الخطبة الأولى
إن الحمد لله نِِحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب71-70.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
التذكير بذكر الله تعالى
عباد الله: إن الله قد أمرنا بذكره، وذكر الله تعالى من العبادات الشرعية العظيمة، التي غفل عنها كثير من المسلمين، فصاروا كالمنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وذكرك لربك الذي خلقك من تمام شكر نعمته، واعترافك له بالآلاء والثناء، وذكر الله تعالى يا عباد الله: يكون بالقلب، ويكون باللسان، وإذا تحدثت عن الشيء ونطقت باسمه سمي ذلك ذكرى، كما قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاسورة مريم2. وإذا استحضرت الشيء بقلبك ولم تنسه فإن ذلك ذكر أيضاً، وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُسورة الكهف63.
ومن الذكر بالقلب واللسان قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا سورة البقرة200. فذكر العبد لربه سواء بالإخبار عن ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، أو بالثناء عليه، وتقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره، وتعظيمه، هذا هو الذكر العام، الذي يشمل القرآن، وحلق العلم، وسائر الأذكار، والذكر بالقلب ونحو ذلك، وهذا هو الواجب على العبد نحو ربه أن يذكره بجميع هذه الأنواع.
وقد سمى الله تعالى القرآن العظيم ذكراً فقال: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُسورة الأنبياء50.وأطلق على التوراة ذلك أيضاً فقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ سورة الأنبيا105. فهذا الزبور، والتوراة فيهما هذه القاعدة، وكذلك القرآن، الله يورث الأرض عباده الصالحين، يورثهم الأرض بما استقاموا على الطريقة، وبما عبدوا الله تعالى، ويكون الذكر أيضاً بمعنى الشرف، والصيت، ولذلك قال الله: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْسورة الأنبياء10. ينبه الأمة إلى الشرف العظيم، والصيت الكبير بهذا القرآن، وأنه شرف والله كما قال الله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَسورة الزخرف44. شرف لك ولقومك، مكانة، ورفعة لا يعرف قيمتها إلا من ذاقها، وكذلك يكون الذكر بمعنى الموعظة، كما قال الله : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍسورة القمر17. يعني: هل من مذتكر؟ أي: هل من متعظ؟
وكذلك أخبر النبي ﷺ عن اللوح المحفوظ بأنه الذكر، كما قال في الحديث الصحيح: وكتب في الذكر كل شيء. رواه البخاري[رواه البخاري 3192]. لأن اللوح محل للذكر، كتب الله فيه كل شيء من الكائنات.
ذكر الله تعالى محبوب مطلوب، دل القرآن والسنة على ذلك، فقد أمر الله به في آيات كثيرة، ونهى عن ضده وهو الغفلة والنسيان، وعلق الفلاح باستدامة الذكر، وكثرته، وأثنى على أهل الذكر، وجعلهم أهل الانتفاع بآياته، وأنهم أولو الألباب، وجعل ذكره تعالى لأهله جزاء ذكرهم له، من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وأخبر أنه أكبر من كل شيء، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرسورة العنكبوت45. وجعله قرين الأعمال الصالحة، وجعله مفتتحها، ومختتمها، وقد يكون واجباً كأذكار الصلاة، كتكبيرة الإحرام، وقراءة القرآن، ورد السلام، والتسمية عند الذبيحة، وقد يكون مستحبا،ً كما في كثير من الأذكار الشرعية، وقد نهى الله تعالى عن أذكار أهل الجاهلية، كما أخبرنا ﷺ في شركهم في التلبية، فصار ذلك ذكراً ممنوعاً، ولما كان بعضهم يقول: السلام على الله من عباده، قال النبي ﷺ: لا تقولوا: السلام على الله فإن الله هو السلام[رواه البخاري 835]. فإن السلام إنما يطلب لمن يحتاج إليه، والله هو السلام، فالسلام يطلب منه ولا يطلب له، ولذلك يقول المصلي بعد سلامه: اللهم أنت السلام ومنك السلام.
