الأحد 10 ربيع الآخر 1446 هـ :: 13 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

عين الربا


عناصر المادة
الخطبة الأولى
خطورة الربا
الربا في الطعام وفي غيره
يسمونها بغير اسمها
الربا حرام مهما كان
الخطبة الثانية
ضلوا وأضلوا
فأذنوا بحرب من الله
شهرة ولو باللعنات
السعيد من اتعظ بغيره

الخطبة الأولى

00:00:05

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباًالنساء:1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًالأحزاب:70-71.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

خطورة الربا

00:01:04

يقول الله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة:275.

يقوم آكل الربا من قبره يتخبط كأنه حبلى جزاءً بما أكل في بطنه من المال الحرام، يخرج الناس من الأجداث سراعاً، ولكن آكل الربا يتخبط في مشيته عقاباً من الله له.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَبأخذ الزيادةوَلاَ تُظْلَمُونَسورة البقرة:278-279، فيكون لكم رأس المال كما أعطيتموه، تأخذونه عدلاً من الله ، فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ، ولم يحدد الله: هل الحرب عسكرية؟ أم مرضية؟ أو وبائية؟ أو جوع؟ أو خوف؟ إنها كلمة عامة تتضمن جميع أنواع الحرب؛ ولذلك قال أهل العلم: إن من كان مقيماً على الربا لا ينزع، فحق على إمام المسلمين -واجب- أن يستتيبه من أكل الربا، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وإذا مات رسول الله ﷺ، فإن الحرب على أكلة الربا، وشنها عليهم منوط بنوابه، وخلفائه ﷺ، ولكل إمام يسير على نهجه.

والربا باب من السبع الموبقات الكبيرة التي لعن رسول الله ﷺ من فعلها، وحذر الأمة، فقال: اجتنبوا السبع الموبقات[رواه البخاري (2767)، ومسلم (89)]، وحذر ﷺ تحذيراً شديداً من الربا، وبين أنه إذا ظهر الزنا والربا في قرية؛ فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله: ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله[رواه أحمد (3799)]حديثان صحيحان؛ ولذلك لعن رسول الله ﷺ الربا وآكله ومؤكله، وجميع من يساعد عليه، فقال ابن مسعود لعن رسول الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم فيه سواء[رواه مسلم (1598)]، وفي لفظ آخر: الآخذ والمعطي فيه سواء[رواه مسلم (1584)].

إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً كما قال ﷺ: أبواب الربا اثنان وسبعون باباً[رواه الطبراني في الأوسط (7151)]، فهو متنوع متشكل، له صور متعددة؛ فلا تغتروا -أيها المسلمون- باستهزاء المستهزئين، وألاعيب المتلاعبين، وحيل المتحايلين على من؟ على الله ! الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُسورة غافر:19إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً.

وقد أخبرنا ﷺ: أنه قد رأى في الرؤية الصالحة -ورؤيا الأنبياء حق- رجلاً يسبح في نهر، ورجلاً آخر قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذ بذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً، وهكذا يظل يفعل به عقاباً من الله وعذاباً، ولذلك كان كل من ساهم في معاملة ربوية، أو إنشاء مكان ربوي -حتى ولو بنظافته وصيانته، أو تأجيره، أو بنائه- داخل في لعنة رسول الله ﷺ مستحق للعقاب الذي يترتب على النهي إذا لم يمتثله، ذلك النهي الذي قال عنه ربنا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ نهي، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِسورة المائدة:2، فكم من أناس ملعونون على لسان رسول الله ﷺ في هذا الزمان، ولقد وصل الأمر إلى مهازل؛ أناس يُخرجون زكواتهم من الربا، وأناس يحجون من الربا، وآخرون يتصدقون من الربا، وطائفة يبنون المساجد من الربا، وبعضهم يطبع الكتب الإسلامية من الربا، يتقربون إلى الله بالحرام: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً[رواه مسلم (1015)] هذا بخلاف من يتخلص منها اتقاء غضب الله، فإنه يجوز أن يصرفها في أي مصرف خير لكن تخلصاً لا صدقة، ولا قربة إلى الله .

