الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71.
أما بعد:
مكانة العلماء
فقد قال ربنا : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَسورة الزمر9، وقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍسورة المجادلة11، وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءسورة فاطر28، هؤلاء الذين فسر بهم أهل العلم قوله تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْسورة النساء59، وقال : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍسورة المجادلة11، هؤلاء الذين أراد الله بهم خيراً ففقهم في الدين، هؤلاء الذين تضع الملائكة أجنحتها لهم تواضعاً، هؤلاء الذين ورثوا الأنبياء ليس بالدينار والدرهم، وإنما بالعلم، حماة الدين، وأعلام الإسلام، وحفظة آثاره، يحملون للناس عبر القرون هذا الحديث غضاً من فم النبي ﷺ، دليلهم باهر، ونقلهم ظاهر، يدعون إلى الهدى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه قد هدوه، أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن الآباء والأمهات يحفظون أبناءهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار السعير، حظهم وافر، ومن أخذ العلم أخذ بحظ وافر، أشهدهم الله على أعظم حقيقة، شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِسورة آل عمران18، أنسهم في حمله سعادتهم في تبليغه، أقرب الناس إلى الله وأبعدهم عن الشيطان، إذ لا يستطيع التلبيس عليهم، هم في الخير قادة، وفي الهدى سادة، يقتدى بأفعالهم، وتقص آثارهم، وترغب الملائكة في مجالسهم.
دعا النبي ﷺ لهم فقال: نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه[رواه ابن ماجه230]، فكيف إذا كان يا عباد الله حامل فقه وهو فقيه، وحامل أثر وحديث وهو عليم بصحيحه من سقيمه، ولذلك وجوههم نضرة، ومقاماتهم شريفة، علم الله ، وتوقيعه يوقعون به للناس، وآيات الله في صدورهم بينات، يردون المتشابه إلى المحكم، يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم، يخشون الله في الغيب والشهادة، زكاهم العلم فرفعهم فازدادوا تواضعاً وخشية، لا يفتون بغير علم، ولا يستنكف أحدهم أن يقول: لا أدري فيما لا يدري، وهكذا إذا رأيتهم قد عملوا بعلمهم زهدوا في الرياسة، وابتعدوا عن الشهرة، وطووا المدح عن أنفسهم، ينصحون لعباد الله، فالعالم حقاً من تعلم فعلَّم وعمل بما علم، قد عرفوا الناسخ من المنسوخ، وعرفوا المطلق بالمقيد، والمجمل بالمفسر، وهكذا يعرف العالم باستفاضة خبره عند أهل العلم، فالعلماء يدل بعضهم على بعض، وطلبة العلم يدلون على العلماء، وهذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. إن العالم حجتك بينك وبين الله، فانظر من تجعل حجة بينك وبين الله يوم تقوم بين يديه، ليس العالم من كان فصيحاً بليغاً في كلامه، أو مكثراً من المؤلفات، أو محققاً للمخطوطات، أو أديباً من الأدباء، أو شاعراً من الشعراء، وقد يكون فيه من ذلك، ولكن ليس كل من فعل شيئاً من هذا فهو عالم، وكثير من الناس لا يميز بين العالم وبين الواعظ، ولا يميز بين العالم وبين القاص، ولا يميز بين العالم وبين الأديب والشاعر، فيظن الأدباء علماء، وكذلك يظن المؤلفين والكتاب علماء، وكل من يظهر في القنوات الفضائية علماء، ويسأل هؤلاء ويستفتيهم ويظن أنهم حجة.
عباد الله: ينبغي الاستدلال على العلماء من العلماء ومن طلبة العلم؛ إذ هم الذين يعرفونهم بين الناس، وليست الشهرة الإعلامية، ولا كثرة الكتب، ولا هذه الشهرة التي يكتسبها البعض، والتصريحات التي يطلقها ليست دليلاً على أنه عالم يجوز استفتاؤه.
حقوق العلماء علينا
عباد الله: إن من حقوقهم علينا أن نحبهم؛ لأن الله استشهدهم على هذه الحقيقة العظيمة شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِسورة آل عمران18، أن نحبهم لأن الله رفعهم، أن نحبهم لأنهم يدلوننا على الخير، أن نحبهم؛ لأنهم يفتوننا في المسائل العويصة وهم المخرج من هذه الفتن، وكان السلف يدينون الله باحترام العلماء الهداة، وكانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
وقال سفيان رحمه الله: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة. أي التي أوصى النبي ﷺ المسلمين أن يكونوا معها، ويد الله مع الجماعة، ومن كان على مثل ما كان عليه النبي ﷺ هم الطائفة المنصورة وهم الجماعة.
