السبت 13 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 14 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

كل يوم هو في شأن 1


عناصر المادة
الخطبة الأولى
هو الله جل في علاه
الله يفعل ما يشاء
الله هو الحكيم
الله يعلم مآلات الأمور قبل حدوثها
الخطبة الثانية
الله هو الغني الحميد
العلم الذي ينفع والعلم الذي لا ينفع
عظمة الله تتجلى في آياته

الخطبة الأولى

00:00:04

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

هو الله جل في علاه

00:00:26

لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله يحكم ما يريد، هو أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من حمد، وأحق من عبد، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحاً بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة لما يئس فوجدها، وهو الملك فلا شريك له، والفرد فلا ند له، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويُعصى فيغفر.

أقرب شهيد وأدنى حفيظ، قائم بالقسط سبحانه، أخذ بالنواصي، وكتب الآثار، القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، لا يحيطون به علماً، أشرقت لنور وجهه السماوات والأرض، وصلحت عليه جميع المخلوقات، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

وهو له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأفعاله سبحانه جارية في خلقه كل يوم هو في شأن، يغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويعطي قوماً، ويمنع آخرين، يُذل ويُعز، يُحيي ويميت، يرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين في دعائهم، ولا طول مسألة السائلين، تقاديره وتدابيره من حكمته ، وهو الذي قال: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه روى هذا الحديث القدسي الإمام مسلم رحمه الله [رواه مسلم (2577)].

الله يفعل ما يشاء

00:04:27

يفعل ما يشاء، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَسورة الأنبياء:23، قال ابن عباس ، لا يسُأل الله عما يقول ويأمر ويفعل، والعباد يسألون عما يقولون ويعلمون، قال المفسرون في قوله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَسورة الأنبياء:23، لا معقب لحكمه، لا أحد يتعقب الله في حكمه، ولا يعترض عليه أحد، وهم محاسبون، قال أهل التفسير في معنى الآية: لا يسأل الخلق الخالق عن قضائه فيهم، وهو يسأل الخلق عن عملهم، وقالوا: لا يُسأل عن فعله؛ لأن كل فعله صواب، وهو لا يريد عليه الثواب، وهم يسألون عن أفعالهم؛ لأن كثيراً منها ليست بصواب، وإذا كانت بصواب فربما لا يريدون منها الثواب، أي يريدون الرياء والسمعة، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْسورة الأحزاب:8، ومن معاني الآية: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَسورة الأنبياء:23: لا يحاسب على أفعاله وهم يحاسبون، لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون، لا يُسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال، وهدىً وإضلال، وإسعاد وإشقاء، وإفقار وإغناء؛ لأنه مالكهم وسيدهم وربهم، وليس فوقه أحد ليقول له: لم فعلت؟ بل هو فوق الجميع، العلي الأعلى، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُسورة الحـج:14، يفعل ما يريد بأوليائه من الكرامة، وبأعدائه من الهوان، أفعاله سبحانه دائرة بين الفضل والعدل، فما من تقدير في هذه الحياة إلا داخل ضمن فضله وعدله، فرحمته بالمؤمنين فضل، وإلا فإن أفعالهم لا تكفي لدخول الجنة، الجنة أثمن من ذلك، مهما عبدوا، ومهما شكروا، ولذلك: لن يُدخل أحداً منكم عمله الجنة[رواه البخاري (5673)، ومسلم (2816)]، لا يدخلون إلا برحمة الله، فيكافئهم فضلاً، فيثيبهم فضلاً ، فيثيبهم فضلاً منه، وكذلك تعذيبه للعاصين عدل، عذابه لهم في جهنم عدل، وقد أخبر أن رحمته سبقت غضبه، ولذلك يغفر لمن يشاء، ورحمته وسعت كل شيء، ومن عظيم فضله أنه يعطي على الحسنة عشر أمثالها، والسيئة بواحدة، أفعاله تعالى صادرة عن حكمته، هذه المسألة العظيمة، لا يفهمها كثير من الغرب والشرق، فتراهم في كتاباتهم، وفي أفلامهم ينتقدون أفعال الله، يعيبون ويذمون في أفعال خالقهم سبحانه، نضحت أوراقهم بالكفر، وفاضت أقلامهم بالاعتراض على أفعال الله، كثير.