الربا في الطعام وفي غيره

00:06:32

وبعضهم يظن أن الربا في المطعومات والمشروبات؛ ولذلك فهو يبني سكنه من الربا، ويدفع أجور العمال والخادمات من الربا، ويشتري السيارات بالربا، ويقول: الشريعة حرمت أكله، ولكنه إنسان متلاعب، مستهزئ بآيات الله؛ فإن الله حرم الانتفاع به من أي وجه كان، وجاء التعبير بالأكل في بعض الأحاديث والآيات؛ لأن أكبر ما ينتفع به -إن صحت كلمة "انتفاع"-، وأكثر ما يستخدم الناس الربا في الأكل، وإن كانوا يستخدمونه في أشياء أخرى كلها من الحرام سحت في سحت، يبنون أجسادهم خلية خلية من الربا، من المال الحرام، لا يتقون الله، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به[رواه الطبراني في ا لأوسط (4480)]، يأكل منه، ويطعم أولاده وزوجته من المال الحرام، ثم يريد مغفرة الله، ثم يريد الله أن ينجو من عذاب الله، كيف له ذلك، وهو مصر على أكل الربا؟ حتى لو صلى صلاة الفجر في المسجد.

ولكي يكشف ﷺ أنواع الربا، ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد، أو ازداد؛ فقد أربى، فإن اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد[رواه مسلم (1587)]رواه مسلم وغيره؛ ولذلك يشترط في بيع الأشياء المتماثلة من الأشياء المكيلة الموزونة شرطان:

الأول: التماثل: مائة غرام ذهب بمائة غرام ذهب، لا زيادة ولا هللة، التماثل.

ثانياً: التقابض في مجلس العقد: سلمني مائة غرام ذهب الآن، وأسلمك مقابله مائة غرام ذهب الآن، أو ما يقوم مقام الذهب من العملة النقدية الآن، لو تأخر لحظة واحدة وقع في الحرام، لو قال: هات الذهب، وسأذهب إلى البيت، وآتيك بالمال، حرام؛ الشرط واضح في الحديث: يداً بيد، لو قال: هذا مائة غرام من الذهب القديم آخذ منك سبعين غرام ذهب جديد، حرام لا يجوز، وإنما يبيع الذهب القديم أولاً، ويقبض المال، ثم يشتري به ذهباً جديداً لو أراد، عقدان لا ترابط بينهما لكي تصبح المسألة حلالاً، فانتبهوا أيها الإخوة، فإذا اختلفت الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، سيارة بسيارة مع دفع الفرق جائز، ساعة بساعة مع دفع الفرق جائز، لكن ذهب بذهب مع دفع الفرق حرام، تمر بتمر غير متماثلين حرام، يجب أن يكون التماثل وزناً في الأشياء الموزونة، وكيلاً في الأشياء المكيلة، يداً بيد في مجلس العقد، لا يتأخر الدفع لحظة واحدة.

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد : "جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني" نوع جيد من التمور يقال له التمر البرني، "فقال له النبي ﷺ: من أين هذا؟ فقال بلال: "كان عندي تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع" تمر أقل جودة أعطيته صاعين، وأخذت صاعاً جيداً من النوع الجيد، "فقال النبي ﷺ" الغرض شريف "لنطعم النبي ﷺ"؛ يريد به نفع النبي ﷺ، لا يريد أن يأكله هو، ولكنه ﷺ قال: أوَّه، أوَّه؛ عين الربا، عين الربا، لا تفعل، أوَّه كلمة تقال للتوجع، أوَّه، أوَّه؛ عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به [رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594)].

وهكذا يحدد ﷺ المسألة، ويقطع الطريق على المتلاعبين المتحايلين؛ ولذلك قال أهل العلم: "الربا أنواع: منه ربا الفضل، ومنه ربا النسيئة، ومنه ربا اليد، ومنه ربا القرض الذي يجر منفعة" لو وضعت ألف ريال في بنك، وأخذت عليها زيادة فهو حرام، لا يجوز، لو أعطيته ذهباً، وأخذت أكثر من الذي أعطيته، فهذا حرام، أعطيته مائة غرام، أخذت مائة وعشرة، أو أخذت سبعين حرام، لو قلت له: هات الذهب، وسأدفع لك بعد خمس دقائق، أو أذهب إلى البيت، وأحضر الثمن حرام، ولو أنك أقرضته على أن يُرجع لك الشيء المقترض بسلة، فالسلة حرام، لو قلت له: أقرضك على أن توصلني بسيارتك إلى البيت، وتُرجع لي القرض نفسه حرام؛ "كل قرض جر نفعاً فهو ربا" تأخذ مثلما أعطيت، نفس الشيء بلا تلاعب.

