الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب 70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الصيام من أعظم أنواع الصبر
أيها الإخوة المسلمون: قال الله تعالى في محكم تنزيله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍسورة الزمر 10. ومن أعظم أنواع الصبر أيها الإخوة: الصبر في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان المبارك، الذي يصبر فيه الإنسان على مرضاة ربه، بامتناعه عن الأكل والشرب، وجميع أنواع اللذات، ابتغاء وجه ربه جل وعلا، لا يريد به رياءً للناس، ولا شكوراً منهم، ولا جزاءً، ولذلك أيها الإخوة: كان الصوم من أعظم أنواع الصبر، التي يوفى بها الإنسان الصائم يوم القيامة، ولذلك أوصى رسول الله ﷺ أصحابه بالصوم فقال لأحدهم وهو أبو أمامة : عليك بالصوم فإنه لا عدل له[رواه النسائي 2222]. وجعل الله من علامات حسن الخاتمة أن يموت الإنسان وهو صائم، فإن من مات وهو صائم كان من أهل الجنة، إذا كان صيامه لأجل الله ، وقد قال حذيفة فيما يرويه عن رسول الله ﷺ أنه قال: من ختم له بصيام يوم دخل الجنة[رواه البزار 2854]. وهو حديث صحيح، وكانت مضاعفة الأجر في الصيام تسبب أجر أشهر كثيرة، فقال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: شهر الصبر– أي رمضان – وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر[رواه النسائي 2408]. وقال ﷺ: صم شهر الصبر رمضان[رواه أحمد 20323]. وقال : صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر وإفطاره[رواه أحمد 22537].
من فوائد الصيام ذهاب الحقد والحسد من الصدور
وقال ﷺ مبيناً فائدة من فوائد الصوم العظيمة: صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن بوحر الصدر[رواه البزار 688]. حديث صحيح، رواه البزار عن ابن عباس مرفوعاً.
إذًا: أيها الإخوة: في صدور كثير من الناس وحر، وضغائن، وأحقاد، وحسد، ما الذي يذهب هذه الأشياء؟ ما الذي يذهب آفات الصدر، وآفات القلب؟ إنه الصيام لله رب العالمين، يذهبن وحر الصدر، فالمحافظة على هذه الشعيرة العظيمة تطهر هذا الصدر، تطهر صدر الإنسان من آفات طالما تساءل الناس كيف يتخلص منها، وأوضح رسول الله ﷺ أجر صوم شهر رمضان فقال: من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيام السنة[رواه أحمد 22412]. رواه الإمام أحمد عن ثوبان، وهو حديث صحيح؛ لأن رسول الله ﷺ قال: جعل الله الحسنة بعشر فشهر بعشرة أشهر[رواه النسائي في الكبرى 2874]. ما دام الحسنة بعشرة أمثالها فيكون صوم الشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الشهر تمام السنة، ولذلك أيها الإخوة كان الصوم جُنة من جميع أنواع المفاسد، قال ﷺ: الصوم جُنة[رواه البخاري 7492]. وفي رواية: جُنة من عذاب الله[رواه أحمد 17909]. وفي رواية: يستجن بها العبد من النا [رواه أحمد 14669]. وفي وراية: كجنة أحدكم من القتال[رواه ابن ماجه 1639]. وفي رواية: وحصن حصين من النار [رواه أحمد 9225]. وفي رواية: الصيام جُنة، وهو حصن من حصون المؤمن وكل عمل لصاحبه إلا الصيام يقول الله: الصوم لي وأنا أجزي به[رواه الطبراني في الكبير 141]. وكلها روايات صحيحة عن رسول الله ﷺ، فهو إذن أيها الإخوة أي الصيام جنة من النار، وجنة من الشهوات، وجنة من الآثام، وجنة من السيئات، ووقاية من الشيطان، ووقاية من عذاب الله، ووقاية من آفات الصدر والقلب، فهو وقاية للعبد من جميع الشرور؛ ولذلك فإن الصيام يأتي يوم القيامة كما قال ﷺ: يشفع صاحبه فيه فيقول: أي رب منعته الطعام والشهوات في النهار، فشفعني فيه، فيشفع فيه[رواه أحمد 6626]. ولذلك كان للصائمين أيضاً باب خاص يدخلون منه في الجنة لا يدخل منه غيرهم، وهو باب الريان؛ لقوله ﷺ: إن للصائمين باباً في الجنة يقال له الريان، لا يدخل منه غيرهم، إذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل منه شرب، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً[رواه أحمد 22842]. حديث صحيح؛ ولذلك أيها الإخوة إذا أغلق هذا الباب لا يدخل منه أحد غير الصائمين، ودعوة الصائم مستجابة، قال ﷺ: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم[رواه البيهقي في شعب الإيمان 3323]. فلذلك يستحب الإكثار من الدعاء في رمضان؛ لأن دعاء الصائم مقبول.