الله هو الحكيم

00:08:36

ونحن المؤمنين يجب علينا أن نتفقه في أفعاله تعالى، وأن نوقن أنه يفعل ما يشاء أولاً، وأن ما يفعله سبحانه هو لحكمة ولا بد؛ لأننا نؤمن أنه ليس في أفعاله عبث، قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَسورة الأنعام:149، فلو قلت: لم لم يهدِ الخلق جميعاً؟ فنقول: لحكمة بالغة يريدها سبحانه، وإن قلت: لماذا خلق الخلق أليس الخلق من أفعاله؟ نعم خلقهم، فلماذا خلقهم؟ قال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِسورة المؤمنون:115-116، وعندما تقوم النظيرات في الغرب تناقش الطبيعة والخلق، وبعضهم يقول: لا خالق ألبتة، وبعضهم يقول: قد يوجد، ولكن لا دليل عليه، وبعضهم يقول، وبعضهم يقول، النظريات العبثية، نظيرات الخلقة الانفجارية بلا موجِد، وأن الطبيعة أوجدت نفسها، ونظريات ونظريات، حتى تصل إلى الذين يقولون: خلق الخلق وتركهم فلا شأن له بهم! خلق الخلق وهم يدبرون أمورهم بأنفسهم، ولا يرجعون إليه في شيء! هذه قواعد، هذه أسس تقوم عليها كثير من الماديات الغربية والشرقية، الإلحادية والكفرية، وقد قال ربنا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواسورة ص:27، لاحظ يا مسلم، يا عبد الله، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواسورة ص:27، الذين كفروا تقوم أحلامهم وأوهامهم، ظنونهم وأفكارهم، كتبهم وأفلامهم تقوم على هذا، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، ولذلك إذا قلت: ما الفرق بيننا وبين الكفار؟ الفرق شاسع يا مسلم، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِسورة ص:27، إذا قلت: ما هو التميز بين عجوز من عجائزنا وصانع مخترع من العقول المبتكرة عند أولئك القوم؟ الفرق أكبر من الأمية هنا، والتعلم والاختراع هناك، هنالك فرق أكبر، وهو أن العجوز تؤمن بالله، وترفع إليه يديها في شكاتها، وهؤلاء لا يعرفون لهم رباً، بل يتندرون به، ويهزئون ويخسرون، كما رؤي ذلك كثيراً في كلامهم ومقالاتهم وصحفهم.

وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ۝ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ۝ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُسورة الأنبياء:16-18.

أفعاله تعالى تابعة لحكمته، ومقصودة لغايتها الحميدة وعواقبها التي يريدها الله منها، خلقنا وقال لنا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاسورة الملك:2، خلقنا وقال لنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِسورة الذاريات:56، وأفعاله تعالى الصادرة عن حكمته قد نعلم تلك الحكمة من ورائها، وقد لا نعلم، وقد نعلم شيئاً من الحكمة ولا نعلمها كلها، وقد يطَّلع بعض العباد كالأنبياء والعلماء على شيء من حكمته لا يطلع عليها بقية الناس، ولهذا كان العلماء أخشى الخلق لله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءسورة فاطر:28؛ لأنهم يرون من حكمته في خلقه وفي شرعه ما لا يراه عامة الناس، وكلما تدرج الإنسان في العلم ليكون طالباً له ومريداً، ليصبح من العلماء بعد ذلك، يرى وهو يتدرج ما يزيد إيمانه من حكمته سبحانه في خلقه وفي شرعه، إنه حكيم عليم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، وكثير من الناس الآن إذا صنعوا أشياء يصنعونها عبثاً، وإذا قلت له: لماذا تصنع هذا؟ يقول: لأدخل كتاب غينيس للأرقام، ليس إلا، أفعالهم فيها هدر للمواد والمصادر، والأموال والأوقات، أفعالهم فيها ظلم واعتداء وجبروت، كما تراه في طغيان هذه الأمم الظالمة اليوم، يغزون ويحتلون، ويقتلون ويقاتلون للسيطرة، لا لينشروا عدلاً ولا رحمة ولا فضلاً، فهذا بعيد عنهم كما دل الواقع على ذلك، وكثيراً ما يخطئون في الحسابات، فيردون أشياء وتحصل أشياء أخرى، وهذا يدل على سعة علمه سبحانه، وهم لا يعلمون، وعلى حكمته ، وهم يعبثون، وعلى فضله وعدله، وهم يظلمون، ومن تأمل أفعال العباد وقارنها بأفعال خالقهم عرف حكمة الله وجهل هؤلاء.

