الخطبة الأولى
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
السمع نعمة عظيمة
فإن الله جعل القلب قائداً للبدن، وجعل العقل في القلب، ومن الناس من لهم قلوب لا يعقلون بها، ومن الناس من يعقل آيات الله تعالى، والوحي الذي أنزله على نبيه ﷺ، ولما كان القلب للبدن كالملك، والأعضاء جنود تأتمر بأمره، كانت المحافظة على القلب في غاية الأهمية؛ لأن هذا القلب إذا صار سليماً نقياً معموراً بذكر الله استقامت حال الإنسان، وإذا صار القلب مدنساً ملطخاً فيه نكتة سوداء جراء المعصية تتبعها نكتة أخرى، حتى يصبح أسوداً مرباداً كالكوز مجخياً مقلوباً منكوساً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، حتى يكون القلب مطمئناً لا بد من المحافظة عليه، ومراقبة ما يدخل إليه، وأعظم طريق للقلب هو السمع، والقلوب والسرائر خزائن، ولا منفذ للقلوب إلا من دهليز الأسماع، فهي أعظم طريق، والسماع للقلب محك صادق ومعيار ناطق، وقد قال الله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌسورة ق:37؛ ولذلك فإن السمع أول عضو يؤدي وظيفته عند خروج الطفل إلى الدنيا، فيسمع بإذنه، بخلاف العين، فإنها في البداية لا تؤدي مهمتها، وإذا نام الإنسان، فكل شيء يسكن فيه إلا سمعه؛ ولذلك لما أراد الله تعالى أن يمكث أهل الكهف مئات السنين في كهفهم: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًاسورة الكهف:11، وهذا السمع عظيم وخطره جسيم، وأول ما ينبغي أن يطرق سمع المولود ذكر الله تعالى: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَسورة النحل:78، قدم السمع على البصر، وكذلك في قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًسورة الإسراء:36، وفي قوله: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةًسورة الأحقاف:26، وفي قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَسورة المؤمنون:78، وكان من دعائه ﷺ: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره رواه مسلم [رواه مسلم (771)]، فالسمع هو الأذن والسمع لا ينام، والشيء الذي لا ينام أرقى من الشيء الذي ينام؛ ولذلك لا تنام الأذن بينما تنام العين، هذه الأذن التي تعمل وظيفتها في الليل والنهار، والضوء والظلام، وفي سائر الأحوال، إنها طريق ومنفذ مباشر إلى القلب بها يتأثر، فإذا أوصلت إليه النافع صار حياً، وإذا أوصلت إليه الفاسد صار ضاراً مفسداً، فعليها -أي على الأذن- قوامه -قوام القلب-، وصلاحه، وقد قال الله مبيناً أهمية السمع ومسؤولية الإنسان عن سمعه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًسورة الإسراء:36، فأنت مسئول -يا عبد الله-، وكذلك أمة الله عن السمع؛ لأن به انتفاع القلب وخيره، أو فساده وشره.
الأشقياء والسماع المحرم
وقد قال الله : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِسورة لقمان:6، فذكر تعالى الذين يهتدون بكتابه، وعطف بعد ذلك بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلامه، وأقبلوا على سماع ما يضر، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، وقد جاء عن ابن عباس في تفسير لهو الحديث: هو الباطل والغناء، وقد سئل ابن مسعود عن الآية، فقال: الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يعني: هو لهو الحديث المذكور في الآية، رددها ثلاث مرات، لهو الحديث.
وكذلك قال العلماء في قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَسورة الإسراء:64، فما هو صوت الشيطان؟ استفزز من استطعت منهم بصوتك، هل تسمع -يا عبد الله- صوت الشيطان، فما هو صوته إذن؟ قال العلماء: اللهو والغناء، هذا عن مجاهد وغيره من أهل العلم.
وقال تعالى موبخاً للكفرة: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَسورة النجم:59-61، قال عكرمة عن ابن عباس: السمود لغة يمانية يعني الغناء، يقال: اسمدي لنا، أي: غني لنا.