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
وقال ﷺ في الحديث الصحيح: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعدوا على الشرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن ثم قال: وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة –يعني: في جماعة-كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك[رواه أحمد 17170]. مثل الصيام مثل رجل معه صرة مسك، وهو أنفس أنواع الطيب في عصابة يعني: في جماعة كلهم يجد ريح المسك، وإن خَلوف فم الصائم أو خُلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. حديث صحيح.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الوابل الصيب: "إنما مَثّل ﷺ ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك؛ لأنها مستورة عن العيون، مخبوءة تحت ثيابه، كعادة حامل المسك، وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق، لا تدركه حواسهم، والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب، والفحش، وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم، فإنه ينتفع بمجالسته، ويأمن منه الزور، والكذب، والفجور، والظلم".
وأخبر رسول الله ﷺ بأن ذلك الشيء يكون يوم القيامة؛ لأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال، وموجباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيل الله، الشهيد إذا جرح في سبيل الله يأتي دمه يوم القيامة ريح الدم مثل ريح المسك، وفي حديث الصيام يقول ﷺ أن: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فقال بعض العلماء: أن خلوف فم الصائم أطيب من دم الشهيد، ولكن هذا لا يلزم منه تفضيل الشهادة على الصوم، وإنما يفيد تفضيل الخلوف، هذه الرائحة الكريهة المنبعثة من أفواه الصُيّام لله ، التي يتقزز منها الخلق، ويكاد أحدهم أن يسد أنفه عن شم هذه الرائحة، هذه الرائحة -أيها الإخوة- المستقذرة من العباد أجرها عند الله عظيم، وفضلها عظيم، ومكانتها عظيمة؛ لأنها نتيجة لطاعة من الطاعات، وكما أن هذا اليوم تظهر فيه السرائر، وتبدو على الوجوه وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة دم الكفار وسواهم، فكذلك تظهر فيه طيب رائحة فم الصائم التي عند الناس كريهة، وعند الله محبوبة، وإن الناس قد يكرهون أشياء تكون في الدنيا مذمومة، أو كريهة، وعند الله عظيمة،
فتظهر للعباد يوم القيامة على حقيقتها أطيب من ريح المسك، وقال ﷺ في الحديث العظيم: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه[متفق عليه]. فرح بفطره ليست فرحة الأكّالين والشرّابين الذين يفرحون بموائد الأكل المبسوطة، وإنما هي فرحة، فرحة العبد بإتمام نعمة الله عليه بالصوم، وأنه أباح له ما كان قد حرمه عليه في النهار، هذه هي الفرحة الشرعية، والفرحة الثانية: إذا حضره ملك الموت فرح من ضمن أعماله كلها بنعمة الصيام، وبعمل الصيام الذي كان قد عمله، وقال ﷺ في الحديث الصحيح: قال الله: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام لأجلي، ويدع الشراب لأجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي فاللذة عامة لجميع أنواع اللذات،
وخص منها لذة الزوجة؛ لأنها لذة عظيمة، يمتنع عنها الصائم طاعة لربه جل وعلا مع تعلق قلبه بها ويدع زوجته من أجلي، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك[رواه ابن خزيمة 1897]. وهو حديث صحيح، ولذلك أيها الإخوة: من صام يوماً في سبيل الله زحزحه الله عن النار سبعين خريفاً[رواه الترمذي 1622]. أو في رواية: باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام[رواه النسائي 2254]. وفي رواية: جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض [رواه الترمذي 1624]. وهذه كلها أحاديث صحيحة، ولذلك أيها الإخوة كان المغبون حقاً المغبون الذي تفوته الفرص العظيمة هو الذي يحضره شهر رمضان ثم لا يخرج من هذا الشهر بشيء، فإن رسول الله ﷺ صعد المنبر، فقال: آمين، آمين، آمين قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين، آمين، آمين، قال: إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين[رواه ابن حبان 907]. هذا موسم المغفرة، الذي يفوته هذا الموسم ويلتهي عن طاعة الله، وعبادة الله، فأبعده الله جل وعلا، ولذلك أيها الإخوة كان بعض الناس الذين لا يحسنون الصيام، ويسيئون فيه، ويفطرون قبل موعد الإفطار، لهم عقوبة شديدة من الله ، فعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه يعني: جبل عسير الصعود فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهمالعراقيب التي في أسفل الرجل، التي تعلق منها الذبائح معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم[رواه ابن خزيمة 1986]. يعني: قبل الإفطار، كما أنهم ذاقوا الطعام بأشداقهم قبل المغرب فإنهم تشقق أشداقهم حتى تسيل الدم يوم القيامة.