يسمونها بغير اسمها

00:12:27

هذه مقدمة أقولها بمناسبة أن بعض إخواننا جزاهم الله خيراً من الحريصين قد أراني مقالة نشرت في بعض الجرائد في الخارج عن فتوى أفتى بها أحد الضالين في هذه المسألة على الأقل، يقول في هذه الفتوى، ومن كلامه نقلت مختصراً بعد تعليلات، وأدلة، ولوي لأعناق النصوص، واجتزاء من أقوال بعض أهل العلم -كما يهوى هو-، قال بعد ذلك: "وبناء على كل ما سبق فإن ...، ترى أن المعاملات في شهادات الاستثمار، وفيما يشبهها كصناديق التوفير جائزة شرعاً، وإن أرباحها كذلك حلال، وجائزة شرعاً؛ إما لأنها مضاربة شرعية" كما يظن هذا المفتري، "وإما لأنها معاملة حديثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها استغلال من أحد طرفي التعامل الآخر"، ثم قال حاثاً الناس أن ينهجوا هذا النهج المحرم: "ومن الخير أن يشتري الإنسان هذه الشهادات، وأن يتقبل ما تمنحه" يعني: ما يمنح "من أرباح نتيجة لذلك"، ثم قال متبجحاً: "وقد اقترحت على المسؤولين" في بلدته تلك "اقترحت على المسؤولين أن يتخذوا الإجراءات اللازمة" لأي شيء؟ "لتسمية الأرباح التي تُعطى لأصحاب شهادات الاستثمار بالعائد الاستثماري، أو بالربح الاستثماري، وأن يحذفوا كلمة الفائدة لارتباطها في الأذهان بشبهة الربا" سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌسورة النــور:16! يريد أن يحلل للناس الحرام، ثم يقترح بأن تُسمى الفائدة: "أرباح استثمارية"، "عائدات استثمارية"؛ لكي يلبس على الناس بزيادة، وليس هو الجديد الذي فتح هذا الباب، فقد فتحه اليهود من قبله، وغيروا الأسماء لكي يلبِّسوا على الناس، والرسول ﷺ أخبرنا بأنه سيأتي من هذه الأمة أناس يشربون ...الخمر يسمونها بغير اسمها[رواه أبو داود (3688)] سمها ما شئت: خمراً، مشروبات روحية، كحول، وسكي، كله حرام؛ كل مسكر خمر، وكل خمر حرام[رواه مسلم (2003)]طلعت، أو نزلت، ذهبت يميناً، أو شمالاً، دخلت جحر كل ضب نصراني، أو يهودي، فهو خمر حرام.

وكذلك نقول هنا: سمها ما شئت: "ربا، فوائد، أرباح، عوائد استثمارية، أرباح استثمارية" سمها ما شئت، هو حرام أولاً وأخيراً، طلعت أو نزلت فهو حرام؛ لأنه ربا منصوص على تحريمه في الكتاب والسنة.

ثم قال: "إن دخول الإنسان في مضاربة دون تحمل للخسارة" أيها الإخوة، نحن نعلم أن دخول الإنسان في مضاربة دون تحمل للخسارة حرام، هذا الكلام نقوله نحن لم يقله هو، نقوله نحن، إن دخول الإنسان في مضاربة بشرط ألا يتحمل الخسارة حرام، فكيف إذا دخل في مضاربة مع تحديد الأرباح؟ إذا كان دخوله في مضاربة مع اشتراط ألا يتحمل خسارة حرام، فكيف يدخل في مضاربة، وهو يشترط نسبة معينة من الأرباح: ثمانية في المائة، عشرة في المائة، إحدى عشر في المائة، ونحو ذلك؟ إنه أشد حرمة، فكيف يقول هذا في فتواه مستنداً يقول: "تحديد الربح مقدماً حماية لصالح المال".