فهذا الغناء إذن هو صوت الشيطان، وهو الغناء الذي انشغل به الكفار، وعكفوا عليه: وَأَنتُمْ سَامِدُونَ، وهو لهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله.
وفي السنة تحريم الغناء
وقد أخبر النبي ﷺ عن وعيد قوم، فقال: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم -يعني الفقير لحاجة- فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة [رواه البخاري معلقاً (5/2123)]، علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، وقد وصله الحافظ من رواية تسعة عن شيخ البخاري رحمه الله، وقال: وهذا حديث صحيح لا علة له، ولا مطعن.
فهذه المعازف جمع معزفة، وهي الآلة التي يُعزف بها، وقد دل الحديث على تحريم المعازف من وجهين: أولهما: قوله ﷺ: يستحلون، فإنه صريح بأن المذكورات -ومنها المعازف- محرمة في الشرع.
وثانيهما: أنه قرن المعازف بما حرمته معلومة بالضرورة، وهو الزنا والخمر، ولو لم تكن المعازف محرمة لما قرنها بهذه المحرمات.
أخبرنا عن قوم يستحلون الحر يعني: الفرج وهو الزنا، والحرير للرجال وهو محرم، والمعازف آلات الملاهي، أصوات الملاهي والمعازف، هؤلاء سينزل منهم أقوام إلى جنب علم، قيل الجبل العالي، وقيل البناء العالي، (يروح عليهم) أي الراعي (بسارحة) يعني: من غنم ونحوه، فيأتيهم الفقير يقولون: تعال غداً، فماذا يحدث في الليل؟ (يبيتهم الله) يهلكهم ليلاً، والتبييت هو هجوم العدو في الليل، (ويضع العلم) أي يوقع عليهم البناء، أو يوقع عليهم الجبل، فيدكدكه فوقهم، ويمسخ آخرين قردة خنازير، فمن لم يهلك بهذا الهدم فوق رأسه مُسخ قرداً أو خنزيراً، فهذا يدل على خطورة الاجتماع على المعازف، واستحلالها، واعتقاد حلها وهي حرام.
وقد أخذ النبي ﷺ بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي ﷺ، فوضعه في حجره فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟! أولم تكن نهيت عن البكاء؟! قال ﷺ: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبةوهو النياحة خمش وجوه، وشق جيوب قال: ورنة شيطانرواه الترمذي، وهو حديث حسن [رواه الترمذي (1005)]، فسمى الغناء رنة الشيطان، وسماه صوتاً أحمقاً.
وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبةرواه البزار، وهو حديث حسن[رواه البزار (7513)]، وهذا يدل على أن صوت المزمار، وهو من آلات العزف محرم، وقال ﷺ: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، فهذا يدل بلا شك على حرمته.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن رسول الله ﷺ نهى عن الخمر والميسر، والكوبة والغبيراء، وقال: كل مسكر حرام" قال سفيان الراوي لعلي بن بذيمة لشيخه: ما الكوبة؟ قال: الطبل، فإذن نهى عن الخمر والميسر، والطبل والغبيراء، وقال: كل مسكر حرام رواه أبو داود وأحمد، وهو حديث صحيح [رواه أبو داود (3696)، وأحمد (2472)]، وفي عون المعبود الكوبة تفسر بالطبل، والغبيراء نوع من الشراب من الذرة مثل الخمر لا فرق بينها وبينها في التحريم.
