الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فرض الله الصيام وخففه على عباده
هنيئاً لكم -يا عباد الله- بلوغ هذا الشهر، وقد صمتم فيه، وابتدأتم القيام، هذا الصيام الذي ذكره الله في كتابه فرضاً ووجوباً، وهونه على عباده، ولو تأملت -يا عبد الله- آيات الصيام لوجدت ذلك جلياً فيها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، والإيمان هو الذي يخفف مشقة الصيام؛ لأنك إذا آمنت بالذي فرضه وآمنت بثوابه خف عليك، فأنت لا تجوع مجاناً، ولا تعطش مجاناً، وإنما بمقابل عظيم عند رب عظيم، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، تخفيف أيضاً؛ لأنك إذا علمت أن غيرنا من الأمم قد كتب عليهم فشاركونا وشاركناهم في هذه العبادة، فإن معرفة مشاركة الآخرين في الشيء يهونه، وإذا نظرت في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة: 183ففيها تخفيف أيضاً من جهة أن هذا التعب، وهذا الجوع والعطش له فائدة، ليس عبثاً، وفائدته عظيمة، حصول التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، هذه التقوى التي إذا حصلت قُبل العمل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَسورة المائدة: 27، هذه التقوى التي إذا حصلت دخل صاحبها الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَسورة آل عمران: 133، ثم إذا نظرت في قوله: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍتجده يهون عليك الأمر أنها سرعان ما تنقضي، وما تلبث أن تذهب، هل فعلاً نعقل بأن خمسة أيام من رمضان قد ولت بهذه السرعة، وهكذا ستنقضي البقية، ثم عندما ننظر في قوله : فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍتخف القضية من جهة أن هذا الصيام هناك عذر في تركه إذا صارت المشقة فوق العادة: مرض، سفر، فيجوز الإفطار، فتخف المسألة، وهنالك لهذا الإفطار قضاء: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَسورة البقرة: 184، حتى لو قضيت أيام الحر في الشتاء صح ذلك، فما طالبنا أن نقضي أيام الحر في الحر، وإنما قال: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وإذا نظرت في قوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة البقرة: 185صار ذلك خفيفاً عليك أيضاً، وهكذا يكون تدبر القرآن معيناً على أداء الصيام.
عبادة الصيام ولذتها العجيبة
هذه العبودية العظيمة التي فيها لون من العبودية غير العبادات الأخرى، فالصلاة فيها عبوديات للجسد، الزكاة فيها عبودية في إخراج المال، الحج يجمع بينهما، الصيام فيه تعطيش، وتجويع، وترك شهوة، ولا شك أنه بذل وصبر، فهو عمل بالقلب، وترك بالفعل، أنت تترك هذه المرة.
إذا كانت الصلاة فعل، والزكاة إيتاء وإخراج، أفعال، فإن الصيام فيه ترك، فيقول لك: كما تفعل لأجلي اترك لأجلي، التعطيش والتجويع، والبعد عن الشهوة معنى جديد يأتي في السنة؛ لكي يصابر العبد نفسه لله، لكي يتعبد الله بنوع من العبادة خاص، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به[رواه البخاري (5927)، ومسلم (1151)]، من الذي يعلم الحقيقة، قد يفطر بنيته، قد يأكل خفية، من الذي يعمل الحقيقة؟! من الذي يكون معه طيلة وقت الصوم؟! ولذلك صار الصوم فيه من البينية بين العبد والرب ما ليس في غيره، ولذلك قال: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولذلك كان صبراً داخلاً في قوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍسورة الزمر: 10، قال مجاهد: "الصابرون الصائمون".
عباد الله: إن في القلب لذة لا تدرك إلا بالصيام، لا يفلح القلب، ولا يصلح، ولا يمتد، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يفرح إلا بالعبودية، الله خلق العبد هكذا، حتى يشعر القلب باللذة والفرحة، والسرور والامتداد، حتى لا يحتبس، حتى لا يكون في سجن الدنيا لا بد له من عبودية، وهذه من لذة العبادة في رمضان: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، قال أحمد بن حرب رحمه الله: "عبدت الله خمسين سنة، فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت إرضاء الناس حتى قدرت أن أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الآخرة".
