمهم ما هو مثل حجم بقية الناس، الكل يحشرون، أما المتكبرون يرون في أرض المحشر، يعني كالذر، -سبحان الله- يعني كيف يجازيهم بنقيض ما كانوا يفعلون، كانوا يتعاظمون في الدنيا، يتعاظمون يتكبرون، في الآخرة يأتون أصغر حجمًا من بقية الناس، يحشر المتكبرون كالذر -النمل الصغار- يطأهم الناس بأقدامهم.
سبحان الله إن في ذلك لآية، يعني يطأهم الناس بأقدامهم، صغار كذا يطأهم الناس بأقدامهم، قال ﷺ: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال الحجم حجم نملة، والصورة صورة رجل، صورة إنسان، أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان في أثناء حشرهم يأتيهم الذل من كل مكان [رواه الترمذي: 2492، والبخاري في الأدب المفرد: 557، وهو حديث حسن].
فإذن، يكونون في غاية المذلة والنقيصة يطأهم أهل المحشر بأرجلهم من هوانهم على الله، كما قال صاحب "مرقاة المفاتيح".
كلتا يديه يمين
وقوله ﷺ: ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ هذه لفظة بشماله حتى صار في نقاش عند شراح الحديث في ثبوتها، فمنهم من أثبتها، وهي رواية مسلم في صحيحه.
ومنهم من قال: إن اللفظة الثابتة بيده الأخرى ، فقالوا: "إن لفظة بشماله شاذة" فأجمع أهل السنة والجماعة على أن لله -تعالى- يدين، وأن إحدى يديه يمين، ثم حصل النظر عندهم هل الأخرى توصف بالشمال أم لا؟ لكن حتى الذين أثبتوا الشمال لله قالوا: إن كلتا يديه يمين في القوة والعطاء، وأن الشمال ليست أقل من اليمين في حقه يداه كاملتان، حتى لو قلنا يمين وشمال يداه كاملتان -سبحانه-.
طيب من الذي أثبت الشمال لله؟
الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، أبو يعلى الفراء، وغيرهم، حتى من القريبين الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-وقال غيرهم: بل كلتا يديه يمين، ولم يثبتوا الشمال؛ منهم ابن خزيمة -رحمه الله تعالى-.
فإذن، هذان قولان عند أهل السنة معروفان النتيجة سواء النتيجة أن لله يدان كاملتان سواء في العطاء والقوة، هذه ما في خلاف عليها.
بقينا في قضية أنه هل يقال له يمين وشمال أم كلتاهما يمين؟ هذا الذي صار فيه نقاش، وهذه مسألة سهلة؛ لأن النتيجة واحدة في أثبات اليدين، خلاص أثبتنا اليدين سواء في القوة والعطاء متفق عليها خلاص، فما بقي هذا سهل، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: إذا كان لفظة: شمال، محفوظة، فهي عندي لا تنافي كلتا يديه يمين في رواية مسلم؛ لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كاليد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال: كلتا يديه يمين أي ليس فيها نقص، يعني يقول إذا كانت لفظة شمال ثابتة فلا يعارضها لفظة كلتا يديه يمين ، لماذا؟ لأن المقصود بكلتا يديه يمين ليس نفي الشمال، لكن إثبات أنهما سواء في القوة والعطاء، قال الشيخ: وإن لم تثبت، فلن نقول بها، خلاص سنقول كلتاهما يمين، هذا في "القول المفيد".
قبض الله للأرض وطيه للسماء
وقوله ﷺ في الحديث الآخر: يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه نلاحظ أن الأرض قال: يقبض)) والسماوات قال: يطوي فما الفرق بين يقبض ويطوي؟
هذه طبعا هذا الفرق لا بد من الرجوع فيه إلى اللغة، القبض في اللغة أخذ الشيء باليد وجمعه، هذا القبض، قبضت على الشيء قبضت عليه، قبض ما هو القبض الأخذ، أخذت الشيء وجمعته.
والطي جمعه ولفه، وزوي بعضه إلى بعض.
بينهما فرق، لكنه ليس كبيرا، لكن في فرق دقيق.
طيب إذن، الله من أفعاله: يقبض ويطوي، كما أنه يقبض ويبسط أفعال الله كثيرة، هنا في حديث القيامة نثبت له الفعلين: القبض والطي، وهذه من صفات الله الفعلية التي تتعلق بمشيئته وإرادته؛ كالمجيء، والنزول، والرضا، والغضب، وغيرها.
هذه الصفات الفعلية ثابتة بآيات كثيرة، وأحاديث صحيحة عن النبي ﷺ، ويجب أن نؤمن بها، ويحرم علينا أن نحرفها، أو أن نتأولها على غير معناها الحقيقي، وقد دل على ثبوت ذلك حتى العقل، فإنه لا يمكن لمن نفاها إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل لا بد له من فعل، فالله لما خلق آدم قال أخبر أنه خلقه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، فالله له أفعال تليق به؛ كالنزول، والمجيء، والقبض، والطي، والبسط، وغيرها من الأفعال، وهو حي قيوم، فعال لما يريد، فلا بد من إثبات هذه الأفعال الاختيارية لله، وهو على كل شيء قدير.
وفي الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر: 67] هذه فيها إثبات القبض يوم القيامة، وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فيها إثبات الطي.
إذن الآية توافق الحديث، والحديث يوافق الآية، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18]، هؤلاء المشركون ما قدروا الله حق قدره لما عبدوا معه غيره، صرفوا أنواعًا من العبادة لغيره، والكل تحت مشيئته وقدرته -سبحانه- وقهره.
تفرد الله بالملك المطلق
قوله: ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أي: أنه تعالى ينفرد بالملك، فهو الملك حقًا لا منازع له، ولا ظهير ولا شريك ولا معين، ولا يحتاج إلى ذلك -سبحانه-، وليس له ولد.
في ذلك اليوم عندما يقبض الأرض بيده ويطوي السماوات بيمينه، ويصبح كل شيء في قبضته -سبحانه- ينادي الذين ينازعون في الدنيا ملكه، ويتعدون على سلطانه من المتكبرين والمتجبرين ينادي: لمن الملك اليوم؟ يناديهم بما يتضمن توبيخا وتهديدا وتحديا: أين ملوك الدنيا؟ ولا يستطيعون الإجابة أصلا، لا منعا ولا ردا، ولا قوة لديهم، ذهبوا، فناء، وبقيت التبعات والذل والحسرات.