الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71. أما بعد:
فقد قارب ثلثا الشهر على الانقضاء، ودنت العشر وهي أعظم ليالي الشهر، وفي آخره هذا الفضل العظيم، وهذه الليلة المباركة، ما أسرع انقضاء الأيام يا عباد الله، وقد ترحل ما ترحل وانقضى ما انقضى، فطوبى لمن استودع ما مضى الأعمال الصالحة، وهنيئاً لمن اغتنم الأوقات بالباقيات الصالحين، والاستدراك لمن فرط، فإن فيما سيأتي فرصة عظيمة.
عبادة الدعاء والصيام
أيها المسلمون: نظرة في آيات الصيام في سورة البقرة تبين لك يا مسلم علاقة عجيبة بين الدعاء والصيام، فقد تخللت آية الدعاء آيات الصيام، فلما ذكر ربنا النداء للمؤمنين بالأمر بالصيام، وذكر أحكاماً بعده تخلل ذلك قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِسورة البقرة 186، الدعاء هو العبادة، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَسورة غافر60، وقال النبي ﷺ: من لم يسأل الله يغضب عليه[رواه الترمذي3373]فلماذا؟ لماذا قرن ترك الدعاء بالاستكبار المؤدي إلى النار، ولماذا قرن ترك الدعاء بالغضب؟ لأن الدعاء يا عباد الله فيه إظهار الافتقار، لأن الدعاء فيه إظهار الضعف، لأن الدعاء فيه هذا الطلب الذي يرتفع من الأدنى إلى الأعلى يسأله، يلتجئ إليه، يلح عليه، يشكو إليه، وهذه المعاني في الدعاء وهي الالتجاء والشكوى والطلب والإلحاح هذه المعاني هي من أعظم ما تشتمل عليه العبودية فالعلاقة بين العبد والرب مبنية على هذا الافتقار من العبد إلى الرب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِسورة فاطر15، فيعبر العبد عن فقره بطلبه، يعبر العبد عن حاجته لربه بسؤاله، يعبر العبد عن ضعفه بهذه الأدعية، وعندما يري العبد ربه ضعفه أنه ضعيف وهو سبحانه قوي، أنه فقير وهو سبحانه غني، أنه محتاج وربه على كل شيء قدير، يسأل ويظهر الذل والخضوع والتضرع، هذه المعاني العظيمة في الدعاء تجعل الله يرضى عن العبد ويحبه، وترك الدعاء فيه معنى الاستغناء ولذلك يغضب الله على تارك الدعاء.
أهمية الدعاء
الدعاء يكشف الله به البلايا ويرفع به المصائب ويمنع به وقوع العذاب، هو سلاح المؤمن، لا شيء أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب من هذا الدعاء، فهو سلاح المؤمن، وعدة المؤمن.
وإني لأدعو الله والأمر ضيقٌ | علي فما ينفك أن يتفرجا |
ورب فتىً ضاقت عليه وجوهه | أصاب له في دعوة الله مخرجا |
فبدعوة واحدة تتقلب الأحوال فينتصر المهزوم ويغتني الفقير، ويولد للعقيم، ويشفى المريض، وتنفك الكربة، تنفرج الأزمة بهذا الدعاء، إنه مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين، فإذا انقطعت بك الأسباب، وأغلقت في وجهك الأبواب، فإن هذا الدعاء هو السلاح وهو الرحمة، لقد استعمله الأنبياء عندما اشتد البلاء، وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَسورة الصافات75، سأل ربه التفريج من الكرب العظيم الذي هو فيه، ناداه صالح وناداه هود، وناداه شعيب، وناداه إبراهيم وناداه لوط، نادى موسى وهارون، وناداه يحيى وزكريا، وناداه عيسى، وناداه محمد ﷺ مراراً، وفي بدر قال وهو مادٌ يديه يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض[رواه مسلم1763]، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه وهكذا، تُرى ما سر الاستجابة في دعوات الأنبياء؟ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُسورة الأنبياء83-84، وزكريا فَاسْتَجَبْنَا لَهُسورة الأنبياء90، ونوح فَاسْتَجَبْنَا لَهُسورة الأنبياء76، وهكذا دعوات الأنبياء الواردة في سورة الأنبياء كلها مرفقة بقوله: فاستجبنا له، فيا ترى ما هي الأسرار، وما هي الشروط التي توافرت، ما هي العوامل التي كانت قائمة حتى جاءت الاستجابةفاستجبنا له؟
عوامل استجابة الدعاء
ذكر الله في تلك الآيات في الأنبياء صفات كانت سبب استجابة الدعوات ما هي؟ قال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِسورة الأنبياء90، فإذن مسارعة العبد في الخيرات سبب استجابة الدعوات؛ لأن المسارعة في الخيرات تقرب العبد إلى الرب، وعندما يكون للعبد منزلة عند الرب، فإنه إذا طلب طلباً منه فلماذا يرده؟ وقد كان مسابقاً في طاعته، مسارعاً في مرضاته، باذلاً نفسه في أعمال الخيرات، ولذلك فإن المسارعة في الخيرات من مفاتيح الإجابة.