وقفات مع العبادة في الحر
أيها المسلمون، أيتها المسلمات: يأتينا رمضان هذا في شدة قيظ وحر، وطول نهار، وربما لا يأتي مثله في الحر إلا بعد كذا وكذا من السنين، والسنوات القادمة يتناقص فيها الحر، والعلم عند الله، لكن هذا الحر الذي نعبد الله تعالى فيه يذكرنا بأشياء، وعندنا من الأجهزة ما يخفف الحرارة، فكيف كان أصحاب محمد ﷺ يعبدون الله في شدة الحر، وهو الذي أعلمهم وأخبرهم بأن شدة الحر من فيح جهنم، ولذلك جعل الله لنا في الدنيا ما نتذكر به الآخرة، من رحمته جعل أشياء في الدنيا تمسنا تذكرنا بيوم القيامة، أشياء في الدنيا تحصل لنا تجعلنا نتدبر ونقول: فكيف بحر النار؟! نعوذ بالله من النار، وكيف كان أصحاب محمد ﷺ يصلون معه في الحر، ليس في مساجدهم هذا التبريد، بل كان أحدهم كما ورد في الحديث يقول: "كنا نصلي مع رسول الله ﷺ في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه".
خرج رجل من السلف إلى الجمعة قبل أن يخرج الخطيب والناس قد اجتمعوا، وسبقوه، فقعد في الشمس فناداه من الظل تعال، تعال، نوسع لك مكاناً، فكره أن يتخطى الناس لذلك المكان، وتلا قول الله تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِسورة لقمان: 17.
وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة كحر هذه الجمعة التي جاءت في عز الظهيرة والصيف، إذا رجع من الجمعة يتفكر في حرها وهو راجع قول الله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًاسورة الفرقان: 24هذه الآية عجيبة؛ لأنها تذكر أن يوم القيامة لا ينتصف إلا وأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، لماذا؟ يوم القيامة يوم طويل، طوله خمسون ألف سنة، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًاسورة المعارج: 1-10، طويل، يوم القيامة طويل، يقوم فيه الناس من القبور لأجل البعث والنشور، والشمس قد دنت على الرؤوس، وجهنم قد قربت من الحاضرين، وازدحم الناس فليس لكل واحد منهم إلا موضع قدميه، فاجتمع على الناس ثلاثة أسباب من الحر: قرب الشمس، ودنو الشمس، تقريب جهنم، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَسورة الفجر: 23، والزحمة.
نسأل الله أن يجعلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
عباد الله: لا ينتصف ذلك اليوم إلا وأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار؛ لأن الله قال: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًاسورة الفرقان: 24، والقيلولة متى تكون؟ وأهل الجنة لا ينامون لكن المقصود الوقت، وليس فعل النوم، وقت القيلولة، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًاسورة الفرقان: 24، ولذلك قال العلماء: "إن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار -يعني مثل هذا الوقت، في مثل هذا اليوم، لكن يوم القيامة طويل- ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قاله ابن مسعود ، وتلا قول الله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًاسورة الفرقان: 24.
نتذكر في هذا الحر -فيما نتذكر- جهاد الصحابة رضوان الله عليهم مع نبيهم ﷺ، لقد خرجوا في عدة غزوات في الحر، ومنها غزوة تبوك، التي تخلف فيها المنافقون، وقالوا: لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّسورة التوبة: 81، ولكن أجابهم ربنا في كتابه بجواب، فقال: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَسورة التوبة: 81، وهكذا خرج النبي ﷺ كما يقوم كعب بن مالك- في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل غزو عدو كثير فجلَّا، للمسلمين أمرهم ليتأهبوا.
الصيام في الحر -أيها المسلمون- كان يتحراه السلف، فكان أبو بكر يصوم في الصيف، ويصوم في الشتاء، ومعاذ عند موته تأسف على فقد ظمأ الهواجر، ما هو ظمأ الهواجر؟ عطش مثل هذه الأيام، ووصى عمر ابنه عبد الله عند موته فقال: عليك بخصال إيمان، وسمى أولها: "الصوم في شدة الحر في الصيف"، وكانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر الشديد.
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابياً، فدعاه إلى الغداء معه، فقال الأعرابي، وهو لا يعرف الحجاج: دعاني من هو خير منك فأجبته، فقال: ومن هو؟ قال: الله تعالى، دعاني إلى الصيام فصمت، قال الحجاج: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم أشد منه حراً، قال: فأفطر وصم غداً، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد، قال: ليس لي ذلك، قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل، ولا تقدر عليه.