وعن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قال: في هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف خسف بالأرض، مسخ من الهيئة البشرية إلى شكل القرد والخنزير، وقذف بشيء من السماء كالحجارة، يقذفون، ويخسف بهم، ويمسخون، "قال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور" رواه الترمذي، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (2212)]، القينات: يعني المغنيات، المعازف: الآلات الموسيقية، لقد ظهرت في عصرنا في هذه القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، والاسطوانات الموزعة في كل حدب وصوب، وموجات الإذاعات، ظهرت ظهوراً لم تظهر في العالم بمثله من قبل، لا يوجد أي وقت من الأوقات في العالم سابقاً ظهرت القينات المغنيات والمعازف مثل الظهور الذي يحصل الآن؛ ولذلك بقي نزول العذاب: خسف، ومسخ، وقذف، وهو حديث صحيح، رواه الترمذي، وهذا وحي ولا بد أن تسمع يوماً، أو يسمع من بعدك -يا عبد الله- بخسف، ومسخ، وقذف؛ لأن القينات والمعازف قد ظهرت، فاستجلب سبب العذاب بهذا الظهور، الإعلان على الملأ.
كلام السلف والعلماء في حكم الغناء
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: "أن بنات أخيها خُفضن" يعني ختن؛ "فألمن" أصابهن الألم نتيجة الختان، والختان مستحب للمرأة، وليس بواجب، "فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟" يعني: البنات في الألم، ألا ندعو من يشغلهن عن الألم؟ "قالت: بلى، فأرسلوا إلى فلان" أحد المنشدين، "فأتاهم" ليس معه معازف، يغني بصوته فقط، "فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت، فرأته يتغنى، ويحرك رأسه طرباً، وكان ذا شعر كثير"، "رأته يتغنى، ويحرك رأسه طرباً" كما يفعل بعض المنشدين الآن في مهرجانات الأناشيد التي يسمونها إسلامية، والإسلام بريء منها ومنهم، "يتغنى، ويحرك رأسه طرباً" هذا ما معه معازف، هذا يحرك رأسه طرباً، فالقضية فيها طرب ونشوة، "وكان ذا شعر كثير"، وهاهم يتمايلون باسم الأناشيد الإسلامية، يتمايلون ويرفعون أياديهم، وأمامهم النوتات، وفيديو كليب، ومهرجانات، ويسمونها إسلامية، ثم صار لها دورات، مسابقات، انتاجات، طرب طرب طرب، لا تربي أخلاق حسنة في النفوس، ولا السامعون أصلاً حول المعاني، السامعون مع الألحان، مع المؤثرات الصوتية التي شابهت أصوات المعازف، الأثر في النفوس هو هو، والنتيجة بعد المؤثرات الصوتية هو هو، فرأته عائشة "يتغنى، ويحرك رأسه طرباً، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة رضي الله عنها: أف، شيطان؛ أخرجوه، أخرجوه؛ فأخرجوه" رواه البيهقي، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الحافظ ابن رجب في نزهة الأسماع، وكذا حسنه الألباني[رواه البيهقي في السنن الكبرى (21010)].
وجاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" صحيح موقوفاً.
وقال شيخ الإسلام: مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً، طبل، عود، كمنجة، قانون، أورج، الذي هو، كل أنواع المعازف محرمة.
وقال رحمه الله: المعازف خمر النفوس تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حمياء الكؤوس، يعني الخمر.
وقال رحمه الله عن من يكثر من سماع الغناء ويعتاده: ولهذا يوجد من اعتاده، واغتذى به، لا يحل إلى سماع القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات، وسكنت الحركات وأصغت القلوب؛ ولذلك قال العلماء عن الغناء: رقية الزنا، وشرك الشيطان، وخمرة العقول يصد عن القرآن أكثر من غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب، وسئل مالك رحمه الله عن من يرخص في الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، أما أبو حنيفة فيجعله من الذنوب، وأهل الكوفة كسفيان وحماد وإبراهيم والشعبي لا اختلاف بينهم، وكذلك أهل البصرة من الفقهاء على المنع منه.
الغناء بدون معازف، يقول الشافعي: يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه.
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الغناء، فقال -هذا غناء بدون معازف-: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.
فإذن الغناء بحد ذاته -بدون مؤثرات صوتية وبدون معازف- مكروه عند بعض العلماء محرم عند آخرين، فإذا صار بالمعازف، أو ما يشابهها من المؤثرات الصوتية التي تنتجها الآلات الحديثة والسامبلر، وغير ذلك، فهو حرام قطعاً، فإذا صار بصوت المرأة الأجنبية البالغة فهو حرام أشد تحريماً، والآن القنوات بأصوات النساء مع المعازف بجميع وسائل تنقية الصوت والمؤثرات صباح مساء على آذان العباد تصب فوق رؤوسهم الحميم.
