الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71.
أما بعد:
أمة محمد ﷺ خير الأمم
فإن الله قد جعل أمة محمد ﷺ خير أمة أخرجت للناس، وقال ﷺ في الحديث الصحيح: جعلت أمتي خير الأمم[رواه أحمد (1365)]، وقال ﷺ: نكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها[رواه ابن ماجه (4287)]، وقال: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تبارك وتعالى[رواه أحمد (19513)]، فقد خلق الله سبعين أمة، وجعل أمة محمد ﷺ تمام السبعين، وجعلها أفضل أمم الأرض على الإطلاق، وقال ﷺ أيضاً في الحديث الصحيح: أمتي هذه أمة مرحومة، وقال: عذابها في الدنيا الزلازل والفتن والقتل[رواه أبو داود (4278)]، وقال: إن أمتي أمة مرحومة عذابها بأيديها[رواه ابن ماجه (4292)]، فجعل الله من المكفرات لذنوب هذه الأمة ما يقع فيها من القتل والفتن والزلازل، فإذا قال إنسان: لماذا يضرب الله بعض بلاد المسلمين بالزلازل، وهم فقراء وجياع ومرضى؟
فالجواب: أنها رحمة من الله، يكفِّر الله بها سيئاتهم في الدنيا؛ فيلاقونه وقد رحمهم، وكفر عنهم، فكل ما يصيب الأمة من نكبات، من زلازل وفتن، فهي رحمة من الله ، حتى يوافوا ربهم وقد غفر لهم ذنوبهم، أو غفر لهم من ذنوبهم ما يحمدونه تعالى على ما أصابهم.
وكذلك فإنه ﷺ قد أخبر أن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله فرطاً وسلفاً بين يديهاأي: يتقدمهم بالموت، يموت قبلهم، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها، وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه، وعصوا أمره[رواه مسلم (2288)]، وقد قبض نبينا ﷺ وهو راض عن أصحابه، وقام أصحابه بنشر الدعوة في الأرض، فانطلقوا من مكة والمدينة، وماتوا بأذربيجان والقسطنطينية، وأرمينة والمغرب، وغير ذلك من بلدان العالم.
دعوات رسول الأمة لأمته
وقال ﷺ -مبيناً ميزة اجتماع هذه الأمة-: سألت ربي...: ألا يجمع أمتي على ضلالة[رواه أحمد (26682)]، كما جاء في اللفظ الآخر، ولذلك أوصانا ﷺ بالجماعة، ونهانا عن الشذوذ، وقال ﷺ: سألت ربي ثلاثاً؛ فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة، سألته ألا يهلك أمتي بالسَّنَة يعني: بالقحط فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها[رواه مسلم (2890)]، وفي رواية: وسألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهمأي: يقتلهم جميعاً؛ فيستبيحهم، ويستأصلهم عن بكرة أبيهم، فأعطانيهاأي: إن الله وعد نبيه ﷺ ألا يجعل فناء الأمة بالكامل على يد أعدائها، فمهما قتل أعداؤها منها، فإنها باقية، وإسلامها باق، ودينها باق، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعني[روه أحمد (21603)]، فلذلك صار القتل في الأمة يقتل بعضهم بعضاً، هذا من الأمور التي أذن الله بها، وشاءها لحكم يعلمها ؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح: وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامةأي: قحط وجدب عام ومجاعة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم؛ فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم؛ فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً[رواه مسلم (2889)].
وكذلك فإنه ﷺ قال: لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها، وسيفاً من عدوها[رواه أبو داود (4301)] أي: إنه لن يكون هناك استئصال لهذه الأمة مهما اجتمعت عليها أمم الشرق والغرب، لا تقدر على إفنائها، فهي باقية، ودينها باق.
وكذلك فمن ميزاتها: أنها أول أمة تدخل الجنة، كما قال النبي ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[رواه البخاري (876)، ومسلم (855)]، فنبينا أول من يدخل الجنة، وأمته تتبعه على ذلك.