القرآن أفضل الذكر
وأما ذكر الله فإن أعلاه، وأفضله تلاوة القرآن العظيم، وهو أفضل الذكر ولا شك، وهو مع غيره من الأذكار، أفضل الأعمال على الإطلاق، واحتج من قال بذلك من أهل العلم بحديث النبي ﷺ: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم تشوق الصحابة، وتطلعت نفوسهم للإجابة عن هذا الشيء العظيم، قالوا: بلى، قال مجيباً: ذكر الله[رواه الترمذي 3377]. فذكر الله تعالى أفضل من كل هذه الأشياء، من جهة العموم أفضل من كل هذه الأشياء على جهة العموم.
والذكر الذي يكون أفضل من الجهاد، هو الذكر الكامل الجامع بين ذكر اللسان، وذكر القلب بالتفكر، والاستحضار، فالذي يحصل له ذلك، يكون أفضل من رتبة المجاهد، على ما حققه بعض أهل العلم كابن حجر رحمه الله تعالى.
وأفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله تعالى، فأفضل المصلين أكثرهم ذكراً لله، وأفضل الصائمين أكثرهم في صومهم ذكراً لله، وأفضل الحجاج، والعمار - أفضلهم - أكثرهم ذكراً لله، قال النبي ﷺ: سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات[رواه مسلم 2676]. ولذلك ذم الله المنافقين بقلة ذكرهم في صلاتهم، فقال : وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاًسورة النساء142. فإذا كانت صلاتك سريعة، وأذكارها قليلة، فهذه علامة خطيرة، وإذا كانت صلاتك متأنية، وأذكارها كثيرة، تطيل ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، فهذه آية الإيمان.
شرعت العبادات لذكر الله
وجميع العبادات إنما شرعت لذكر الله تعالى، وقد قال الله تعالى في الصلاة: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِيسورة طـه14. وقال النبي ﷺ في المساجد: إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن[رواه مسلم 285]. والله مع الذاكرين بالقرب، والولاية، والنصر، والمحبة، والتوفيق، ومن نسي الله أنساه الله تعالى نفسه، ونسيه ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِسورة البقرة152.نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْسورة التوبة67. يقول تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم[رواه البخاري 7405].
وذكر الله تعالى يحصن الذاكر من وسوسة الشيطان، كما قال : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَسورة الأعراف201.
وكذلك فإن النبي ﷺ أخبر عن الشيطان الذي يتسلط على الإنسان، وأن ذلك الإنسان إذا ذكر الله خنس؛ ولذلك لا يتحمل الشيطان سماع الأذان، فيهرب من المسجد عند الأذان، فإذا انتهى رجع، فإذا أقيمت الصلاة ولى، لا يستطيع سماعها، وله ضراط حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا انتهت الإقامة رجع، فيخطر بين العبد وبين نفسه، يذكره كذا، وكذا في صلاته، ويلهيه عنها، فإذا ذكر العبد ربه، خنس الشيطان، وتراجع، وتقهقر.
والذكر فيه أجر عظيم كما قال النبي ﷺ: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين[ رواه مسلم 959].
الذكر حياة القلب
وذكر الله تعالى حياة القلب، وزوال القسوة، والشفاء العاجل من أدواء الغفلة، والمعاصي، ويعين الإنسان على الطاعات، وييسر أمرها، ويحببها، ويلذها، فلا يجد العابد من الكلفة، والمشقة ما يجده الغافل.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت[رواه البخاري 6407]. فالتارك للذكر وإن كان فيه حياة ذاتية لكن ليس لحياته اعتبار، بل هو شبيه بالأموات حسا،ً الذين أجسادهم عرضة للهوام، وبواطنهم متعطلة عن الإدراك، والفهم، فلذلك شبهه بالميت، الذي لا يذكر الله يشبه الميت، والذكر أيسر العبادات، مع كونه أجلها، وأفضلها، وأكرمها على الله تعالى، وذلك أن اللسان خفيف، وحركته خفيفة، ومع ذلك يجعل للعبد من الأجر العظيم إذا ذكر الله تعالى في سوقه، وعلى فراشه، وفي حال صحته، وسقمه، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًاسورة آل عمران191. وفي حال النعيم، واللذة، والبأساء، والضراء، والسفر، والإقامة، ذكر الله في جميع الأوقات جعل باللسان، وهو أخف حركة من غيره، وجعل الأجر العظيم على ذلك، فالحمد لله على فضله.