يفعل الله أموراً ليبتلي بالبأساء والضراء، لماذا؟ الناس بدون ابتلاءات لا يرجعون إلى الله، الناس بدون ابتلاءات يغترون بالدنيا، الناس بدون ابتلاءات لا يعرفون الفرق بين الجنة والدنيا، قد يسلط لله بعض الناس على بعض، فيقتلون ويخربون ويدمرون، فلماذا؟ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِسورة آل عمران:140، وبعض الناس يقول: ما الحكمة من تسليط الكفار على المسلمين؟ فنقول: حِكَم لله، لماذا ينهزم المسلمون في بعض المعارك -حتى مع النبي ﷺ يحصل لهم هزيمة-؟ الجواب: وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءسورة آل عمران:140، الجواب: لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِسورة المائدة:94، الجواب: ليعلم الله المنافقين، الجواب: ليعلم الله من يثبت، ومن يرتد على عقبيه، ومن ينهزم، لما كلفهم، فقال: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْسورة الأنفال:45، لا تولوا الأدبار، فهو يفعل ليبتلي، وليظهر علمه في الواقع.

الله يعلم مآلات الأمور قبل حدوثها

00:16:57

هو يعلم النتيجة قبل أن تحدث، وقبل أن يخلق الخلق، ولكن ليظهر علمه، لتقوم الحجة؛ لأنه قضى بحكمته أنه لا يحاسب العباد على ما سيفعلونه قبل أن يفعلوه، ولا يأت بهم يوم القيامة ويقول: يا عبادي أنا خلقتكم، وأنا أعلم ماذا ستعملون، فسأكافئكم، وسوف أحاسبكم وأعاقبكم، أو أكرِّمكم على ما كنتم ستعملونه لو عملتموه، كلا؛ لأن الله يريد أن لا تكون للناس حجة، ولذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن وشرع، وأمر بالبلاغ، أمر الرسل بالبلاغ، والدعاة والعلماء بالبلاغ؛ لئلا تكون للناس حجة، لئلا يأتي الناس يوم القيامة ويقولون: ما بلغنا أحد، ما علمنا أحد، ما أنذرنا أحد، وأيضاً أعطوا الإرادة والفرصة في الحياة ليعيشوا ويعملوا ليحاسبهم على ذلك، ولو أنه حاسبهم يوم القيامة قبل أن يعملوا فعاقب ونعَّم لقال المعاقَبون: ما أعطينا فرصة لنعمل، عُذبنا على أشياء لم تصنعها أيدينا، ولذلك أعطاهم الفرصة، فلو قال قائل: لماذا لا يعطي الله أهل النار فرصة يوم القيامة ليرجعوا إلى الدنيا بعد أن نالوا العذاب؟ قد أخبرنا ربنا عن ذلك فقال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُسورة الأنعام:28، فالغفلة مسيطرة، ولو رجع أهل النار إلى الدنيا، وأعطوا فرصة أخرى للحياة على الأرض لرجعوا إلى ما كانوا عليه، وهذا الغيب لا يعلمه إلا هو، لو حصل كذا ماذا كان سيكون؟ هذا من علمه تعالى، فأخبرنا به فقال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُسورة الأنعام:28، الله يبتلي: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَسورة الأنعام:42، فلو قال قائل: هذه الحروب والاستيلاءات، والغدر والعدوان، والبغي والظلم والفساد، قدره تعالى ليسيطر هؤلاء الكفار اليوم على ما يسيطرون عليه، لماذا؟ فنقول: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَسورة الأنعام:42، فحِكم الله من أفعاله كثيرة، وذكر لنا الغاية من الابتلاء، وقد لا يكون بيد العدو فقط فقد يكون جدباً وقحطاً، ووباءً وغلاءً وزلزالاً، ضرّاء، بأساء، قال: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فمن فهم الحكمة من وراء الابتلاء تغيرت حياته، استقامت أموره، لماذا؟ لا يُغني الله كل الناس، ولا يكون هناك فقير على وجه الأرض، إننا نراهم وهم يموتون في تلك القارات المنسية، والبلدان النائية، والأماكن المجدبة، فتتحطم القلوب، وتتألم النفوس على هذه المناظر لهؤلاء الصغار وهم يقضون موتاً من الجوع والفقر، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاسورة الشورى:27، إذن هنالك بغي أعظم من البغي الموجود الآن بأضعاف مضاعفة، ولا تتصوره في عقلك ربما، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاسورة الشورى:27، وأيضاً فهذا الفقير الذي يموت في فقره حسابه يسير بالنسبة إلى ذلك الغني، ودخول الجنة قبل، هذا الابتلاء مكفر للسيئات، مقصر للحساب، وقفة الحساب أليست تطول بحسب الأموال؟