وذكر ابن قدامة في المغني: أن آلة اللهو كالطمبور والمزمار آلة للمعصية بالإجماع.
وقال ابن الصلاح من فقهاء الشافعية: فليعلم أن الدُّف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب، وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع، وقوله: ممن يعتد بقوله؛ لأن هنالك ناس لا يعتد بقولهم، وبعضهم ممن يدعي العلم في العصر الحديث يبيحونه؛ ولذلك قال لك ابن الصلاح: ممن يعتد بقوله، فإذن هنالك من لا يعتد بأقوالهم يبيحونه.
ومنهم من يبيح الموسيقى الهادئة، ومنهم من يبيح القليل من سماع المعازف، ومنهم ومنهم، وما أكثرهم وأخطرهم الذين يشرعون بالتلاعب بالأدلة إباحة الغناء، يشرعون، ويؤلفون فيه، ويريدون أن يكون هذا الأمر عادياً حتى لا يشعر المسلم -وهو يسمع- أنه يعصي، فيقولون: لا هذا يعني مباح، أين هذا من حداء أنجشة الذي كان يحدو بالإبل؟! أين هذا من إنشاد البنات الصغيرات بشعر في الجاهلية عن يوم بعاث في العيد؟! أين هذا من استثناء الدُّف المجرد للنساء في الأعراس والأعياد؟! فالنصوص واضحة في استثناء الدف للنساء، الدف أصلاً محرم من المعازف، لكن استثناه الشرع، وهو يعلم ما يصلح للنفوس، والنساء تحديداً أباحه لهن في الأعراس والأعياد، وليس طيلة السنة، والدف المجرد.
وغناء النساء البالغات لا يجوز أن يسمعه الرجال، والنبي ﷺ إنما سمع صوت البنات غير البالغات، الجاريات، جويريات، يضربن بالدف؛ ولذلك لو وصل إليك صوت البنات الصغيرات يضربن بالدف في العيد، أو في العرس غير البالغات، فلا إثم عليك، والنبي ﷺ وصل إليه، ولم يتقصد سماعه، ولم يذهب إليه ليجلس عنده، ولكن وصل إليه الصوت، ونهى أبا بكر عن منعهن، بنات غير بالغات في العيد يضربن بالدف بأشعار مباحة، فهذا مباح لهن، هذا استثناء، الآن يريدون أن يجعلوه شرعة ومنهاجاً.
رواج الموسيقى والأغاني
عباد الله: انتشرت الموسيقى -وهذا منكر طبعاً غير قضية الغناء الذي سبقت الإشارة إليه- في جميع الأجهزة والآلات تقريباً: جوالات، حواسيب، ساعات، سنترالات، مصاعد، ألعاب أطفال، أجراس البيوت، أدوات تعليمية، أما المحلات، ففي الفنادق، والمطاعم، والطائرات، وصالات الانتظار، والحافلات، أما الوسائط التي تحويه من أشرطة، واسطوانات مدمجة، وأجهزة إم بي ثري، وإم بي فور، وتبث التلفزيونات والقنوات والإذاعات، هذا الكلام يومياً ليلاً ونهاراً، ثم يأتي من أبناء المسلمين وبنات المسلمين من يدعمون قنوات الأغاني برسائل الإس إم إس، ويرسلوا لها بعشرة ريال، وثمانية، وسبعة، وبحسب الأرقام يكون الخصم سبعة آلاف، سبعة آلاف وتسعمائة، سبعة آلاف وثمانمائة، وتبدأ الأرقام، وهكذا يدعمون قنوات الفسق والفجور التي تجمع بين الغناء المحرم، والمعازف، وبين النساء البالغات والمتعريات، الآن الفيديو كليب مع الرجال في مشاهد يسمونها حميمة، ويسمونه حب، وهو وسيلة لممارسة