الناس من جهة التمثال أكفاء | أبوهم آدم والأم حواء |
فإن يكن لهم في أصلهم نسب | يفاخرون به فالطين والماء |
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
عباد الله: إن تعظيم حرمات العلماء أمر شرعي دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِسورة الحـج30، وقال : وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِسورة الحـج32، قال العلماء: الشعيرة كلما أشعر الله بفضله، وكلما أذن بتعظيمه، ولا شك أن العلماء يدخلون في ذلك دخولاً أولياً، ولذلك قال العلماء: أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم، هؤلاء العلماء مصابيح الأمة، وقد قال نبينا ﷺ عن ربه : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب[رواه البخاري6502].
وقال الشافعي رحمه الله: إن لم يكن الفقهاء أولياء لله فليس لله ولي. وقال: الفقهاء العاملون، فالعلماء العاملون هم من أولياء الله وعلى رأس هذه الطليعة، وهم شهداء يشهدون لله ويشهدون على وحيه وشرعه.
وقد قال ربنا : وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًسورة الإسراء36، وإذا كانت الحواس محاسب عليها الإنسان فإن الوقيعة بالحواس في العلماء من أعظم الجرائم، وإذا كانت الغيبة محرمة في آحاد المسلمين، فإن الوقيعة في العلماء وغيبتهم من أعظم المآثم، وإذا كانت أذية المؤمنين والمؤمنات محرمة كما قال : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًاسورة الأحزاب58، فكيف بأذية العلماء؟
وإذا كان النبي ﷺ قال: كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله[رواه أبو داود4882] فكيف إذن بانتهاك حرمة العلماء، أتدرون ما الغيبة؟ قالها ﷺ سائلاً أصحابه، فكيف بمن يغتاب أهل العلم؟ وقدر روى أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم[رواه أبو داود4878]، فكيف بمن يقع في أعراض العلماء؟
فهذا العالم المستمسك بالسنة يسخرون منه اليوم في لباسه ولحيته وأقواله وأفعاله، ويطعنون فيه، ويستهزؤون به، ولحوم العلماء مسمومة، فالذي يأكلها يسمم نفسه، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ولذلك فإن الله يفضح الذين يقعون في العلماء، ويقع فيهم من يقع بسبب الهوى، والتقليد والتعصب، والتعالم والغيرة، وأعظم ذلك في هذه الأيام من أسباب الوقوع في العلماء النفاق، وخدمة مخططات الأعداء، فهم إذا كانوا يريدون إضعاف الأمة فلا بد من إضعاف العلماء، وإذا كانوا يريدون حرف الأمة فلا بد من صد الناس عن العلماء، وإذا كانوا يريدون تضليل الأمة فلا بد من الحيلولة بين الناس وبين العلماء، ولذلك ترى سهام هؤلاء المنافقين موجهة ليلاً نهاراً إلى أهل العلم وإلى أهل الدعوة، إلى أهل الصدق، وإلى أهل الخير.
والآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء وخيمة جداً، أولاً يقول ﷺ: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، لا يأخذ العلم من الصدور هكذا، ينام العالم فيستيقظ بلا علم، لا، قال: ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا[رواه البخاري100].
الطعن في العلماء من وسائل المنافقين
وهكذا إسقاط العلماء كان من وسائل المنافقين، فيطعنون فيهم وكثير من ألسنة هؤلاء الممدودة بالأقلام المسمومة، والقلم أحد اللسانين يعمدون في هذه المقالات إلى الوقوع في أهل العلم وجرحهم، ومن آذى عالماً فقد آذى رسول الله ﷺ؛ لأن هذا وريث النبي، فإذا آذى هذا فقد آذى النبي ﷺ، ومن آذى رسول الله ﷺ فقد آذى الله .