الذكر باللسان والقلب
والذكر يا عباد الله يكون باللسان والقلب، وإذا اتفق اللسان والقلب فهو أجل الأشياء، وقد بحث أهل العلم مسألة وهي: هل إمرار الذكر على القلب أفضل أو باللسان مع خلو القلب؟ ونقول: وإن رجح بعضهم كشيخ الإسلام رحمه الله أن ذكر القلب أفضل؛ لأن الذي يسهى ويلهو، أي شيء يحصل له، ولسانه يتحرك وهو لا يشعر، وهذا حال كثير من المصلين بعد الصلوات، ترى الأصابع تتحرك، والألسنة تتحرك، والنظر في هذا وهذا، والقلب مشغول، فصارت الحركة تلقائية، أو الذين يستخدمون هذه المسابح، المسبحة شغالة، والحبات تكركر وتتوالى، ولكن القلب في غفلة، القلب مسافر، القلب في مواطن بعيدة، وأودية غائرة، واللسان هو الذي يعمل فقط؛ لذلك قالوا: إن إمرار الذكر على القلب بغير اللسان، أفضل من الذكر باللسان مع سهيان القلب، ولكن إذا اجتمع هذا وهذا، وحصلت المواطأة، صار الأجر، وصار التأثير مضاعفة.
ولا شك أن هناك ذكراً بالقلب بغير اللسان، كتذكر عظمة الله تعالى، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه[رواه البخاري 660]. والذين يذكرون الله عند المعصية فلا يقدمون عليها، ويكبحون جماح أنفسهم عند المعصية إذا وردت أسبابها؛ لأنهم ذكروا الله في قلوبهم، يعني: تذكروا عظمته، وتذكروا عذابه، وتذكروا سلطانه، وتذكروا قوته وجبروته فخافوا، فلم يقدموا على المعصية، فهذا ذكر بالقلب محمود.
وكذلك الذي يتفكر في آلاء الله، ونعم الله، وسماواته وأرضه، وما خلق الله فيهما، فهذا ذكر بالقلب، وهو ذكر مأمور به، ومحمود، ومطلوب، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا سورة آل عمران191. هؤلاء الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، والتفكر إنما هو بالقلب، وقد جاء عن النبي ﷺ أذكار مأثورة في مناسبات مختلفة.
بعض الذكر أفضل من بعض
وهذه الأذكار منها ما هو أفضل من غيره، ومن ذلك التهليل، وهو قول: لا إله إلا الله، نفي الألوهية عن كل شيء إلا الله، وإثبات استحقاق الله تعالى لها فقط، ونفي الشريك عن الله ، وهي دعوة الأنبياء، ولا يدخل الشخص في الإسلام إلا بها، فإذا لم ينطق بها لم يدخل في الدين، وجعلت شعاراً للإسلام، وجزءاً من الأذان، وذكراً في الصلاة واجباً، وقد حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، وهذا من عظمة هذا الذكر قول: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، وجعل هذا الذكر في الصباح والمساء من الأذكار المشروعة، بل إن الإنسان إذا حلف بغير الله فقال: بشرفي، وأمانتي، وحياة أبي، ورأس أولادي، فإنه يشرع له أن يقول: لا إله إلا الله؛ لأن النبي ﷺ قال: من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.[رواه البخاري 4860].