قال الأصمعي: كنا في طريق مكة، فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر، ومعه جارية سوداء وصحيفة، ويقول: فيكم كاتب؟ فيكم كاتب؟ فقلنا: نعم، عندنا من يكتب، الأعرابي لا يكتب، وحضر غداؤنا، فقلنا: لو دخلت معنا، وأصبت من الطعام؟ فقال: إني صائم، قلنا: في هذا الحر، وشدة الصحراء؟ فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون، ولا أكون فيها، ولا أحب أن أُغبن أيامي، ما عندي إلا هذا العمر، هذا الوقت، هذه الأيام، لا قبل عندما لم أكن موجوداً، ولا بعد عندما أكون قد رحلت، ثم نبذ إلينا الصحيفة، وقال: اكتب فيها، ولا تزيدن حرفاً، هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكُلابي، أعتق جارية له سوداء يقال لها: لؤلؤة، ابتغاء وجه الله تعالى، وجواز العقبة -أي عقبة؟! قال الله في سورة البلد: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍسورة البلد: 11-16، العقبة عقبة النار، هذه شديدة كؤود، يستعان على عبورها بعتق رقبة، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍيتيماً أو مسكيناً- "اكتب: وإنه لا سبيل له عليها إلا سبيل الولاء، المنة لله عليها وعليه واحدة" يعني ما لي فضل -يقول-، مع أنه معتق، يقول: "اكتب: المنة لله عليها وعليه واحدة"، قال الأصمعي: فحدثت بها الرشيد هارون، فأمر بإعتاق ألف من عبيده، ويكتب مع كل واحد مثل هذا الكتاب، لكن ذاك الأعرابي ربما لا يملك غيرها من الدنيا.
أيها المسلمون، يا عباد الله: هذا الحر يذكرنا بأشياء كثيرة، ومن ذلك سُقيا الماء، (أفضل الصدقة) -كما قال ﷺ: سقي الماء[رواه النسائي (3664)]، وإذا كان الله قد غفر لرجل سقى كلباً يلهث من العطش فما بالكم بمن يسقي العباد! فما بالكم بمن يسقي ويطعم الصائمين عند إفطارهم! وإن من أسباب دخول الجنة إطعام الطعام، فهذا الذي يدرك به الظل الظليل، فتذكر -يا عبد الله- الأعمال الصالحة في أيام الحر التي تدخلك يوم القيامة ظلاً ظليلاً، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، عذاب الحر الشديد، وندخلهم ظلاً ظليلاً، وتذكر الأعمال التي تجعلك في ظل العرش يوم لا ظل إلا ذاك الظل، فإنها تنفع في تذكرها الآن في الحر، وتدفع إلى التشبه والأخذ بها، وتذكر باب الريان، وفضل الله على الصائمين، وتأمل في اسم ذاك الباب، الريان، من الرِّي، وهو الارتواء الكامل، الريان، معنىً مناسب، واسم مناسب للصائمين، فكما عطشوا لله، وجاعوا، فكذلك جعل لهم هذا الباب الذي من دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.
ولماذا اشتق له الاسم الارتواء، وليس الشبع؟ قالوا: لأن العطش في الصيام أشد على النفس من الجوع.
اللهم إنا نسألك أن تدخلنا الجنة يا رب العالمين، أعتق رقابنا من النار، ومنَّ علينا يا غفار.
اللهم اجعلنا ممن يدخل جنة الفردوس الأعلى بغير حساب ولا عذاب، يا وهاب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخبطة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، خلق السماوات والأرضين، يفعل ما يشاء، وهو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، ومصطفاه من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وذريته الطيبين، وأصحابه وخلفائه الميامين، وأزواجه الطاهرات والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشهد أنه رسول الله حقاً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، أوردنا حوضه، وارزقنا شفاعته واجمعنا به في جنات النعيم.
قيام رمضان
عباد الله: كما أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً يغفر له ما تقدم من ذنبه، كذلك جعل لنا ربنا الكريم عبادة أخرى من قام بها يغفر له ما تقدم من ذنبه ألا وهي القيام، من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري (37)، ومسلم (759)]، إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام[رواه الترمذي (1984)]، وهكذا يمكن أن يطيب كلامك في النهار والليل، وتطعم الطعام في إفطار الصائمين، وتسحيرهم، وتديم الصيام في شهرك هذا، وتوالي، وتصلي بالليل، هذه الصلاة العظيمة صلاة التراويح، كانوا يستريحون بعد كل ركعتين أو أربع من طول القيام، وقد جمعهم عمر ، فكانوا من طول القيام يعتمدون على العصي.
