الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
العلم بالله وأسمائه أشرف العلوم
عباد الله: نتحدث وإياكم في هذا اليوم العظيم، في هذا المقام العظيم عن موضوع عظيم، هو أعظم الموضوعات على الإطلاق، ولا يوجد موضوع أعظم منه أبداً، إنه أعظم موضوع لأنه يتعلق بأعظم شيء وهو الله ، والحديث عن الله تعالى أشرف الأحاديث، والعلم بالله تعالى أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أسماؤه وصفاته تعرف المؤمن عليها واجب، معرفة المؤمن بربه أوجب الواجبات، قال الله : وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاسورة الأعراف180، قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَىسورة الإسراء110، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَىسورة طـه8، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَىسورة الحشر24.
والحسنى: جمع أحسن، ليست جمع حسن فقط، بل هي جمع أحسن، فأسماؤه سبحانه كلها أسماء مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، ليس في أسمائه ما يدل على شر، ولا ما يحتوي شراً، بل إنه يخلق الخير والشر، أما أسماؤه فهي خير كلها، وكذلك صفاته وكذلك أفعاله خير كلها، ولكن في مفعولاته خير وشر، وهذه الأسماء الحسنى مبنية على الدليل فلا يجوز لأحد أن يخترع اسماً لله لم يسم الله بها نفسه، وكذلك فإنها أسماء محكمة، كما أن القرآن كله محكم، وكذلك أسماؤه سبحانه كثيرة جداً، منها ما علمنا إياه، ومنها ما لا نعلمه، كما دل عليه الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك[رواه أحمد3704]، فلله أسماء لا نعلمها ولا ندري عنها شيء، لكن علمنا منها ما نعبده به، وما ندعوه به ، وبعضها أفضل من بعض، كما فضل الله تعالى بينها وكما فضل بين كتبه، فجعل القرآن أفضل من التوراة والإنجيل، مع أن الكل كلامه، وكذلك جعل بعض آي القرآن أفضل من بعض كما دل عليه حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فدعاني النبي ﷺ فلم أجبه، قلت: يا رسول الله كنت أصلي، قال: ألم يقل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمسورة الأنفال24 ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد وذكر الحديث وفيه تعليمه سورة الفاتحة الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الفاتحة2 ، وقال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن[رواه البخاري4474]، وكذلك عندما سأل أبي بن كعب عن أي آية في كتاب الله أعظم، ثم جاء الخبر بأنها آية الكرسي، وضرب في صدره وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر[رواه مسلم810]، وذلك أن أسماء الله تعالى منها ما يدل على جملة من الأوصاف لا يختص بصفة معينة كاسم الله المجيد، والعظيم، والصمد، وغير ذلك، ومنها ما يختص بصفة معينة، كاللطيف، والسميع، والبصير، ونحو ذلك، ومن أسمائه الفاضلة، الحي القيوم؛ لأنهما يجمعان أصول معاني الأسماء والصفات.
اسم الله الأعظم
ثم إن العلماء لما قرؤوا حديث النبي ﷺ: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة[رواه البخاري2736 ومسلم2677] شرعوا بالبحث والتنقيب في الكتاب والسنة عن أسمائه ولما جاءت النصوص بفضل اسم الله الأعظم اجتهد العلماء في البحث عن اسم الله الأعظم لكي يطبقوا قول الله: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاسورة الأعراف180، وقد جاءت روايات في هذا الاسم الأعظم لما سمع النبي ﷺ رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى[رواه الترمذي3475]رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكذلك حديث أنس قال: كنت جالساً مع النبي ﷺ في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال النبي ﷺ: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى[رواه النسائي1300]رواه النسائي وغيره، وهو حديث صحيح، وكذلك جاء في أحاديث مجموعها يصل إلى درجة الحسن أنه ﷺ أخبر بأن اسم الله الأعظم في سور من القرآن ثلاث في البقرة وآل عمران وطه، وفي رواية اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌسورة البقرة163، وفاتحة آل عمرانآلم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُسورة آل عمران2 [رواه الترمذي3478]،وهو أكثر الأسماء وروداً على الإطلاق في القرآن والسنة، وكذلك فإنه ورد عن جماعة من السلف تحديده بذلك كقول الشعبي رحمه الله: اسم الله الأعظم هو الله. وكذلك عن جابر بن زيد وقال: ألم تروا أنه يبدأ به قبل الأسماء كلها. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ سورة الحشر23، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَسورة الحشر22.. إلى آخر الآيات الواردة في ذلك، فلعل هذا هو الراجح والله أعلم أن اسم الله الأعظم هو الله.