وكذلك مع التهليل التسبيح وهو قول: سبحان الله، والمعنى: أن القائل ينزه الله تعالى عن النقائص، وعن العيوب، فينفي الشريك، والصاحبة، والولد، والعيب، وكل نقص عن الله تعالى بقوله: سبحان الله، تنزيه الله عن السوء، أمر الله به فقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِسورة الواقعة74. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِسورة الفرقان58.وأكثر ما يقرن التسبيح بالتحميد، ووجه ذلك أن التسبيح تنزيه، والتحميد ثناء، فجمع بين السلب والإيجاب، سلب النقائص والعيوب، وإيجاب الثناء والمحامد، والأوصاف الحسنة الجليلة لله .
ولذلك الجمع بين التسبيح والتحميد من العبادات العظيمة، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِسورة الفرقان58. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِسورة الإسراء44. كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[رواه البخاري 6406 ومسلم 2694].
يقرن بين التسبيح والتحميد وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِسورة الطور48 - 49. ويقول المصلي في دعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك ، ويقول في الركوع والسجود: "سبحان ربي الأعلى وبحمده"، "سبحان ربي العظيم وبحمده".
وهكذا يجمع بين التسبيح والتحميد، إثبات الكمال، ونفي النقص، التحميد إثبات الكمال، والتسبيح نفي النقص، وبهذا يجتمع الثناء لله تعالى من جميع الوجوه، وهو الذي يستحق الحمد ، لا غيره، لا يستحق الحمد التام الكامل بجميع الوجوه إلا الله، ولذلك عندما نقول: الحمد لله فإن (ال) هذه هي: (ال) الاستغراق التي تفيد استغراق جميع أنواع المحامد، والحمد لله تعالى، فيحمد العبد ربه على صفاته تعالى، وعلى ما أسداه إلينا من النعم جميعاً، وهو المستحق للحمد، ولو لم يعطنا ولا نعمة، فله الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد قبل أن يخلقنا، وقبل أن ينعم علينا بأي نعمة، له الحمد في الأولى والآخرة. الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَسورة الأنعام1. لماذا له الحمد؟ لأنه له الصفات الكاملة الجليلة، فلا يحمد إلا هو بجميع أنواع الحمد، والتمجيد أخص من التحميد؛ لأن التمجيد مدح بصفات الجلال، والملك، والسؤدد، والكبرياء، والعظمة، والحمد مدح بأعم من ذلك، كما أشار ابن القيم رحمه الله.
فالحمد لله تملأ الميزان، شرعت بعد الأكل، والشرب، والعطاس، وعند الخروج من الخلاء، وإذا حصلت نعمة: الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وإذا حصلت مصيبة: الحمد لله على كل حال.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الحمادين، فإن الحمادين منزلتهم عظيمة يوم القيامة، ونسأله أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً، المخبتين المنيبين، الذين لا ينسون ربهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. وافسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نبتدئ الكلام، وبالحمد لله افتتح الله سور القرآن، سوراً من القرآن بحمده ، فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، والحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، والحمد لله الذي جعل الظلمات والنور، والحمد لله على كل حال، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التكبير من الذكر
عباد الله: إن من العبارات العظيمة في الذكر التكبير، وهو تعظيم الله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْسورة المدثر3. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًاسورة الإسراء111. وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْسورة البقرة185. وهو من الصدقات العظيمة مع غيره من الأذكار، وكل تكبيرة صدقة [رواه مسلم 720]. وفي الأذان تكبير، وفي الإقامة تكبير، وتكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال، وفي العيد تكبير، وفي صلاة الجنازة، وغيرها من الصلوات، وبعد المكتوبات، وأيام التشريق، والحاج والمعتمر يكبران الله تعالى عند ابتداء الطواف، وفي غير ذلك من المناسك، وعلى رأسها ذبح الأضاحي، والهدايا، والصائد، وكذلك يسن التكبير عند رؤية الهلال، والمسافر إذا علا شرفاً يكبر كذلك، فهو تعظيم لله، وتذكير للنفس بأن الله أكبر من كل شيء.