ثم إن جرح العالم والوقيعة فيه، سبب في رد ما يقوله من الحق؛ لأن العامة عند ذلك أو بعضهم يعرضون ويصدون، فقد كرهوا ووقع في نفوسهم ما وقع من جراء هذا الشتم والسب والنقد والثلب، وجرح العلماء يؤدي إلى جرح طلاب العلم الذين يتعلمون منهم ويسيرون على طريقهم، وهم الجسر بين كثير من العامة والعلماء، فطلاب العلم اليوم نظراً لقلة العلماء وانشغال العلماء، طلاب العلم هم الجسر والمعبر والوسيلة التي يأخذ عنها كثير من الناس عملياً فتاوى العلماء، فهم لا يباشرون العلماء في كثير من الأحيان، وإنما يأخذون فتاوى العلماء وعلمهم عن طريق طلبة العلم، فإنهم أكثر عدداً من العلماء، فيدله طالب العلم على فتوى الفقيه وعلم العالم، فإذا سقط الأصل سقط الفرع أيضاً، ثم إن من أعظم ما يقف في طريق أعداء الإسلام في تحقيق مخططاتهم علم العلماء، فإنهم يكشفون للناس الحقائق، ويبينون لهم الأعداء، وخطورة هؤلاء الأعداء وطريقة الأعداء.
وقد اتجهت أقلام هؤلاء المنافقين للطعن في العلماء والدعاة والقضاة ورجال الحسبة ونحو ذلك في العموم، ولو أنهم كانوا منصفين في نقد خطأ معين لشخص معين ناصحوه سراً قبل أن ينشروا ذلك جهراً لقلنا: بأنهم يريدون تعديل الخطأ ومن الذي لا يخطئ، فالعالم يخطئ والداعية يخطئ، والمحتسب يخطئ والقاضي يخطئ، ونحو ذلك، ثم إن كثيراً من الناس ربما لا يفرق بين العالم وبين الذي يتوظف في وظيفة دينية، وبعض الناس قد يتوظف في وظيفة دينية ابتغاء كسب الدنيا، ويكون قصده من وراء هذه الوظيفة الدينية فساداً أو انتهازاً للدنيا ونحو ذلك، فيظن الظان أن كل العلماء كذلك، وأنهم أصحاب وظائف دنيوية ونحوها، وسيرة العالم تدل عليه، حياته تدل عليه، صلاته تدل عليه، زهده يدل عليه، خشيته تدل عليه، وبإمكانك التفريق بين صاحب العلم الذي يخشى الله وبين هذا المنتهز أو هذا المنتفع من وراء وظيفة من الوظائف، وأيضاً فإن غياب المرجعية للناس مصيبة، فإلى أين يتجهون في الفتن والمدلهمات، وقد قرن النبي ﷺ بين ظهور الفتن، وذهاب العلماء، فقال في الحديث الصحيح: لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض[رواه البخاري1036].
خطورة الطعن في العلماء
عباد الله: إن في إسقاط أهل العلم اختلال للأمان النفسي؛ لأن أهل العلم في الحقيقة الذي يهدؤون من روع الناس، ويعالجون كثيراً من المشكلات النفسية الموجودة عند الناس، الناس يأمنون بفتاواهم على أعراضهم، وعلى أموالهم، فإن الشرع يحكم في المال، والشرع يحكم في النفوس، والشرع يحكم في كل شيء، ثم إن في الوقيعة فيهم موافقة لأهل البدع الذين يشنون عليهم الغارات أيضاً، فإن فتاوى أهل العلم تحذر من أهل البدع، فإذا جرى إسقاط أهل العلم اعتز أهل البدع ولا شك، فترى أن الهجوم على عالم من علماء السنة يحيي كثيراً من البدعة، فتظهر رأسها، وهكذا ينتفش روادها، وقد قال : وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًاسورة النساء115، فمن الذي يبين سبيل المؤمنين؟ أليسوا أهل العلم، وأيضاً فمن الذي يبين للناس ما يحذرون من المخالفات الشرعية التي تضل وتسبب الزلل، وطريقة هؤلاء المنافقين متعددة فتارة يلمزون أهل العلم بالتخلف وبأنهم ظلاميين ورجعيين، وإقصائيين وأحاديي النظرة، ومتخلفين عن ركب الحضارة ونحو ذلك، ولا شك أن العالم يعتريه من الضعف ما يعتري غيره، ولكن واضح أن القوم يريدون الإسقاط وليس النصح والتقويم، ولذلك ترى أن كلامهم في الشتم عام؛ لأنهم يريدون الكل وليس جزئية معينة يخطئ فيها العالم، أو أنه يجانبه الصواب في قضية ونحو ذلك.
