الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71.
أما بعد:
فضل الدعوة إلى الله
فيقول الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ سورة فصلت33، هذا بيان لشرف الداعية إلى الله تعالى، الحريص على هداية الخلق، والحرص على هداية الخلق عبادة عظيمة، وشرف كبير، وقد قال النبي ﷺ: نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه[رواه البخاري2658]. دعاء له بالنعمة والبهجة، نضر الله امرأ لأنه بلغ حديث النبي ﷺ.
أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله وظيفة الرسل، وفيها أجر عظيم، يقول النبي ﷺ لعلي يوم خيبر: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم[رواه البخاري2942] خير لكم من هذه الإبل العظيمة عند العرب، ويكفي الداعية إلى الله تعالى أن له مثل أجور من اتبعه، كما قال النبي ﷺ: من دل على خير فله مثل أجر فاعله[رواه مسلم1893]رواه مسلم. وروى أيضاً عن النبي ﷺ قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. هذا ترغيب وحث ودفع للدعوة إلى الله، وكذلك فإن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير، فماذا نريد من الأجر أكثر من هذا يا عباد الله، ونحن قد أصبنا فيما أصبنا بالتقصير في الدعوة إلى الله، وعدم الحرص على هداية الناس، مع أنها عبادة عظيمة، لما تركت الدعوة تفشت المنكرات والمحرمات، وصار كثير من الناس في عمىً وضلال.
أنبياء الله والدعوة إليه
لقد كان أنبياء الله في غاية الحرص على الهداية، على هداية الناس إلى السبيل القويم.
إن الدعوة إلى الله دليل على إخلاص المسلم لمبادئه، إذا كنت تحب دينك فعلاً ستكون حريصاً على الدعوة إليه، إذا كنت معتنقاً لمبادئ الإسلام حقاً ستكون حريصاً أشد الحرص على مناداة غيرك إليه، ولذلك كان نوح في غاية الحرص على دعوة قومه، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا سورة العنكبوت14، يدعوهم إلى الله من غير فتور ولا توانٍ مستخدماً لجميع الأساليب الممكنة، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا هل صده ذلك عن الدعوة؟ هل منعه إعراض المعرضين عن الاستمرار في العمل؟ كلا والله، قال الله: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا سورة نوح5-9، فنوع عليهم أساليب الدعوة، ودعاهم بالليل والنهار، ودعاهم جهرة ثم أسر لهم سراً، وجمع لهم بين الأسلوبين في غاية الجد والنصح وتبليغ الرسالة.
وهذا يوسف لما أدخل السجن لم ينس في كربة السجن وغربته، وظيفته ومهمته بل شرع يمارس ذلك بسرعة، وفي أقرب فرصة وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ سورة يوسف36، على محياه وسيماه علامات الصلاح نراك من المحسنين كان داعية بعمله، بسمته، قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ثم ذكر مباشرة الدعوة إلى التوحيد، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ سورة يوسف37-39، شرع بالدعوة إلى الله في ذلك المكان، في ضيقه وكربته، ووحشته وظلمته قائماً بأمر الله، داعياً إلى الله ، حريصاً على هداية هذين الرجلين الكافرين.
ألم يأتكم نبأ الرجل المسلم الذي قال الله في شأنه: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا سورة يس20-21، وشرع يدعوهم إلى التوحيد أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ سورة يس23، هذه الأوثان المعبودة والأصنام المقصودة لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِسورة يس23-25، إن كل كلمة في هذه الآية لها معناها ومدلولها، وجاء رجل، تحققت فيه صفات الرجولة بأجمعها من أقصى المدينة، ليس في مكان قريب، لم يحضر عندهم، وإنما جاءهم من أقصى المدينة، وكيف جاءهم؟ هل جاءهم ببطء؟ جاءهم يسعى سعياً حثيثاً فلأي شيء جاء من أقصى المدينة وأتعب نفسه؟ ولأي شي جاء بسرعة يسعى؟ جاء ليبلغ قومه دين الله ، يقول: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَسورة يس20، كان حريصاً على هداية قومه، ولما مات تتابع حرصه عليهم بعد موته سبحان الله، ولذلك قال لما قتلوه بعدما لقي الله، قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَسورة يس26-27، لا زال حريصاً عليهم بعد موته، وبعد انقطاعه عن الدنيا، لا زال يتمنى أن قومه يعلمون ما لقيه من الله، وما غفر الله له،والإكرام الذي وجده عند ربه، إنه الحرص في قلب هذا الرجل على هداية قومه.