وهكذا يجادلون في آيات الله، وهكذا يريدون أن يضلوا الناس، ورغم هذه الشنشنة التي يطلقونها، ويقولون متبجحين: الربا ما كان بين طرفين: غني وفقير، الربا ما كان فيه استغلال، أما إذا كان بين غني وغني؛ فلا بأس، من الذي قعَّد هذه القاعدة؟! ومن الذي وضح هذا الاستثناء؟! هل هو موجود في القرآن؟! لما قال الله: اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَاسورة البقرة:278هل قال: ذروا ما بقي من الربا بين الأغنياء والفقراء؟! أم أن الآية عامة تشمل كل شيء، غني وغني، غني وفقير، فقير وفقير؟ الآية عامة، ولذلك مهما حاول هؤلاء أن يخرجوها، فإنها لن تخرج؛ لأنها نزلت من عند الحكيم الخبير.

وأهل الباطل يستغلون هذه الفتاوي العوجاء، ويبحثون عنها بتنقيب شديد، ويستغلونها أبشع استغلال، ويصورونها، ويطبعونها، وينشرونها، ويوزعونها، لكن هل دخلت مرة مكاناً ربوياً؛ فوجدت معلق عليه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِسورة البقرة:278-279؟ هل وجدت هذه الآية؟ لكن تجد الفتاوي الرخيصة مطبوعة ومنشورة؛ لتضل الناس، ويل لهم من عذاب الله، ثم ويل لهم، ثم ويل لهم.

الربا حرام مهما كان

00:18:14

بلال عنده صاعان من التمر غير الجيد، ذهب إلى السوق، واشترى صاعاً من التمر الجيد، هل يوجد في القصة مظلوم؟ هل جرت المعاملة؟ هل فيها استغلال؟ أليست قد تمت برضا الطرفين؟ هذا رضي أن يعطي صاعين من التمر الرديء، وهذا أعطاه مقابلها صاع من التمر الجيد، تمت برضا الطرفين، بدون استغلال، ومع ذلك يقول ﷺ: أوه، أوه؛ عين الربا، عين الربا، لا تفعل[رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594)].

إذن هؤلاء الذين يقولون: نحن نستثمر في البنوك بالربا، البنك قوي، وأنا غني، أو أنا فقير محتاج، نقول له: أين هذا في حديث بلال؟ بين لنا؟ كيف تتلاعبون على الدين؟ كلاهما قد استفاد، بلال استفاد، والآخر قد استفاد، ربما كان عنده عائلة كبيرة الصاعين عنده شيء جيد، وبلال أخذ صاع تمر لشخص واحد -للرسول ﷺ، كلاهما قد استفاد، كلاهما يمكن أن يكون قد حقق رغبته، كلاهما عن تراضي، ليس فيها استغلال، لكن ﷺ رفض هذا؛ ذلك لنعلم مدى تحايل هؤلاء الناس، وتتابعهم على الشر والإثم والعدوان.

وبعضهم يثير الشبهات، يقول: الله قال: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةًسورة آل عمران:130يعني: لا تأخذ مائة في المائة، مائتين في المائة، ثلاثمائة في المائة، نحن نأخذ فقط عشرة في المائة.

نقول لهم: هل نسيتم بقيت الآيات: اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَاسورة البقرة:278ما بقي منه، ولو واحد في المائة، ذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ولو واحد في المائة، ثم لو أنني قلت لشخص: حرام عليك تزني بعشرات النساء، هل يعني هذا أنه لو زنا بامرأة واحدة صار حلالاً؟ لو قلت لواحد مرتشي كبير: حرام عليك تأخذ مئات الآلاف، أو تأخذ آلاف بالرشاوي، حرام عليك، هل يعني ذلك: أنه لو أخذ ريالاً واحداً بالرشوة يكون جائزاً؟ إذن فانظروا كيف يتلاعبون بكتاب الله ، ويستهزئون به.

والمؤسف أنني سمعت أن بعض الفقراء يتعاملون بالربا، فشخص عنده ألف ريال -مثلاً- يضعها في البنك لكي يأخذ عليها فوائد، كم الفائدة؟! عشرة ريال! لكن يضعونها، ويأخذون عليها فوائد! هكذا تغلغل الربا في الأمة، حتى لم يكد يسلم منه أحد، ونسأل الله العافية.