عباد الله: إن أفعال الله عظيمة جداً، ومن أفعاله ما يدلك على عظمته، وكل أفعاله تدل على العظمة، ولكن إذا تأمل المسلم في بعض النصوص مثلاً من أفعاله المجيء، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّاسورة الفجر:22، وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِسورة الحـج:65، يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُسورة البقرة:210، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌسورة هود:102، إذا أخذ القرى وهي ظالمة، وهو يبطش ويمكر بمن مكر بعباده المؤمنين، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُسورة الأنفال:30، فترى من خلال هذه الأفعال قوته وعظمته .

اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وتب علينا يا مولانا إنك أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تطلف بنا، وأن تباعد بيننا وبين النار، وأن توسع لنا في أرزاقنا، وتبارك لنا فيما آتيتنا، وأن تصلح لنا نياتنا وذرياتنا، وأن تفقهنا في ديننا إنك أنت السميع العليم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.

الخطبة الثانية

00:23:23

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وله الحكمة البالغة، فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَسورة الأنعام:149، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍسورة آل عمران:26-27، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخليله ومصطفاه، وأمينه على وحيه صلى الله عليه، وعلى آله وزوجاته، وذريته الطيبين، وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

الله هو الغني الحميد

00:24:44

عباد الله: ربكم غني حليم، ربكم سميع عليم، ربكم واسع كريم، إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۝ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍآدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌسورة الأنعام:95-98 في الأرحام، ثم في القبور، إلى أن قال سبحانه: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ۝ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌسورة الأنعام:100-101، وأكثر ديانة عدداً في العالم اليوم يجعلون لله ولداً، ويزعمون أن له صاحبة، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ، هؤلاء أهل الصليب الذين يريدون أخوتنا في الإنسانية، وإزالة الفوارق والحواجز، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۝ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ۝ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَسورة الأنعام:101-103.

قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُسورة الأنعام:14سبحانه، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِسورة الأنعام:18سبحانه، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَسورة الأنعام:59، أخفقت الدراسات، وطاشت الحسابات، واعترفت القوى الكبرى بخطئها، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۝ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِسورة الأنعام:59-60 ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِسورة الأنعام:18، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍسورة لقمان:10، وقال لنا: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِسورة لقمان:11، هؤلاء أصحاب التقدم التقني، وأصحاب المدنية الحديثة هل استطاعوا أن يخلقوا ذبابة؟ هل استطاعوا أن يخلقوا شيئاً فيه روح ولو ذباباً؟ تحداهم الله، لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُسورة الحـج:73بكل الخبراء، وكل الإمكانات، وكل التخطيط، وكل الأموال، لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ

العلم الذي ينفع والعلم الذي لا ينفع

00:28:48

عباد الله: إن ربنا تعالى مالك السماوات والأرض، يحيي ويميت، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن ، التدبر في أفعاله وعظيم صفاته يؤدي إلى إدراك عظمته، وهذا ما يرهب المؤمن من معصيته، ويجعله مستقيماً على طاعته، قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ هذا القرآنيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ۝ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًاسورة الإسراء:107-109.