ومن مزايا هذه الأمة: يوم الجمعة، والتأمين، والقبلة تجاه الكعبة، والتحية بالسلام، والصلاة في الصفوف، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ومنها قوله ﷺ: إن اليهود قوم حُسَّد، وهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على السلام، وعلى آمين[رواه ابن خزيمة (574)]، وقال ﷺ عن اليهود: وهم قوم حسد، ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام، وإقامة الصف، وقولهم خلف إمامهم: آمين[رواه الطبراني في الأوسط (4910)].
وكذلك أخبر ﷺ بوقوع الطعن والطاعون في هذه الأمة، وأنه شهادة للمسلمين، أي: إن أجر الشهيد يكتب لمن قتل بالطاعون، وبالطعن أيضاً، وقال عن الطاعون: وخز أعدائكم من الجن[رواه أحمد (19034)]، وهو شهادة لكل مسلم.
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله عفا عنها ما وقعت فيه بسبب الخطأ والنسيان والإكراه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاسورة البقرة:286، قال الله: نعم [رواه مسلم (125)]رواه الإمام مسلم رحمه الله، ويشهد له أيضاً: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه[رواه ابن ماجه (2043)].
وقال ﷺ مبيناً ميزة أخرى من رحمة الله بهذه الأمة: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل، أو تكلم[رواه البخاري (2528)]، فإذا لم ينتقل الأمر إلى حيز الفعل والقول فإنها لا زالت بخير.
تفضيل أمة محمد ﷺ يوم القيامة
وقال ﷺ مبيناً أن هذه الأمة يأتون معلَّمين بعلامة يوم القيامة تميزهم عن بقية الأمم، قال: إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضهيريد الحوض خالصاً لأمته، فيبعد من ليس من أمته عن الحوض، كما يبعد الرجل إبل غيره عن حوضه الذي تعب عليه، "قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟!" هل تعرف أجيال أمتك التي جاءت من بعدك ومت قبلهم؟ هل تعرفهم لكي تسمح لهذا، ولا تسمح لهذا؟ "قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء[رواه مسلم (247)]رواه الإمام مسلم رحمه الله، وهذا يدل على فضيلة الوضوء، وعلى أهمية إسباغه، وعدم التفريط فيه، قال ﷺ: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء[رواه البخاري (136)، ومسلم (246)]، وكذلك فإنهم يأتون يوم القيامة قد أنارت أعضاء وضوئهم فيها نور، فيكونون غراً محجلين كهيئة الخيل الغر المحجلة التي بياضها في أطرافها وجبهتها.
وقال ﷺ: فضلنا على الناس بثلاث: جعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وتربتها لنا طهوراً[رواه مسلم (522)]، ولذلك كان التيمم من خصائص هذه الأمة، ومن التوسعة عليها لم يكن لأمة أخرى من قبلنا، وأُوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط أحد منه قبلي، ولا يعطى منه أحد بعدي[رواه النسائي في الكبرى (8022)].
وقال الله في صفة هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِسورة البقرة:143فسره النبي ﷺ بقوله: يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد ﷺ وأمته، فنشهد أنه قد بلغ أن نوح قد بلغ، وهو قول الله جل ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِسورة البقرة:143 [رواه البخاري (3339)]، والوسط هو العدل، والحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، فنحن سنشهد للأنبياء أنهم بلغوا أممهم، وإن جحدت أممهم وكذبت، فنحن شهداء الأنبياء، نشهد لهم: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِسورة البقرة:143.
وكذلك من معاني هذه الآية: ما جاء في الصحيح أيضاً عند البخاري ومسلم عن أنس قال: "مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت، ثم مُر بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقيل: يا رسول الله، قلت لهذا وجبت، ولهذا وجبت! قال: شهادة القوم، المؤمنون شهداء الله في الأرض" [رواه البخاري (2642)]؛ ولذلك جاء في لفظ: يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار[رواه ابن ماجه (4221)]، فالمؤمنون شهداء الله في الأرض إذا أثنوا على الميت خيراً كان في خير، وإن أثنوا عليه شراً -أي: ذكروه بشر- كان في شر، وهكذا.
ومن خصائصنا: هذا اليوم العظيم الذي نحن فيه الآن، قال ﷺ: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، فالجمعة اليوم الأول، اليوم رقم (1)، والسبت بعده، والأحد بعدهما، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة: نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق[رواه مسلم (856)].