لا حول ولا قوة إلا بالله (معناها وفضلها)
وأما "لا حول ولا قوة إلا بالله" معناها: لا تحويل للعبد من المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوة له على الطاعة إلا بتوفيق الله، لا تحويل للعبد عن المعصية إلا بالعصمة من الله، ولا قوة للعبد على الطاعة إلا بتوفيق الله، فهذا معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" وهي: استسلام وتفويض، ومعناها أيضاً: اعتراف العبد أنه لا يملك من أمره شيئاً، وليس له حيلة في دفع شر، أو جلب خير، إلا بإرادة الله وتوفيقه، لا حول ولا قوة إلا بالله، وبهذا يجيب السامع المؤذن إذا سمع منه "حي على الصلاة" يدعوه إلى الصلاة وهي عبادة، فيقول السامع: لا حول لي ولا قوة بإتيان هذه العبادة إلا بالله.
يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله[رواه البخاري 6610].
وورد الأمر بها في القرآن، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُسورة الكهف39. فإذا رأى الإنسان ما يعجبه من نفسه، أو ماله يقول ذلك.
وهذه الكلمات الأربع: التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والحوقلة، هي الباقيات الصالحات، كما ورد ذلك في عدد من الآثار.
وأما الاسترجاع: فهي عبارة أخرى من الأذكار وردت "إنا لله وإنا إليه راجعون" يعني: نحن وأموالنا وأهلونا لله تعالى، يصنع فينا ما يشاء، وسنرجع، ونبعث في البعث والنشور إلى الله لا إلى غيره.
ولذلك تقال هذه الكلمة عند المصيبة، فإذا قيلت سهلت المصيبة على الإنسان، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَسورة البقرة155 - 156.
وأما التسمية والبسملة "بسم الله" أو "بسم الله الرحمن الرحيم" فإن العبد يقولها معلناً لنفسه، أنه يبتدئ عمله لله، ويبتدئ عمله مستعيناً بالله، يقول: بسم الله عند الأكل، والشرب، والجماع، وغير ذلك من الأعمال، أستعين بالله تعالى على ما أمرني، وما أباح لي، وأذكر نفسي أن الله معي في هذه الأعمال، فيستحضر العبد نية حسنة عند أعماله، حتى وبعضها دنيوي بقوله: بسم الله. ليس فقط عند قراءة القرآن، وإنما أيضاً عند الجماع، فتأمل - تدبر - الحكمة التي تقول فيها: بسم الله عند قراءة القرآن، من قراءة القرآن إلى الجماع، تقول: بسم الله، فأي دين أعظم، وأي شريعة أسمى من هذه الشريعة، التي وضعها إلهنا، وأنزلها إلينا، التي يدلنا فيها على تذكره ، وذكره من القرآن إلى الجماع.
ولذلك فإن العبد لا يخلو من ذكر ربه، حتى عند قضاء لذته وشهوته، فسبحان الله ما أعظم هذا الدين، ألذي يربط العبد بربه في كل الأشياء، ولذلك يكون الغافل اللاهي، الذي لا يذكر الله، لا في المباحات، ولا في العبادات، ولذلك يقع في المعاصي والمحرمات.
وموضوع الذكر طويل، وأحكامه كثيرة، لعلنا نتمها معكم إن شاء الله في خطبة قادمة.
نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يهدينا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يجعلنا أحياء بذكره، أن يحيي قلوبنا بذكره، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين لك كثيراً، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك منيبين، أواهين تائبين، اللهم اغسل حوبتنا، وكفر سيئاتنا، وتقبل توبتنا واستر عيوبنا، وارحم موتانا واشف مرضانا، وأهلك عدونا، اللهم......
-
محمد
جزاك الله خيرا يا شيخنا اعزك الله واكرمك لقد طرقت موضوعا في غاية الاهمية, وقد ابدعت في تقديمه وتوضيحه, واحس ان كل مسلم بحاجة الى سماع هذه المحاضرة بشكل خاص, فجزيت خيرا وحشرنا الله جميعا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.