فإذن الذي يقول: البنوك غير معروفة على عهد الرسول ﷺ، نقول له: لكن مبدأ الربا معروف على عهد الرسول ﷺ، ونقول له: إن الله يعلم أنه سيكون في الزمان بنوك، وهذه الشريعة تصلح لأول الأمة كما تصلح لآخر الأمة، مهزلة إذا كانت الشريعة تصلح للزمن قبل وجود البنوك، ولا تصلح لزمن وجود البنوك، مهزلة.

أيها الإخوة، قال الله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍسورة الأنعام:38 كل شيء موجود حكمه، وإن تغيرت الوسائل، وإن تغيرت الأساليب، فإن هذا التبيان والحكم موجود في كتاب الله العزيز، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً.

اللهم سلمنا من الحرام، وباعد بيننا وبينه، واجعل أموالنا ورزقنا حلالاً يا رب العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

00:21:50

الحمد لله وحده لا إله إلا هو الحكيم الخبير، الذي بين لنا الحلال في القرآن فأحله، وبين الحرام فحرمه، وأرسل رسوله ﷺ ليبين للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، فجاء كلامه ﷺ مؤكداً للكتاب العزيز شارحاً له، ومفصلاً ومبيناً، فصلوات الله وسلامه عليه.

ضلوا وأضلوا

00:22:17

ماذا نقول عن هذه الفتاوي العوجاء التي تصدر من أولئك الذين لا يخافون الله؟ يتبعون شهواتهم وأهواءهم، ويقبضون ثمن الفتوى عاجلاً، ويبيحون الربا المؤجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمشكلة أن في المسلمين ضعفاء، ضعفاء إيمان، يقولون: ضعها في رقبة عالم، واخرج منها سالماً، ضع بينك وبين النار شيخ، أو مطوع كما يقولون، هؤلاء ضعفة الإيمان الذين سيستغلون مثل هذه الفتاوي العوجاء، وسيقولون: نحن مضطرون، نحن محتاجون، ويضعون أموالهم في الربا.

هؤلاء لو قالوا لنا: هذا عالم، هذا مفتي، هذا مشهور، نقول لهم: إن رسول الله ﷺ أخبر: بأن أخوف ما يخاف على أمته من؟ من أخوف ما يخاف على أمته؟ الأئمة المضلين، الذين يأتم بهم الناس؛ فيضلونهم؛ ولذلك أوضح الله في القرآن بأن هؤلاء سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة إضافة إلى ذلك: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَسورة النحل:25، لا تحسب المسألة ستمضي في الدنيا، سيحملون أوزارهم يوم القيامة جراء هذه الفتاوي إضافة إلى ذلك أوزار كل الناس الذين اتبعوهم، وأنت أيها الأخ المسلم لا تغتر بقول فلان وفلان، عندك المسألة في الكتاب والسنة واضحة جداً لا تحتاج بعدها إلى شيء.

ثم اعلم بأن هؤلاء سيتبرؤون ممن اتبعهم يوم القيامة: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْالمساكين الناس الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِسورة البقرة:166-167.

وهذا تاريخ سيكتب، سيكتب أنه في ثمانية صفر عام ألف وأربعمائة وعشرة صدرت الجريدة الفلانية في البلد الفلاني، يقول فيها المفتي كذا وكذا، سيكتب، وستلعن الأجيال القادمة هذا الرجل الذي أفتى بهذا، ومن معه من الذين يضلون الناس بغير علم، ولو لم يكتبه الناس فهو مكتوب عند الله.