دعوة النبي ﷺ لقومه
عباد الله: لقد ضرب النبي ﷺ المثل في حرصه على هداية قريش والعرب،بل والناس أجمعين، وكان يدعو فوق الجبل، وفي المسجد،والطريق، وأسواق العرب، ومنازل الناس، وفي مواسم الحج، يقوم بالدعوة إلى الله في الحضر والسفر، وفي الأمن، والقتال، والصحة، والمرض، وعندما يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه وإلى من أبغضوه، ولذلك كان يذهب إلى منازل الناس للدعوة بمنى إذا نزلت القبائل فيها في موسم الحج، يطوف عليهم، ولذلك يقول ربيعة بن عباد الديلي: رأيت رسول الله ﷺ بمنىً في منازلهم، قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ووراءه رجل وضيئ أحول يقول: يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم.
النبي ﷺ يسير يدعو إلى الله ووراءه واحد يثبطهم من الكفار، ويثبط الناس عن قبوله، النبي ﷺ يكلمهم وهذا الرجل يصدهم فسألت عن هذا الرجل فقيل لي: أبو لهب.[رواه أحمد15594]عمه يمشي وراءه يثبط الناس عن الدعوة، والنبي ﷺ لا يفتر عنها، ويقول للناس في الأسواق في الموسم، في المواسم، ومجنة وعكاظ: من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي [رواه أحمد14243]، حتى أكرمه الله بذلكم النفر الكرام من الأنصار الذين بايعوه في العقبة، وكان ذلك فتحاً وانطلاقة عظيمة في الدعوة إلى الله .
كان النبي ﷺ يذهب ليدعو حتى عبد الله بن أبي المنافق الكافر الذي صد عن الدين. ويركب حماراً، وينطلق المسلمون يمشون معه في أرض سبخة مالحة لا تنبت الأرض من ملحها، فلما أتاه النبي ﷺ قال المنافق: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك، ومع ذلك النبي ﷺ يقوم بالدعوة، ولما سمع أن رجلاً من اليهود شاباً مرض حرص على زيارته والاهتمام بدعوته، وكان قد دعا غلاماً يهودياً إلى الإسلام فعاده كما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: كان غلام يهودي فمرض فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم ﷺ. فأنقذه الله به من النار.[رواه البخاري1356].
وحضر أبا طالب حينما نزل به الموت، عند رأسه يدعوه إلى الله، يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ولكن غلبة على أبي طالب الشقوة وأطاع أصحاب السوء ورفقاء وندماء السوء، الذين قالوا له: أترغب عن دين عبد المطلب، فلم يزالوا به حتى مات على الشرك، والنبي ﷺيقول له إلى آخر لحظة: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله [رواه البخاري1360]، كان حريصاً على أن تختتم حياة أبي طالب بالتوحيد، الحرص هو الذي جعله يذهب هذا المذهب، ويجهد هذا الجهد. رضي الله تعالى عن أصحابه الذين حملوا لواء الدعوة من بعده.
