الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السنن الإلهية
عباد الله: لقد خلق الله هذا الكون، ووضع فيه نواميس، ولله تعالى عادات في خلقه، وسنن لا تتخلف، إنها سنن تدل على حكمته وعلمه سبحانه، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُسورة الأنعام18،وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ سورة يوسف21، وهذه السنن الإلهية التي جعلها في خلقه هي من قدره الجاري النافذ كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍسورة القمر49، وعندما تتعرف نفسك على سنن الله في خلقه، فإن نفسك تطمئن؛ لأنك تعلم بأن هناك لله قواعد يسير العالم وفقها، والخلق بناءً عليها، ليس هنالك فوضى، ولا اضطراب في خلقه سبحانه.
خصائص السنن الإلهية
وهذه السنن الإلهية تتصف:
أولاً: بالثبات وعدم التغير، كما قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًاسورة الأحزاب62، فهو نظام محكم.
ثانياً: بالشمول والعموم، فهو جارٍ لا يتخلف على الجميع كما قال : وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ سورة الأنفال19، وكما قال : قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَسورة الأنفال38.
ثالثاً: أن سننه الجارية في خلقه من حكمته وعدله، كما قال : وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سورة الأنعام115، ومن عدله أنه قال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَسورة القلم35- 36، وهذه السنن أمر واقع يحسه الناس، وليست غيباً لا يشعرون به، والله جعل التغير مثلاً على قاعدة إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْسورة الرعد11، فهو أمر ظاهر محسوس كما قال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ سورة الروم41.
رابعاً: أن هذه السنن نافذة متحققة كما قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ سورة يونس107.
وأيضاً: فإنها سنن إجبارية، بمعنى أن المخلوقات لا بد أن تنفذ فيها طوعاً أو كرهاً، وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًاسورة الرعد15.
وسننه تعالى كثيرة، والمسلم لا بد أن يتفطن لهذا خصوصاً في هذه الأحداث الجارية، فالآن تعتري العالم من حولنا تغيرات متعددة، وتقع فيه أحداث كثيرة، وهناك الآن تطورات، فعلى أي شيء تقع هذه التطورات، وعندما يقول الناس: إن هذه الأحداث قد فاجأت العالم، إنها لم تكن بالحسبان، إنها وإنها، هي لم تكن في الحسبان عند أهل الدنيا، لكن الذي يدرس السنن الإلهية لا تكون هذه مفاجئة له من جهة الأصل والعموم، وإنما تكون مفاجئة من جهة حصول الآثار في يوم معين، ولكن المتوقع عند أهل الإيمان متوقع، مبني على هذه السنن المذكورة في الآيات.
أمثلة لسنن الله
- يقول الله تعالى في سنة التغيير: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْسورة الرعد11، فإذا غيروا غير سواءً إلى الخير، أو إلى الشر.
- سنة أخرى وهي سنة المداولة، يقول الله تعالى: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ سورة آل عمران140، فلا تبقى لواحد، وإنما تنتقل من هذا إلى هذا، من هؤلاء إلى هؤلاء، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِسورة آل عمران140.
- سنة التدافع، والله تعالى لا يبقي الناس على ما هم عليه، لا يبقي الدنيا على حال واحدة، وإنما يدفع بعض الناس ببعضهم الآخر، يعني يدفع أهل الباطل بأهل الحق، يدفع أهل البدعة بأهل السنة، يدفع أهل الشرك بأهل التوحيد، يدفع أهل الكفر بأهل الإسلام، يدفع أهل المعصية بأهل الطاعة، هذه سنة المدافعة، مدافعة هؤلاء لهؤلاء، والصراع بين الحق والباطل، فهذا قانون إلهي لا يمكن أن يأتي وقت على الأرض ليس هناك صراع بين الحق والباطل، والدليل على هذه السنة قوله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُسورة البقرة251، تصور يا عبد الله لو كان هناك ظالم، ومفسد، والدنيا دائمة له، ماذا سيحدث للأرض؟! ولكن الله يغير، فيدفع الظالم بالمظلوم، ويدفع صاحب الباطل بصاحب الحق، هناك مدافعة، وهذه قضية مستمرة.