وأرض بلاد النيل -والحمد لله- فيها خير عظيم، وما عقمت نساء أهل مصر أن ينجبن العلماء الصلحاء الأخيار أبداً في القديم، ولا في الحديث، والمتدينون من أهل مصر يعلمون أن هذه الفتاوي حرام، وأنها خزعبلات فارغة، ولو أتينا بصبي صغير في المدرسة، وقلنا له: لو وضعت مالاً في بنك، أو مصرف، وأخذت عليه عشرة في المائة نسبة ثابتة ما حكمه؟ سيقول الولد الصبي: حرام؛ ربا، وإذا قالوا: إن وظيفة البنك في الاقتصاد كوظيفة القلب في الجسم، فقل لهم: كلا؛ إن وظيفة البنك في الاقتصاد كوظيفة السرطان في الجسم، المشكلة أن النقاش صار الآن في الأساسيات، فمنذ زمن بعيد كان النقاش في أشياء أصغر، لكن النقاش الآن صار في أساسيات، الربا من السبع الموبقات؛ فمن كان يتصور أنه سيأتي زمان على المسلمين يتناقشون فيه في الأشياء الأساسية المفروغ منها، التي أجمعت الأمة على تحريمها، يأتي أناس اليوم ويحلونها، والله يقول: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِسورة التوبة:31، فسرها ﷺ لعدي بن حاتم: أحلوا لهم الحرام؛ فاتبعوهم [رواه الترمذي (3095)]، وهكذا يحدث.

فأذنوا بحرب من الله

00:26:27

وإذا أردت أن تعلم عظم جريمة الربا؛ فتأمل هذه القصة: "جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلاً سكراناً يتعاقر، بلغ به السكر أوجه، يريد أن يأخذ القمر"! سكران يقفز ليأخذ القمر! فقلت: "امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر" الرجل لما رأى المنظر تأثر، قال: "امرأتي طالق لو كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، فما حكم امرأتي الآن؟ فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك" مسألة ليست سهلة، طلاق المرأة، أو بقائها، "فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فلما أتاه قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله، وسنة نبيه ﷺ، فلم أر شيئاً أشر من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب، ولم يحارب أحداً آخر".

الخمر ضرره على الشارب في الغالب، الزنا ضرره على الزاني والزانية في الغالب، أما الربا ليس ضرره على فرد، ولا فردين، ولا دولة، ولا دولتين، أضراره على أمم، أمم تتحطم بهذا الربا، ذلك لتعلموا حكمة الله في تحريم الربا، هذا دين عظيم، ليس دين لهو، ولا لعب.

شهرة ولو باللعنات

00:28:10

وكذلك فإن مما يؤسف له أنني قرأت خبراً في جريدة خارجية، ليست خارجية عن البلاد فقط، ولكن خارجية عن الإسلام أيضاً، يرد فيها قائل، كاتب يرد فيها على من؟ على من يرد؟ يرد على الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، في أي شيء؟ في قضية تحريم الربا، يقول: "قال ابن باز" حتى كلمة توقير واحترام واحدة لم ترد! لماذا؟ ما هو المأخذ؟ يقول: أنت يا ابن باز لو حرمت العمل في البنوك معناها أن البنوك سيعمل فيها الكفار؛ لأن المسلمين سيتركون البنوك حسب الفتوى، فإذن نسلم البنوك للكفار، انظر إلى هذه الشبهة.

نقول باختصار شديد رداً على الشبهة: لو كان هناك مصنع خمر في بلد من بلدان المسلمين؛ لقلنا: يا أيها المسلمون العاملون في هذا المصنع حرام عليكم العمل في مصنع الخمر، يجب أن تتركوا وظائفكم فيه، هل سيأتي عاقل، ويقول: لا؛ أصلاً إذا ترك المسلمون هذا المصنع فسيعمل فيه الكفار، وسلمنا مصنع الخمر للكفار؟ لو كان هناك بيت دعارة يشتغل فيه أناس مسلمون، قلنا لهم: يا أيها المسلمون حرام عليكم أن تعملوا في هذا المكان، حرام، سحت، رواتبكم سحت، هل سيأتي قائل وعاقل، ويقول: لكن لو ترك المسلمون بيت الدعارة سيستلمه الكفار؟ هل هذا عقل؟! فانظروا -أيها الإخوة- كيف يفعل هؤلاء.

ثم إن كثيراً منهم يبتغون الشهرة بكلامهم هذا، يأتي شخص مغمور لا يساوي الوسخ الموجود تحت الأظافر، فيرد فيه على عالم جليل في فتوى صحيحة لا غبار عليها، ليشتهر، فيقال: فلان رد على الشيخ فلان، هؤلاء مثل الأعرابي الذي جاء وبال في ماء زمزم، قام الناس عليه، وقالوا: لماذا فعلت؟ تبول في ماء زمزم؟! قال: أحببت أن أشتهر بين الناس حتى لو باللعنات، المهم أن يشتهر، وهذا دأبهم.