التدبر والتفكر في أسماء الله
فإذا قال قائل: فقد دعونا به فلم نعط، فالجواب: أنه لا يلزم أن تجاب كل دعوة دعا بها أحد بالاسم الأعظم؛ لأن للدعاء شروطاً فقد يكون قد تخلف أحد شروطه، وكذلك فإن الدعاء قد يؤخر وقد يعطى بدلاً منه وهو لا يشعر ولا يدري، ولذلك لا تترك الدعاء يا عبد الله باسم الله وكذلك بقية أسمائه وصفاته، ادع بها الله ، وإذا تأملنا أيها الإخوة ختم آيات القرآن، نجد كثيراً منها مختوماً بأسماء لله تناسب ما في هذه الآيات من المعاني والأحكام، وهذا موضع جليل للنظر، ينبغي على أهل العلم، وينبغي على طلبة العلم، وينبغي على الناس جميعاً أن يتفكروا فيه؛ لأن الله ندبنا للتفكر في آياته والتدبر فيها، أمر الله بالتدبر، والنظر في آياته، وانظر يا أخي المسلم على سبيل المثال كيف تضمنت هذه الآيات من سورة الحج بعدما ذكر الله الذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا وما وعدهم بأنه سيرزقهم رزقاً حسناً، قال بعدها: لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌسورة الحـج59-65، تأمل كيف ختمت كل آية من الآيات السبع السابقة باسمين عظيمين يدلان على أن الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسماءه الحسنى، فختم الآية الأولى بالاسمين العظيمين العليم والحليم، وكانت الآية عن صفات المؤمنين وما أعد الله لهم، وهذا يقتضي علمه بنياتهم الجميلة، وأعمالهم الجليلة، ومقاماتهم العالية ليجازيهم بالفضل العظيم فيحلم عن مسيئهم، ويغفر لهم ما فعلوا كأنهم ما فعلوه، ولذلك ختمت الآية بـ العليم، الحليم، والآية التي بعدها ختمت بـ العفو الغفور؛ لأنه أباح المعاقبة بالمثل في الآية، ثم ندب إلى مقام الفضل وهو العفو وعدم معاقبة المسيء، وأنه ينبغي أن نعبد الله بالاقتداء، والعمل بهذين الوصفين، فختم الآية التي فيها القصاص والندب إلى العفو بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، فينبغي علينا نحن أن نعفو وأن نغفر ونسامح، وختم الآية الثالثة بـالسميع والبصير، لما ذكر فيها ما خلق في الأرض وفي الليل والنهار، وهذا يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وكذلك بصره سبحانه بحركات ما في الأرض والسماء على اختلاف الأوقات وتباين الحالات، ولما ذكر المعبودات الباطلة، ختم الآية بالعلي الكبير؛ لأن علوه مطلق وكبرياءه سبحانه، وذكر بعظمته ومجده، وأن هذه الصفات تضمحل معها جميع المخلوقات، فهو أكبر من كل شيء سبحانه، وختم الآية الأخرى باللطيف والخبير الدالة على سعة علمه، ودقيق خبرته سبحانه، وختم الآية السادسة بالغني الحميد، لما ذكره ملكه للسماوات والأرض وما فيها من المخلوقات بين أنه الغني مستغنٍ عنهم الحميد في شرعه والحميد في جزائه سبحانه، وذكر الآية الأخيرة ختمها بالرؤوف والرحيم؛ لأن من رأفته تسخيره جميع المخلوقات لبني آدم، وحفظ السماوات والأرض، وأن الله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ لأنها لو وقعت ماذا حصل للعباد وهكذا.