- سنة المثلات والعقوبات، كما قال تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سورة العنكبوت40، فهؤلاء الذين خرجوا عن دينه لا بد أن يعاقبهم، هؤلاء الذين انحرفوا عن شرعه لا بد أن يذيقهم ما عملوا، هؤلاء المتمردون على الإسلام الذي أنزله لا بد لهم من أخذ، فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، لكن وسيلة الأخذ اختلفت، والنتيجة واحدة وهي الأخذ والإهلاك، فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سورة العنكبوت40، فإذا ما أخذهم بزلزال أخذهم بموجات مد، أخذهم بإعصار، أخذهم بطوفان، فالله تعالى يأخذ ولا بد، هذه سنة، لا يمكن أن يبقى لمن خرج عن دينه، لا يمكن أن يبقى لهم مجتمعهم على ما هو عليه، لا بد لله من أخذ، لا بد لله من سطوات.
- ومن سنته تعالى التمكين لعباده المؤمنين الذين يقيمون شرعه، هذه سنة إلهية، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ سورة الحج41.
- ولله سنن في الظالمين والمظلومين، وسنن في الترف والمترفين، وسنن في الطغاة والطاغين، وسنن في الاستدراج، وسنن في المكر، وهكذا لله سنن في الرزق.
- ومن سنن الله تعالى سنة الإصلاح، يعني أنه لا يهلك البلد إذا كان فيها مصلحون، كما قال في كتابه العزيز، وبعث الله رسله بهذا الإصلاح، وقال شعيب لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُسورة هود88، فكل الأنبياء بدءوا بالمنكر الأكبر وهو الشرك، ولكن امتد الإنكار والإصلاح إلى ما عليه القوم من الانحرافات، فقد تكون انحرافات اجتماعية كما وجد في قوم لوط من إتيان الذكران من العالمين، وقد تكون انحرافات اقتصادية مثل ما كان في قوم شعيب وهم يطففون المكيال والميزان، ويغشون في البيع والشراء، وهكذا كان في بعض الأقوام أنهم يقعدون بكل طريق ويأخذون الناس، فهذا منكر يتعلق بأسفار العالم، لا يأمنون في طرقهم، هناك منكرات في المجالس، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ سورة العنكبوت29 فكانت هنالك منكرات متعددة بالإضافة إلى الشرك، فبدأ الأنبياء بالمنكر الأكبر، وجاءوا بعد ذلك بإصلاح المنكرات الأخرى في حياة الناس على اختلاف كل قوم، والانحراف الذي كان متفشياً فيهم.
الإصلاح لا يأخذ الله أصحابه، والنبي ﷺ مدح أهل الإصلاح
وقال: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[رواه البخاري2704]عندما يكون هناك في البلد مصلحون يأمرون بالخير، وينهون عن الشر، وينبهون الناس إلى السنة، ويحاربون البدعة، ويقيمون التوحيد، وينبذون الشرك، وينشرون العلم، ويحاربون الجهل، عندما يكون هناك في البلد من يعلم الناس الخير، ويدلهم عليهم، ويحذرهم من الشر، ويعظ صاحب الشر، وينكر على صاحب المنكر، ويصلح الخطأ الموجود، ولا يسكت عن الباطل، عملية إصلاح مستمرة تحمي البلد، والدليل على هذه السنة قولة تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَسورة هود117، والمصلح هو: الصالح في نفسه المصلح لغيره، هؤلاء ينجيهم الله ، ودليل آخر على هذه السنة الإلهية: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْسورة هود116 أي: فلولا وجد، هلا وجد من القرون الماضية من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض، وعن المنكرات، ولما كان الإصلاح شيئاً جميلاً، ومحبوباً، وكلمة جذابة، حاول المنافقون أن يتدثروا بهذا الشعار، وأن يدعوه، وهم يحملون لواء الإصلاح، وفي الحقيقة أنهم مفسدون، ولذلك قال الله عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ سورة البقرة11 وكثير اليوم من يزعمون حمل لواء الراية الإصلاحية، وأنهم أهل الإصلاح، وأنهم يدعون إلى الإصلاح، وأنهم إصلاحيون، وفي الحقيقة أنهم مخالفون للكتاب والسنة، مخالفون لأوامر الله ، كمن يدعو إلى اختلاط المرأة، وكشفها، وتبرجها، ودخولها في كل الميادين باسم الإصلاح، ويسمي ذلك إصلاحاً للمرأة، وتحريراً، وفي الحقيقة أنه إذلال للمرأة، وإهانة، ودفع لها إلى شيء لم يخلقها الله من أجله، وهكذا يحدث الفساد، وتتخلى عن واجبها الأصلي.
