الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فرحة الصائمين بعيد الفطر
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي منَّ علينا بإتمام شهرنا، فتلك النعمة والله، فاحمدوا ربكم يا عباد الله على إتمام شهركم، وقد قال لكم ربكم: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْسورة البقرة185. فها أنتم أكملتم العدة، وكبرتم الله، وبقي علينا الشكر يا عباد الله، فعلاً ما أسرع تلك الأيام لقد انقضت ورحلت والله، فهل علمتم يا عباد الله كيف ذهبت؟ هل أحسستم كيف انقضت وتولت؟
صدق الله الذي قال: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍسورة البقرة184. جمع قلة، مع أنه شهر كامل، تسع وعشرون، أو ثلاثون، ولكن والله ذهب مثل الضيف، وولى مسرعاً، ولكن هنيئاً لكم يا عباد الله، لقد صمتم شهركم، هنيئاً لكم وقد قمتم لياليه، هنيئاً لكم وقد بلغتم آخره، وعدد قد مات ولم يتمكنوا من بلوغه، وآخرون ماتوا أثناءه ولم يتمكنوا من إكماله، فكل واحد منا من ذكر أو أنثى عليه نعمة كبيرة من الله.
يا مسلم: يا مسلمة: للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وها نحن اليوم قد أفطرنا، وأنهينا شهرنا، أفليست هذه فرحة كبيرة؟ هذه الفرحة التي يأتي فيها عيدنا، ليس كأعياد أهل الأرض، أعيادهم شركية، وضلالية بدعية، موسم حصاد، أو اعتدال جو، أو مرور سنة من سنواتهم، أما نحن المسلمون فإن الله أعطانا هذين العيدين، بمناسبتين عظيمتين، عيد الفطر في إتمام صومنا، وعيد الأضحى بعد عرفة، ومزدلفة ومنى، وفيه ذبح الأضحية، أعيادنا دين، أعيادنا عبادة، أعيادنا ذكر وتكبير، أعيادنا صلاة، أعيادنا فرحة، أعيادنا صلة، أعيادنا تزاور، أعيادنا محبة، أعيادنا توسعة على العيال، وفي المباحات فرصة بعد هذه الطاعات.
يا عباد الله: إن هذا العيد فرصة حقيقية للفرحة الشرعية، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْسورة يونس58. فافرح يا مسلم، وتذكر معنى العيد الحقيقي.
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك | لا أنت تجر به مستكبراً حللك |
كم من جديد ثياب دينه خلق | تكاد تلعنه الأقطار حيث سلك |
ومن مرقع الأطمار ذي ورع | بكت عليه السماء والأرض حين هلك |
كل يوم يمر بغير معصية لله فهو فرحة لك، العيد العودة للدين، العيد يذكرنا بكمال الدين، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًاسورة المائدة3. العيد فرحة بالنعمة، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِسورة الأعراف32. العيد فسحة، حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام: لكل قوم عيداً وهذا عيدنا، إني أرسلت بحنيفية سمحة[رواه أحمد25960]. هذه عبارات نبوية قالها في العيد، لما جاءهم في يثرب ولهم يومان يلعبون فيهما، فسألهم عنهما، ثم قال: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر[رواه أبو داود1134].
أعيادنا عبادة لله
أعيادنا والحمد لله عبادة، أعيادنا تكبير وصلاة وصدقة مستحبة في هذا اليوم، والدليل أنه ﷺ لما خطب العيد جاء النساء وقال: تصدقن[رواه البخاري304]. فبسط بلال ثوبه، ثم قال: "هلم لكن فداءٌ أبي وأمي"، فجعلن يلقين الحلي في ثوب بلال، هذا يوم صدقات.
وزكاة الفطر هذه الصدقة العظيمة، والعبادة، والطهرة، والطعمة للمساكين، يا مسلم بالله عليك لا تنس أقاربك، بالله عليك انس الأحقاد، بالله عليك لا تنس إخوانك في الله، بالله عليك انس الضغائن، هذه فرصة لصلة الرحم، هذه فرصة للتزاور، لإعادة العلاقات، كل واحد عنده علاقة انقطعت مع قريب أو صديق أو مسلم فليتخذ من هذا اليوم فرصة للصلة والعودة، أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، العيدية ليست للأولاد فقط، للأيتام، للأرامل، للعمال، للمساكين، لهم كذلك عندنا عيديات.
تهنئتنا بالعيد بأي كلام طيب، والصحابة كانوا يقولون: تقبل الله منا ومنك. يا للعادات الطيبة، يا للتجمل، يا للتزين، يا لمحبة أن يرى الله أثر نعمته على عبده، لكن لا للمعاصي، لا للشهوات، إنها تذهب بالنعم يا عباد الله، فكان بعضهم عنده نعمة كبيرة لدرجة أن بناته، لدرجة أن زوجته مشت في الكافور بدلاً من الطين، ودارت الأيام وسلبت النعمة، وأخذ أسيراً وأخذ بناته، فأطل عليهن وهن في القيود، فقال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً | فساءك العيد في أغمات مأسوراً |
ترى بناتك في الأطمار جائعة | يغزلن للناس ما يملكن قطميراً |
برزن نحوك للتسليم خاشعة | أبصارهن حسيرات مكاسيراً |
يطأن في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً |
يا أمة محمد ﷺ هذا يوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا يوم إقامة الدين، هذا يوم الفطر، هذا يوم العيد، هذا يذكرنا بالاستمرار في العبادة، ما انتهت العبادة بنهاية رمضان، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُسورة الحجر99. ولذلك فإنا نعاهد الله في اجتماعنا هذا، في عيدنا هذا أن نستمر على الطاعات، لا أن نرجع إلى المعاصي بعد رمضان، بل سنستمر، أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلَّ[رواه مسلم2818]. ولن نسرف يا عباد الله.