ثم إن عباد الله الأنبياء كانوا يذكرون أقوامهم بكلام كما قال : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ، ختم الآية بقوله: فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ سورة البقرة54، وكذلك عيسى قال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُسورة المائدة118، فقد يقول قائل: ولماذا ختمها بالعزيز الحكيم مع أن عيسى يلتمس المغفرة والرحمة منه، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُسورة المائدة118، ولم يقل: الغفور الرحيم؟ والجواب: أن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، وإنما هو مقام غضب وانتقام، ولذلك يغضب الله يوم القيامة غضباً لم يغضب مثله أبداً ولن يغضب مثله أبداً، فالمقام مقام غضب وانتقام ممن اتخذه وأمه إلهين، ممن اتخذ عيسى وأمه إلهين، ولذلك ناسب ذكر العزة والحكمة في آخر الآية لأجل هذا المعنى اللطيف، ثم إن ختم هذه الآيات بأسماء معينة يشير إلى أحكام فمن ذلك قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة المائدة34، فهؤلاء الذين يسعون في الأرض فساداً إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم المسلمون فجاءوا مستسلمين فما هو الحكم فيهم، ومن أين عرفناه؟ إن الحكم هو العفو عنهم ترغيباً لأي قاطع ومفسد بالمجيء والاستسلام، فمن أين أخذنا قضية العفو عنهم؟ من ختام الآية إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة المائدة34 فلم يقل: اعفوا عنهم، ولكن يكفينا أنه ختمها بأنه غفور رحيم لنترك عقوبتهم، وهذا الذي قاله العلماء، ثم إنه قد يختم الآية بأسماء من أسمائه الحسنى تعليلاً لأمر ورد في الآية، كقوله : فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة5، هذا هو التعليل لتخلية السبيل، لماذا نتركهم؟ لأنه أمر وختم الآية بقوله: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وكذلك قال : وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌسورة هود90، فالاستغفار يؤدي إلى قبول التوبة، وهذه رحمة من الله، ويؤدي إلى محبة الرب للعبد، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّاسورة مريم96، وكان الأنبياء لا يزالون يستعملون في أدعيتهم الأسماء الحسنى المناسبة للدعاء، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُسورة البقرة127-128، وقال عن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُسورة آل عمران8.
معنى إحصاء أسماء الله وربطها بالواقع
ولذلك فإنه ينبغي معرفة أسماء الله الحسنى لدعائه بها، وقد قال النبي ﷺ: من أحصاها دخل الجنة[رواه البخاري2736 ومسلم2677]، فما هو المقصود بإحصائها؟
أولاً: معرفة ما هي هذه الأسماء التسعة والتسعين، وهذا يقتضي أن تتعرف يا عبد الله على كل أسماء الله المذكورة في القرآن والسنة بحسب استطاعتك، وربما لا تستطيع أن تجمع النصوص، لكنك تقرأ كلام أهل العلم الذين جمعوا النصوص قبلك واستخرجوا هذه الأسماء، فلا بد أولاً لتطبيق قوله: من أحصاها دخل الجنة[رواه البخاري2736 ومسلم2677]معرفة ما هي هذه الأسماء لفظاً، ما هي ألفاظها.
وثانياً: فهم معانيها ومدلولاتها، فلا بد أن تعرف المعنى، ما معنى المؤمن، ما معنى اللطيف، ما معنى الحفيظ، ونحو ذلك.
ثم بعد ذلك تشرع في العمل بها، تحفظها وتعمل بما فيها من المعاني، تدعو بها دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وأن تؤمن بآثارها، وتتلمس هذه الآثار في الواقع؛ لأن لكل اسم من أسماء الله آثار في الواقع، فتتعرف على آثار هذه الأسماء في الواقع.
قال ابن القيم رحمه الله: فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة، فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ، هذا مثال للتعرف على آثار اسم الله الرحيم، ما هي آثار اسم الله الرحيم في الواقع؟ هذا مجال مهم جداً للنظر عندما نتحدث عن إحصاء الأسماء الحسنى، والعمل بالأسماء الحسنى، التعرف على آثار الأسماء الحسنى في الواقع، هذا مثال في اسم الرحيم، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة، فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ، وأنزل علينا كتابه، وعلمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشد لصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار إلى آخر كلامه رحمه الله.
واسم اللطيف وما أدراك ما اللطيف، الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا والخبايا وما حوته الصدور، وما في الأراضي من البذور، ولطف بأوليائه وأصفيائه، فيسر لهم اليسر، وجنبهم العسر، وسهل لهم كل طريق إلى مرضاته، ولطف بخلقه كلهم، وكم من الحوادث التي تراها في الواقع يتجلى فيها لطف الله بالسائق أو بمن في السيارة، ونحو ذلك.