ونقول لهذا الخبيث: اطمئن، ولتقر عينك قراراً لا حركة بعده -بإذن الله- أنه سيبقى هناك من الفسقة والعصاة من المسلمين من سيعملون في بيوت الربا حتى لو صدرت الفتاوي بتحريم أعمالهم، فاطمئن، ونم قرير العين؛ فإن مخاوفك لم تتحقق.

وختاماً: فإننا نقول أيها الإخوة: إن علماء الأمة الثقات آراؤهم واضحة، وفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة صريحة -والحمد لله- في تحريم الربا، وفوائد شهادات الاستثمارات، وصناديق التوفير، وغيرها من المشاريع الكاذبة الخاطئة في البنوك، والحمد لله أنه ما زال لدينا من أهل الفتوى من يوثق بدينهم لا يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً.

السعيد من اتعظ بغيره

00:31:36

ذكر ابن حجر الهيتمي في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر قال: "كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي، فخرجت يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان، فلما جلست عند قبره -ولم يكن بالمقبرة أحد غيري- إذ أنا أسمع التأوه العظيم، والأنين الفظيع: بآه، آه آه، وهكذا بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص، وله بياض عظيم، فاستمعت صوت ذلك العذاب من داخله، وذلك الرجل يتأوه تأوهاً عظيماً، يقلق سماعه القلب، ويفزعه، فاستمعت إليه زمناً، فلما وقع الإسفار أسفر الفجر، خفي حسه، فمر بي إنسان، فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان، لرجل أدركته وأنا صغير، وكان على غاية من ملازمة المسجد، والصلوات في أوقاتها، والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته، فكبر علي الأمر جداً لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسألت، واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروني: أنه كان يأكل الربا؛ فأوقعه ذلك في العذاب الأليم.

وذكر الشيخ محمد بن أحمد السَّفَّاريني رحمه الله في كتابه المسمى بالبحور الزاخرة في علوم الآخرة، قال: أخبرني بعض إخواني -وهو عندي غير متهم صادق- أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، وكانت تتعاطى الربا، فلما كان وقت العشاء سمع زوجها صريخاً من داخل القبر، وكان جالساً في باب داره، فلما سمعها أخذته الحشمة الغضب الغيرة على زوجته من أجلها، وكان ذا شدة وبأس، فأخذ سلاحه وذهب إلى عند قبرها، فوقف عليه وقال لها: لا تخافي فأنا عندك، زعماً منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوه وجهله، وتناول حجراً من القبر، فقال: فما رفع رأسه حتى ضُرب ضربة أبطلت حركته، وأرخت مفاصله، وأدلع لسانه، فرجع على حالة قبيحة، وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته، وهو قد رض حنكه، وبصاقه ينزل على صدره، قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلدة عندنا.

النقل، قرآن وسنة، وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء الثقات، وما شهد به الثقات في الواقع، ماذا تريدون أكثر من ذلك أيها الإخوة؟

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم احم بلدنا هذا من الحرام والربا، اللهم واجعل رزق هذا البلد وفيراً يا رب العالمين، اللهم واجعل الطمأنينة والسكينة فيه، وفي سائر بلاد المسلمين، اللهم باعد بين المسلمين وبين أكل الربا، اللهم طهر أموالنا من الربا والحرام، واجعلها حلالاً يا أرحم الراحمين.

1 - رواه البخاري (2767)، ومسلم (89)
2 - رواه أحمد (3799)
3 - رواه مسلم (1598)
4 - رواه مسلم (1584)
5 - رواه الطبراني في الأوسط (7151)
6 - رواه مسلم (1015) 
7 - رواه الطبراني في ا لأوسط (4480)
8 - رواه مسلم (1587)
9 - رواه البخاري (2312)
10 - رواه أبو داود (3688) 
11 - رواه مسلم (2003)
12 - رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594)
13 - رواه الترمذي (3095)