الحب عندهم، وهو يعني الزنا والفاحشة، ولما صارت الليالي الساهرة، وجلسات السمر والأنس والطرب، وهكذا التي عكف عليها الناس، وافتتن الشباب والشابات بالمغنين والمغنيات لدرجة أنهم صاروا يقلدونهم، ويتسمون بأسمائهم، بل إن أحدهم غير شكله بعمليات جراحية ليشابه مغنية من المغنيات، وجرت معه مقابلة، طلب تواقيع وتصوير، وتعليق الصور في غرف النوم والدراسة، وخلفيات الجوالات، وشاشات الحواسيب، وتعليق الأسماء حول أعناق الفتيات، والكتابة على القمصان، ومن الأمام والخلف، والتنافس في شراء الألبومات، والاسطوانات المدمجة، وشراء نغمات الجوالات، وتحميل النغمات من الموسيقى والأغاني على الجوالات، وهكذا! عجب عجاب في الساحات والمنتديات، معجبون ومعجبات، والأقمار الصناعية، الأقمار الفضائية التي تبث بالعربي، وبغير العربي أنواع القنوات ما أكثرها عجباً!.
إن نبينا لما قال: إذا ظهرت، فإنه وحي يوحى، وربما لو أراد بعض الناس أن يتخيل في الماضي الظهور لتخيله في بعد معين، ومعنى معين بحسب ما يعيشه، لكن من عاش إلى زماننا فرأى معنى الظهور في هذه القنوات، معنى الظهور بجميع أشكاله وأنواعه، هذا الظهور العجيب، وهذه القنوات بأسمائها من الطرب والمزيكا، والغنوة والأوتار والنغم، ونحو ذلك، بجميع المشتقات، وبالعربية وبغير العربية، أما على مستوى العالم فإن انتشار الغناء أمر مذهل للغاية.
إحصائيات خطيرة
وفي عام ألفين وخمسة بلغت مبيعات الأغاني في الولايات المتحدة أربعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثمانين مليون دولار، أكثر من أربعة مليارات قرابة خمسة مليارات، وناهيك عما يكون في أوروبا وغيرها، ويتم استيراد هذه الأغاني، وتحميلها على مواقع، وتنزيلها من المواقع، ودفع الناس في أكثر من عشرين دولة في استهلاك الموسيقى 12.3 بليون دولار على شكل ديفي دي، وسيدي، وأشرطة كاسيت، وتم تحميل أكثر من عشرين مليون أغنية من موقع واحد، وفي موقع آخر يوجد ربع مليون مشترك ليسمعوا ثمانية وعشرين مليون أغنية في شهر أكتوبر عام ألفين وستة، ويتوقع أن تصل مبيعات الغناء إلى 3.3 بليون على الإنترنت فقط، وفي نوفمبر الماضي اشترى محبو الموسيقى 7.7 مليون أغنية من الإنترنت، وأربعة مليون قرص ليزري من أغنية واحدة، ومن المتوقع أن يكون ثلث مبيعات الموسيقى بشكل كامل عن طريق الإنترنت، وهناك قضايا، ومحامون، ومرافعات قانونية في حماية الأغاني التي تحمَّل حتى لا يحصل الاعتداء عليها، وعدد الأقراص الموسيقية التي تباع تقريباً الآن في العالم يساوي عدد الأقراص الفارغة 2.4 بليون سيدي من الأغاني، وأما ما يأخذه مدراء التشغيل، والإشراف، والبث من الأجور فهو من المداخيل العالية جداً على مستوى العالم، وهكذا.
إذن صرنا في ظهور المعازف كما أخبر نبينا الصادق المصدوق ﷺ، فماذا نحن فاعلون لأنفسنا، وأولادنا، وللمجتمع عموماً؟.
اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بحفظك من الحرام، وأن تنجينا برحمتك من النيران، وأن تباعد بيننا وبين أسباب سخطك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا هو ولي المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، السراج المنير، والبشير والنذير، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
حقيقة الغناء وخطره العظيم
عباد الله: ما قصر علماؤنا رحمهم الله في بيان أضرار المعازف والغناء، وذكروا بأنها تنبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، وتلهي القلب وتصده عن فهم القرآن وتدبره، والقلب المملوء بالألحان، المملوء بالأغاني كيف يتدبر كتاب الله الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍسورة فصلت:42؟ كتاب الله ينهى عن اتباع الهوى، والأغاني كلها هوى، كتاب الله يأمر بالعفة، وهذه الأغاني والمعازف تدعو إلى الفحشاء، وحب وغرام، كتاب الله يحمل المكلَّف على مقاومة داعي الهوى في نفسه، ويجنبه الشهوات المؤدية إلى النار، وهذه الأغاني والمعازف تدعو إلى فعل القبيح، ووصل كل مليحة ومليح، فهي والخمر رضيعا لبان، وفي تهيجهما على الفسق والعصيان فرسي رهان، ماذا يفعل الغناء في القلب؟ هلا نظرنا في الأثر، هل تجتمع الألحان مع القرآن؟!
حب الكتاب وحب ألحان الغناء | في قلب عبد ليس يجتمعان |
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا | تقييده بشرائع الإيمان |
واللهو خف عليهم لما رأوا | ما فيه من طرب ومن ألحان |
يا لذة الفساق لست كلذة | الأبرار في عقل ولا قرآن |
هذا مجلبة للشياطين، هذا صاحب قرناء السوء، هذا رقية الزنا وداعي الفاحشة، بل في كلمات الأغاني الآن دعوات صريحة لممارسة الحرام، قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويثير الشهوة، ويهدم المروءة، وينوب عن الخمر، يسكر! ولذلك ترى بعض الذين يستمعون لها يديرون رؤوسهم في نشوة، بل يغيبون بها عن الواقع.
وبعض الذين يسمعون موسيقى عبادة الشيطان، والهذيمتل والبلاكمتل موسيقى تؤدي للانتحار، كما ذكر علماء النفس، تحمل في النهاية على قتل النفس، وهذا مجرب معروف عند عدد من المراهقين والمراهقات.
وصخب الموسيقى يتلف في الأذن أنواعاً من الخلايا، بل إن بعض المؤثرات الصوتية في آذان الذين يسمعونها أشد من ضجيج الطائرات في أذن الذي يقودها عند المدْرَج؛ لأنه يضع ما يقي أذنيه، وهؤلاء يضعونها على آذانهم، لا يستطيعون العيش بدونها، فهم في الشارع يمشون بها، ويعلقون المسجل، يعلقون أنواع الأجهزة ذات التقنية الحديثة والنقاء، حتى إذا مشى يسمع، وإذا جلس يسمع، وفي السيارة يسمع، وفي البيت يسمع، وفي الجهاز يسمع، في العمل يسمع، دائماً! صارت سكر مثل الخمر لا يستطيع أن يتركها.
وإذا نهى الله النساء أن يضربن بأرجلهن حتى لا تسمع أصوات الخلاخل: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّسورة النــور:31، فيفتتن الرجال فكيف بصوتها إذا تأوهت وتغنجت، ورافق ذلك هذه المعازف؟ والتاريخ دليل على أنه ما من أمة أوغلت في الغناء والمعازف إلا أصيبت بالضعف والخور، وصارت القلوب في هلع؛ ولذلك لا يثبتون في الحروب، وهذه المعازف من أسباب العذاب: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَسورة البقرة:57.