وكانت هذه الأمة في أهل الجنة شأنها عظيم، "قال ﷺ: أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟قالوا: فكبرنا، ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟قال: فكبرنا" والتكبير السنة عند ذكر شيء، أو رؤية شيء يعجب الإنسان ويسره، فعليه أن يكبر عند ذلك، "ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة"[رواه البخاري (6528)، ومسلم (221)]، وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمين في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود، بل قد جاء إنهم يبلغون ثلثي أهل الجنة في الحديث الذي رواه أحمد رحمه الله النبي ﷺ أنه قال: أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم[رواه الترمذي (2546)]، فالحمد لله على نعمائه.
خصائص في الدنيا لأمة محمد ﷺ
ومن خصائصنا: أن اللحد لنا والشق لغيرنا، واللحد هو الميل عند حفر القبر، يمال به ليكون الميت في تلك الحفرة، ثم يهال عليه التراب، وهذا عند القدرة الاستطاعة.
ومن رحمته أنه: أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد الطحال[رواه ابن ماجه (3314)].
وكذلك فإنه قد جعل الخير في هذه الأمة في أولها وآخرها، وقال ﷺ: مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره[رواه الترمذي (2869)].
وكذلك أخبر ﷺ أن الإسناد ميزة لهذه الأمة، فقال: تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم[رواه أبو داود (3659)]رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، فهذا يدل على التسلسل في تلقي الأحاديث والإخبار، وهذا الإسناد ميزة ليست لأي أمة أخرى، حفظ الله به السنة، كما قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَسورة الحجر:9، والذكر هو القرآن وشرحه، ما هو شرحه؟ إنها السنة، تكفل الله بحفظها أيضاً.
وكانت الأمم من قبلنا توبتهم بخلاف توبتنا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْسورة البقرة:54، أما هذه الأمة توبتها ليست بالقتل كما كان الأمر في أمة موسى.
وذكروا أيضاً من خصائص هذه الأمة: الخيار في القصاص، أو الدية، أو العفو؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، ثم قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ...الآية، قال فيها: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌسورة البقرة:178بخلاف بني إسرائيل قيل: إن اليهود لم يكن عندهم إلا القصاص، والنصارى لم يكن عندهم إلا العفو.
وكذلك بورك لهذه الأمة في بكورها، فكان البكور بركة على هذه الأمة.
هذه طائفة من الأخبار الصحيحة في القرآن والسنة على فضل هذه الأمة، وعلى خيريتها، وعلى ميزاتها، أمور يرفع بها المؤمن معنوياته في زمن الانهيار، ويتذكر أن غلبة المنهج الصحيح والدين الصحيح أهم من غلبة القوة العسكرية، والتفوق المادي، وأن التوحيد الذي كرمنا الله به أغلى من كل شيء، وأعلى من كل شيء، وليس عند أحد إلا عندنا نحن المسلمين.
اللهم اجعلنا من أهل التوحيد، وحماة التوحيد، والداعين إلى التوحيد، واجعل ميتتنا على التوحيد، إنك سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين.
تأخر الأمة بعد تقدمها
عباد الله: لما كانت هذه الأمة بهذه الميزات كان لا بد أن تكون في طليعة الأمم، وهكذا كانت الردح الأعظم من عمرها، أكثر عمر هذه الأمة منذ بعثة نبينا ﷺ كانوا هم أقوى الأمم، ولكن اعترتهم فترات ضعف تسلط فيها التتر، وتسلط فيها النصارى، ويتسلط فيها الآن اليهود وغيرهم، وفترات الضعف لا تنفي أن هذه الأمة هي أفضل أمة، وهي خير أمة، وهي الأمة الغالبة في الأرض، وفترات الضعف لا يقاس عليها، ويقال إنها أمة ذليلة من منشئها إلى نهايتها، كلا.