ثانياً: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًاسورة الأنبياء90، إذن الدعاء وأنت راغب في الخير الذي عند الله، وأنت داخل بنفسية الرجاء لما عنده، وأنت تطمع فيما لديه رَغَبًا، وأما وَرَهَبًا أنت خائف من عذابه، وتخشى عقابه، وأنت في حال من الفزع من بطشه وانتقامه، وأنت تخاف عذاب السعير، هذه النفسية نفسية الراغب الراجي الطامع في رحمته وثوابته واستجابته، ونفسية الخائف الذي يخشى من عذابه وعقابه هذه من أسرار الاستجابة، فوطن قلبك واجمع نفسك، وعش في هذا الجو، يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا.
ثالثاً: وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَسورة الأنبياء90، الله أكبر، الخشوع إذن من أسباب الاستجابة، إنها الحالة التي يكون فيها القلب في ذلك الإخبات وتلك السكينة، وهذا التواضع، خاشعين، إذا رأيت الأرض خاشعة، ما معنى خشوع الأرض، ما معنى خشوع النفس؟ هذا الخشوع الذي يتضمن هذه المعاني أن الإنسان صار ذليلاً مستكيناً لربه، خاشعاً متضرعاً، دعاء مع خوف هذا التضرع، دعاء مع خشية هذا التضرع، دعاء مع رهبة هذا التضرع، هذا الفرق بين التضرع والدعاء أن التضرع دعاء مع خشية لله.
رابعاً: كان الأنبياء في أدعيتهم يذكرون قدرة الله، فأيوب يقول: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأنبياء83، كانوا يذكرون افتقارهم وذنبهم فيقول ذلك النبي: أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ سورة الأنبياء87، ويقول النبي الآخر: إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌسورة القصص24، ويقول نبينا في سيد الاستغفار: وأبوء بذنبي[رواه البخاري6306] أعترف، إذن الاعتراف بالذنب مهم جداً في الاستجابة، يعترف الإنسان أنه ظالم مذنب، أبوء بذنبي، إني كنت من الظالمين، ويظهر الحاجة إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌسورة القصص24 محتاج أنا ملهوف، أنا ضعيف، أنا فقير، أنا بأمس الحاجة، هذا المعنى في الدخول على الله من أعظم أسباب الاستجابة، وعندما تقول له: أنت الغني وأنا الفقير، وأنت القوي وأنا الضعيف، وأنت العفو وأنا المذنب، وأنت التواب وأنا طالب التوبة، التائب، وأنت الغفور وأنا المستغفر، هذا المعنى في التقابل، في ذكر حالك وحاله من أسباب الاستجابة، هناك معاني يا عباد الله ينبغي أن يتجه إليها القلب وأن يعي ما هي أسباب الاستجابة، ما هي الأمور التي إذا أتينا بها استجاب لنا؟
انظروا إلى أدعية الأنبياء في فقهها ما ألطفها، ما أجمعها، ما أنفعها، وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَسورة إبراهيم35، يريد أن يستقيم هو وذريته على التوحيد، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، لماذا أسكنهم؟ ليعمروا الأرض؟ ليزرعوها؟ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَهذا الأساس، والأشياء الأخرى تبع، إقامة عمارة وزرع أرض هذه تبع، لكن أساس العمل لماذا أسكنهم بهذا المكان؟ ليقيموا الصلاة، للآخرة قبل الدنيا، فالآخرة قبل الدنيا؛ ولذلك تحملت جدب الأرض وأنها لا أنيس بها من أجلك، أمرتني أن أسكن أهلي هنا بوادٍ غير ذي زرع وحيش لا أنيس فيه من أجلك وطاعة لأمرك، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْسورة إبراهيم37، إذا هوت الأفئدة إلى مكان فلا خوف على أصحابه؛ لأن الله سيسوق عبر هذه الأفئدة التي يهوي أصحابها أرزاقاً وخيرات وأنساً، سيسوق إلى هذا المكان براً وخيراً وأصحاب أعمال صالحة، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْسورة إبراهيم37، فقلوب عبادك تأتي بك إلى هذا المكان تثوب، ترجع وتذهب وترجع، فإذا هوت القلوب إلى مكان فلا ثقل على أصحابها، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُسورة البقرة127-128، أرأيتم هذا الاهتمام بمعرفة ما هو المطلوب من العباد، كيف نعبدك، أرنا مناسكنا حتى نعرف كيف نعبدك، أرناها بالعين وليس فقط شرحاً نظرياً، أرنا مناسكنا عملياً، هذا اهتمام الخليل ، واجعلنا مسلمين لك منقادَين إليك، هكذا إذن يطلب أن يكون هو وابنه، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، إنه النظر إلى المستقبل البعيد والطمع أن تكون الذرية والأولاد، وأولاد الأولاد، وأولاد أولاد الأولاد، وهكذا كلهم موحدون منقادون مسلمون ولما كانت الأجيال بعد الأجيال إذا طال عليها المقام احتاجت إلى البيان والعلم؛ لأن كثيراً من العلم يذهب بموت الأجداد والصالحين الكبار، قال في مصلحة الذرية ومصلحة الأجيال القادمة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُسورة البقرة129، فينبغي لكل داعٍ كما قال ابن كثير رحمه الله أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، لو تأملنا دعوات الأنبياء لرأينا خيراً عظيماً، انظروا إلى هذا الترقي، البدء بالأخص ثم الانطلاق إلى الأعم، البدء بالأقرب ثم شمول الأبعد في الدعاء، رَبِّ اغْفِرْ لِيبدأ بنفسه، وَلِوَالِدَيَّأعظم الناس علي حقاً، وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًاإخواني في الله، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ سورة نوح28 هذا الفقه، هذه أسرار أدعية الأنبياء، هذا الذي يفهم كيف يدعو، لكن بعض الناس لا يعرف كيف يدعو، فلربما يقول دعاءً فيه جلب شر، كثير من الناس الآن يدعون على أنفسهم وعلى أولادهم بالسوء، وبعضهم ربما يقول: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وهو يظن أن هذه الدعوة معناها أن الخير يشمل الجميع، نحن وإياهم وهذه من أدعية النبي على قومه، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّسورة الأعراف89، يعني نجنا وخذهم، فبعضهم يأتي بالأدعية ويدعو بها ويقول: هات كل الأدعية من القرآن لندعو، فما بالكم بالله عليكم برجل فتح كتاب أدعية القرآن ويقول: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًاسورة آل عمران35 أليس هذا دعوة امرأة فكيف يدعو بها رجل وما هو الذي في بطنه!
فالدعاء يحتاج إلى فقه ويحتاج إلى فهم يا عباد الله.
فنسأل الله أن يجعلنا ممن فقهوا دعاءهم، وأن يجعلنا ممن ينيبون إليه، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مسلمين، إليك أوابين أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا واغفر ذنوبنا يا أرحم الراحمين، اهدنا وذرياتنا، وأصلح نياتنا واجعلنا عليك متوكلين وبك مؤمنين يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن الله الحي القيوم مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيه ومصطفاه، أمين الله على وحيه، والشافع المشفع يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وذريته الطيبين، وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان يا رب العالمين، أشهد أنه رسول الله حقاً، اللهم أحينا على سنته، وأمتنا عليها يا رب العالمين.