عباد الله: إذا رأيت السهام تتجه إلى أهل الدين عموماً فليس المقصود فلاناً بعينه. ولكن الدين هو المقصود، وقد رأينا من التشغيب ومن أنواع السباب والشتائم، التي وجهت إلى عدد من أهل العلم من المعاصرين، فضلاً عن الماضين فعلى صفحات بعض الجرائد العربية ترى طعناً في الشيخين عبد العزيز بن باز رحمه الله، ومحمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، وأن فتاواهما متشددة، وأنهما ينتميان إلى العصور الظلامية، ونحو ذلك من الكلام، وقد شهد عباد الله من أهل العلم وأهل الخير والفضل بعلو كعبهما في العلم ورسوخ قدمهما فيه، وعمق فقههما، وهكذا ترى أحياناً إسقاط العالم من خلال فتوى واحدة، كما نقموا على الشيخ عبد الله بن جبرين نفع الله به، وماذا قال؟ وماذا نقموا عليه؟ أنه فرق بين المسلمين الموحدين والمبدعة المشركين، فلماذا لم يصفق للمشركين، ولماذا لم يهتف للمشركين، ولذلك سقطوا فيه وطاحوا، وشنعوا، ونحو ذلك مما حصل، وهل يجعل الله المسلمين الموحدين كالمشركين المجرمين؟! وما بال هؤلاء لا يفرقون بين ميدان معركة وميدان الكتاب والسنة، ومن هو الذي يقبل الله عمله، أليس الموحد أم الذي يطوف بالقبور من عباد الشرك، من الذي يقبل الله جهاده أليس هو الذي يعبد ربه على بصيرة، أم الذي يتبع الضلالات والخرافات وأموراً ما أنزل الله بها من سلطان، ولماذا لا يكون عند هؤلاء من العلم ما يعرفون قدر التوحيد، وأن الله سبحانه أنزل لأجله الكتاب والسنة وبعث الرسل وكذلك شرع الجهاد لإقامة التوحيد، وماذا فعل النبي ﷺ في مكة جاهد أهلها في بدر وأحد والخندق والحديبية وفتحها في النهاية، وماذا كان يفعل أهلها؟ الشرك، يشركون بالله ، ويصرفون أنواع من العبادة لغير الله، يسألون غير الله، ويستغيثون بغير الله، يتوكلون على غير الله، يذبحون لغير الله، ينذرون لغير الله، وهكذا، أفلأجل أن بين الشرك من التوحيد ينقم عليه!
وهكذا تجد أيضاً في الأقلام المسمومة للمنافقين الطعن على الشيخ صالح بن فوزان الفوزان نفع الله بعلمه، وأنه متشدد، ومن الغلاة، وأنه يتوعد الكتاب بالحساب يوم القيامة، وسبحان الله، من هو الذي لن يقف بين يدي الله، أليس الله قد بين أن الحساب في يوم الحساب، وأن الحساب هذا لخلقه وأنه يحاسبهم كنفس واحدة، أفيكون موعظة من ضل من هؤلاء الكتاب بالحساب يوم الدين أيكون هذا تهديداً وإقصاءً ونحو ذلك من الكلام الذي يريدون به أن يبينوا أن هذا إنسان غالٍ ومتشدد ونحو ذلك، ويتهمونه على هذا بأنه يعرف الغيب، وما وراء الحجب، والله قد بين لنا في الكتاب أن الحساب قادم، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْسورة الغاشية25-26، ومن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من هذا العالم وأمثاله يعتبر ممن يصادم حرية الرأي، ويريد أن يقمع حرية الرأي، وهل هو إلا التواصي بالحق والصبر، كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِسورة العصر3، وهكذا أيها الأخوة نرى الهجوم على أهل العلم في الداخل والخارج في القديم والحديث، فلقد شن من الهجمات على أهل التوحيد من أتباع السلف في طول البلاد الإسلامية وعرضها ما شن، وهكذا كانت الهجمات على أهل العلم من متبعي السلف في الشام ومصر والمغرب والهند ونحوها، هكذا كان أتباع السنة المحمدية يضطهدون، وهكذا كانوا يسامون ألوان الشتائم عبر هذه الأقلام، ولا بد أن نكون نحن ممن يناصر أهل العلم، وممن يرد عنهم، ومن رد عن عرض أخيه المسلم رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وإذا كان هذا في المسلم الذي ليس بعالم فكيف بالعالم، ولذلك كان واجباً الدفاع عن أعراض العلماء والرد عنهم، خصوصاً وقد كثر الطعن فيهم، من هؤلاء المبتدعين والمنافقين، والذين عندهم غبش وتلبيس، فيريدون تناسي الخلافات بين الموحدين والمشركين، وهذه دعوة خبيثة جداً، الدعوة إلى تناسي الخلافات بين المسلمين والكفار، وبين أهل التوحيد وأهل الشرك، وبين أهل السنة وأهل البدعة، وماذا سينطوي على هذا الدعوة إلى تناسي الخلافات؟ تضييع التوحيد، تمييع العقيدة، تضييع السنة، وما الذي بعث الله به محمداً ﷺ؟ ما هو الذي بعثه به؟ أليس هذا التوحيد، ما هو أعظم معروف في العالم؟ أليس هذا التوحيد، ما هو أعظم منكر في العالم؟ أليس هذا الشرك، وما الفرق بين أن يفعل الشرك ويقترفه عربي أو عجمي، الشرك شرك سواء فعله أبو جهل أو غيره، فأبو جهل كان عربياً، فهل نفعته عربيته بشيء.
اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تقمع المنافقين، وأن تحمي حوزة الدين، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم واجعلنا من أتباع سنة نبيك يا كريم، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الفقه، فقهنا في الدين، اللهم اجعلنا ممن أردت بهم الخير يا رب العالمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير والسراج المنير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأن الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، أخذ بالنواصي، قائم على كل نفس بما كسبت، كل يوم هو في شأن، لا يشغله شيء عن شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو العليم، وهو علام الغيوب، يعلم ما تكسبون، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
السقوط الديني والأخلاقي
عباد الله: أليس من العجب العجاب أن يوقع في أهل العلم، ثم بعد ذلك ترى الإشادة، وترى الافتخار والتأييد، والحشد الإعلامي والهالات حول من يقول: إن المثل الأعلى الذي أحترمه هو الاشتراكية، ورواياته تدور على الماركسية والجنس، وحفلت بحشد هائل من البغايا، والقوادين، والديوثين، واللصوص، والنشالين، والفتوات، والمرتشين، والملحدين، الذي حط من قدسية الدين وهيبته، ومزج رموزه مع الخمر والجنس والمومسات، وهكذا ترى قصصه طافحة بالمومسات، عندما يكون الذي يفخم أمره ويعظم هو من ينادي بإسقاط الدين ليحل العلم الحديث محله، وهكذا في رواياته الرمزية التي تجرأ فيها على الله ، وسماه بالجبلاوي في هذه الطريقة من القصص الرمزية، ومحمداً ﷺ رمز له بقاسم، وموسى الكليم رمز له بجبل؛ لأن الله كلمه فوق جبل الطور، ورمز لعيسى في روايته برفاعة؛ لأن الله رفعه فمنها أخذ ذلك الاسم، ثم بعد ذلك تعال وانظر ماذا يحدث في عرفة الذي جعله رمزاً للعلم عندما يقتل الجبلاوي في نهاية الرواية.
وانظر ماذا حدث من السقوط الديني والأخلاقي في هذه الروايات، ولماذا يا ترى حرص أعداء الإسلام على إعطائه تلك الجائزة العالمية؟
عباد الله: إن في آخر الزمان سنوات خداعات، كما أخبرنا ﷺ يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وينطق الرويبضة، ما الرويبضة؟ الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، الروايات هل هي تحث على التمسك بالدين، أو الأخلاق الفاضلة، أو فيها إعلاء من شأن الصحابة، وأبطال الإسلام، ماذا يوجد فيها؟ ألوان السقوط الأخلاقي في أولاد الحارة ونحو ذلك.
عباد الله: إنه شيء مؤلم فعلاً أن ترى هكذا الهالات تنصب لمثل هؤلاء، وأن ترى أنواع السهام توجه لمثل أولئك، وليست القضية محلية، ولأجل قطر من الأقطار، أو بلد من البلدان كلا، فإنك ترى والله أن أهل السنة في كل البلدان العداء قد انتصب لهم، ويراد إذلالهم وإضعافهم، وقمعهم، ليس في بلد واحد، وإنما في الأرض، وأعداء الإسلام والله يعرفون من هو عدوهم الحقيقي، ولذلك فالخطط والسهام موجهة، والشراك منصوبة، ونسأل الله أن يعز ديننا.