فتأمل -يا عبد الله- في النصر والعز الذي كانت فيه الأمة في زمن قوتها وغلبتها في الأرض، وأما فترات الضعف فإنها بالنسبة إلى وقت القوة ليست بالشيء الكثير، ولكن المسلم إذا عاش في وقت الضعف خيل إليه، أو أخطأ، أو نسي وقت القوة التي كانت فيها الأمة.
أيها المسلمون: ما دمنا بهذه الخيرية فلماذا صرنا في هذه المنزلة؟ يحدثنا النبي ﷺ عن سبب الحال الذي نحن فيه الآن، سبب الذل الذي نحن فيه الآن، يقول ﷺ: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟" قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: "يا رسول الله، وما الوهن؟" قال: حب الدنيا، وكراهية الموت[رواه أبو داود (4297)]رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، قال: يوشك أي: أن الأمر قريب، أن تداعى عليكم الأممأي: فرق الكفر، وأمم الضلالة، ومنهم اليهود والنصارى بلا شك ولا ريب، فإن هاتان الأمتان من رؤوس الكفر في الأرض، أن تداعى عليكمأي: تتداعى، فيدعو بعضهم بعضاً لمقاتلتكم، وكسر شوكتكم، وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال، وشرح الحديث من كتاب عون المعبود في شرح أبي داود، بهذا النص قال الشُّراح: "تتداعى يدعو بعضهم بعضاً لمقاتلكم، وكسرة شوكتكم، وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال، كما تداعى الأكلةقال: الأكلة جمع آكل، والمعنى: كما يدعو أكلة الطعام بعضهم بعضاً، ويتنادون: هلموا هلموا إلى القصعة، قوله ﷺ: إلى قصعتهاأي: الأكلة، الضمير يعود للأكلة، تداعى الأكلة إلى قصعتها أي: كما يتداعى الآكلون إلى قصعتهم التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع" هكذا في عون المعبود شرح أبي داود، يقول الشارح رحمه الله يقول: "المقصود بهذا الحديث: إلى قصعتهاأي: التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها عفواً وصفواً" يأخذونها لهم صافية عفواً وصفواً، قال رحمه الله: "كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم، قاله العلامة القاري في المجمع"، ونقل عنه صاحب عون المعبود في شرح أبي داود: "يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم، فلا رادع، ولا مانع؛ يأخذونها سهلة ميسورة"، ثم قال: "أن فرق الكفر وأمم الضلالة تتداعى عليكم، أي: يدعو بعضهم بعضاً إلى الاجتماع لقتالكم، وكسر شوكتكم ليغلبوا على ما ملكتموها من الديار، كما أن الفئة الآكلة يتداعى بعضهم بعضاً إلى قصعتهم التي يتناولونها من غير مانع؛ فيأكلونها صفواً من غير تعب" انتهى.
وقوله: ومن قلة نحن يومئذأي: هل ذلك التداعي لأجل قلة نحن عليها يومئذ؟، فقال ﷺ: بل أنتم يومئذ كثير أي: عدد كثيرون في العدد، ولكنكم غثاء كغثاء السيلقال في تفسير الغثاء: "ما يحمله السيل من زبد ووسخ شبههم به لقلة شجاعتهم، ودناءة قدرهم" شبههم بالغثاء، ما يحمله سيل الأمطار من زبد ووسخ، لا قيمة له تافه "شبههم به لقلة شجاعتهم، ودناءة قدرهم"، ثم قال: " ولينزعن أي: ليخرجن، الله من صدور عدوكم المهابةأي: الخوف والرعب منكم"، وقد كانت هذه الأمة في أيام قوتها مرعبة، كما قال ﷺ: نصرت بالرعب[رواه البخاري (335)، ومسلم (523)]، وهم إذا عادوا إلى الدين يصاب الكفار بالرعب حتماً؛ لأنه قال: نصرت بالرعب، وهذا النصر له ولأمته المتمسكين بدينهم من بعده، ينصرهم الله بالرعب؛ فلا يستطيع العدو أن يضغط زراً، ولا يقذف شيئاً، ينصرون بالرعب، هذا الرعب الذي هو سلاحنا ينزع من عدونا الرعب منا في وقت ضعفنا، وتخلفنا عن ديننا، "قال: وليقذفن في قلوبكم الوهنأي: الضعف، قالوا: وما الوهن؟فسره لهم، قال: حب الدنيا، وكراهية الموت، وهما أمران متلازمان، فكأنهما شيء واحد، يدعو إلى إعطاء الدَّنية في الدين من العدو المبين" انتهى كلامه رحمه الله في شرح الحديث.