النبي ﷺ دعا، النبي ﷺ لقي الأذى، النبي ﷺ يذهب إلى الطائف للدعوة، ويذهب إلى جبالها وأهلها يدعوهم إلى الله، يرجع وقد أصابه من الغم ما أصابه؛ لأنهم صدوه ورفضوه حتى بلغ به الهم أنه يمشي لا يدري أين مقصده، حتى إنه لم يستفق ﷺ إلا وهو بقرن الثعالب وهو موضع، وهو قرن المنازل ميقات أهل نجد، وقف عنده ﷺ، قد شعر بنفسه وكان في غاية الغم لا يدري إلى أين يمشي، لماذا كان مغموماً؟ لأنه حزن أنهم صدوه ولم يقبلوا دعوته، ولذلك فإن من صدق الداعية أن يحزن إذا رفض الناس دعوته، لكنه لا يهلك نفسه عليهم، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَسورة الشعراء3، لعلك مهلك نفسك من أجل أنهم لم يؤمنوا، ما دام الله كتب عليهم الشقوة فإنك لا تهدي من أضل الله.
لكن بذل الأسباب والقيام بالأمر وإبلاغ الدين والذهاب إلى الناس في أماكنهم وبلدانهم يدعوهم إلى الله، ولما كانت هناك بلاد بعيدة يشق عليه ﷺ أن يذهب إليها، ولا يمكنه ترك الناس لأجل ذلك أرسل الرسائل، لم يقل: بلاد بعيدة ما أستطيع الذهاب، لا أستطيع السفر، وإنما أرسل الرسائل. يقول لأهل تلك البلاد، يقول لكسرى وقيصر، يرسل إلى النجاشي، يرسل إلى المقوقس ملك الإسكندرية، يرسل إليهم يدعوهم إلى الله من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام يعني بدعوة الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين إثم العمال والزراع، والناس في بلدك إثمهم عليك؛ لأنك تكون قد صددتم، وختم له بالآية يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ سورة آل عمران 64[رواه البخاري7] أرسل ﷺ الرسائل بأصحابه، عبد الله بن حذافة ينطلق إلى كسرى، وسليط بن عمرو ينطلق إلى هوذة بن علي بن يمامة، والعلاء بن الحضرمي ينطلق إلى المنذر بن ساوى بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر، وعباد بن الجلندي بعمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى أبي شمّر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وهكذا يرسل ﷺ الرسائل من أجل أي شيء؟ الدعوة إلى الله، حريصاً على أي شيء؟ هداية الناس. ساعياً في أي طريق؟ طريق عرض الإسلام عل الله تعالى أن يخرج أولئك الناس من الظلمات إلى النور.
الصحابة والدعوة إلى الله
أيها المسلمون: لقد كان أصحابه ﷺ من بعده وفي حياته قائمين بأمر الدعوة إلى الله، حريصين على هداية الناس كل الحرص، ولذلك كانوا قبل القتال حتى في المعارك، حتى وهو يهاجمون فارس والروم وفي حروب المرتدين يعرضون الإسلام أولاً قبل القتال؛ لأنهم أصحاب رسالة رحمة، يريدون قبل أن تراق دماء القوم ويقتلوا ويرسلوا إلى جهنم وبئس المصير يريدون المحاولة الأخيرة، عل الله أن يهديهم، ولذلك كتب أبو بكر إلى جميع المرتدين بالرجوع إلى الإسلام يقول لهم: إني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك.
الدعوة قبل القتال، ولذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص الخليفة الثاني من بعده الفاروق يقول: وقد كنت أمرتك أن تدعو من لقيت إلى الإسلام قبل القتال، فمن أجاب إلى ذلك قبل القتال فهو رجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وله سهم في الإسلام يعطى حظه.
وكذلك فإن هذه الدعوة قد آتت بعض ثمارها، فقد عاد بفضل الله مع عدي بن حاتم الطائي الذي دعا قومه طي قبل القتال، رجع معه خمسمائة مقاتل إلى الإسلام وكان خالد يهم بقتالهم، ولكن وجه إليهم عدياً يدعوهم أولاً.