الاهتمام بشهر شعبان
عباد الله: إن هذا الشهر شهر شعبان، هو شهر مبارك، كان ﷺ يحبه؛ لأن الأعمال ترفع فيه إلى الله، هناك رفع يومي، وهناك رفع أسبوعي، وهناك رفع سنوي، الرفع السنوي للأعمال يرفع إلى الله في شعبان، كما أن الاثنين والخميس ترفع فيهما الأعمال إلى الله أسبوعياً، والملائكة ترفع أعمال العباد إلى الله يومياً، وفي الفجر والعصر يتناوبون علينا، كان ﷺ يكثر الصيام في شعبان فقالت عائشة رضي الله عنها: "وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً" وهو ﷺ يحب أن يرفع عمله وهو صائم، وأخبر ﷺ عن سبب آخر للاهتمام بشعبان فقال: شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان[رواه النسائي2357]، ولا شك أن الصيام في شعبان أفضل من الصيام في رجب، ومع ذلك فترى عند الناس من الاهتمام بشيء أحياناً في مناسبة بعكس ما جاء في الشرع، والذي ينبغي علينا أن ننزل الأمور في منازلها الشرعية، والصيام في شعبان هو كالسنة القبلية للصلاة، كما أن الصيام في شوال كالسنة البعدية للصلاة، وهذا فيه استكمال نقص الفريضة، فالله فتح لعبادة النوافل ليكملوا الفرائض، وينبغي أن نحث نساءنا على المبادرة على القضاء، قضاء ما فات من رمضان الماضي قبل أن يأتي رمضان الجديد، وكذلك من أفطر لسفر أو مرض ونحو ذلك من أهل الأعذار، وحتى الذي أفطر بذنب، بدون عذر، يتوب إلى الله ويقضي ما فاته، هذا دين لله تعالى، ويتوب من المعصية، وهذا الفرق بين الذي أفطر لعذر والذي أفطر لغير العذر، فإنهما عليهما القضاء، ولكن الذي أفطر لغير عذر عليه التوبة؛ لأنه أذنب، وإذا استمر العذر بالمرأة مثلاً أو المريض من رمضان الماضي إلى رمضان القابل اتصل عذرها مثلاً من حمل، ووضع، ونفاس، ورضاع، فجاء رمضان الجديد ولا تستطيع القضاء، فليس عليها شيء، ليس عليها إلا القضاء عندما تتمكن، وهكذا لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
عباد الله: وقد زعم قوم أن لليلة النصف من شعبان ميزات ابتدعوا فيها بدعاً ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يثبت بخصوصها فضل في قيام معين، أو في نهارها صيام معين، أو عبادة معينة، فتقام مثل بقية الليالي، ويصام النهار، الخامس عشر من شعبان كما يصام الخامس عشر من أي شهر من أيام البيض، ولذلك فلا يجوز الاحتفال بليلة النصف، أو الاجتماع والإنشاد بالمدائح والأطعمة ونحو ذلك، أو جعل صلاة الألفية المخصوصة، أو صلاة البراءة، أو أربعة عشر ركعة، أو ست ركعات، ونحو ذلك، أربع عشرة ركعة ونحو ذلك من البدع وتخصص بقراءة سور معينة، أو أدعية معينة، ويسمونها دعاء ليلة النصف من شعبان، كل ذلك لم يثبت، وبعضهم يتعمد جعل صدقة لأرواح الأموات في هذه الليلة، أو إيقاد شموع، وبعضهم يعتقد أنها مثل ليلة القدر، وكل ذلك من البدع التي ينبغي تنزيه الشرع عنها؛ لأننا نريد الشرع الذي أنزله الله وليس الذي راكم عليه أهل البدع ما راكموا، وليس هناك نزول مخصوص بهذه الليلة، لا يحدث في بقية الليالي، فإن الله ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، ويتقبل من العباد سؤالهم وتوبتهم .
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن تبلغنا رمضان مؤمنين سالمين غانمين، اللهم اجعلنا من الأخيار، اللهم اجعلنا من أهل التقوى، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، كفر عنا سيئاتنا واغفر لنا ذنوبنا، وأدخلنا برحمتك في القوم الصالحين، اغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا وأخواتنا من المسلمين والمسلمات يوم يقوم الحساب، اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، وأن تجعلنا من المستمسكين بالعروة الوثقى، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اقض ديوننا واستر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين، اللهم اشمل بلدنا هذا بالأمن والإيمان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.