الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية عقد الزواج
فإن الزواج رباط وثيق، وميثاق غليظ، وإن الحياة الزوجية شرعت لتستمر، وقد مدح الله الذين يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ سورة الفرقان:74، فتكون الزوجة قرة عين إذا كانت عند زوجها يعيش معها حياة هانئة، وقد جعل الله بين الزوجين مودة ورحمة، ومحبة ورأفة، فهو يمسكها إما لمحبته لها، أو لرحمته بها، كما لو كان له منها ولد، أو كانت محتاجة إليه، فيتبين أن الحب لو نقص، فإن هنالك مبررات أخرى لاستمرار هذه الحياة الزوجية وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً سورة الروم:21، والمودة هي المحبة، فإذا نقصت المودة بقيت الرحمة والرأفة، يرأف بها، فقد أنجبت له أولاده، واستمرار الحياة الزوجية يتم بصلاح الزوجين، ومن ظن أنها تخلو من المشكلات فقد أخطأ في ظنه.
ومكلف الأيام ضد طباعها | متطلب في الماء جذوة نار |
فكما أنه لا يمكن استخراج جذوة النار من الماء؛ فكذلك لا يمكن تصور وجود الحياة الزوجية بغير مشكلات أبداً، ولكن تقع القضية ثم تحل، تحدث الأزمة ولا تطول، أما أن تؤدي إلى نِسَب الطلاق المرتفعة التي نسمع عنها اليوم، والحالات المستعصية التي شرخت المجتمع، فإنها مصيبة.
فضل الإصلاح بين الزوجين
وقد شرع الله تعالى، - وهو العليم بالنفوس، وأنه يقع بينها ما يقع- الإصلاح، فقال تعالى: فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا سورة النساء:35، وجعل الحكمين من الأهل والأقارب؛ لأنهم أستر على الزوجين، وأعرف ببواطن الأمور، وأشد حرصاً على الصلاح.
إن الفضائل كلها لو حصلت | رجعت بجملتها إلى شيئين |
تعظيم ذات الله جل جلاله | والسعي في إصلاح ذات البين |
فما أعظم أجر المصلح والذي يتدخل بالخير، ويسعى ماشياً بالصلح على الكتاب والسنة بين المتخاصمين، والزوجين، لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ سورة النساء:114، وقد وعد الله المخلص في هذا الذي يبتغي وجهه بالأجر العظيم فقال:وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًاسورة النساء:114.
عباد الله: إن الإصلاح أعظم من درجة نوافل الصيام، والصلاة، والصدقة؛ لأن فساد ذات البيت، كما قال ﷺ: هي الحالقة، تحلق الدين، وليس تحلق الشعر.[رواه الترمذي (2509) وأبو داود (4919).]
قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ سورة النساء:128، خير من الشقاق، وخير من الفضيحة بين الناس، وخير من تشرد الأسرة، وشقاء الأولاد، فهو خير لأنه يسد طرق إبليس.
جهود النبي ﷺ في الإصلاح بين الزوجين
وقد كان النبي ﷺ، وأصحابه، والسلف يسعون في هذا، ومن ذلك:
- جاء رسول الله ﷺ بيت فاطمة فلم يجد علياً فقال: أين ابن عمك ولم يقل أين زوجك؛ لأنه أراد أن ينبه على صلة الرحم بينها وبينه لاستجلاب عطفها، وشفقتها، ورغبتها في الصلة، قالت: "كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي" من القيلولة، فسأل عنه رسول الله ﷺ، وهذا هو دور الأب بعد الزواج؛ لأن دور الأب بعد الزواج لا ينتهي، فليست القضية أن يسلم البنت ويتخلص من الهم، كلا، بل إنه لا يزال حريصاً على مصلحة ابنته فهو يزورها ويتفقد، وإذا أحس بشيء يتدخل بالمعروف، ويسعى في جمع الطريفين، فسأل عن علي، ولم يقل فليأتني، مع أنه رسول الله ﷺ، بل ذهب يبحث عنه فإذا هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله ﷺ وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله ﷺ يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب [رواه البخاري (441) ومسلم (2409).]، فكانت أحب الكُنى إليه، فداعبه ورد الأمور إلى نصابها.
وقوله: قم أبا تراب أي: قم إلى زوجتك، فها قد جاء أبوها بنفسه، فهذا أبو الزوجة يتلطف معه، فما أحسن التدخل إذا كان بالحسنى، وما أسوءه إذا كان بالشدة.