السحور من سنن الصيام
ومن سنن الصيام أيها الإخوة: السحور، فإنه أكلة البركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح، وزاد: فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين[رواه أحمد 11396]. وأمرنا في الحديث الصحيح أن نشابه الأنبياء، فقال: إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة[رواه أبو داود الطيالسي 2776]. وأخبر بأن من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور، ولذلك قال ﷺ في الحديث الصحيح: يقول الله : إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً[رواه ابن خزيمة 2058]. وكان لا يصلي المغرب حتى يفطر، ولو على شربة ماء، يعني: لا يذهب إلى صلاة المغرب في المسجد حتى يفطر، ولو على شربة ماء، وكان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسى حسوات من ماء.
ولذلك -أيها الإخوة-: يسن للصائم إذا أتى عليه وقت المغرب أن يفطر حالاً، ولا يؤخر الإفطار، فإن كان في الطريق مثلاً ولم يكن عنده شيء يفطر به، فإنه لا يفعل كما يفعل بعض العوام يمصون أصابعهم، وإنما ينوي الفطر بقلبه، فإنه إذا نوى الفطر بقلبه فإنه قد أصبح مفطراً، ولذلك كان الذي ينوي الصيام في النهار ثم ينوي الإفطار في منتصف النهار فهو مفطر وآثم، ويجب عليه قضاء الصوم حتى لو لم يأكل ولم يشرب، فلو أن أحداً مثلاً اتجه إلى مكان الطعام في بيته وهو ناوٍ بأن يأكل ويشرب في منتصف النهار، نهار رمضان، ثم رآه أحد من الناس فخاف وامتنع عن الطعام والشراب إلى المغرب، فإنه آثم ومفطر ويجب عليه أن يقضي هذا اليوم؛ لأن نية الصيام قد انقطعت بنية الإفطار، حتى ولو لم يذق شيئاً؛ لأنه قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[متفق عليه].
أسأل الله أن يرزقنا صيام هذا الشهر وقيامه، وأن يصحح لنا نياتنا وأعمالنا، وصلى الله على محمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من آداب الصيام ترك السباب واللعان وقول الزور
فإنه يحدث أيها الإخوة في كثير من الصائمين أنهم قد يمتنعون عن الطعام والشراب والجماع مثلاً ولكنهم لا يلتزمون بآداب الصيام، في هجر الزور، وقول الزور، والسباب، والشتم، واللعان، والمخاصمة، فتراه يفجر في صيامه على إخوانه المسلمين، فينعتهم بأقبح السباب والشتائم، وهذا لم يفقه آداب الصيام في الإسلام، فإن رسول الله ﷺ أخبر أن: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [رواه البخاري 1903].
أحكام صلاة التراويح
وكذلك -أيها الإخوة- من الأشياء المستحبة في الصيام: قيام هذا الشهر العظيم، قيام رمضان؛ لأن الحديث ورد بلفظين: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[متفق عليه]. وفي رواية أخرى صحيحة: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[متفق عليه]. ولذلك أيها الإخوة كانت صلاة التراويح، صلاة القيام في رمضان من أعظم القربات إلى الله ، وهي قضية حدث فيها تلاعب من كثير من المسلمين، فتراهم لا يحسنون الصلاة، ويستعجلون بها، وبعض الأئمة يستعجل بالقراءة فيفوت على الناس الخشوع في القراءة، ولما حصل سؤال من كثير من الإخوة عن قضية صلاة التراويح، فأنا أذكر لكم نبذة مختصرة عن سنة رسول الله ﷺ في صلاة التراويح، لم سميت بهذا الاسم؟ وكم عدد ركعاتها؟ وكيف كان رسول الله ﷺ يصليها؟ وما حكم الزيادة عليها بعد الانتهاء منها؟