كثيراً ما يؤدي علم الغرب إلى الطغيان إذا زاد أطغى، والعلم بالكتاب والسنة يقود إلى الإيمان، كلما زاد كان أخشع لصاحبه، رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، أصل الخشوع الحاصل في القلب من معرفة عظمة الرب، اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌسورة البقرة:255، شك بعضهم في أمر الخالق فقيل له: خذ زجاجتين وقم واقفاً وارفع يديك بهما، فتعب من الوقوف فنعس، فاصطفقت الزجاجتان فانكسرتا، فقيل له: لم تحافظ على زجاجتين هذه المدة اليسيرة، والله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض، ولا ينام ولا يفتر، ولا يتعب ، ولا تأخذه سِنة، ولا يغفل عن شيء، وما قدروا الله حق قدره، والله لو قدرنا ربنا حق قدره ما بارزناه بالمعاصي،  يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟[رواه مسلم (2788)].

القرآن كلام الله، تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال؛ فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى لهم في صفات الجمال والكمال، كمال الأسماء، وجمال الصفات، وجلال الأفعال الدالة على كمال الذات، فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، فأين يقع هنا عشق؟ أو تعلق بالمخلايق؟ أو غرام بفاتنة؟ فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله، ونعوت كماله؛ فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن ينال شيئاً من تلك المحبة أبى قلب هذا وأحشاؤه كل الإباء، والرب يتعرف على العبد بصفات إلهيته تارة وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب للعبد الأنس والفرح والسرور بعبادة الخالق، والتودد إليه بطاعته، وهو يتودد إلى عبده، ومن أسمائه الودود، فهو يتودد إلى عباده المؤمنين، وليس العجب من فقير يحب محسناً، ولكن العجب من المحسن يتقرب إلى الفقير، ويحب الفقير، ويتودد إليه.

عظمة الله تتجلى في آياته

00:33:12

عباد الله: هذه آياته دالة على عظمته وكماله:

تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأبصار هي الذهب السبيك
على قصب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خلق فسوى، وقدر فهدى وأخرج المرعى؛ فجعله غثاءً أحوى.

السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها؛ فأخرج منها ماءها ومرعاها، الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها؟ الطبيب من أرداه وقد كان يرجو شفاه؟ المريض وقد يُئس منه من عافاه؟ والصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير من بالحفرة أهواه؟ والأعمى في الزحام من يقود خطاه؟ الجنين في ظلمات ثلاث من يرعاه؟ والوليد من أبكاه؟ والثعبان من أحياه والسم يملأ فاه؟ الشهد من حلاه؟ واللبن من بين فرث ودم من صفاه؟ الهواه تحسه الأيدي ولا ترى من أخفاه؟ النبت في الصحراء من أرباه؟ البدر من أتمه وأسراه؟ النخل من شق نواه؟ الجبل من أرساه؟ والصخر من فجّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ والبحر من أطغاه؟ والليل من حاك دجاه؟ النوم من جعله وفاة، واليقظة بعده بعثاً وحياة؟ النحل من هداه؟ الطير في جو السماء من أمسكه ورعاه؟ وفي أوكاره من غذاه ونماه؟ المضطر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الفقير من يغنيه؟ من الذي ينزل المطر؟ من الذي ينزل الماء المبارك النافع من السماء؟ الاستمطار الصناعي؟! أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَسورة الواقعة:69؟ يتجرؤون على الله! يجترئون على ربهم! ويدعون أشياء، وربما أضروا بالبيئة، وادعوا بعد ذلك أنهم يفعلون أفعال الله، تعالى الله.

اللهم إنا نبرأ إليك من الشرك والكفر يا رب العالمين، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا عليم، اللهم اجعلنا نخشاك كأنا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ، اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم إنا نسألك السعادة في الدنيا والآخرة، والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلينا وأموالنا، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، وسع لنا في أرزاقنا، وبارك لنا في دورنا وأوطاننا، واحفظ بلدنا وبلاد المسلمين يا رب العالمين.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَسورة النحل:90، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

1 - رواه مسلم (2577)
2 - رواه البخاري (5673)، ومسلم (2816)
3 - رواه مسلم (2788)