اللهم بارك لنا فيما آتيتنا، واجعله عوناً لنا على طاعتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم ارزقنا حبك وحب كل عمل يقربنا إليك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وأصحابه وخلفائه الميامين وأزواجه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الفرحة العظيمة يوم نلقى الله بالأعمال الصالحة، يقول الله: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، قالوا: يا رب، لما يقول لهم: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. يقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً[رواه البخاري6549، ومسلم2829].
أحوال إخواننا المسلمين
عباد الله: نتذكر في عيدنا إخواننا في الشام، وفي بورما، وإخواننا في خوف في مصر، وفي الأرض نسأل الله أن يزيل المحنة، وأن ينفس الكربة، وأن يرفع البأس، وأن يذهب الشدة، إنه على كل شيء قدير.
يا عباد الله: إن لنا إخواناً وأطفالاً منكوبين، لن ننساهم في عيدنا هذا، ولن تلهينا الفرحة ولا ما في العيد من المناسبات، لن ننسى إخواننا، سنذكر هؤلاء الذين يقتلون ظلماً، سنذكر الثكالى والأيتام.
العيد أقبل تسعد الأطفال ما حملت يداه | لعباً وأثواباً وإنشاداً تضج به الشفاه |
لكن طفل الشام يتم إنهم قتلوا أباه | فيعود في أهدابه دمع وفي شفتيه آه |
يا أمة الجسد الواحد لن تنسوا إخوانكم، أليس كذلك؟ ولم تنسوهم والحمد لله فيما مضى، ولكن زيادة في الإعطاء، زيادة في البذل، نسأل الله أن يحقن دماء المسلمين، نسأل الله أن ينشر الأمن والإيمان على المسلمين، نسأل الله أن يجعل بلاد المسلمين عامرة بذكره، محكِّمة لشرعه، نسأله أن يبسط عليها الرخاء والأمن والطمأنينة، إننا والله نحس بإحساس إخواننا.
تذوب حشاشات العواصم حسرة | إذا دميت في كف بغداد إصبع |
وإن برد أنَّت لخطبٍ مياهه | لسالت بوادِ النيل للنيل أدمع |
ولو مس رضوى عاصف الريح مرة | لباتت له أكبادنا تتقطع |
انظروا إلى ابن عباس ماذا قال لما شتمه شخص، قال: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال: "إني لآتِ على الآية من كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم –يعني القاضي- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به من سائمة.
انظروا إلى ابن عباس ماذا قال لما شتمه شخص، قال: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال: "إني لآتِ على الآية من كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم –يعني القاضي- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به من سائمة.
فنحن والله نفرح للخير يصيب المسلمين، ونحزن لكل ضرٍ يصيبهم، وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِسورة البقرة110.
مواصلة أعمال الخير بعد رمضان
يا عباد الله: رمضان سوق قام ثم انفض، ربح من ربح، نسأل الله تعالى أن يجعل بضاعتنا رابحة، نسأل الله أن يتقبل منا، وأن يتوب علينا، وأن يوفقنا للمزيد، اللهم اغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا أرحم الراحمين.
يا مسلم تذكر أن الله في آيات الصيام قال: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّسورة البقرة187. هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ يعني: ستر وغطاء، وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ تعفها، مثلما الثوب يحمي صاحبه من الحر والبرد، ويستر عورته، أنت تسترها وتعفها، وهي كذلك تسترك وتعفك، تذكروا العلاقات الزوجية جيداً، اصطلحوا بين الأزواج والزوجات.
يا عباد الله: العيد فرصة لإصلاح العلاقات الاجتماعية، يا مسلم عاشروهن بالمعروف، أنفق عليها، وسع عليها، أسكنوهن، أنفقوا عليهن كما أمر الله، عاشروهن بالمعروف، وأنتِ يا امرأة، أنتِ يا زوجة، أنتِ يا أمة الله أطيعيه، لا تدخلي بيته إلا من يرضى، لا تنفقي من ماله إلا بإذن، لا تخرجي إلا بإذن، ليني له، أسلسي القياد للزوج، لا تتمردي عليه، لا تكوني ناشزاً.
عباد الله: إنها والله الفرصة العظيمة لنستمر في الطاعة، ونعاهد الله على ذلك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تكتبنا في عتقائك من النار، اللهم اجعل الجنة مثوانا، وأورثنا الفردوس الأعلى، وأدخلنا الجنة دون حساب ولا عذاب، يا كريم يا وهاب، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا منان، يا ذا الفضل العظيم تفضل على هؤلاء الجمع بعتقهم من النار، وإخراجهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، لا تفرق هذا الجمع إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي متقبل مشكور، يا ودود يا غفور، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اجعلنا إخوة متحابين، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، اسلل سخائم صدورنا، اسلل سخائم صدورنا، اسلل سخائم صدورنا، واختم بالصالحات أعمالنا، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.