- كان ﷺ يشفع للإصلاح بين الزوجين، فلما عتقت بريرة، وكان زوجها عبد، ومن حق الأمة إذا صارت حرة وهي متزوجة أن تطلب الفراق إذا لم تكن تريد الاستمرار مع زوجها العبد، هذا من الناحية الشرعية، فاختارت الفراق وهو يحبها جداً، فجعل يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها، فشفع النبي ﷺ عندها أن ترجع إليه فقال لها: لو راجعتْه [رواه البخاري (5283).]، وفي رواية: لو راجعتيه فإنه أبو ولدك[رواه النسائي (5417).] قالت: "يا رسول الله أتأمرني"، فالصحابة كان عندهم استعداد لتنفيذ الأمر حتى لو كانت القضية تتعلق بالتغلب على المشاعر والأحاسيس، فقال: إنما أنا شافع، أي: أنا لا أستطيع منعك من الحق الشرعي في الفراق وقد صرت حرة وهو عبد، فقالت: "لا حاجة لي فيه" رواه البخاري.
فقد لا تنجح المساعي الحميدة، وليس من شرط حصول الأجر للمصلح أن تحصل النتيجة، فهذه الحالة حصل فيها محاولات، وشفاعات، ولكن ما رجعت المرأة إلى الزوج، فحسب المصلح أن يصلح، وأجره على الله، وإذا كان الإصلاح يحتاج إلى بعض الكلام، ولو ما حصل، لكن من الخير والمعروف فليكن، قال ﷺ: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيراً[رواه البخاري (2692). ومسلم (2605).]، كأن يقول: هو يثني عليك، هو يشكر فيك، ونحو ذلك، وقد لا يكون قال هذا الكلام لكن للتقريب بينهما.
- كان ﷺ يوصي الطرفين، جاءته امرأة في حاجة، فلما فرغت قال: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم، قال: كيف أنت منههل أنت قريبة، أم متباعدة، هل أنت محسنة أم مسيئة، قالت: "ما آلوه إلا ما عجزت عنه"، أي: لا أقصر إلا لعجز، قال: فانظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك[رواه أحمد (18524).]، أي: سبب لدخول الجنة إذا رضي عنك، وسبب لدخولك النار إلى سخط عليك بحق، أما أن يقول لها: عمِّري الشيشة، وإلا أنا غاضب عليك، اخرجي سافرة لأنني أريد زوجة حديثة أمام الناس، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
جهود السلف في الإصلاح بين الزوجين
لقد كانت جهود السلف في حل الخلافات الزوجية عظيمة، وحدث من الحالات الكثيرة التي كانت شاهدة على حرصهم على الإصلاح فمن ذلك:
- لما آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، زار سلمان أبا الدرداء قبل آية الحجاب، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، أي: لا يريد النساء، ولا يريد الفراش، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، قال: كُل فإني صائم، قال: ما أنا بأكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال سلمان: نم، فنام، ثم ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال سلمان: نم، فلما كان من آخر الليل قام سلمان، قال: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطي كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال: صدق سلمان[رواه البخاري (1968).]. هذا أبو الدرداء شغله عن أهله قيام الليل، وصيام النهار، وليس شلة البلوت، والقنوات، والمقاهي بالمعسل، والسهر إلى آخر الليل على الشات، وعلى الإنترنت، وعلى المعصية، والمرأة ليس لها مؤنس، وليس لها زوج يقوم بواجبها، فسلمان فطر، ونوّم أبا الدرداء عن طاعات لئلا يخل بواجبات، والمستحب لا يجوز أن يخل بالواجب، فما حال الذين يخلون بالواجبات من جراء المعاصي.
- قال عمر بن الخطاب لحفصة ابنته: "أتغاضب إحداكن رسول الله ﷺ اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم، قال: خابت وخسرت، ثم يعظ حفصة ويقول: "أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله ﷺ فتهلكين"[رواه البخاري (2468).]. أي: لا تراجعيه، ولا تراديه الكلام، ولا يكون هنالك تحدي، ولا تستكثري النفقة، ولا تسأليه ما ليس عنده، هذه وصايا مهمة، وهذا العمل لم يكن مرة، هذا تعهّد مستمر من أقارب الزوجين.