وتزعم مع هذا بأنك عارف | كذبت يقيناً في الذي أنت تزعم |
وما أنت إلا ظالم ثم جاهل | وإنك بين الجاهلين مقدم |
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه | فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم |
وفي مثل هذا الحال قد قال من | مضى وأحسن فيما قاله المتكلم |
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم |
عباد الله: ينبغي العمل على الإصلاح الحقيقي المبني على الأدلة الشرعية حتى ينجينا الله تعالى من عذابه.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المصلحين، أصلح لنا شأننا كله يا رب العالمين، واجعلنا من أهل سنة نبيك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، وله الحمد سبحانه وبحمده، جل وارتفع وعز، وله كل شيء خضع، سبحانه أثني عليه وأشكره، ولا أكفره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه، وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
تعدد ميادين الإصلاح
عباد الله: إن ميادين الإصلاح متعددة، وإصلاح دين الناس هو المقدم؛ لأن دين الناس إذا صلح؛ صلحت دنياهم، وبعض الناس يتصور بأن إصلاح الدين هو إصلاح أمور تتعلق بالآخرة، بينما في الحقيقة أن إصلاح دين الناس سيصلح دنياهم؛ لأن دينهم إذا صلح خافوا الله وراقبوه، فلن يكون هنالك غش، ولا سرقة، ولا رشوة، ولا فساد، ولا ظلم، دين الناس إذا صلح صلحت دنياهم في معايشهم، في وظائفهم، في تجاراتهم، في مقاولاتهم، في مشاريعهم، في طرقهم، دين الناس إذا صلح ستصلح بيوتهم، وأخلاقهم، وآدابهم، ستصلح معاملاتهم مع بعضهم البعض، دين الناس إذا صلح سيستقيم الزوج، وتستقيم الزوجة، ويستقيم الحاكم، ويستقيم المحكوم، ويستقيم المدير، ويستقيم الموظف، ويستقيم صاحب العمل، ويستقيم العمال، الدين إذا صلح تصلح الدنيا بكل تأكيد، وليس هنالك فصل بين الأمرين، وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَسورة الأعراف142، ولذلك فإن القيام بأمر الناس في أمور دينهم ودنياهم، والصبر على هذا لأجل الإصلاح، وحتى يصلح الحال؛ هو أمر عظيم، وعبادة جليلة، وهذه مهمة الرسل، إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِسورة هود88.
والإصلاح إصلاح الظاهر، وإصلاح الباطن، إصلاح المظاهر العامة، والشوارع، والطرقات، والأسواق والمساجد، وإصلاح الباطن، إصلاح القلب، وإصلاح النفس، وكذلك الإصلاح بين المتخاصمين، وبين الزوجين، وإصلاح الأبناء، وإصلاح الذرية، وإصلاح الجيران، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح الإعلامي، وما أشد تأثر الناس بالإعلام اليوم، فإذا كان في الإعلام كذب وتضخيم، تصغير وتكبير، وتحليل خاطئ، وكذلك هوى، وتلاعب في التحليلات، وتوجيه للمستمعين والمشاهدين إلى غير الحقيقة ونحو ذلك، وهذا كثير، فهذا الإصلاح لا بد أن يتضمن إصلاح حال الناس في أمنهم بحيث يستتب، وأمورهم بحيث تستقر، هذا الإصلاح ينبغي أن يكون كذلك في أحوال الناس المختلفة في شتى المعاملات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِسورة المائدة1 فالعقود ثلاثة: عقد بين العبد وربه، وهذا عقد التوحيد، وعقد بين العبد ونفسه؛ كعقد النذر، وعقد العتق، فهو يعقده وهو ملزم به من طرف واحد، وعقد بين العبد والعبد؛ كعقد البيع، والإجارة، ونحو ذلك، ولذلك قال في أول المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ سورة المائدة1، ما هي العلاقة بين قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِوبين قوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ؟ هي أن رأس العقود وأصل العقود هو عقد التوحيد، وعقد التوحيد يتضمن أن الحكم لله، والتحليل لله، والتحريم لله، ولذلك قال: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ، هذا كلام في الحلال والحرام، أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْسورة المائدة1 يعني: تحريمه من الخنزير والميتة ونحو ذلك.