ثم اسمه سبحانه العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، يعلم ما كان في الماضي، وما يكون الآن، ولو في قاع المحيطات وأعالي الكواكب، ويعلم ما سيكون في المستقبل مما لا يعلمه أحد ، يعلم ما يكون، وما سيكون في المستقبل، ويعلم ما لو كان كيف كان يكون، لو لم يحدث الشيء الفلاني ماذا كان حدث بدلاً منه، فالله يعلمه،وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍسورة الأنعام59، يعلم السر وأخفى ، إذن ينبغي أن نتعرف على آثار الأسماء الحسنى وأن نربط بين الواقع وبين أسماء الله الحسنى بعد تعيينها ومعرفة معانيها، وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوماً، -كما يقول ابن القيم رحمه الله للدلالة على أثر هذه الأسماء في خلقه وأمره- لو فرضت الحيوان بجملته معدوماً، لو لم يكن هناك خلق البتة، وإذا فرضت الفاقات سدت، والعبيد أغنياء، كلهم معافون، كل الناس في صحة ومال، فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة وشهود فضله ومنته وإنعامه وإكرامه سبحانه، واسمه الحفيظ الذي تكفل بحفظ كل شيء فلا يضيع ولا يتغير ولا يتبدل إذا حفظه وقدر حفظه، ولما وعد بحفظ كتابه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَسورة الحجر9، واسمه الحفيظ لم يتغير كتابه على مر العصور ولم يتبدل على كر الدهور، ولو حرفوا كل نسخات المصحف المطبوعة فهناك نسخ في الصدور لا يمكن تحريفها، وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَسورة الأنبياء32، فحفظ السماء، وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍسورة الحجر17، والحفظ لا يتعبه سبحانه، ولا يكلفه شيئاً، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُسورة البقرة255 لا يتعبه ولا يشق عليه ولا يكلفه.
وحفظ عباده وحفظ عليهم أعمالهم، يعلمها ويكتبها كتبته الكاتبون الكرام، ومن حفظه سبحانه حفظه لعباده من المكاره والشرور، احفظ الله يحفظك، وأوجد لذلك السبب إذا قام به العبد حفظه الرب.
أيها المسلمون: هذه نماذج من الأسماء ومعانيها وارتباطها بالواقع، وهذا باب عظيم يزيد الإيمان والله لمن دخل فيه، فادخلوا في هذا الباب يرحمكم الله، واستعينوا بالله على معرفة أسمائه من كلام العلماء الثقات، وليس بشرط أن تقلب بعض المصاحف لتجد الدوائر، فربما لا يكون بعضها ثابتاً، لكن من كلام العلماء الثقات، التعرف على أسماء الله ودعاؤه بها.
نسأل الله أن يجعلنا ممن أحصوها وعملوا بها، وأن يدخلنا الجنة بفضله ورحمته وكرمه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله لا إله إلا هو وحده لا شريك له هو الرحمن الرحيم، هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، هو الله لا إله إلا هو في السماوات والأرض، أشهد أنه الحي القيوم خالقنا ورازقنا له الحكم يحكم ما يشاء وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمداً رسول الله الذي أرسله الله برحمته بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أنواع دعاء الله بأسمائه
عباد الله: لقد أمرنا بدعائه فقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْسورة غافر60،وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِسورة البقرة186.
إن من أعظم ما يدعى الله به ويسأل أن يدعا بأسمائه الحسنى، وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاسورة الأعراف180، ولذلك كان أعظم آداب الدعاء على الإطلاق أن يدعو الداعي بأسماء الله الحسنى قبل أن يبدأ في الطلب والسؤال، وقبل أن يذكر حاجته.
واعلموا أيها المسلمون أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة وطلب، ودعاء عبادة وثناء.
لا يخرج الدعاء عن هذين النوعين البتة، أما دعاء المسألة فهو معلوم معروف، طلب ما ينفع وطلب كشف ما يضر، أو يدفع الضر، فإذا أراد العبد أن يسأل بأسماء الله الحسنى دعاء المسألة فإنه يقول مثلاً: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، يا تواب تب علي، يا رزاق ارزقني ونحو ذلك، يا شافي اشف مريضي، اشف أنت الشافي، أنت الشافي، من أسمائه الشافي لا إله إلا أنت، وكما علم النبي ﷺ عائشة أن تقول متحرية ليلة القدر: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني[رواه ابن ماجه3850]، فالثناء عليه باسمه أولاً، إنك عفوٌ، ثم الطلب بعد ذلك.