- جاء رجل إلى عمر يشكو خلق زوجته، فسمع امرأة عمر تستطيل على عمر بلسانها من وراء الباب قبل أن يطرق، وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عليها، فانصرف الرجل، فخرج عمر فرآه مولياً عن بابه فناداه، قال: ما حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها عليّ، فسمعت زوجتك كذلك، فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟ قال عمر: يا أخي إني احتملتها لحقوق لها عليّ، إنها طباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي، ويسكن قلبي بها عن الحرام، فأنا أحتملها لذلك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي، فقال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة.
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها | كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
قال ﷺ: لا يفرك مؤمن مؤمنةأي: لا يصل لدرجة الكراهية والبغض، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر[رواه مسلم (1469).]، فلا يبغضها بإطلاق وإلى النهاية، فلو كان فيها شيء من الاعوجاج في اللسان فقد تكون دينة، ولو كان فيها شيء من قلة الخدمة لكنها جميلة، وقد يكون فيها شيء من التقصير في تنظيف الأولاد لكنها عفيفة، فانظر إلى الجهتين، ووازن، واعتدل في النظرة حتى تستطيع الحكم، وهنالك الأقدمية، والعهد إذا طال لا يقدر بثمن، فالعيش والملح كما يقولون إذا حصل وطال، صار هنالك رباط وثيق، وعهد قديم، وعشرة متينة، دخل طالب على شيخه فوجد عنده ولداً يخدمه ويبر به، فعجب من بر الابن بأبيه، فلما خرج الابن قال العالم لتلميذه: أتعجب من بره؟ قال: نعم، قال له: لقد عاشرت أمه أكثر من عشرين سنة، والله ما تبسمت في وجهي يوماً، فصبرت فعوضني الله ما ترى، أي: عوضه الله منها ولداً هذا حاله.
هي الضلع العوجاء لست تقيمها | ألا إن تقويم الضلوع انكسارها |
خذ ضلع ذبيحة من الصدر، وحاول أن تجعله مستقيماً، فلن تستطيع، ولو كثرت عندك المشكلات فاجعله في شيء تنظر إليه كل يوم؛ لأن النبي ﷺضرب به المثل، إنما هي ضلع، فخذ الضلع فأقمه فإن استقام وإلا فالبسها على ما فيها، قال عبد الله بن مسعود : "شكى إبراهيم من حدة في خلق سارة فأوحى الله إليه إنما هي من ضلع فخذ الضلع فأقمه، فإن استقام وإلا فالبسها على ما فيها"[رواه الطبراني في الكبير (9685).]رواه ابن أبي شيبة.
قد يتطلب الأمر بعض الزجر للزوج، كما فعل عمرو بن العاص مع ولده عبد الله لما قصر بحق زوجته، وقد زوجه امرأة من قريش، ولم يقصر في نسبها وحسبها، ولكن عبد الله من شدة العبادة أهمل زوجته، فلما علم أبوه، قال عبد الله: فعذمني، أي: أخذني وأعظني بلسانه، أي: شد عليه في الكلام، وقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، ثم انطلق إلى النبي ﷺ فشكاني.[رواه أحمد (6441).] وقد يحتاج الشيء أيضاً: إلى تضافر الجهود، وتدخل عدة أخيار، وبعض الناس الذين هم في مرتبة من العلم والدين أعلى؛ لأجل جعل الزوج على الأقل يُحرج ويستقيم، أو أن يكون عنده خلل في التصور فيصحح، فتصحيح فهم القضية مهم جداً في استقامة الأمور؛ لأن كثيراً من المشكلات سببها في الحقيقة سوء التصور، وخلل في الفهم، فمثلاً عدم معرفة كل من الزوجين بحقوق الآخر شرعاً؛ سبب كثير من المشكلات، وحله بالعلم، والفقه في الدين، وتعريف الطرفين بالواجبات.
- زوج أبو بكر ابنته أسماء للزبير بن العوام، والزبير رجل مشغول بالجهاد، ومع النبي ﷺ، وشديد الغيرة، فاشتكت أسماء، فقال: "يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تتزوج بعده جُمع بينهما في الجنة"[الطبقات الكبرى (8/251).]، فلابد من التصبير، والتذكير بأجر الجنة، وبأجر الصابرين.