فأقول وبالله التوفيق: أن التراويح -أيها الإخوة- سميت بهذا الاسم؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم، والسلف الصالح كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات، فإذا صلوا أربع ركعات استراحوا قليلاً، ثم يصلون أربع ركعات، ثم يستريحون، ثم يشرعون ويكملون، فمن أجل هذه الراحة بعد كل أربع ركعات سميت هذه الصلاة بصلاة التراويح، وهي قيام الليل، غير أنها خصت بهذا الاسم في رمضان فقط، وإلا فهي نوع من القيام، وأما عدد ركعاتها فما ثبت في سنة رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام البخاري، وكتابه هو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وكذلك الإمام مسلم في صحيحه، وهو الكتاب الذي يلي كتاب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الصحة: أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن قيام رسول الله ﷺ فقالت: "كان ﷺ لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن".[متفق عليه]. فكان ﷺ يصلي في رمضان إحدى عشرة ركعة، يحسنها، ويزينها، ويطيل القيام فيها، والركوع، والسجود، والرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين، ويدعو الله كثيراً في الجلسة في التشهد الأخير، كان رسول الله ﷺ يزين هذه الإحدى عشرة ركعة ويحسنها؛ لأنها قربة من الله ، وقد تابع صحابة رسول الله ﷺ نبيهم على هذه السنة، فتابعه عليها الصحابة بعد موته، وما ورد في موطأ مالك بإسناد صحيح عن محمد بن يوسف وهو ثقة ثبت، عن السائب بن يزيد وهو أحد الصحابة أن عمر بن الخطاب : أمر أُبي بن كعب، وتميماً الداري، وهما من القرّاء، أن يقوما بالناس، ويصليا بهم أحد عشرة ركعة، وهذا حديث صحيح في موطأ الإمام مالك يبين بأن عمر تابع نبيه ، وإمامه ، في عدد الركعات، وهي إحدى عشرة ركعة، وما نقل عن عمر بأنه صلى ثلاثاً وعشرين، فهو حديث فيه كلام لأهل العلم، بعضهم ضعفه، ولماذا نلجأ إلى هذا الحديث عن عمر، وهناك الحديث الذي في موطأ مالك بأنه أمر الناس أن يصلوا إحدى عشرة ركعة، ثم أيها الإخوة على فرض أن عمر صلى ثلاثاً وعشرين، لنسلم أن عمر صلى ثلاثاً وعشرين، نحن نتبع من؟ نتبع الرسول ﷺ أم غيره؟ ابن عباس رحمه الله لما قال له بعض الصحابة: أبو بكر يقول كذا، وعمر يقول كذا، وهو يعلّم الناس حديث رسول الله ﷺ، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، هذا ابن عباس حبر الأمة وفقيهها يقول: أقول لكم قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، مع عظم أبو بكر وعمر، ومع شرف أبو بكر وعمر، ومع عظم أبو بكر وعمر إلا أن ابن عباس لم يرض أن يتقدم على قول رسول الله ﷺ أحداً من الناس، وأنت يا أخي المسلم إذا فتحت بعض كتب الفقه تجد أن بعض الفقهاء يقول: يصلي سبع عشرة ركعة، وبعضهم يقول: تسع عشرة ركعة، وبعضهم يقول: ثلاثاً وعشرين ركعة، وبعضهم يقول: ستاً وثلاثين ركعة، وبعضهم يوصلها إلى الأربعين ركعة، أقوال مختلفة، وعند الاختلاف أيها الإخوة نلجأ إلى مَن؟ مَن علمنا الله أن نلجأ إليه عند الاختلاف؟ مَن الذي علمنا الله أن نلجأ إليه عند الاختلاف؟ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى من؟ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِسورة النساء 59يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُسورة الأنفال 20. لذلك أيها الإخوة الذي لا يتابع الرسول ﷺ لم يفقه معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله تعني إخلاص العمل لله، أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: يجب أن تتابع الرسول ﷺ في جميع ما أمرك به،