إذن: حب الدنيا والانجذاب إلى الدنيا، والاستمتاع بالدنيا، والاستكثار من الدنيا، والتعلق بالدنيا، وحب الدنيا، والانشغال بالدنيا: حب الدنيا وكراهية الموت.
حتى نراجع ديننا
وقال ﷺ مبيناً الداء الذي نعيشه في الحديث الآخر الذي رواه أبو داود أيضاً عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم[رواه أبو دواد (3462)]العينة أن يبيع شيئاً إلى أجل بثمن، ثم يشتريه ممن باعه عليه نقداً بثمن أقل، يعني: حيلة على الربا، فإذا وقعت الأمة في الربا، وتبايعت بالربا، واحتالت على الربا، هذه واحدة، قال: وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرعأي: اشتغلتم بالزراعة، وتركتم الجهادلم يذم النبي ﷺ الزراعة، ولم يقل لنا لا تزرعوا، بل قال ازرعوا في أحاديث أخرى أمرنا بالزراعة، لكن الانشغال بها، قال: ورضيتم بالزرع، فالسر في قوله: رضيتم، ثم في قوله: وتركتم الجهاد، فترك الجهاد هو المصيبة، وليست الزراعة المصيبة، الرضا بالزراعة الرضا بالدنيا، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً ذكر في شرح الحديث أن من أنواع الذل الخراج الذي يضرب على المسلمين يؤدونه إلى الكفار رغماً عنهم، يسلمونه إليهم، وكذلك فإن من الذل -كما ذكر بعض الشراح- صاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل في سبيل الله، وهي أعز الأماكن، فترك الجهاد يصير الأمة في المؤخرة خلف أذناب البقر، في المؤخرة بسبب حب الدنيا، والرضا بالدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله، أما إذا قامت الأمة بالجهاد في سبيل الله؛ فإن الله يلقي في قلوب عدوها الرعب منها.
هذان الحديثان الصحيحان يبنيان بدقة -أيها المسلون- ما نعيشه في هذه الأيام، داؤنا بينه نبينا، وضعفنا فسره لنا حبيبنا والمصطفى ﷺ، وبقي منا الاتعاظ بالعودة إلى الدين، وترك الانشغال والحب والتعلق بهذه الدنيا، وأن نترك المحرمات من الربا والعينة، وغير ذلك، ضرب لنا أمثلة من المحرمات، مثال من المحرمات، ومثال من الدنيا هو الزرع وترك الجهاد ليبين لنا عيبنا، ويبين لنا سر ضعفنا، ﷺ ما ترك شراً إلا حذرنا منه.
اللهم إنا نسألك أن تعجل فرج أمة محمد ﷺ يا رب العالمين، اللهم عجل فرجنا، وفرج المسلمين، اللهم عجل فرجنا وفَرَجَ المسلمين، اللهم عجل لنا بالتمكين في الدين يا رب العالمين.
اللهم مكنا في الأرض واكتب لنا الغلبة على الأعداء، اللهم إنا نسألك عيشة السعداء، وميتة الشهداء، والغلبة على الأعداء يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تذل الكفرة إنك على كل شيء قدير، اللهم أذل اليهود والنصارى، وابعث العزة في هذه الأمة، اللهم أعزنا بالإسلام، وأعز الإسلام بنا، اجعلنا ممن نصر الدين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تنزل بأسك باليهود الظالمين والنصارى الحاقدين، اللهم فرق شملهم، اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم ائتهم من حيث لا يحتسبون، اللهم ائتهم من حيث لا يحتسبون، اللهم ائتهم من حيث لا يحتسبون، اجعل بأسهم بينهم، واجعلهم نكالاً وعبرة للمعتبرين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم احم حوزة الدين، وبلاد المسلمين، اجعلنا في بلادنا هذه آمنين مطمئنين، وسائر المسلمين في الأرض يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.