وفي جبهة فارس دعا خالد بن الوليد أشراف الحيرة قبل القتال، وأسلم بعضهم وكتب خالد إلى ملوك فارس يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد: فالحمد لله الذي حل نظامكم ... إلى أن قال: فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك نأخذها وأنتم كارهون على غلب وبالإكراه والقوة، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
ودعا سعد بن أبي وقاص أهل القصر الأبيض إلى الإسلام باستخدام سلمان الفارسي الذي يعرف لغة القوم ، يدعوهم إلى الإسلام، يدعوهم إلى التوحيد، وكذلك قام المسلمون في الجبهات الأخرى، فهذا عمرو بن العاص في الجبهة المصرية لما تصاف وأهل مصر للقتال، قال عمرو بن العاص : لا تعجلوا حتى نُعذِر، ليبرز إليَّ أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا: إن الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأمره به، وأمرنا به محمد ﷺ وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، الحماية في مقابل دفع الجزية.
وكان الرجل عندما يسلم يفرح به المسلمون فرحاً شديداً، ولذلك دعا أبو عبيدة رسول الروم، السفراء كانوا يدخلون في نطاق الدعوة، فلما أسلم فرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعوا له بخير، وقالوا له: ما أعزك علينا، وأرغبنا فيك، وأكرمك علينا، وما أنت عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأمة وأبيه، احتفاء بالمسلم الجديد، هذه مسألة مهمة، احتفاء بالمسلم الجديد حتى قال الرومي: فإنكم نعم ما رأيت.
هذا هو الانطباع الذي يكون عند المسلمين بفرحهم بدخول شخص جديد.
وعندما دعا خالد بعض الكفرة إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فاختاروا أداء الجزية لم يفرح بذلك خالد ، رغم أن مبلغ الجزية كان كبيراً باعتبار أن عددهم كان مائة وتسعين ألفاً، بل ضاق صدره وتأسف على إعراضهم عن الإسلام، وقال: تباً لكم، ويحكم، إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكه، لم يفرح بعوائد مالية؛ لأنه كان يريد فرحة أكبر بإسلام أولئك القوم.
كان الحرص من الداخل على الهداية لدرجة أن الرجل الكافر إذا أسلم تحصل فرحة عظيمة وإذا رفض الإسلام يحصل اهتمام واغتمام.
ولذلك روى زياد بن جزء الزبيدي الذي كان في جند عمرو بن العاص يقول: فجعلنا لما ألقوا القبض على أسرى الروم، جعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، ثم نحوزه إلينا، صار أخاً في الإسلام، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى، ثم حاذوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، مع أنه كافر أصلي، لكنه الحرص على الدعوة، الفرح للإسلام، الحزن على إسراره على الكفر، ولو كان هناك جزية ومقابل مالي؛ لأن الله بعثهم دعاة ولم يبعثهم جباة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يقوم بأمره، اللهم اجعلنا ممن يقومون بالحق وبه يعدلون، اجعلنا دعاة إلى سبيلك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا السداد في القول والعمل، اهد قلوبنا وطهر أنفسنا وحصن فروجنا إنك سميع الدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب والحكمة، وأرسل إلينا رسولاً منا، الحمد لله الذي شرع الشرائع، الحمد لله على كل حال، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الدعاة إلى الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علمنا وهدانا، وصلى الله على أصحابه الغر الميامين، الذين قاموا بأمر الدعوة إلى الله وكانوا حريصين على هداية الخلق أجمعين.
كيف انتشر الإسلام
أيها المسلمون: قولوا لنا كيف انتشر الإسلام في تلك الجزر النائية، كيف انتشر الإسلام في الصين وإندونيسيا؟ كيف انتشر الإسلام في عدد من أقطار الأرض؟ إنما انتشر بالدعوة إلى الله تعالى، وكانت المدن الهندية الواقعة على ساحل بحر العرب مما استهدفه التجار المسلمون بالدعوة إلى الله، ولذلك لا زالت آثارهم موجودة في بومبي وغيرها من هذه البلدان الساحلية التي قصدها المسلمون بالتجارة، وشهد بجهدهم في الدعوة أعداء الله، فهذا آرنولد يقول في كتابه: ولكن كثيراً جداً من أعمال الدعوة في الأسواق إنما يقوم بها أشخاص يشتغلون في مهنة أو عمل في أثناء ساعات النهار، ويخصصون أوقات فراغهم في المساء لهذا العمل الديني. فكان الواحد منهم إذا انتهى من عمله لا يذهب للفرجة والفسحة، لا يذهب لمجالس ضياع الأوقات والألعاب وإنما كان يذهب بعد انتهاء الدوام والعمل يطوف للدعوة إلى الله .