- همّ رجل بطلاق امرأته فقال له عمر: "لمَ تطلقها؟" قال: لا أحبها، قال: "أوكل البيوت بنيت على الحب"، أي: ما في سبب لاستمرار العلاقة الزوجية إلا الحب، ما عندك سبب آخر يمكن أن تتحمل به المرأة، قال عمر: "وأين الرعاية والتذمم"، أي: أين العشرة؟، أين حسن العهد؟، أين الأولاد الذين أنجبتهم لك؟، أين الخدمة التي خدمتك إياها في هذا الزمن المنصرم؟، فليست كل القضية حب، والذين يخدعون الأزواج والزوجات بالمسلسلات المدبلجة، وغير المدبلجة، أن العلاقة لابد أن تبدأ برومانسية، فليت شعري هذا الممثل والممثلة لو تزوج زواجاً حقيقاً غير زواج التمثيل، هل سيكون عنده رومانسية، ونحن نسمع عن فساد الممثلين والممثلات، وما تستمر الحياة الزوجية إلا يسيراً، فأخبار طلاق الممثلين والممثلات شيء عجب، أين الرومانسية التي يتباهون، ويزعمون، ويمثلون، ويخدعون، ويكذبون بها على الناس في الشاشات، ثم هذه الرومانسية إذا صارت في أول العلاقة فهل يا ترى ستستمر الرومانسية إلى ما بعد عشرين سنة؟ أين الواقعية بدلاً من الرومانسية.
نعم الحب مهم، وتغذية الحب مهم، والأسباب التي تحمل على الحب وتؤدي إليه مهم، لكن لابد أن تكون القضية موافقة للواقع، أن تكون القضية فيها مراعاة لما يحصل بين الزوجين، رومانسية في البداية عند التعرف لكن إذا خلا بها في البيت، وصار الأولاد، وهات الأغراض، هل سيبقى معه نفس الدرجة التي كانت في أول الزواج، هذا غير صحيح، وقد يمسك الإنسان شخصاً لا يحبه.
قال بعضهم: وجدت في مكة شاباً مصفراً نحيلاً فسألته عن حاله؟ قال: بليت بامرأة ذهب رأس مالي فيها وفي نفقتها، وليست تحبني، أي: بعد كل هذا لا أحس أنها تحبني، فأنا أحبها لكن هي لا تحبني، قال: استمتع بها، وعُدّها بعض نعيم الدنيا. ثم سأله هل تحبك الصحة؟ أنت تحب الصحة لكن الصحة هل تحبك، هل يحبك المال؟ أنت تحب المال لكن المال هل يحبك؟ قال: لا، قال: هبها بعض نعيم الدنيا، فإذا كانت هي صابرة مع أن الحب ليس بذاك فيمكن الاستمرار في العلاقة.
وقد تقتضي الحكمة عند الإصلاح بين الزوجين بيان الحق إذا كان مع أحد الطرفين، ولو أدى ذلك إلى تخطئة الطرف الآخر، وينصف المظلوم، وتستكشف الخفايا أثناء الكلام؛ لأن المرأة قد تستحي عند عرض المشكلات، جاءت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله، فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك، وجعلت تكرر عليه القول ويكرر عليها الجواب، فقال له كعب بن سور الأزدي وكان حاضراً: يا أمير المؤمنين هذه امرأة تشكو زوجها في تركه لها، أي: في الفراش، فقال له عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما، فقال كعب: عليّ بزوجها، فأتي به، فقال له كعب -بعد ما عرف أن هذا رجل عابد، وتشغله العبادة عن فراش الزوجية-: "أحل الله لك أربعاً، -أي: من النساء-، فاجعل لها في كل أربع ليال ليلة، وفي كل أربعة أيام يوماً" فإذا أنت مطلق الدنيا، والله قد أباح لك أربع زوجات وعندك واحدة؛ فاجعل الثلاث للعبادة والرابعة لها، فقال عمر لكعب: "ما أدري من أي أمريك أعجب أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما، اذهب فقد وليتك قضاء البصرة".