عباد الله: الذي يصلحون ما أفسد الناس هم الغرباء، هم الممدوحون، هم الذين ذكرهم النبي ﷺ.
سنن الله لا تتخلف
عباد الله: هذه سنن الله الجارية لا تتخلف، ونحن نراها والله، خذ يا عبد الله على سبيل المثال قول الله:حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِسورة يونس24، وقال الله: وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وإذا ما أهلكناها إهلاكاً تاماً أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا سورة الإسراء58، هذه سنة إلهية جارية، في مدن أبيدت، ذهبت، من مدن البابليين، والآشوريين، والفينيقيين، والفرعونيين، وهكذا، إما أنها صارت أطلال، أو دمرت تماماً محيت، ما عادت موجودة، وكانت حية قائمة، فيها من يغدو ويروح، ويبني ويعمر، ويزرع ويصنع، وعندما نجد اليوم هذه الحضارة، هؤلاء أهل اليابان الذين شيدوا بلادهم حتى صارت القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وصنعوا الأجهزة الآلية المعقدة، وبلغ من دقتهم أنهم صنعوا هذه الشرائح الالكترونية التي تسير هذه الأجهزة، المبرمجة المسبقة، وصنعوا وأقاموا وشيدوا محطات للطاقة الكهربائية من هذه المعادن المشعة، من البلوتونيوم وغيره، لما أقاموا المحطات راعوا موضوع الزلزال مراعاة عظيمة، وهم أكبر شعب في العالم متقدم في موضوع مقاومة الزلازل، وهندسة الزلازل، أقاموا هذه المحطات على قواعد خرسانية، راعوا بعدها عن الماء، ثم جعلوا في هذه الخرسانات الخصائص العجيبة، إذا صار لها شرخ تفرز الخرسانة مادة دقيقة كشعر الإنسان في دقته يلئم هذا الشرخ ويلتئم الصدع بالمادة التي تفرزها الخرسانة، حتى قال قائلهم عند التشييد: لا خوف على اليابان من الزلزال بعد اليوم، حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآلا خوف على اليابان من الزلزال بعد اليوم أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا، قارن صور الأقمار الصناعية، وقل لي الوصف الذي ينطبق قبل وبعد، فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا لا مصانع، لا مطارات، لا مزارع، لا طرقات، لا جسور، لا بيوت، لا سيارات، لا سفن، كله بعضه فوق بعض، المنظر من الفضاء فعلاً هو حصيد، فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كأنها ما كانت غنية، ولا كان عندهم غنى، وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا سورة الإسراء58، وإذا ما صار إهلاك شامل، فهنالك إهلاك جزئي، ولذلك من سنن الله أنه يجري هلاك الاستئصال، أو هلاك الانحلال.
نسأل الله تعالى أن يعافينا في ديننا ودنيانا، وأن يعفو عنا.
اللهم إنا نسألك فضلك، اللهم أتمم نعمتك علينا، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تعذبنا بما كسبت أيدينا، نسألك رحمتك، ومغفرتك، وعافيتك، ورزقك، اللهم وسع علينا، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وأن تشفي مرضانا، وترحم موتانا، وتهدي ذرياتنا، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان، والعيش في طاعتك يا رحمن، لا تخذلنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم إنا التجأنا إليك، وتوكلنا عليك، اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تخذلنا بمعصيتك، يا رب العالمين يا أرحم الراحمين اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.