وقال في موضع آخر: وأغلب الظن أن الإسلام قد عبر من مليبار إلى جزائر لكاديف ومالديف في خليج البنغال التي كافة أهلها مسلمون ويدين سكان هذه الجزائر بدخولهم في الإسلام إلى تجار العرب الذين استوطنوا هذه البلاد، وتصاهروا إلى الأهالي، ومهدوا بذلك السبيل لنشر تعاليم الدعوة في نشاط وقوة.
وقالوا أيضاً: إن أولئك الدعاة إلى الله دخلوا فاتحين أجزاء الصين، وأفريقيا الوسطى، وروسيا، وتم اعتناق هذه الملايين للإسلام طوعاً لا كرهاً، ولم يسمع أن الضرورة قضت بإرسال جيوش مع هؤلاء المبشرين لمساعدتهم.
وهكذا قام المسلمون بالدعوة إلى الله، إن رجلاً ممن سرق حراً فبيع عبداً في بلد من بلاد المسلمين واسمه داوتي يقول لما سئل وقد سرق في طفولته فبيع رقيقاً، قيل له: ألا تزال تضمر السخط نحو هؤلاء الذين سرقوك وأسلموا حياتك للعبودية في أقاصي الأرض، فأجاب: إن شيئاً واحد قد عوضني وهو أني لم أعد غارقاً في الجهل بين عباد الأوثان. إذن الذي عوضه عما حصل له من الجريمة في حقه من هؤلاء المعتدين الذين اعتدوا عليه أنه صار موحداً ولو كان عبداً يختار ذلك على أن يكون حراً في بلاد عبدة الأوثان.
وكان المسلمون إذا جاءوا بلاداً بنوا مساجد فيها، وكانت صروح العبادة دعوة إلى الله بحد ذاتها، حتى قال بعض الكفرة: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حادة، ودون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً، وهذا مما يراه ويشاهده في مكان العبادة هذا.
وقال بعض الكفار: كلما جاء ستة أو نحو ذلك من الرجال المسلمين إلى بلد سارعوا إلى بناء مسجد؛ لأجل أن يكون منارة للدعوة إلى الله ، كانت الحماسة والإخلاص في الدماء تسري، حتى أن بعض الذين كانوا يشتغلون في دعوة النصارى إلى الإسلام كان رجلاً مسلماً، لما حضرته الوفاة في آخر لحظة من حياته وهو يحتضر سمعه بعض الناس يقول على فراش الموت: اترك دينك وصر مسلماً، اترك دينك وصر مسلماً، فلما سئل من حوله عن ذلك؟ قالوا: إنه يتحدث إلى النصارى، هذا الذي كان يشغل قلبه في حياته، برز على لسانه حين وفاته، الدعوة إلى الله، الهم الذي في قلبه الدعوة إلى الله، الحرص على هداية الناس.