وإلا عندما تعلم أن الرسول فعل كذا ثم تعمل بخلاف ما فعل الرسول، هل تكون كلمة أشهد أن محمداً رسول الله شهادة صحيحة؟ ولذلك أيها الإخوة ينبغي الالتزام بسنة الرسول ﷺ، ولكن هناك ملاحظة في هذا المجال وهي: بأن من صلى أكثر من أحد عشرة ركعة لا يجوز أن يقال عنه: ضال، ولا أن يقال عنه: فاسق، ولا أن يُشتم، بل إنه يُنصح بالموعظة الحسنة، نعم نقول له: هذه سنة نبيك ﷺ فاتبعها، وهو خير لك، والحمد لله أن الله أيها الإخوة ما علق الاتباع بشخص، ولا مسجد، ولا شيخ، وإنما علقه بالرسول ﷺ: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي سورة آل عمران 31. الرسول ﷺ، ما قال: اتبعوا الشيخ الفلاني، ولا اتبعوا المسجد الفلاني، ولا اتبعوا الإمام الفلاني، وإنما قال: أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ يا محمد فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا سورة النساء 65. هذه هي الطاعة الكاملة للرسول ﷺ، وهو الذي أمرنا الله به، فما حكم – إذا علمت هذا يا أخي المسلم – فما حكم من يزيد عليها؟ فنقول: الذي يصلي مع المسلمين في مسجد جماعة إحدى عشرة ركعة، ثم يرجع إلى بيته فيحس مثلاً بالنشاط، أو ينام ثم يستيقظ قبل الفجر، ويحب أن يصلي فهل في صلاته شيء؟ الجواب: لا، والحمد لله، فإن من انصرف من صلاته مع المسلمين وذهب إلى بيته، فإنه يجوز له أن يستزيد من الخير، يستزيد من الخير، فيصلي مثنى مثنى، ولا يعيد صلاة الوتر؛ لأن صلاة الوتر لا تعاد، يعني بعد ما ينتهي من أحد عشرة ركعة مع المسلمين في المسجد ثم يذهب إلى بيته، ويريد أن يصلي يزيد؛ لأنه ثبت أن رسول الله ﷺ صلى ركعتين بعد الوتر، فلأنه ثبت عنه هذا فإنه من السنة للإنسان إذا أراد أن يصلي أن يزيد، ولا حرج في الزيادة في البيت عند الشعور بالنشاط، وبعد الفراغ من العبادة مع جماعة المسلمين، زد على ذلك أيها الأخ المسلم بأن الزيادة على ما سنه ﷺ يسبب سرعة في الصلاة، والعجلة فيها، وعدم التفقه فيما يُقرأ، وكثيرٌ من الناس في هذه الأيام ليسوا على مستوى إيمان الصحابة، فهم يرغبون في أن يحضروا صلاتهم، فإنهم لا يصبرون على الزيادة على العشر ركعات، فيخرجون من المساجد، أو تتفرق الجماعات، فلذلك كان الأحوط، والسنة، والصحيح التمسك بهدي الرسول ﷺ.
وكذلك أيها الإخوة: اعلموا بأن ختم القرآن لا يجب في رمضان، ومن ظن بأنه يجب عليه أن يختم القرآن، وأنه يأثم لو لم يختم فهو إنسان لا يعرف سنة الرسول ﷺ، ولذلك تجد بعض الناس من حرصهم على ختم القرآن يسرعون في قراءته إسراعاً شديداً يخل بمقصوده، وتجد المأمومين لا يفقهون شيئاً مما يُقرأ، فلأن يقرأ الإمام بتؤدة، وترسل، وتجويد، حتى لو لم يختم القرآن هو أفضل من أن يهذه كهذ الشعر، أو ينثره كنثر الدقل – وهو التمر الرديء – ويسرع به إسراعاً، ويسرع بالركوع، ويسرع في السجود، ويسرع في القيام والجلوس، فلا يدع للمأمومين الفرصة بالخشوع، وبذلك تفوت الفائدة من صلاة التراويح أو صلاة القيام.
وفقنا الله وإياكم أجمعين لاتباع سنته ﷺ، والعمل بها ظاهراً وباطناً.
كما أنه أيها الإخوة في رمضان فرصة للتائبين إلى الله بالرجوع، وفرصة للذين يعلمون الناس الإسلام بأن يأخذوا هذه الشحنة التي تولدت في نفوس الصائمين فيكملونها، ويجعلون هؤلاء الذين اقتربوا من الله في رمضان يستمرون على قربهم بعد رمضان، فإن هذا الموسم الذي تصفد فيه الشياطين نلاحظ فعلاً بأن الناس يقتربون فيه لربهم ، لذا لا بد لانتهاز الفرصة من الجميع، في التائب أن يتوب، وفي المذنب أن يدع الذنب، وفي الداعية إلى الله أن يقطع مشواراً أطول مع هؤلاء، ويستغل هذه الفرصة في إقبال الناس على العبادة، فيزيدهم من العطاء، ويزيدهم من العلم، ويزيدهم من الدعوة إلى الله ، فبادروا رحمكم الله إلى اغتنام مواسم الخيرات، وعدم تضييعها.
وأسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين في هذا الشهر وغيره، وأن ينصر عباده الموحدين المجاهدين، وأن يرزق التائبين التوبة، والمذنبين الاستغفار والإقلاع عن الذنوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.