أما دعاء العبادة فهو التعبد لله سبحانه والثناء عليه بأسمائه الحسنى، الدعاء هو العبادة، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَسورة غافر60، دعاء العبادة دعاء مهم جداً، ماذا يقتضي؟ يقتضي أن يتعبد العبد لله بمقتضى الأسماء والصفات، فإذا عرف أن الله متفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة ظهر ذلك في سلوك العبد في الواقع، هذا هو دعاء العبادة، أن يظهر في واقعنا وسلوكنا إيماننا بأسمائه سبحانه، فإذا عرفنا أنه الرزاق لم نطلب الرزق من غيره، وإذا عرفنا أنه المحيي وأنه المميت أيقنا أن غيره لا يملك إحياءً ولا إماتة، وإذا عرف العبد أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم أن الله حفيظ على أعمال العبد، ماذا يثمر ذلك؟ فعل الحسنات وترك السيئات، هذا هو دعاء العبادة، إذا علم العبد أن الله شكور يحب الشاكرين قام بشكر نعمه، وإذا علم أنه وتر يحب الوتر حرص على الوتر، وكذلك إذا علم أن الله عفوٌ فإن العبد يصفح ويعفو، هذه هو دعاء العبادة، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، هذا كلام ابن القيم رحمه الله، فلا تحجبه، لا تحجب هذا المخلوق عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، ولذلك بعض الناس يقول: أنا أعرف الغفور الرحيم، ألا تعرف أنه هو المنتقم، وهو الجبار، وأنه شديد العقاب، هؤلاء الذين يعرفون بعض الأسماء، وبعضها لا يتعرفون إليه ولا يعملون بمقتضاه هؤلاء مساكين، هؤلاء عبادتهم ناقصة، هذه نبذة أيها الإخوة عن هذا العلم العظيم الذي هو أعظم العلوم وأشرفها على الإطلاق العلم بالله، بأسمائه وصفاته والعمل بها.
مجازر الصرب على المسلمين في كوسوفو
أيها المسلمون: بدأت المجزرة الجديدة، ورجع الصرب إلى سابق عهدهم وأوانهم بتقتيل المسلمين، فشنت قواتهم وعصاباتهم المدربة على الذبح والتقتيل الحملات على إخواننا في كوسوفو وبدأت عملية إحراق القرى وتقتيل المسلمين في تلك البلاد، واستبيحت أكثر من عشرين قرية في بلديات متروبتسا وسربستا ودرنتسا في كوسوفو، ولا زالوا يذبحون إخواننا في تلك الديار، وبدأت قوافل الأطفال والنساء في الرحيل كالعادة، والتهجر في رحلة عدم الاستقرار، واعتقال المئات، والعدد للزيادة؛ لإدخالهم في معسكرات ومعتقلات الصرب المعروفة، لقد بدأ إخواننا في كوسوفو منذ فترة قريبة يذوقوا ما ذاق إخواننا في البوسنة في الفترة الأبعد، وبدأت نداءات المسلمين في كوسوفو للاستغاثة بالله تعالى، ثم بإخوانهم المسلمين في أنحاء العالم، ثم بأفرادهم في العالم أن يرجعوا للقيام بالجهاد في وجه الصرب، بدأت الحملة الصربية الجديدة منذ فترة، وقد استعرت واشتدت في هذين اليومين، والنصارى يقولون ويهددون بالتدخل، يعني أنجزوا عملكم أيها الصرب بسرعة فإننا سنتدخل، وحالنا ما تعلمون في الضعف والذل والهوان، ولكننا لنا رب رحيم، ولنا رب قدير وهو سبحانه يبطش وينتقم، ولو لم نملك إلا الدعاء فيجب علينا أن نقوم به.
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة في مقامنا هذا في يومنا هذا أن تحفظ إخواننا المسلمين في كوسوفو وفي سائر الأرض يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبهم، وأنزل الصبر والسكينة عليهم، اللهم ثبتهم يا رب العالمين، اللهم ارزقهم النصر على عدوك وعدوهم، اللهم إنا نسألك النصر لهم يا رب العالمين، عجل بنصرهم، اللهم لا تجعلهم لقمة سائغة للصرب، اللهم اجعلهم شوكة في حلوق الصرب يا رب العالمين، اللهم ارزق المسلمين الحمية لنصرة إخوانهم، اللهم ارزقنا البذل والإنفاق في سبيلك يا رب العالمين، ونصرة المجاهدين في الأرض، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.