أدعية الأنبياء
عباد الله: هؤلاء أنبياء الله فبهداهم اقتده، هؤلاء أنبياء الله الذين دعوا ربهم، والله سبحانه يعلم القلب التقي، والصوت الخفي، فسمع صوت يونس في بطن الحوت، وسمع صوت زكريا وهو يقول: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّيشكى ضعفه، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًاسورة مريم4، ومع أنه ما عندي ذرية فيما مضى لكن وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّاسورة مريم4 أنا ما يئست لا زلت أنتظر الفرج، بالرغم من مرور السنوات الطويلة بلا أولاد، وبالرغم من أنه وهن العظم مني، واشتعل الرأس شيباً، ولان مني ما اشتد، واشتد مني ما لان وبالرغم من هذه التغيرات، لكن رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَسورة الأنبياء89، ولذلك استجاب الله له، خير الوراثين خير الباقين، كل شيء هالك إلا وجه الله، رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًسورة آل عمران38، ما كان يريد أي ذرية، ولذلك قال: ذرية طيبة، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّاسورة مريم6، هكذا يريد الولد بمواصفات يا عباد الله، لكن أي مواصفات، ما هي المواصفات التي يبحث عنها الناس في الأولاد، وما هي المواصفات التي كان يطلبها الأنبياء من الله في دعاء طلب الذرية؟
العلاقة بين الدعاء والصيام
عندما يأتي شهرنا هذا وتقبل عشرنا نسأل الله أن يبلغناها وأن يعيننا فيها على ذكره وشكره وحسن عبادته، فإننا نتذكر جيداً أيها الإخوة ما علاقة الدعاء بما نحن فيه، هذا الصيام وآية الدعاء في آيات الصيام، ثم أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فأعف عني[رواه ابن ماجه3850]، إذن هناك تحري للدعاء في ليالي العشر وفي رمضان عموماً، وذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله، وهذا التفاؤل، وهذا الذكر عند الله، و ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر[رواه الترمذي3598] هذه علاقة الصيام بالدعاء، وكان إذا أفطر عند قوم قال: أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة[رواه أبو داود3854]، هذا علاقة الصيام بالدعاء، هناك سحور في وقت السحر، ومنه اشتق اسم السحور، وقد قال: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ سورة الذاريات18، و الاستغفار طلب المغفرة وهذا دعاء، هذا من علاقة الصيام بالدعاء؛ لأن السحور يعين على الاستغفار بالأسحار، القنوت في التراويح، هذا من علاقة الصيام بالدعاء، وعندما يسجدون لله في صلواتهم وقيامهم لليل والسجود مظنة الاستجابة، فهذا من علاقته أيضاً بالدعاء، ولذلك ينبغي أن يكون الدعاء حقيقة مشتملاً على الآداب والشروط الشرعية المعلومة للكثيرين، والمهم أن لا يكون فيه مخالفة، فلا توسلات شركية، لا ببشر، ولا بولي، أو جن، أو إنس، أو نبي، أو غيره، التوسل بالله بأسمائه وصفاته، لا لقصد أماكن لم ترد في الشرع للدعاء كما يقصد بعضهم مثلاً غار ثور أو غار حراء يظن أن صلاة ركعتين عنده أو الدعاء هناك مستجاب، ولا علاقة إطلاقاً بين هذا وهذا، والنبي ﷺ لم يقصد هذين الغارين للدعاء عندهما أو الصلاة عندهما، واحد قبل البعثة وواحد في طريق الهجرة للاختباء، وأيضاً يحافظ العبد على الألفاظ المأثورة، ففي حديث البراء قال: وبرسولك الذي أرسلت قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت ، مع اللفظة قريبة من اللفظة، لكن النبي ﷺ قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت[رواه البخاري247]، هذه ألفاظ الأذكار توقيفية، ولا للسجع المتكلف الذي يشتت الذهن، وتكون فيه المحافظة على الوزن أولى من التماس المعنى الطيب، ولذلك ذم العلماء السجع المتكلف في الدعاء، ولا لرفع الصوت بالدعاء؛ لأن الله قال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًسورة الأعراف55، وكان المسلمون يدعون بالهمس، وقال ﷺ: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً[رواه البخاري2992]، ولا للاعتداء في ألفاظ الدعاء، ولا لتطريب وتلحين وتمطيط الدعاء، ولا للإطالة إطالة فيها مشقة على المأمومين، ولا لأن يدعو بشيء ممتنع شرعاً؛ كدعاء إحياء من مات له من الأقارب، ولا لطلب أشياء محرمة في الدعاء مثل قوله ﷺ: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم[رواه مسلم2735]،