وإذا احتاج الأمر إلى شيء من الشدة فلا بأس، جاءت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين زوجي كثر شره، وقل خيره، قال لها عمر: ما نعلم من زوجك إلا خيراً، فأرسل إليه فجاء، فقال له عمر: هذه امرأتك تزعم أنه كثر شرك، وقل خيرك، قال: بئسما قالت يا أمير المؤمنين، والله إنها لأكثر نسائها كسوة، وأكثرهن رفاهية بيت، ولكن بعلها بكيء، أي: تقدم به السن فصار لا يستطيع الجماع، واللغة فيها مفردات تغني عن كلام يستحيى منه ولذلك قال: بكيء. فقال عمر للزوجة: ما تقولين، قالت: صدق، فأخذ الدرة فقام إليها فتناولها، وقال: يا عدوة نفسها، أفنت شبابه، وأكلت ماله، ثم أنشأت تشنين عليه ما ليس فيه، قالت: يا أمير المؤمنين، أقلني في هذه المرة والله لا تراني في هذا المقعد أبداً، فدعا عمر بأثواب ثلاثة وقال لها: اتقي الله وأحسني صحبة هذا الشيخ، كان شاباً، ثم تقدمت به السن، أو مرض بالسكر، أو جاءته الآفات، فكما أحسن إليك في هذه السنوات الطويلة فتحميله فيما بقي، قال الراوي: كأني أنظر إليها أخذت الأثواب منطلقة، ثم أقبل عليه عمر فقال: لا يمنعك ما رأيتني صنعت بها أن تحسن صحبتها، قال: أفعل يا أمير المؤمنين.[محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(3/1000).]
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله | فليس له في ودهن نصيب |
قال ﷺ: لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه[رواه الحاكم (2771) وصححه. والبيهقي (14497). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (289).]، وفي المقابل: كان رجل أعمى صبرت عليه زوجته عشرات السنين تخدمه وهو أعمى، فلما بلغ السبعين اتفق له من أتى للقرية يعمل عملية إزالة الماء من العين، فأجريت العملية للرجل، فلما أبصر زوجته، وكانت أمامه فرحة، فرآها وقد شابت، فقال: أنت، قالت: نعم أنا زوجتك، فطلقها، فهذا من قلة الوفاء، وقلة الوفاء وخصوصاً في هذا الزمان شيء عجب، أين حسن العشرة؟ أين حسن العهد، وحسن العهد من الإيمان.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا | من كان يألفهم في المنزل الخشن |
لو انتقل إلى حي من الأحياء الراقية، وكان في حي شعبي، فتح الله عليه، فعليه أن يتذكر الجيران القدامى، ويحسن إليهم، ويصلهم، ويزورهم، ولا يقول: حي شعبي تخلصنا منه وخلصنا، أين حسن العهد؟ كنت جاراً لهم، وكانوا جيرانك.
عباد الله: إن إعطاء الحقوق الشرعية، والحكم بالعدل، والتمشي على وفق الشريعة؛ هو الذي يقر العين، وينهي المشكلات، ولهذا أنزل الله شرعه ليحكم بين العباد، وليس لكي يركن جانباً، والناس يتعاملون في الاجتماعيات كما يريدون، وفي الاقتصاديات كما يريدون، فالشريعة تضبط أحوال الناس، والله أحكم الحاكمين، وهو عليم خبير يعلم ما يصلح أحوال العباد، ويعلم من الذي يستحق هذا، ومن الذي يستحق هذا، حتى لو صار نزاع على الولد، دخل أبو الأسود على معاوية ومعه امرأته يشتكيان فقالت: لقد ألجأني إليك يا أمير المؤمنين، طلاق جاءني من بعل غادر لا تأخذه من الله مخافة، قال: ومن بعلك؟ قالت: هذا، فالتفت إليه معاوية، وقال: أحقاً ما تقول هذه المرأة؟ قال: أما ما ذكرت من أمر طلاقها فهو حق، ولكني لم أطلقها لريبة، ولكنني كرهت شمائلها فقطعت حبائلها، فهي كثيرة الصخب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذُكر خير دفنته، وإن ذُكر شر أذاعته، ولا يزال زوجها معها في تعب، قالت يا أمير المؤمنين: هو والله جهول، ملحاح، شحيح حين يضاف، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لا يحمي ذماراً، ولا يرعى جواراً، فالمسألة مشتعلة بين الطرفين، وقد تنتهي إلى طريق مسدود، فتخاصما في الولد أمام معاوية فوثب أبو الأسود فانتزعه منها، فقال معاوية: مهلاً يا أبا الأسود، قال: يا أمير المؤمنين حملته قبل أن تحمله، أي: أنه كان في ظهره، ووضعته قبل أن تضعه، أي: وضعته في رحمها قبل أن تضعها هي بالولادة، فلذلك هو عنده بحسب هذا التحليل أنه أحق بالولد، فقالت: يا أمير المؤمنين صدق، لكن حمله خفاً وحملته ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعته كرهاً، وكان حجري له حواء، وبطني له وعاء، وثدي له سقاء، فأمره معاوية أن يدفع إليها الولد؛ لأن الحضانة للأم, ومع كون أبو الأسود جليساً لمعاوية لكن ما حملته المجاملة على أن يجور في الحكم، فالحضانة إنما هي لصيانة الطفل وإصلاحه، والأم أصبر، وأقدر، وأخبر.