تأمل واحكم بنفسك
وتأمل انتشارها في الأعراس، الفرق، وحفلات النجاح، والجوالات في المساجد، حتى بيوت الله لم تسلم من هذا، لم تسلم من الموسيقى والغناء، لو كانت مباحة لماذا يلتفت الناس برؤوسهم إلى من يصدر جواله في المسجد موسيقى؟ وينظرون إليه، ويقولون: أغلق هذا، ويكون محرجاً يهرول، لماذا؟ لو كانت الموسيقى مباحة لكان تشغيلها في المساجد لا حرج فيه، ولما تطلعت النفوس بالإنكار إلى من اشتغل جواله بالموسيقى في المسجد، واسأل نفسك -يا عبد الله- سؤالاً صريحاً بينك وبين نفسك، لا تحتاج معه إلا مفتٍ، ولا حتى إلى دليل وقل لها: لو كان محمد بن عبد الله حاضراً أمام هذه الموسيقى والأغاني، فهل تراه سيسمعها، ويرضى بها، ويقرها أم لا؟ ما تحتاج إلى مفتي، اسأل نفسك: لو كان محمد بن عبد الله ﷺحاضراً في مجلس تُسمع فيه الموسيقى والغناء، هل يقر ذلك؟ هل يرضى به؟ هل يأذن به؟ هل يبيحه؟ هل يقول: دعهما يا أبا بكر؟
ومن المعلوم أن هذه الموسيقى والأغاني ليست من فعل القدوات، ولكنهم اليوم يصرون في باب خلط الأوراق على أن القائمين بها نجوم وأبطال، وإذا ماتوا سموهم شهداء: شهيد الفن، إن الشهادة منزلة عالية عند الله، الشهيد منزلته عالية، وكيف يكون الفاسق شهيداً؟ والذي يضل الناس، ويسكرهم بهذه الألحان والأغاني يكون شهيداً؟!
ثم تأمل في إهدار الوقت وضياعه، وماذا حصل لبعض الناس من أمثلة سوء الخاتمة عندما كان آخر ما يسمعه من الدنيا عند خروجه منها هذا الغناء وهذه المعازف، وحوادث السير، بعض حوادث السيارات شاهدة على ذلك.
عباد الله: وصلت القضية إلى أنه صار اليوم هنالك شيء اسمه العلاج بالموسيقى، والمعلوم أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، كيف يجعل الله الشفاء فيما حرم؟! بينما أثبتت الدراسات -حتى التي صارت في الغرب- على أن القرآن علاج، وأنه يزيد القدرة على التركيز، وعالج أمراض مزمنة ومستعصية، وله تأثير ملموس في تحسين السلوك والقدرة على التعامل مع الآخرين، وهو سبب مباشر لهدوء النفس، وعلاج للتوتر العصبي، وأن سماع القرآن بالتجارب قد أثر إيجاباً في تسكين الغضب، وعلاج سرعة التهور، والتخلص من الخوف والقلق والتردد، وتحسين القدرة على النطق، بل عالج أمراضاً، وبعضها من الأمراض الخطيرة، ليس من سبب إلا سماع كلام الله، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: نصيحتي لجميع الرجال والنساء عدم استماع الأغاني، فالأغاني خطرها عظيم، وقد بُلي الناس بها، وهذا من البلاء، فالواجب على أهل الإسلام من الرجال والنساء أن يحذروا شرها، وأن يعتاضوا عنها بسماع ما ينفعهم من كلام الله ، ومن كلام رسوله ﷺ، ومن كلام أهل العلم، وما ينفعه في الدنيا والآخرة.
والواجب على كل من ساهم أو يساهم في شركات الأغاني أن يتوب إلى الله، وأن يحذر غضبه، وألا يشتري منها سهماً، ولا يشارك فيها، فقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِسورة المائدة:2.
اللهم إنا نسألك أن تحبب إلينا الإيمان وأن تزينه في نفوسنا، وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن تجعلنا من الراشدين، حبب إلينا سماع كلامك يا أرحم الراحمين، وكره إلينا سماع المعازف يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، سرها وعلانيتها، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عسيراً إلا يسرته، اغفر لموتانا، واشف مرضانا، واستر عيوبنا، واهد ضالنا يا أرحم الراحمين، فرج هم المهمومين، وانصر الإسلام والمسلمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، اللهم من أراد بلدنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم رد عنا كيد الأعداء والمغرضين بالفساد يا رب العباد.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.