واجبنا في الدعوة إلى الله
أيها المسلمون: كم قصرنا؟ كم يوجد عندنا من العمالة الأجنبية من الكفار؟ كم عددهم من الموظفين والسائقين والخدم وأصحاب المهن والحرف والفنيين وغيرهم، ماذا فعلنا لهم؟ نحن نصادفهم ونواجههم ونحتك بهم يومياً فماذا قلنا لهم؟ وهل تظنون أن الله سيتركنا يوم القيامة، أو أنه سيغفلنا ، أو أنه لن يسائلنا عما قدمنا وفعلنا، وقد حلوا بينكم فماذا أنتم فاعلون؟ وماذا ستجيبون الله تعالى يوم الدين؟ العتب العتب على من كان عنده كافر لماذا جلبه، ثم العتب العتب العتب لما صار معه ما كلمه عن الإسلام ولا مرة، وما هي الجهود التي بذلناها؟ أين الحرص على هداية الخلق؟ أين السعي للدعوة إلى الله، إذا كنا مسلمين حقاً أفلا ينبغي أن تتحرق نفوسنا لنشر هذا الدين وتقديمه للناس؟ وهؤلاء يذهبون يصطافون في أماكن وبلدان متفرقة، فماذا فعلوا للدعوة إلى الله؟ العتب العتب، السياحة في أرض الكفار، والعتب العتب العتب أنهم لا يكلفون أنفسهم بدعوة، بكلمة، بعبارة يحاولون بها إدخال الناس في دين الله، وهؤلاء الكفار يعملون الأعمال المختلفة ويجمعون الأموال الطائلة ويجهزون البرامج المتنوعة لأجل التنصير في ديار المسلمين، فماذا فعلنا نحن لإنقاذ إخواننا أيضاً؟ ماذا فعلنا من أجل المحافظة على رأس المال، وماذا فعلنا من أجل جني الأرباح لا لجيوبنا ولكن للإسلام، لوضعه في خزائن تفتح يوم الدين فيجازى من أخلص لله وقام بالواجب في ذلك اليوم.
إن مذابح المسلمين التي تحصل الآن ينبغي أن تكون دافعاً لنا للدعوة إلى الله، إن الدماء التي تقطر ينبغي أن يعتصر منها قلب المسلم أسىً على ما يحصل، ليست البوسنة إلا مذبحاً مما أعد، وسيأتي بعده في ذبحنا ما لم يعد، وسيأتي الدور على المتقاعسين، ولا زال أولئك يفعلون في المسلمين الجرائم، يتركون القافلة يمضي نصفها في الطريق ثم يفتحون النار على الأطفال والنساء والعجائز الحفاة العراة فيتساقطون في الصراخ والنحيب، ثم يتوجهون لإكمال القتل والجرم في النصف الآخر، ويخرج الصرب من أماكن السجن التي سجنوا فيها المسلمين وهذا يحمل رأس امرأة وهذا يحمل أعضاءً وهذا يحمل أشياء وأشلاء مقطعة من أجساد المسلمين، ونحن لا زلنا في أكل، وشرب، ولهو، ولعب، وسياحة، وإضاعة أوقات، وصفق بالأسواق في الحرام، وفي غيره، وكأن القضية لا تعنينا، كيف يكون للمسلم شهوة إلى هذه الأشياء وإخوانه يفعل بهم ما يفعل؟
ثم لا هو يقوم بدعوة ولا بتعلم دين، ولا حتى يحرك شفتيه بدعوة إلى الله لإنقاذ أولئك المساكين، أين الصدق في الانتماء للدين؟ أين الصدق في الانتساب للإسلام؟
نسأل الله أن يغفر لنا ما فرطنا، وأن يتجاوز عنا إسرافنا في أمرنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين، وكفر عنا سيئاتنا يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك الغوث العاجل لإخواننا المستضعفين، اللهم أغثهم يا أرحم الراحمين، عجل فرجهم وأنزل نصرك عليهم، وأغثهم ببركات من عندك، اللهم اشف جرحاهم، اللهم ارحم موتاهم وأطعم جائعهم واكس عاريهم، واحمل حافيهم، آمنهم في أوطانهم ودورهم، وادفع عنهم كيد عدوهم، اللهم شتت شمل الصرب واليهود وسائر النصارى ومن مالأ على ذبح المسلمين يا رب العالمين، اللهم اجعل بأسهم بينهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم دمرهم تدميراً، زلزل الأرض من تحت أقدامهم وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اجعلها عليهم سني كسني يوسف، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم في هذا الجمع في هذه الساعة المباركة أن تعجل بنصر إخواننا وأن تعجل بتدمير أعدائنا، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين، اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، اللهم أصلحنا وأصلح أهلينا وذرياتنا، وأصلح بيوتنا ومجتمعاتنا ومجتمعات المسلمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.