وقد يحتاج الإصلاح بين الزوجين إلى بذل شيء من المال، فهنيئاً للأغنياء الذين يكونون سبباً بأموالهم في إزالة الخلافات الزوجية، قد تكون القضية متوقفة على استئجار بيت، أو شراء شيء من الحلي، أو من أثاث الدنيا، وهذا من أعظم الصدقات، أن تتصدق لإصلاح ما بين الزوجين، كأن يكون أخذ مالها تاجر فيه، فخسر، ووصلت القضية للطلاق، فهل يمكن أن تعوض المرأة بشيء وتسكت، فبذل الأموال في هذا من القربات العظيمة؛ لأن فيه إنقاذ للأسرة، وللأولاد.
وصاحبة الدين، وصاحب الدين أقرب من غيرهما للرجوع إلى الحق؛ لأن الخوف من الله هو الذي يردع، والمعصية تكون سبباً للفرقة.
قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِسورة البقرة:228، هذا عنوان الحقوق الزوجية، عبارة مختصرة جزء من آية، فهذه تلخص القضية، فكل من يفكر بالموضوع لن يجد ملخصاً أعظم من هذا.
وقال تعالى: وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ سورة البقرة:237 فالاعتراف بالحق فضيلة، والرضا بما قسم الله طيب، والقناعة جميلة، ولا تتصرف في وقت الغضب، ولا لتضخيم الأخطاء.
وإبداء الأعذار، ومعرفتها، وتقديمها أمر مهم.
بعض أحكام نزول المطر
عباد الله: نسأل الله أن يغيث قلوبنا بالقرآن كما أغاثنا بالمطر، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ سورة الزمر:21، الخروج لرؤية آثار المطر فيه إحياء الإيمان في النفوس، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا سورة الروم:50، بقينا أكثر من سنة في قحط، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ سورة الشورى:28.
فنسأل الله أن يجعل غيثنا، مغيثاً، مريئاً، نافعاً غير ضار، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ سورة الواقعة 68- 69، فكر يا عبد الله وتفكر، هذه أشياء تزيد الإيمان، وتزيد الدين، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا سورة هود:52، وإذا مطرنا نقول: اللهم صيباً نافعا[رواه البخاري (1032).]، والدعاء تحت المطر لا يرد، وكان ﷺ يتبرك بهذا الماء النازل من السماء ويكشف بعض بدنه، ويقول: حديث عهد بربه[رواه مسلم (898).]، أي: بتكوين الله إياه، وأنه قريب من خلقة الله له، وهو نازل الآن حديثاً من عند الله تعالى، وإذا خشي التضرر يقول: اللهم حولنا ولا علينا[رواه مسلم (898).] أو حوالينا ولا علينا[رواه البخاري (933) ومسلم (897).]، والمهم أن يكون المطر فيه بركة لحديث: ليست السنة بأن لا تمطروا، -أي: القحط-، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئاً [رواه مسلم (2904).]رواه مسلم، والفيضانات والسيول إذا حصلت، وصار هنالك غرق فإن الغريق شهيد كما أخبر ﷺ، وعندما يسمع الإنسان الرعد يتذكر قول الله:وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ سورة الرعد:13، ويتذكر وعيد الله لأهل الأرض، ويستعيذ بالله من عذابه.
اللهم اغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا تواب، اللهم أصلح ذات بيننا، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ارفع عنا الغلاء، والوباء، والبلاء، يا سميع الدعاء، اللهم اجعل عيشنا رغداً، اللهم إنا نسألك من بركاتك ورحمتك، اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وأصلح شأننا، وارحم موتانا، واشف مرضانا، آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، اللهم اجعل ما أتيتنا عوناً لنا على طاعتك، أغننا من فضلك يا ذا الجلال والإكرام، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، أصلح نياتنا وذرياتنا، نسألك الأمن في البلد، والعافية في الجسد، والصلاح للذرية والولد.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.