ولا كذلك لدعاء فيه تحجير، اللهم ارحمني ومحمداً ولا تحرم معنا أحداً، ولا لتعليق المشيئة بالطلب؛ لأن الدعاء ينبغي أن يكون جزماً، فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، فالله لا مستكره له، قل: اغفر لي وارحمني، ولا للدعاء على الولد والأهل والنفس، ولا للدعاء بالموت على النفس، وكذلك لا يدعو بتعجيل عقوبة فالنبي ﷺ عاد رجلاً صار مثل الفرخ، فالنبي ﷺ تعجب من وضع الرجل، قال: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال ﷺ: سبحان الله، لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[رواه مسلم2688]، وكذلك لا يدعو الصفة فلا يقول: يا قدرة الله أنجدينا، يا عزة الله أدركينا، ونحو ذلك؛ لأنه لا يجوز دعاء الصفة، بل يدعو الموصوف وهو الله يدعوه باسمه وصفته، فيقول: أعوذ بعزتك بقدرتك، أسألك بقوتك، ونحو ذلك، وأيضاً يختار الخواتم المناسبة، فلا يمكن أن يقول فقيه في الدعاء: اللهم أهلك الكفار برحمتك، يا رحمتك يا أرحم الراحمين، وإنما يهلك الكفار بقوته وقدرته، وأيضاً فإن على العبد أن يكون في اتباع للسنة فلا يفصل في أشياء لم ترد السنة بالتفصيل فيها، ولذلك أنكر الصحابي على ولده لما قال: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وحورها وأنهارها وثمرها وأشجارها.. إلخ، وأعوذ بك من النار وأغلالها وسلاسلها وغساقها ... وإلخ، قال: اسأل الله الجنة فإذا أعطاكها أعطاكها وما فيها، استعذ بالله من النار فإذا أعاذك منها أعاذك منها وما فيها، وهكذا أنكر على من سمع من ولده يقول: أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، قال: يا بني إن النبي ﷺ حذرنا من قوم سيعتدون في الدعاء ومثل هذه التفصيلات التي لم ترد من الاعتداء في الدعاء، وإذا كان العبد على اليقين وعلى الخشية والخشوع يستجيب الله، وأيضاً لا يرفع بصره إلى السماء في الدعاء أثناء الصلاة؛ لأن النبي ﷺقال: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم[رواه البخاري750]، وهذا وعيد.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في عفوك وعافيتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اشملنا بعفوك يا كريم، أخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، يا تواب تب علينا، يا غفار اغفر لنا، يا رزاق ارزقنا، ويا رحمن ارحمنا، ويا سميع الدعاء تقبل منا، اللهم إنك أنت الشكور، وأنت الودود وأنت ذو العرش المجيد نسألك في مقامنا هذا في ساعتنا هذه أن تعتق رقابنا من النار، اكتبنا عندك من العتقاء من النار، يا غفار يا أرحم الراحمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور واغفر لنا يا غفور، اللهم فرج عن إخواننا في بلاد الشام، وفي سائر الأرض يا رب العالمين، اللهم نج المستضعفين، اللهم أغث هؤلاء المساكين، اللهم احمل حافيهم واكسُ عاريهم، وداوي جريحهم، وأبرئ مريضهم، اللهم ارحم ميتهم، اللهم إنا نسألك أن تنصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم اقسم ظهور الجبابرة، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم عجل بالانتقام من أعدائك يا رب العالمين، اللهم بغوا على إخواننا وأنت الله لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم فاخذ هؤلاء وجنودهم يا رب العالمين، وسلط عليهم سوط عذابٍ وأنزل بهم بأسك وعذابك.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا رزقاً حسناً، وأن تجعلنا في عافيتك، وأن تسترنا بسترك الجميل، وأن تحسن وقوفنا بين يديك، وأن تحسن خاتمتنا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.