هذه الليالي المباركة ليالي رمضان، التي كان النبي ﷺ يوقظ أهله من أجلها، ويحرص على ذلك، والنساء يخرجن بالحجاب الكامل لا يُرى منهن شيء بلا طيب، ولا زينة حتى تكون في مرضاة الله خرجت، وفي أجره وثوابه رجعت، هذه الركعات، لم يكن نبينا ﷺ يزيد على إحدى عشرة ركعة، ولكن لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وما فيهن من ذكر الله وعبادته، يشرع دعاء الاستفتاح في كل ركعتين من التراويح، وليس هنالك قدر معين، فيقرأ الإمام ما تيسر، وإذا ختم طيب، فإذا لم يطق الناس وراءه ذلك صلى بما تيسر.
أمور تعين على قيام الليل
وكذلك فإن هناك أسباباً تعين على القيام: ألا يكثر من الطعام، وألا يترك القيلولة، وأن لا يرتكب الأوزار.
سأل أحد الناس رجلاً من السلف: ما الذي يعينني على قيام الليل؟ قال: "اترك معصيته بالنهار؛ وهو يقيمك بين يديه في الليل"، وسلامة القلب من الأحقاد، والخوف من الله، وقصر الأمل، ومعرفة فضل قيام الله، وحب الله كلها تعين.
والدعاء وله آداب: الإخلاص لله تعالى، وسؤاله بأسمائه الحسنى، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على محمد ﷺ، ورفع اليدين، واليقين على الله بالإجابة، والإلحاح في الدعاء، والجزم فيه، لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، اللهم اغفر لي اللهم ارحمني؛ فإن الله لا مكره له[رواه البخاري (6339)].
عاشراً: الاعتراف بالذنب، وكذلك التضرع والخشوع والرغبة، ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًسورة الأعراف: 55، ولذلك فليس من الأدب في الدعاء المبالغة في رفع الصوت به والصياح، فإن الله قال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًسورة الأعراف: 55، وقال: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَاسورة الإسراء: 110، وأيضاً يتحرى الأدعية المأثورة، ويبتعد عن المخترعات، وخصوصاً أن فيها الكثير من المحاذير، فيقول مثلاً: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى قوله: ..وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت[رواه الترمذي (464)] هذا الدعاء الوحيد المعروف في القنوت، علمه النبي ﷺ للحسن بن علي، ولا بأس أن يأتي بعده بأدعية أخرى دون مبالغة في التطويل، ولا تكلُّف في السجع، ولا أيضاً ذكر تفاصيل ليست من السنة، ولذلك لما رأى أحد الصحابة ابنه يدعو ويقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، و..و.. وحريرها، وأنهار، وغرفها، وحورها، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وغساقها ويحمومها، وحميمها، قال: يا بني "لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله ﷺم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَسورة الأعراف: 55، وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بكم من النار، وما قرب إليها من قول وعمل" [رواه أحمد (1486)] يعني إذا سألت الله الجنة فأعطاكها أعطاكها بما فيها، لا تحتاج إلى ذكر التفاصيل، وإذا وقاك من النار وقاك من النار وما فيها.
وكذلك فإن المأمومين يؤمنون في الوقت الصحيح، ولما دعا بعض السلف بالناس، فقال: اللهم قحط المطر، فقالوا: آمين، فبعد الصلاة، قال: "يا أيها الناس عجلتم علي"، هلا انتظرتموني أطلب، ما جاء وقت الطلب، وآمين تقال عند الطلب، اللهم قحط المطر، هذا وصف الحال، وعندما يقول: اسقنا، هذا الطلب.
ولا بد أن يكون المأموم فقيهاً في قوله: آمين، وذكره التسبيح في مواضعه.
اللهم اغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا أرحم الراحمين، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، ضاعف لنا الحسنات، وكفر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وارزقنا الجنات، وأعذنا من النيران، يا أرحم الراحمين، يا رحمن.
اللهم عجل فرجنا وفرج المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم إن من الظلمة من لا يرحم عبادك في هذا الحر فيصليهم حراً آخر، اللهم إنا نسألك أن تقمعهم وأن تقصم ظهورهم، وأن تنقذ المسلمين منهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، وأن تجعلنا من الركع السجود، يا رحيم يا ودود.
اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا، لا تحرمنا فضلك بمعصيتنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، أدخلنا الجنة مع الأبرار، أدخلنا الجنة مع الأبرار، وارزقنا الفردوس الأعلى.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا رحيم يا غفور.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إليك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.